حصر جلال الدين خوارزم شاه مدينة خلاط، وهي للملك الأشرف، وبها عسكره، فامتنعوا بها، وأعانهم أهل البلد خوفًا من جلال الدين لسوء سيرته، وأسرفوا في الشتم والسفه، فأخذه اللجاج معهم، وأقام عليهم جميع الشتاء محاصرًا، وفرق كثيرًا من عساكره في القرى والبلاد القريبة من شدة البرد وكثرة الثلج؛ فإن خلاط من أشد البلاد بردًا وأكثرها ثلجًا، وأبان جلال الدين عن عزم قوي، وصبر تحارُ العقول منه، ونصب عليها عدةَ مجانيق، ولم يزل يرميها بالحجارة حتى خربت بعض سورها، فأعاد أهلُ البلد عمارته، ولم يزل مصابِرَهم وملازِمَهم إلى أواخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين، فزحف إليها زحفًا متتابعًا، وملكها عَنوةً وقهرًا يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الأولى، سلمها إليه بعض الأمراء غدرًا، فلما ملك البلد صعد من فيه من الأمراء إلى القلعة التي لها وامتنعوا بها، وهو مُنازِلهم، ووضع السيف في أهل البلد، وقتل من وجد به منهم، وكانوا قد قلوا، فإن بعضهم فارقوه خوفًا، وبعضهم خرج منه من شدة الجوع، وبعضهم مات من القلة وعدم القوت، وخرب عساكر جلال الدين خلاط، وأكثروا القتلَ فيها، ومن سلم هرب في البلاد، وسبوا الحريم، واسترقُّوا الأولادَ، وباعوا الجميعَ، فتمَزَّقوا كلَّ مُمزَّق، وتفَرَّقوا في البلاد، ونهبوا الأموال، وجرى على أهلِها ما لم يسمَعْ بمثله أحدٌ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بعد أن رجع الناصِرُ محمَّد إلى السلطنة وقَتَل المظَفَّر بيبرس الجاشنكيري، بقِيَ هناك الكثيرُ مِن الأمراء الذين كان يتخَوَّفُ منهم فبدأ بالقَبضِ عليهم فاستدعى من دمشقَ سبعةً من الأمراء واعتقَلَهم وحبَسَهم عنده، وفي مِصرَ قَبَض على أربعةَ عَشرَ أميرًا وحَبَسَهم، ومنهم من قُتِلَ وأُخِذَت إقطاعاته، وقُبض أيضًا على مماليك المظَفَّر بيبرس، ولكِنَّه تَرَكهم رحمة لهم، ثم إنَّه كان يهتَمُّ أكثَرَ شَيء ٍلأمرِ الأمير سيف الدين سلار المغولي الذي كان نائِبَ السلطان بيبرس الجاشنكيري، فهو الذي كان الآمِرَ الناهيَ في الدولة، وهو الذي حَرَّض بيبرسَ على كلِّ الأفعال التي صدرت منه وخاصةً مُصادرة أموال الناصر، وكان سلار قد هرب إلى الشوبك، ثمَّ إنَّه قَرَّر الحضورَ إلى السلطانِ النَّاصر، فلمَّا حضر حبَسَه وبقي محبوسًا شَهرًا حتى مات في سِجنِه جُوعًا وعَطَشًا، وقد استُخرِجَت منه كلُّ أمواله وإقطاعاته، فكانت كثيرة جدًّا بما لا يُحَدُّ ولا يوصَفُ من الذهب والفضَّة والجواهر الثمينة من الياقوت والزمُرُّد واللؤلؤ وغير ذلك من الأموال والأراضي والحيوانات الشيء المهول، ويُذكَرُ أنَّ سلار أصله من المماليك التتار الأويراتية، وصار إلى الملك الصالحِ عليِّ بن قلاوون، وبقِيَ بعد موته في خدمة الملك المنصورِ قلاوون حتى مات، ثم دخل في خدمةِ الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وحَظِي عنده، فلما قُتِلَ حظي عند لاجين لمودَّة كانت بينهما، وترقى إلى أن صار نائِبَ السلطنة بديار مصرَ للسُّلطانِ المظَفَّر بيبرس.
كان بقصبة مراكش جماعةٌ من أسارى النصارى من لدُن أيامِ أبي العباس الأعرج وأخيه أبي عبد الله الشيخ، فرأوا الجمعَ الغفير من أعيان المسلمين وأهلِ الدولة يحضرون كلَّ جمعة للصلاة مع السلطان بجامعِ المنصور من القصبة، فحدَّثَتهم أنفسُهم الشيطانية بأن يصنعوا مكيدةً يُهلكون بها السلطانَ ومن معه، فحفروا في خُفيةٍ تحت الجامع حفرةً مَلؤُوها من البارود ووضعوا فيها فتيلًا تسري فيه النارُ على مهلٍ كي ينقلبَ الجامِعُ بأهله وقتَ الصلاة فتسبب ذلك في سقوط القبَّة الواسعة من الجامع، وانشقَّ مناره شقًّا كبيرًا، وكان ذلك مبلغَ ضررِهم، وكفى الله المسلمين شَرَّ تلك المكيدة، ولم يتمكن لهم الحالُ على وَفقِ ما أرادوا.
