هو حاكِمُ مصر الظافِرُ أبو مَنصورٍ إسماعيلُ بن الحافظِ لدِينِ الله عبدِ المجيدِ بن محمدِ بن المُستَنصِر مَعَدِّ بن الظاهرِ عليِّ بن الحاكمِ الفاطميُّ العُبيديُّ، المصريُّ، الإسماعيليُّ. وَلِيَ الأَمرَ بعدَ أَبيهِ خَمسةَ أَعوامٍ. وكان شابًّا جَميلًا وَسيمًا لَعَّابًا عاكِفًا على الأَغاني والسَّراري، استَوْزَرَ الأَفضلَ سليمَ بن مصالٍ فَسَاسَ الإِقليمَ. وانقَطعَت في أَيامِه الدَّعوةُ له ولآبائِهِ العُبيدِيِّين من سائرِ الشامِ والمَغربِ والحَرمَينِ, وبَقِيَ لهم إِقليمُ مصر, وقد خَرجَ على وَزيرِه ابنِ مصالٍ. العادلُ بن السَّلَّارِ، وحارَبَه وظَفَرَ به، واستَأصَلَهُ، واستَبَدَّ بالأَمرِ, وكان ابنُ السَّلَّارِ مِن أَجَلِّ الأُمراءِ الأَكرادِ سُنِّيًّا حَسَنَ المُعتَقَدِ شافِعيًّا. وفي أَيامِ الظافرِ قَدِمَ من إفريقية عبَّاسُ بن يحيى بن تَميمِ بن المُعِزِّ بن باديس مع أُمِّهِ صَبِيًّا. فتَزَوَّجَ العادلُ بها قبلَ أن يَتوَلَّى الوِزارةَ، ثم تَزَوَّجَ عبَّاسٌ، ووُلِدَ له نَصرٌ، فأَحَبَّهُ العادلُ، فاتَّفَقَ عبَّاسٌ وأُسامةُ بن مُنقِذ على قَتلِ العادلِ، وأن يَأخُذ عبَّاسٌ مَنصِبَهُ. فذَبحَ نَصرٌ العادلَ على فِراشِه في المُحرَّم سَنةَ 548هـ، وتَمَلَّكَ عبَّاسٌ وتَمَكَّنَ. عاشَ الظافِرَ اثنتين وعِشرينَ سَنةً, وكانت مُدَّةُ حُكمِه أَربعَ سِنينَ وسَبعةَ أَشهُر وأَربعةَ عشرَ يومًا، وكان سَببُ قَتلِه أن نصرَ بن عبَّاسٍ كان مَلِيحًا، فمالَ إليه الظافرُ وأَحَبَّه، وجَعلَه من نُدَمائِه وأَحبابِه الذين لا يَقدِر على فِراقِهم ساعةً واحدةً، فاتَّهَمَهُ مُؤيِّدُ الدولةِ أُسامةُ بن مُنقِذ بأنه يُفْحِشُ به وذَكرَ ذلك لأَبيهِ عبَّاسٍ فانزَعجَ لذلك وعَظُمَ عليه، فذَكرَ الحالَ لوَلَدِه نَصرٍ، فاتَّفَقا على قَتلِه، فحَضَرَ نَصرٌ عند الظافرِ وقال له: أَشتَهِي أن تَجيءَ إلى داري لدَعوةٍ صَنعتُها، ولا تُكثِر من الجَمعِ؛ فمَشَى معه في نَفَرٍ يَسيرٍ مِن الخَدَمِ لَيلًا، فلمَّا دَخلَ الدارَ قَتَلَه وقَتَلَ مَن معه، وأَفلَتَ خادمٌ صَغيرٌ اختَبأَ فلم يَرَوهُ، ودَفَنَ القَتلَى في دارِه، ثم هَربَ الخادمُ الصغيرُ الذي شاهَدَ قَتْلَه، من دارِ عبَّاسٍ عند غَفْلَتِهم عنه، وأَخبرَ أَهلَ القَصرِ بقَتْلِ نَصرِ بن عبَّاسِ للظافرِ، ثم رَكِبَ عبَّاسٌ من الغَدِ وأَتَى القَصرَ, وقال: أين مولانا؟ فطَلَبوهُ فلم يَجدِوه, فخَرجَ جِبريلُ ويوسفُ أَخَوَا الظافرِ، فقال لهم عبَّاسٌ: أين مولانا؟ قالا: سَلْ ابنَك، فغَضِبَ. وقال: أنتُما قَتَلْتُماهُ، وضَرَبَ رِقابَهُما في الحالِ ليُبعِدَ التُّهمةَ عنه, ثم أَجلسَ الفائزُ بنَصرِ الله أبا القاسمِ عيسى بنَ الظافرِ إسماعيلَ ثاني يَومٍ قُتِلَ أَبوهُ، وله من العُمرِ خمسُ سِنين. حَمَلَهُ عبَّاسٌ على كَتفِه وأَجلَسهُ على سَريرِ المُلْكِ وبايَعَ له الناسُ، وأَخَذَ عبَّاسٌ من القَصرِ من الأَموالِ والجَواهِر والأَعلاقِ النَّفيسَةِ ما أَرادَ، ولم يَترُك فيه إلا ما لا خَيرَ فيه.