وقَّع الرئيسُ اليمنيُّ علي عبد الله صالح على المُبادرةِ الخليجيَّةِ في الرياض؛ والمُبادرَة الخليجيَّة: هي مشروعُ اتفاقيَّةٍ سياسيَّةٍ أعلَنَتْها دولُ الخليجُ لإخراجِ اليمن من مَغبَّةِ الوُصولِ إلى انفجارِ الوضعِ، وحُصولِ حربٍ أهليَّةٍ داخِلَ البلدِ نتيجةَ تمسُّكِ الرئيسِ اليمنيِّ علي عبد الله صالح بالسُّلطة ورَفضِه التنحِّيَ عن الحكمِ بعد خُروجِ ملايِين اليمنِيِّين من الشَّبابِ وطلبةِ الجامعات ومُختلَف الشرائحِ الاجتماعيَّة إلى الشوارِعِ للمُطالَبة بتنحِّيه عن الحُكمِ، وأدَّى تمسُّكُ الرئيسِ صالح بالسُّلطة إلى تهديدِ السِّلم الاجتماعيِّ في اليمن وسُقوطِ مئاتِ القتلى بسببِ إفراطِ القوَّاتِ المسلَّحة وغيرِها في استخدامِ القوَّةِ ضدَّ المتظاهِرين في السَّاحات.
نزل التتارُ على البيرة، فجهَّز السلطانُ بيبرس مِن فَورِه الأميرَ بدر الدين الخازندار- ممسك خزانة المال- على البريد؛ ليخرج أربعة آلاف فارس من بلاد الشام، وركبَ السلطان من موضِعِه وساق إلى القلعة، وعيَّنَ الأمير عز الدين إيغان المعروف باسم الموت لتقدمةِ العساكر، فخرجوا من القاهرة جرائدَ- خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- في رابع شهر ربيع الأول، ثم عين الأمير جمال الدين المحمدي، والأمير جمال الدين أيدغدي الحاجي، ومعهما أربعة آلاف أخرى، فبرزوا ثانيَ يوم خروجِ الأمير عز الدين إيغان إلى ظاهر القاهرة، وساروا في عاشِرِه، وفي يوم السبت رابع ربيع الآخر: شرع السلطانُ في السفر، وخرج بنفسه في خامس شهر ربيع الآخر ومعه عساكر كثيرة، فوقع فناءٌ في الدواب هلك منها عددٌ كثير، وصارت الأموالُ مطروحة، والسلطانُ لا يقَصِّرُ في المسير، ونزل السلطانُ غزة في العشرين منه، فورد الخبَرُ بأن العدو نصب على البيرة سبعة عشر منجنيقًا، فكتم ذلك ولم يعلم به سوى الأمير شمس الدين سنقر الرومي والأمير سيف الدين قلاوون فقط، وكتب السلطان للأميرِ إيغان: " متى لم تدركوا قلعةَ البيرة وإلَّا سُقتُ إليها بنفسي جريدة، فساق الأمير إيغان العسكر، ورحل السلطان من غزة، ونزل قريبًا من صيداء، وأتاه قسطلان يافا بتقادم، ونزل السلطانُ بيبني في السادس عشر، فورد البريدُ من دمشق بأن بطاقة الملك المنصور صاحب حماة سقطت بأنَّه وصل إلى البيرة بالعساكر، صحبة الأمير عز الدين إيغان وجماعة الأمراء يوم الاثنين، وأن التتارَ عندما شاهدوهم هربوا، ورموا مجانيقَهم وغرقوا مراكِبَهم، وكان من حين كتابتِها بالبيرة إلى حين وصولها يبني أربعة أيام، ثم توالت كتُبُ الأمراء بالبشارة، فكتب بذلك إلى القاهرة وغيرها، وكتب السلطانُ بعمارة ما خُرِّبَ من البيرة، وحمل آلات القتال والأسلحة إليها من مصر والشام، وأن يُعَبَّأ فيها كل ما يحتاجُ إليه أهلها في الحصار لمدة عشر سنين، وكتب للأمراء ولصاحب حماة بالإقامة على البيرة، حتى ينظف الخندق من الحجارة التي ردَمَها العدوُّ فيه، فكان الأمراءُ ينقلون الحجارة على أكتافهم مدة.