بعد أن انهزم جيشُ المماليك من التتار في موقعةِ السلمية في ربيع الأول، وبعد ما حصل لأهل دمشق من الخوفِ الشديد، زاد الأمر أنَّه في ليلة الأحد ثاني ربيع الآخر كسر المحبوسون بحَبسِ أبي الصغير الحبسَ وخرجوا منه على حميةٍ، وتفرقوا في البلدِ، وكانوا قريبًا من مائتي رجل فنَهَبوا ما قدروا عليه وجاؤوا إلى باب الجابية فكسروا أقفالَ الباب البراني وخرَجوا منه إلى بر البلد، فتفَرَّقوا حيث شاؤوا لا يقدِرُ أحد على رَدِّهم، وعاثت الحرافشة- كالشُّطَّار والعيَّارين في بغداد- في ظاهرِ البلد، فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الأبوابِ والشبابيك شيئًا كثيرًا، وباعوا ذلك بأرخَصِ الأثمان، هذا وسلطانُ التتار قد قصد دمشقَ بعد الوقعة، فاجتمع أعيانُ البلد والشيخ تقي الدين ابنُ تيميَّةَ في مشهدِ عليٍّ، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلَقِّيه، وأخْذِ الأمانِ منه لأهل دمشق، فتوجَّهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتَمَعوا به عند النبك، وكلَّمَه الشيخُ تقي الدين كلامًا قويًّا شديدًا فيه مصلحةٌ عظيمةٌ عاد نفعُها على المسلمين. ذكر ابن كثير: "أنَّ شَيخَ الإسلامِ تقيَّ الدينِ ابن تيميَّةَ قال لترجمانِ قازان: قل للقان: أنت تزعُمُ أنَّك مسلِمٌ ومعك مؤذِّنونَ وقاضٍ وإمامٌ وشَيخٌ على ما بلَغَنا، فغزَوْتَنا وبلَغْتَ بلادَنا على ماذا؟! وأبوك وجَدُّك هولاكو كانا كافرينِ وما غزَوَا بلادَ الإسلام، بل عاهَدوا قومَنا، وأنت عاهَدْتَ فغَدَرْتَ وقُلْتَ فما وفَيْتَ! قال: وجَرَت له مع قازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونُوَب، قام ابن تيمية فيها كُلِّها لله، وقال الحَقَّ ولم يخشَ إلا الله عزَّ وجَلَّ. قال: وقَرَّب إلى الجماعةِ طَعامًا فأكلوا منه إلَّا ابنَ تيميَّةَ، فقيل له: ألا تأكُلُ؟ فقال: كيف آكُلُ مِن طعامِكم وكلُّه مما نهَبْتُم من أغنامِ النَّاسِ وطَبَختُموه بما قطَعْتُم من أشجارِ النَّاسِ؟! قال: ثمَّ إن قازان طلَبَ منه الدعاءَ، فقال في دعائه: "اللهم إن كان هذا عبدُك محمود إنَّما يقاتِلُ لتكونَ كَلِمَتُك هي العُليا وليكونَ الدِّينُ كُلُّه لك، فانصُرْه وأيِّدْه ومَلِّكْه البِلادَ والعبادَ، وإن كان إنما قام رياءً وسُمعةً وطَلبًا للدنيا ولتكونَ كَلِمتُه هي العليا ولِيُذِلَّ الإسلامَ وأهلَه، فاخذُلْه وزلزِلْه ودَمِّرْه واقطَع دابِرَه" قال: وقازان يؤمِّنُ على دعائه، ويَرفَعُ يديه. قال: فجعَلْنا نجمَعُ ثيابَنا خوفًا