هو السلطانُ الملك الأشرف سيف الدين أبي النصر برسباي الدقماقي الظاهري، سلطان الديار المصرية، جركسي الأصل، اشتراه الأمير دقماق المحمدي الظاهري نائب ملطية، وأقام عنده مدة، ثم قدَّمه إلى الملك الظاهر برقوق, وهو السلطان الثاني والثلاثون من ملوك دولة الترك المماليك، والثامن من الجراكسة بالديار المصرية، وقد تولى السلطنة بمصر سنة 825 وفتح مدينة قبرص وأنشأ بمصر مدرسة وجامعًا بسرياقوس, كان سلطانًا جليلًا سياسيًّا مدبِّرًا، عاقلًا شهمًا متجمِّلًا في مماليكه وخيوله، وكانت صفتُه أشقر طوالًا نحيفًا رشيقًا منوَّر الشيبة بهيَّ الشكل، غير سبَّاب ولا فحَّاش في لفظه، حَسنَ الخُلقِ، ليِّنَ الجانب، حريصًا على إقامة ناموس الملك، يميل إلى الخير، يحب سماع تلاوة القرآن العزيز، حتى إنه رتب عدة أجواق تُقرأُ عنده في ليالي المواكب بالقصر السلطاني دوامًا. وكان يكرم أرباب الصلاح ويُجِلُّ مقامهم، وكان يكثر من الصوم صيفًا وشتاء؛ فإنه كان يصوم في الغالب يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر، يديم على ذلك. وكان يصوم أيضًا أول يوم في الشهر وآخر يوم فيه، مع المواظبة على صيام يومي الاثنين والخميس في الجمعة، حتى إنه كان يتوجه في أيام صومه إلى الصيد ويجلس على السماط وهو صائم، ويُطعِمُ الأمراء والخاصكية بيده، ثم يَغسِلُ يديه بعد رفع السِّماط كأنه واكل القوم. وكان عبدًا صالحًا ديِّنًا خيِّرًا لا يتعاطى المُسكِرات، ولا يحب من يفعل ذلك من مماليكه وحواشيه. وكان يحب الاستكثار من المماليك، حتى إنه زادت عدة مماليكه المشتروات على ألفي مملوك، لولا ما أفناهم طاعون سنة ثلاث وثلاثين، ثم طاعون سنة إحدى وأربعين هذا، فمات فيهما من مماليكه خلائق. وكان يميل إلى جنس الجراكسة على غيرهم في الباطن، يَظهَرُ ذلك منه في بعض الأحيان، وكان لا يحبُّ أن يشهر عنه ذلك؛ لئلا تنفر الخواطر منه؛ فإن ذلك مما يُعاب به على الملوك، وكانت مماليكه أشبه الناس بمماليك الملك الظاهر برقوق في كثرتهم، وأيضًا في تحصيل فنون الفروسية، ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبوبكري. لَمَّا تولى الأشرف برسباي نيابةَ حلب لم يقطع يدَ أحد بحلب، ولا قَتَل أحدًا، وحماها وبلادها بالحال, وفي يوم الثلاثاء رابعه عَهِدَ السلطان الأشرف برسباي إلى ولده المقام الجمالي يوسف، ثم جلس الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داود، وقضاة القضاة الأربعة على مراتبهم، والأمير الكبير جقمق العلائي أتابك العساكر، ومن تأخَّر من أمراء الألوف، والمباشرون، ما عدا كاتب السر فإنه شديد المرض، ثم قام القاضي زين الدين عبد الباسط وفتح باب الكلام في عهد السلطان من بعد وفاته لابنه المقام الجمالي بالسلطنة، وقد حضر أيضًا مع أبيه، فاستحسن الخليفة ذلك وأشار به، فتقدَّم القاضي شرف الدين الأشقر بالعهد إلى بين يدي السلطان، فأشهد السلطان على نفسه بأنه عهد إلى ولده الملك العزيز جمال الدين أبي المحاسن يوسف من بعد وفاته بالسلطة، فأمضى الخليفة العهد، وشهد بذلك القضاة، ثم ظل المرض يتزايد بالسلطان إلى أن خارت قواه وأصبح يهذي أحيانًا حتى لما كان شهر ذي الحجة مات عصر يوم السبت ثالث عشر، وفي الحال حضر الخليفة والقضاة الأربعة والأمير الكبير جقمق العلائي وسائر أمراء الدولة، وسلطَنوا المقام الجمالي يوسف، ولقبوه بالملك العزيز يوسف جمال الدين أبي المحاسن وعمره يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، ثم أخذ الأمراء في تجهيز السلطان، فجُهِّز وغُسِّل وكُفِّن بحضرة الأمير إينال الأحمدي الفقيه الظاهري برقوق أحد أمراء العشرات بوصية السلطان له، وهو الذي أخرج عليه كلفة تجهيزه وخرجته من مال، كان الأشرف دفعه إليه في حياته، وأوصاه أن يحضر غسله وتكفينه ودفنه، ولما انتهى أمْرُ تجهيز الملك الأشرف حُمِل من الدور السلطانية إلى أن صُلِّي عليه بباب القلعة من قلعة الجبل، وتقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر، ثم حُمِل من المصلى على أعناق الخاصكية والأمراء الأصاغر، إلى أن دفن بتربته التي أنشأها بالصحراء خارج القاهرة، وكانت جنازته مشهودة بخلاف جنائز الملوك، ولم يقع في يوم موته اضطراب ولا حركة ولا فتنة، ونزل إلى قبره قُبَيل المغرب، وكانت مدة سلطنته بمصر سبع عشرة سنة تَنقُص أربعة وتسعين يومًا.
كثُرَ فَسادُ العُربان بالوجه القبلي، وتعَدَّى شَرُّهم في قَطعِ الطَّريقِ إلى أن فَرَضوا على التجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائِضَ جَبَوها شبه الجماليَّة، واستخَفُّوا بالولاة ومنعوا الخراجَ، وتَسَمَّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرينِ أحدهما سَمَّوه بيبرس، والآخر سلار، ولبسوا الأسلحةَ وأخرجوا أهلَ السُّجونِ بأيديهم، فاستدعى الأمراءُ القُضاةَ والفُقَهاءَ، واستفتَوهم في قتالِهم، فأفتَوهم بجواز ذلك، فاتَّفَق الأمراء على الخروج لقتالِهم وأخْذِ الطرق عليهم، لئلا يمتَنِعوا بالجبالِ والمفاوزِ فيَفوتَ الغَرَضُ فيهم، فاستدعَوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية, وغيرَه من ولاة العمل، وتقَدَّموا إليه بمنع الناسِ بأَسرِهم من السفر إلى الصعيدِ في البَرِّ والبحر، ومَن ظَهَر أنه سافر كانت أرواحُ الولاة قبالةَ ذلك، فاشتَدَّ حِرصُهم، وأشاع الأمراءُ أنَّهم يريدون السَّفَرَ إلى الشام، وكُتِبَت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرونَ مُقَدَّمًا بمضافيهم، وعيَّنوا أربعة أقسام: قسمٌ يتوَجَّهُ في البر الغربي من النيلِ، وقِسمٌ في البَرِّ الشرقي، وقِسمٌ يركب النيل، وقِسمٌ يمضى في الطريق السالكةِ، وتوجه الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر إلى جهة ألواح في خمسةِ أمراء، وقرر أن يتأخَّرَ مع السلطان أربعةُ أمراء من المقَدَّمين، وتقَدَّمَ إلى كُلِّ مَن تعَيَّنَ لجهة أن يضَعَ السَّيفَ في الكبير والصَّغيرِ والجليل والحقير، ولا يُبقُوا شيخًا ولا صبيًّا، ويحتاطوا على سائِرِ الأموال، وسار الأميرُ سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعةٌ من الأمراء في البر الغربي، وسار الأميرُ بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأميرُ بكتاش أميرُ سلاحٍ بمن معه إلى الفيوم وسار الأميرُ بكتمر الجوكندار بمن معه في البرِّ الشرقي، وسار قتالُ السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأميرُ قبجق ومن معه إلى عقبةِ السَّيل، وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعةِ وأخذ عليهم المفازاتِ، وضَرَبَ الأمراءُ على الوجه القبلي حلقةً كحلقةِ الصيدِ، وقد عُمِّيَت أخبارُهم على أهل الصعيد، فطَرَقوا البلادَ على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها، ووضَعوا السيفَ في الجيزيَّة بالبر الغربيِّ والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحدًا حتى قَتَلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجلٍ، وما منهم إلَّا من أخذوا مالَه وسَبَوا حريمه، فإذا ادَّعى أحدٌ أنَّه حَضَريٌّ قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العَرَبِ قُتِلَ، ووقع الرعبُ في قلوبِ العُربان حتى طَبَّق عليهم الأمراءُ، وأخَذوهم مِن كُلِّ جِهةٍ فَرُّوا إليها، وأخرَجوهم من مخابِئِهم حتى قَتَلوا مَن بجانبي النيلِ إلى قوص، وجافت الأرضُ بالقتلى، واختفى كثيرٌ منهم بمغائِرِ الجبالِ، فأُوقِدَت عليهم النيرانُ حتى هلكوا عن آخِرِهم، وأُسِرَ منهم نحوُ ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحَصَل من أموالهم شيءٌ عَظيمٌ جدًّا تفَرَّقَتْه الأيدي، وأُحضِرَ منه للديوان ستة عشر ألف رأسٍ من الغنم، من جملةِ ثمانين ألف رأسٍ ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعةِ آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غيرَ ما أُرصِدَ في المعاصر، ومن السِّلاحِ نحو مائتين وستين حملًا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموالِ على بغالٍ مُحَمَّلة مائتين وثمانين بغلًا، ثم عاد العسكَرُ في سادس عشر رجب، وقد خلت البلادُ بحيث كان الرجلُ يمشي فلا يجِدُ في طريقه أحدًا، وينزِلُ بالقرية فلا يرى إلا النِّساءَ والصِّبيانَ والصِّغارَ، فأفرجوا عن المأسورينَ وأعادوهم لحِفظِ البلاد، وكان الزَّرعُ في هذه السنة بالوجه القبلي عظيمًا إلى الغاية، تحصَّلَ منه ما لم يُقدَرْ قَدرُه كَثرةً.
هو الحافِظُ لدينِ الله عبدُ المجيد بنُ الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله الفاطمي العُبَيدي حاكِمُ مصر، كان في جميعِ مُدَّةِ حُكمِه محكومًا عليه، يَحكُمُ عليه وزراؤُه، حتى إنَّه جَعَلَ ابنَه حسنًا وزيرًا ووَلِيَّ عَهدِه فحَكَمَ عليه واستبَدَّ بالأمرِ دونَ أبيه وقَتَلَ كثيرًا مِن أُمَراءِ دَولةِ أبيه وصادَرَ كثيرًا، فلما رأى الحافِظُ ذلك سقى الحسَنَ سُمًّا فمات. توفِّيَ الحافِظُ بعد أن أصابه مَرَضٌ شديدٌ، وقد ثارت فِتنةٌ بين العَسكَرِ والريحانيَّة أصحاب الحَسَن، وهَمُّوا بخَلعِ الحافِظِ، فنُقِلَ إلى قصر لؤلؤة وهو مَريضٌ فمات به، وكانت مُدَّةُ حُكمِه عشرينَ سَنةً إلَّا خمسة أشهر، وولِيَ الحُكمَ بَعدَه في مصرَ ابنُه الظَّافِرُ بأمرِ اللهِ أبو مَنصورٍ إسماعيلُ بنُ عبد المجيد الحافِظ، وبُويِعَ له في اليوم الذي مات فيه الحافِظُ لدين الله، وعُمُرُه سَبعَ عَشرةَ سَنةً وأربعة أشهر وعشرة أيام، بوَصيِّةٍ مِن أبيه له بالحُكمِ، وكان أصغَرَ أولادِه.