من أن تتلوَّثَ بدَمِه إذا أمَرَ بقَتلِه!! قال: فلمَّا خرجنا من عنده قال له قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وغيره: كدتَ أن تُهلِكَنا وتُهلِكَ نَفسَك، واللهِ لا نَصحَبُك من هنا، فقال: وأنا واللهِ لا أصحَبُكم. قال: فانطلَقْنا عُصبةً وتأخَّرَ هو في خاصَّةِ نَفسِه ومعه جماعةٌ من أصحابه، فتسامَعَ به الأمراءُ من أصحاب قازان فأتوه يتبَرَّكونَ بدعائه، وهو سائِرٌ إلى دمشق، وينظُرونَ إليه، قال: والله ما وصل إلى دمشقَ إلَّا في نحو ثلثمائةِ فارسٍ في رِكابِه، وكنت أنا من جملةِ مَن كان معه، وأمَّا أولئك الذين أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعةٌ من التتر فشَلحوهم عن آخِرِهم!!"، ودخل المسلمونَ ليلتئذٍ مِن جهة قازان فنزلوا بالبدرانيَّة وغُلِّقَت أبوابُ البلد سوى باب توما، وخَطَب الخطيبُ بالجامع يوم الجمعةِ، ولم يَذكُرْ سُلطانًا في خُطبتِه، وبعد الصلاةِ قَدِمَ الأمير إسماعيل ومعه جماعةٌ مِن الرسُلِ فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن، وحضر الفرمان بالأمان وطِيفَ به في البلد، وقرئ يومَ السبتِ ثامِنَ الشهر بمقصورة الخطابة، ونُثِرَ شَيءٌ من الذهب والفضة، وفي ثاني يوم من المناداة بالأمان طُلِبَت الخيولُ والسلاح والأموال المخبَّأة عند الناس من جهةِ الدولة، وجلس ديوان الاستخلاصِ إذ ذاك بالمدرسة القيمريَّة، وفي يوم الاثنين عاشِرَ الشهر قَدِمَ سيف الدين قبجق المنصوري الذي كان هرب إلى التتارِ، فنزل في الميدان واقترب جيشُ التتر وكَثُرَ العَيثُ في ظاهر البلد، وقُتِلَ جماعةٌ وغَلَت الأسعارُ بالبلد جِدًّا، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسَلِّمَها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشدَّ الامتناع، فجمع له قبجق أعيانَ البلد فكَلَّموه أيضًا فلم يجبهم إلى ذلك، وصَمَّمَ على ترك تسليمِها إليهم وبه عَينٌ تَطرفُ؛ فإنَّ الشَّيخَ تقيَّ الدين ابن تيمية أرسل إلى نائب القلعةِ يقول له ذلك، لو لم يبقَ فيها إلَّا حَجَرٌ واحِدٌ فلا تسَلِّمْهم ذلك إن استطعْتَ، وكان في ذلك مصلحةٌ عظيمة لأهل الشامِ؛ فإن الله حَفِظَ لهم هذا الحِصنَ والمَعقِلَ الذي جعله الله حِرزًا لأهل الشام التي لا تزال دارَ إيمانٍ وسُنَّةٍ، حتى ينزِلَ بها عيسى بنُ مريم، وفي يوم دخول قبجق إلى دمشقَ دخل السلطانُ ونائبُه سلار إلى مصرَ، كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودُقَّت البشائرُ بها، فقَوِيَ جأش الناس بعضَ قُوَّةٍ، وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر خُطِبَ لقازان على منبر دمشقَ بحضور المغول بالمقصورةِ ودُعِيَ له على السُّدَّة بعد الصلاة، وقرئ عليها مرسومٌ بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنَّؤوه بذلك، فأظهر الكرامةَ وأنه في تعَبٍ عظيمٍ مع التتر، وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتارُ وصاحب سيس في نهب الصالحيَّة ومسجدِ الأسديَّة ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفيَّة بها، واحترق جامعُ التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهةِ الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التَّتارِ قَبَّحَهم الله، وسَبَوا من أهلِها خلقًا كثيرًا وجمًّا غفيرًا، وجاء أكثَرُ الناس إلى رباط الحنابلة، فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخُ الشيوخ، وأعطى في الساكِنِ مال له صورة ثم اقتحموا عليه فسَبَوا منه خلقًا كثيرًا من بنات المشايخ وأولادِهم، ولما نُكِب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقًا من الرجال وأسَروا من النساء كثيرًا، ونال قاضيَ القضاةِ تقيَّ الدين ابنَ تيميَّةَ أذًى كثيرٌ، ويقال إنَّهم قتلوا من أهل الصالحية قريبًا من أربعمائة، وأسَروا نحوًا من أربعة آلاف أسير، ونُهِبَت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباعُ وهي مكتوبٌ عليها الوقفيَّة، وفعلوا بالمزَّة مثل ما فعلوا بالصالحية، وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصَّن الناسُ منهم في الجامِعِ بداريا ففتحوه قسرًا وقتلوا منهم خلقًا وسَبَوا نساءَهم وأولادهم، وخرج الشيخُ ابنُ تيمية في جماعةٍ مِن أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر إلى مَلِك التتر قازان، وعاد بعد يومينِ ولم يتَّفِق اجتماعُه به، حجَبَه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاءِ الشغلِ، وذكرَا له أن التَّتر لم يحصل لكثيرٍ منهم شيءٌ إلى الآن، ولا بُدَّ لهم من شيءٍ، واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخولَ دمشقَ، فانزعج الناسُ لذلك وخافوا خوفًا شديدًا، وأرادوا الخروجَ منها والهرب على وجوههم، وأين الفرارُ ولات حينَ مَناصٍ!! وقد أُخِذَ من البلد فوق العشرةِ آلاف فرس، ثمَّ فُرِضَت أموال كثيرة على البلدِ مُوزَّعةً على أهل الأسواقِ، كلُّ سوقٍ بحَسَبِه من المال، وشرع التتر في عمل مجانيقَ بالجامِعِ لِيَرموا بها القلعةَ مِن صحن الجامِعِ، وغُلِّقَت أبوابُه ونزل التتار في مشاهِدِه يحرسونَ أخشاب المجانيق، وينهَبونَ ما حوله من الأسواقِ، وأهلُ البلدِ قد أذاقَهم اللهُ لباسَ الجوعِ والخَوفِ بما كانوا يصنعونَ، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، والمصادراتُ والتراسيمُ والعقوباتُ عمالة في أكابِرِ أهلِ البلدِ ليلًا ونهارًا، حتى أُخِذَ منهم شيء كثير من الأموال والأوقاف، كالجامِعِ وغيره، ثم جاء مرسومٌ بصيانة الجامِعِ وتوفيرِ أوقافه وصَرْف