لَمَّا مات السُّلطان مسعود، قال خاص بك لملكشاه: "سأقبِضُ عليك صُورةً، وأطلُبُ أخاك محمَّدًا لأُمَلِّكَه، فإذا جاء أمسَكْناه، وتستَقِلَّ أنت. قال: فافعَلْ. فما نَفَقَ خُبثُه على محمَّدٍ، وجاء إلى همذان، فبادر العَسكَرُ إليه، فقال: كلامُكم مع خاص بك فهو الوالِدُ، فوصل هذا القَولُ إلى خاص بك، فاطمَأَنَّ، وتلَقَّاه، وقَدَّمَ له تُحَفًا، ثمَّ قُتِلَ خاص بك، وخَلَّفَ أموالًا جزيلةً مِن بعضِها سبعون ألفَ ثوب أطلس. قال المؤيَّدُ: بَدَرَه السُّلطانُ مُحمَّد ثاني يوم مِن قُدومِه، وقتَلَه"، وقَتَلَ معه زنكي الجاندار، وألقى برأسَيهما، فتفَرَّقَ أصحابُهما، ولم ينتَطِحْ فيهما عَنزانِ، وأخذ مُحمَّدٌ مِن أموالِ خاص بك شيئًا كثيرًا واستقَرَّ مُحمَّدٌ في السلطنة وتمكَّنَ، وبَقِيَ خاص بك مُلقًى حتى أكلَتْه الكِلابُ، وكان صبيًّا تُركمانيًّا اتصل بالسُّلطانِ مَسعود، فتقَدَّمَ على سائر الأمراءِ، وكانت هذه خاتِمةَ أمْرِه.
حاوَلَ بَعضُ الأمراء القضاءَ على برقوق وقَتْلَه، لكنَّه استطاع أن يقبِضَ عليهم ويسجِنَهم، ولكنه استمَرَّ بعد مَسْك هؤلاء في تخوف عظيم، واحترز على نفسه من مماليكِه وغيرِهم غايةَ الاحتراز، فأشار عليه بعد ذلك أعيانُ خشداشيته- زملاء مهنته- وأصحابه مثل أيتمش البجاسي، وألطنبغا الجوباني أمير مجلس، وقردم الحسني، وجركس الخليلي ويونس النوروزي الدوادار وغيرهم أن يتسلطَنَ ويحتَجِبَ عن الناس ويستريح ويُريحَ مِن هذا الذي هو فيه من الاحترازِ مِن قيامه وقعودِه، فجَبُنَ عن الوثوب على السلطنةِ وخاف عاقبةَ ذلك، فاستحَثَّه الأمراء، فاعتذر بأنه يهابُ قُدَماءَ الأمراء بالديار المصرية والبلاد الشامية، فركِبَ سودون الفخري الشيخوني حاجِبُ الحُجَّاب ودارَ على الأمراء سرًّا حتى استرضاهم، وما زال بهم حتى كلَّموا برقوقًا في ذلك وهَوَّنوا عليه الأمرَ وضَمِنوا له أصحابَهم من أعيان النواب والأمراء بالبلاد الشامية، وساعدهم في ذلك موتُ الأمير آقتمر عبد الغني؛ فإنَّه كان من أكابر الأمراء، وكان برقوقٌ يجلس في الموكِبِ تحتَه لِقِدَم هِجرتِه، وكذلك بموتِ الأمير أيدمر الشمسي؛ فإنه كان أيضًا من أقران اقتمر عبد الغني، فماتا في سنة واحدة، فعند ذلك طابت نفسُه وأجاب، وصار يقَدِّمُ رِجلًا ويؤخر أخرى، حتى كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان من هذه السنة طلع الأمير قطلوبغا الكوكائي أمير سلاح وألطنبغا المعلم رأس نوبة إلى السلطان الملك الصالح أمير حاج فأخذاه من قاعة الدهيشة وأدخلاه إلى أهلِه بالدور السلطانيَّة، وأخذا منه النمجاة- سيف خاص بالملك أو السلطان- وأحضراها إلى الأتابك برقوقٍ العثماني، وقام بقيَّةُ الأمراء من أصحابه على الفور وأحضروا الخليفةَ والقُضاة وسَلْطَنوه، وخُلِعَ الملك الصالح من السلطنة، فكانت مُدَّة سلطنته على الديار المصرية سنة واحدة وسبعة أشهر تنقُصُ أربعة أيام، على أنَه لم يكن له في السلطنة من الأمر والنهي لا كثيرٌ ولا قليل، أما السلطان المَلِكُ الظاهر فهو أبو سعيدٍ سَيفُ الدين برقوق بن آنص العثماني اليلبغاوي الشركسي، القائم بدولة الشراكسة بالدِّيارِ المصرية، وهو السلطان الخامس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، والثاني من الشراكِسة، إن كان المَلِكُ المظَفَّر بيبرس الجشنكير شركسيًّا؛ فقد قيل إن أصله تركي، وعليه فبرقوق هذا هو الأول من ملوك الشراكسة، وهو الأصحُّ، جلس على تخت الملك في وقت الظهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان بعد أن اجتمع الخليفةُ المتوكل على الله أبو عبد الله محمد والقضاة وشيخُ الإسلام سراج الذين عمر البلقيني، وخطب الخليفة المتوكل على الله خطبة بليغة، ثم بايعه على السَّلطنةِ وقَلَّدَه أمورَ المملكة، ثم بايعه من بعدِه القضاة والأمراء، ثم أُفيضَ على برقوق خِلعة السلطنة، وهي سوداء خليفتية على العادة، وأشار السراجُ البلقيني أن يكون لَقَبُه الملك الظاهر؛ فإنَّه وقت الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمرُ بعد أن كان خافيًا، فتلَقَّبَ بالملك الظاهر، وبه يبدأُ عهد المماليك البُرجية وينتهي عهدُ المماليك البحريَّة، ويُذكَرُ أن أصله من بلاد الشركس، ثمَّ أُخِذَ من بلاده وبِيعَ بمدينة قرم، فاشتراه خواجا عثمان بن مسافر وجلبه إلى مصر فاشتراه منه الأتابك يلبغا العمري الخاصكي الناصري في حدود سنة 764 وقبلها بيسير وأعتَقَه وجعله من جملة مماليكِه، واستمَرَّ أمره حتى صار أتابكَ العساكِرِ.