ما كان يؤخذُ من خزائن السلاحِ إلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسومُ بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادى الأولى، وفي ذلك اليوم توجَّه السلطان قازان وترك نوَّابَه بالشام في ستين ألف مقاتلٍ نحو بلاد العراق، وجاء كتابُه: إنا قد تركنا نوَّابَنا بالشامِ في ستين ألف مقاتلٍ، وفي عَزْمنا العودُ إليها في زمن الخريف، والدخولُ إلى الديار المصرية وفَتْحُها، وقد أعجَزَتْهم القلعةُ أن يصلوا إلى حجَرٍ منها، وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان وسار وراءه وضُرِبَت البشائر بالقلعة فرحًا لرحيلهم، ولم تُفتَح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يومٍ من خروج قبجق إلى الجامعِ، فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبةِ به، وعادوا إلى القلعةِ سريعًا سالمين، واستصحبوا معهم جماعةً ممَّن كانوا يلوذون بالتتر قهرًا إلى القلعة، منهم الشريفُ القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي، وجاءت الرسلُ من قبجق إلى دمشق، فنادوا بها: طَيِّبوا أنفُسَكم وافتَحوا دكاكينَكم وتهيَّؤوا غدا لتلقِّي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناسُ إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفسادِ والدَّمارِ، وانفَكَّ رؤساء البلد من التراسيمِ بعد ما ذاقوا شيئًا كثيرًا!!
لما عُزِل الشريف حسن بن عجلان بالشريف رميثة في صفر من السنة الحالية، ودخل رميثة إلى مكة لم يتعرض إليه الشريف حسن، حتى بعث ابنه بركات، وقائده شكر إلى السلطان، فقدما فكتب السلطان بإعادة الشريف حسن إلى الإمرة في ثامن عشر شهر رمضان، وجهز إليه تشريفه وتقليده، فقدما عليه وهو بجدة في ثاني شوال، فبعث إلى القواد العمرية -وكانوا باينوه من شعبان ولحقوا برميثة في مكة- يرغبهم في طاعته، فأبوا عليه وجمعوا لحربه، فسار إلى مكة وعسكر بالزاهر ظاهِرَ مكة في يوم السبت الثاني والعشرين شوال، ومعه الأشراف: آل أبي نمي، وآل عبد الكريم، والأدارسة، ومعه الأمير الشريف مقبل بن مختار الحسني أمير ينبع بعسكره، ومعه مائة وعشرون من الأتراك، فبعث إلى العمرية يدعوهم إلى طاعته، فندبوا إليه ثلاثة منهم، فلما أتوه خوَّفهم عاقبة الحرب وحذرهم، ومضوا إلى مكة فلم يعودوا إليه؛ لتماديهم وقومهم على مخالفته، فركب يوم الاثنين الرابع والعشرين من الزاهر، وخيَّم بقرب العسيلة أعلى الأبطح، وأصبح يوم الثلاثاء زاحفًا في ثلاثمائة فارس وألف راجل، فخرج إليه رميثة في قدر الثلث من هؤلاء فلما بلغ الشريف حسن إلى المعابدة، بعث يدعوهم، فلم يجيبوه فسار إلى المعلَّى ووقف على الباب ورمى من فوقه فانكشفوا عنه، وأُلقِيَت فيه النار فاحترق، وانبث أصحابُ حسن ينقبون السور ويرمون