والشراكسة شعب مسلم موطنه الأصلي مرتفعات القوقاز بين البحر الأسود وبحر قزوين.
بعد أن تخلى الموحِّدون عن الأندلس بدأت تتساقَطُ المدن الإسلامية فيها واحدة تلوَ الأخرى في أيدي القوى الصَّليبية غيرَ أنَّ مقاطعة غرناطة استطاع أن يسيطرَ عليها محمد الغالب بن يوسف بن أحمد بن نصر بن الأحمر الذي اعتصم بها، وأقام قلعةً عُرِفَت باسم قلعة الحمراء أو قصر الحمراء وجعلها مركزًا له ولأسرته من بعده، وملجأً لجموع المسلمين الهاربين من أنحاءِ الأندلس، ثمَّ أعلن نفسَه أميرًا على الأندلس بعد أن استولى على جيان ووادي آش وبسطة، وتمت له غرناطة تمامًا والتي أصبحت عاصمتَه، واستطاع أن يضمَّ لها عددًا من الدويلات الأخرى, وظلَّت دولةُ الإسلام في الأندلُسِ بغرناطة إلى سقوطها بيد الفرنج سنة 897 (1492م).
تطَلَّع الإمامُ تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود إلى ضَمِّ الأحساء التي استعادها بنو خالد بعد سقوطِ الدرعية، وأراد التخلص من تهديدهم لدولته، فأمر عمر بن محمد بن عفيصان فغزاها فرَدَّ عليه أحدُ زعماء بني خالد بغزوِ بلدة حرمة بنجد. ولكنَّ الدائرةَ دارت على بني خالد ودخل الإمامُ تركي الأحساء دون قتالٍ، بعد هروب بني خالد منها، وقد وفد زعماءُ القطيف على الإمام وبايعوه على السَّمعِ والطاعة، وبهذا رجَعَت الأحساءُ مرة أخرى للدولة السعودية، وغادرها الإمام تركي تاركًا فيها عمر بن محمد بن عفيصان أميرًا عليها، وعبد الله الوهيبي قاضيًا لها.
تعرَّضت الولايات الأمريكية لسلسلة من الهجمات في 11 سبتمبر عامَ 2001م، وتركَّزت في كلٍّ من واشنطنَ، ونيويوركَ وبنسلفانيا، وبدأت هذه الهجماتُ باصطدام طائرتَينِ من طراز بوينج، بمركز التجارة العالمي -أعْلى مَبْنى في العالم- بحي مانهاتن بولاية نيويورك الأمريكية، حيث اصطدمت كلُّ طائرةٍ ببرجٍ، ممَّا أدَّى إلى سقوط البُرجين، حتى سُوِّيَا بالأرض، بعد أن اشتَعَلا بالنار لفترة قليلةٍ، كما تعرَّض مَقَرُّ وزارة الدفاعِ الأمريكيةِ (البِنتاجون) في واشنطنَ لهجمةٍ أيضًا في جزءٍ منه، وقُتِلَ في الهجمات 3062 شخصًا، تَبَنَّى رئيس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن هذه العملياتِ، فقامت الولايات الأمريكية بملاحَقة تنظيمِ القاعدة، للقبضِ على أسامة بن لادن، وأدى ذلك إلى غزو أفغانستانَ.
كان قد حدث من الملك السعيد أشياء أوغرت صدورَ الأمراء عليه، وأصبَحَ خاصية الملك يحظَونَ بما يريدون ويُبعِدونَ من أرادوا حتى كان في السنة الماضيةِ أن أرسل بعض الأمراء إلى سيس للقتال فخرجوا وهم مكرهون، فأما الأمراء فإنهم غَزَوا سيس وقتلوا وسَبَوا، ثم عادوا إلى دمشق ونزلوا بالمرجِ، فخرج الأميرُ كوندك إلى لقائهم على العادة، وأخبرهم مما وقع من الخاصكية في حَقِّهم وحَقِّه من تخوُّفِ الملك منهم، فحَرَّك قَولُه ما عندهم من كوامِنِ الغضب، وتحالفوا على الاتفاق والتعاون، وبعثوا من المرج إلى السلطانِ يُعلِمونَه أنهم مقيمون بالمرج، وأن الأمير كوندك شكى إليهم من لاجين الزيني وهو من أقرَبِ مقربي الملك السعيد شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشفِ عنها، وسألوا السلطانَ أن يحضر إليهم حتى يسمعوا كلامَه وكلام كوندك، فلما بلغ السلطانَ ذلك لم يعبأ بقولهم، وكتب إلى من معهم من الأمراءِ الظاهريَّة يأمُرُهم بمفارقة الصالحيَّة ودخول دمشق، فرحلوا مِن فَورِهم ونزلوا على الجورةِ مِن جهة داريا، وأظهروا الخلافَ، ورموا الملكَ السعيد بأنه قد أسرف وأفرطَ في سوء الرأي وأفسد التدبير، فخاف السلطان عند ذلك سوء العاقبة، وبعث إليهم الأميرَ سنقر الأشقر، والأمير سنقر التكريتي الأستادار- المشرف على شؤون بيوت السلطان- ليلطفا بهم ويعملا الحيلة في إحضارِهم، فلم يوافقوا على ذلك، وعادا إلى السلطان فزاد قلقُه، وتردَّدَت الرسل بينه وبين الأمراء، فاقترحوا عليه إبعادَ الخاصكية، فلم يوافق، فرحل الأمراءُ بمن معهم من العساكِرِ إلى مصر وتَبِعَهم الملك السعيد ليلحَقَهم ويتلافى أمرَهم فلم يُدرِكْهم فعاد إلى دمشق وبات بها، ثم سار من دمشق بالعساكر يريد مصرَ فنزل بلبيس في نصف ربيع الأول وكان قد سبقه الأميرُ قلاوون بمن معه إلى القاهرة، ونزلوا تحت الجبل الأحمر، فبلغ ذلك الأمراء الذين بقلعة الجبل، وهم الأمير عز الدين أيبك أمير جانذار والأمير أفطوان الساقي، والأمير بلبان الزربقي، فامتنعوا بها وحَصَّنوها وتقدموا إلى متولي القاهرة فسَدَّ أبوابها فراسَلَهم قلاوون والأمراء في فتحِ أبواب القاهرة ليدخُلَ العسكر إلى بيوتهم ويُبصِروا أولادَهم؛ فإن عهدهم بَعُدَ بهم ونزل الأمير لاجين البركخاي وأيبك الأفرم وأقطون إلى الأمراء لمعرفة الخبر فقَبَضوا عليهم وبعثوا إلى القاهرة ففُتِحَت أبوابها ودخل كلُّ أحد إلى داره وسُجِنَ الثلاثة الأمراء في دار الأمير قلاوون بالقاهرة وزحفوا إلى القلعةِ وحاصروها وأمَّا السلطان فإنه لما نزل بلبيس وبلغه خبَرُ الأمراء خامر عليه من كان معه من عسكَرِ الشام وتركوه في بلبيس وعادوا إلى دمشق وبها الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام، فصاروا إليه ولم يبقَ مع السلطان إلا مماليكُه ولم يبق معه من الأمراء الكبار إلا الأميرُ سنقر الأشقر فقط، فسار السلطان من بلبيس ففارقه الأشقر من المطرية وأقام بموضعه، وبلغ الأمراءَ أن السلطان جاء من خَلفِ الجبل الأحمر فركبوا ليحولوا بينه وبين القلعة وكان الضباب كثيرًا فنجا منهم واستتر عن رؤيتِهم وطلع إلى المقَدِّمة، فلما انكشف الضباب بلغ الأمراء أن السلطانَ بالقلعة فعادوا إلى حصارِها وصار السلطان يُشرِفُ من برج الرفرف المطلِّ على الإسطبل ويصيح بهم: يا أمراءُ، أرجِعُ إلى رأيكم ولا أعمَلُ إلا ما تقولونَه، فلم يجبه أحدٌ منهم وأظهروا كتبًا عنه يطلب فيها جماعةً من الفداوية لقَتلِهم وأحاطوا بالقلعة وحصروه، وكان الأميرُ سنجر الحلبي معتَقلًا بالقلعة، فأخرجه السلطانُ وصار معه، فاستمر الحصارُ مدة أسبوع، وكان الذي قام في خلع السلطان جماعةٌ كثيرة من الأمراء وأعيان المفاردة والبحرية، ولما طال الحصار بعث الخليفةُ العباسي الحاكم بأمر الله أحمد، يقول: يا أمراءُ، أيش غرضكم؟ فقالوا: يخلع المَلِكُ السعيد نفسه من الملك ونعطيه الكرك، فأذعن السعيدُ لذلك، وحلف له الأمراء، وحضر الخليفةُ والقضاة والأعيان، وأنزل بالملك السعيد، وأشهد عليه أنَّه لا يَصلُحُ للمُلك، وخلعَ السعيدُ نفسَه، وحلف أنه لا يتطَرَّقُ إلى غير الكرك، ولا يكاتِبُ أحدًا من النواب، ولا يستميلُ أحد من الجند، وسافر من وقته إلى الكرك مع الأمير بيدغان الركني، وذلك في سابع شهر ربيع الآخر، فكانت مدة ملكه من حين وفاة أبيه إلى يوم خلعه سنتين وشهرين وثمانية أيام، فوصل إلى الكرك وتسَلَّمَها في الخامس عشر من جمادى الآخرة، واحتوى على ما فيها من الأموال وكانت شيئًا كثيرًا، ولما تم خلعُ الملك السعيد وسافر إلى الكرك، عرض الأمراءُ السلطنة على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي فامتنع، وقال: أنا ما خلعت الملك السعيد طمعًا في السلطنة، والأولى ألا يخرجَ الأمر عن ذرية الملك الظاهر، فاستُحسِنَ ذلك منه؛ لأن الفتنة سكنت فإنَّ الظاهرية كانوا معظم العسكرِ، وكانت القلاعُ بيَدِ نواب الملك السعيد، وقصَدَ قلاوون بهذا القَولِ أن يتحَكَّم حتى يغَيِّرَ النواب ويتمكن مما يريد، فمال الجميعُ إلى قوله وصوبوا رأيه، واستدعوا سلامش بن السلطان الظاهر، واتفقوا أن يكون الأمير قلاوون أتابِكَه، وأن يكون إليه أمرُ العساكر وتدبير الممالك، فحضر سلامش وله من العمر سبع سنين وأشهر، وحلف العسكرُ جميعه على إقامته سلطانًا، وإقامة الأمير قلاوون أتابك العساكر، ولقَّبوه الملك العادل بدر الدين، فاستقَرَّ الأمرُ على ذلك، وأقيم الأمير عز الدين أيبك الأفرم في نيابة السلطنة.
أهلَّ شهر جمادى الأولى والفتنة قائمة بين أمراء الدولة؛ وذلك أن الأمير يشبك هو زعيم الدولة، بيده جميع أمورها من الولاية والعزل، والنقض والإبرام، وصار له عصبة كبيرة، فأحبوا عزل الأمير إينال باي ابن الأمير قجماس ابن عم الملك الظاهر برقوق من وظيفة أمير أخور؛ وذلك أنه اختص بالسلطان لأمور؛ منها: قرابته، ثم مصاهرته إياه، فشَقَّ ذلك على عصبة يشبك، وأحبوا أن يكون جركس المصارع أمير أخور، وانقطعوا عن حضور الخدمة السلطانية عدة أيام من جمادى الأولى، فاستوحش السلطان منهم، وتمادى الحال، فتقدم السلطان إلى الأمير إينال باي أن ينزل إلى الأمراء ويصالحهم، فمنع جماعة من المماليك السلطانية إينال باي أن ينزل، وتشاجروا مع طائفة من مماليك الأمراء، واشتد ما بينهم من الشر، وأخذ كل أحد في أُهبة الحرب، وأصبحوا جميعًا يوم الأحد لابسين السلاح، وقد أعدَّ يشبك بأعلى مدرسة حسن مدافع النفط والمكاحل؛ ليرمي على الإسطبل السلطاني، ومن يقف تحت القلعة بالرميلة، ونزل السلطان من قلعة الجبل إلى الإسطبل، واجتمع عليه من أقام على طاعته من الأمراء والمماليك، وأقام مع يشبك من الأمراء المقدَّمين سبعة وأكثر المماليك الظاهرية، فأقاموا على الحصار والمراماة، من بكرة الأحد إلى ليلة الخميس سابعه، وقد أخذ أصحاب السلطان على اليشبكية المنافذ، وحصروهم والقتال بينهم مستمر، وأمرُ يشبك في إدبار، فلما كان ليلة الخميس نصف الليل، خرج يشبك بمن معه على حمية من الرميلة، ومروا إلى جهة الشام، فلم يتبَعْهم أحد من السلطانية، ونودِيَ من آخر الليل في الناس بالقاهرة الأمان والاطمئنان، ومُنِع أهل الفساد من النهب، وأما يشبك ففي مروره إلى دمشق انضم له الكثير وزُوِّد بالكثير من العدد والعتاد، وقد انضم إليهم خلق كثير، فدخلوا دمشق بكرة الثلاثاء رابع شهر رجب، فسألهم الأمير شيخ المحمودي عن خبرهم، فأعلموه بما كان، وذكروا له أنهم مماليك السلطان وفي طاعته، لا يخرجون عنها أبدًا غير أن الأمير إينال باي ثقل عنهم ما لم يقع منهم، فتغير خاطر السلطان، حتى وقع ما وقع، وأنهم ما لم يُنصَفوا منه ويعودوا لِما كانوا عليه، وإلا فأرض الله واسعة، فوعدهم بخير، وقام لهم بما يليق بهم، وكتب إلى السلطان يسأله في أمرهم، وقدمت كتب نواب الشام إلى الأمير يشبك، تَعِدُه بالأمداد، وتقويته بما يريد، وقدم عليهم الأمير نوروز والأمير دقماق، فبعث الأميران شيخ ويشبك بيشبك العثماني إلى الأمير جكم الجركسي الظاهري، يستدعيه من أنطاكية إلى دمشق، وأفرج الأمير شيخ المحمودي أيضًا عن قرا يوسف ابن قرا محمد التركماني.