من الجبل بالنشاب والأحجار أصحاب رميثة، ثم اقتحموا السور عليهم وقاتلوهم حتى كثرت الجراحات في الفريقين، فتقدَّم بعض بني حسن وأجار من القتال، فانكف عند ذلك حسن، ومنع أصحابه من الحرب، فخرج القضاة والفقهاء والفقراء بالمصاحف والربعات إلى حسن، وسألوه أن يكفَّ عن القتال، فأجابهم بشرط أن يخرج رميثة ومن معه من مكة، فمضوا إلى رميثة وما زالوا به حتى تأخر عن موضعه إلى جوف مكة، ودخل الشريف حسن بجميع عسكره، وخيم حول بركتي المعلى، وبات بها، وسار يوم الأربعاء السادس والعشرين وعليه التشريف السلطاني ومعه عسكره، إلى المسجد، فنزل وطاف بالبيت سبعًا، والمؤذِّنُ قائم على بئر زمزم يدعو له حتى فرغ من ركعتي الطواف، ثم مضى إلى باب الصفا فجلس عنده، وقرئ تقليده إمرة مكة هناك، ثم قرئ كتاب السلطان إليه بتسلُّم مكة من رميثة، وقد حضره عامة الناس، ثم ركب وطاف البلد، ونودي بالأمان، وأجَّل رميثة ومن معه خمسة أيام، فلما مضت سار بهم إلى جهة اليمن، واستقرَّ أمر الشريف حسن بمكة على عادته، وثبت من غير منازِع.
في يومِ الخميس خامِس رجب كانت الفتنةُ بالإسكندرية وملَخَّصُها أنَّ بعض تجار الفرنج فاوض رجلًا من المسلمينَ وضَرَبه بخُفٍّ على وجهه، فثار المسلمون بالإفرنجيِّ وثار الفرنجُ لتحميه، فوقع الشَّرُّ بين الفريقين، واقتتلوا بالسلاحِ، فركب ركن الدين الكركي متولِّي الثغر، فإذا النَّاسُ قد تعصبوا وأخرجوا السلاحَ، وشهدوا على الفرنجيِّ ممَّا يوجب قَتْلَه، وحملوه إلى القاضي وغُلِّقَت أسواق المدينة وأبوابها، فلما كان بعد عشاء الآخرة فُتِحَت الأبواب ليدخُلَ من كان خارِجَ البلد، فمِن شِدَّة الزحام قُتِلَ عَشرةُ أنفس، وتَلِفَت أعضاء جماعة، وذهبت عمائمُ وغيرها لكثير منهم، وتبيَّنَ للكركي تحامُلُ الناس على الفرنج، فحمَلَ بنفسه وأجنادِه عليهم ليدفَعَهم عن الفرنج، فلم يندفِعوا وقاتلوه إلى أن هَزَموه، وقصدوا إخراج الأمراء المعتَقَلين بالثغر، بعدما سُفِكَت بينهما دماءٌ كثيرة، فعند ذلك بادر الكركي بمطالعة السلطانِ بهذه الحادثة، فسَرَّح الطائر بالبطائِقِ يُعلِمُ السلطان، فاشتَدَّ غضبه، وخشي السلطانُ خُروجَ الأمراءِ مِن السجن، وأخرج السلطانُ الوزير مغلطاي الجمال وطوغان شاد الدواوين، وسيف الدين ألدمر الركني أمير جندار، في جماعةٍ مِن المماليك السلطانيَّة، ومعهم ناظر الخاص إلى الإسكندرية، ومعهم تذاكِرُ مما يُعمَلُ مِن تتَبُّع أهل الفساد وقَتْلِهم، ومُصادرة قَومٍ بأعيانهم، وتغريمِ أهل البلد المالَ، والقبض على أسلحة الغزاة، ومَسْك القاضي والشهود، وتجهيز الأمراء المسجونين إلى قلعة الجَبَل، فساروا في عاشِرِه، ودخلوا المدينة، وجلس الوزيرُ والناظر بديوان الخُمُس وفرض الوزيرُ على الناس خمسَمائة ألف دينار، وقَبَض على جماعةٍ مِن أذلهم ووسطِهم، وقطع أيديَ بَعضِهم وأرجُلَهم، وتطَلَّب ابن رواحة كبيرَ دار الطراز ووسطه، من أجلِ أنَّه وُشِيَ به أنه كان يُغري العامَّةَ بالفرنج ويَمُدُّهم بالسلاح والنفقة، فحَلَّ بالناس من المُصادرة بلاء عظيم، وكتب السلطانُ كتُبًا ترد شيئًا بعد شيءٍ تتضَمَّنُ الحثَّ على سفك دماء المفسدين وأخذ الأموال، والوزير يجيبُ بما يُصلِحُ أمْرَ الناس، ثم استدعى الوزير بالسلاح المعَدِّ للغزاة، فبلغ ستةَ آلاف عدة، وضعها كُلَّها في حاصل وخَتَم عليها، واستمَرَّ نحو العشرين يومًا في سَفكِ دماء وأخذِ أموال، حتى جمع ما يُنَيِّف على مائتين وستين ألف دينار، وقُدِّمَ الوزير عماد الدين محمد بن إسحاق بن محمد البلبيسي قاضي الإسكندرية لِيُشنَق، ثم أخره، وكاتب السلطانَ بأنه كَشَف عن أمرِه فوجد ما نُقِلَ عنه غيرُ صحيح، وبعث الوزير المسجونينَ إلى قلعة الجبل في طائفةٍ معهم لحِفظِهم، فقَدِموا في الثامن عشر، وقدم الوزيرُ من الإسكندرية بالمال، وجلس في آخر رجب بالمال بقاعةِ الوزارة المستجَدَّة بالقلعة، وقد سكنها، وحفر النظار والمستوفون من خارج الشباك، فنفذ الوزيرُ الأمور، وصرفَ أحوال الدولة، وفي أول شعبان قَدِمَت رسل بابا الفرنج من مدينةِ رومة بهديَّة، وكتاب فيه الوصيَّةُ بالنصارى وأنَّه مهما عُمِلَ بهم بمصرَ والشام عاملوا مَن عندهم من المسلمين بمِثلِه، فأجيبوا وأُعيدوا، ولم تَقدَمْ رسُلٌ من عند البابا إلى مصر منذ أيام الملك الصالحِ نجمِ الدين أيوب.
من أقوى الأسباب التي هيأت للإسبان احتلال طرابلس الغرب ضعفُ الحامية فيها، وانصراف الناس إلى تنمية المال، وإلى مُتَع الحياة عن الاهتمام بتقوية الجيش وتحصين القلاع، ومن المناسبات التي انتهزها الإسبان للتعجيل باحتلال طرابلس، أنه في هذه سنة وقع خلاف بين أحمد الحفصي وبين والده الناصر، فذهب إلى الإسبان يستنجد بهم على أبيه، فاستعد الإسبان لغزو طرابلس، فجهزوا 120 قطعة بحرية، وانضم إليها سفن أخرى من مالطة، وشُحنت بخمسة عشر ألف جندي من الإسبان، وثلاثة آلاف من الإيطاليين والمالطيين. وفي 8 من ربيع الآخر أقلع الأسطول من فافينيانا، ومرَّ بجزيرة قوزو بمالطة فتزود منها بالماء، وانضمَّ إلى الجيش خبير مالطي اسمه جوليانو بيلا، له معرفة بطرابلس. وقد أعدت هذه الحملة بإشراف نائب ملك صقلية، وبإعانة الجيوش الصقلية والإيطالية. وقد تسربت أخبار هذه الحملة إلى طرابلس قبل تحركها بنحو شهر، فأخذ الناس في الهجرة منها إلى غريان، وتاجورة، ومسلاتة، وأخذوا معهم كل ما كان مهمًّا من أموالهم، وما أمكنهم من أثقال متاعهم، ولم يبقَ بالمدينة إلا المحاربون، وبعض السكان الذين لم يقدروا على الفرار، وانحازوا إلى قصر الحكومة والجامع الكبير، وصعد المحاربون فوق الأسوار وعلى القلاع. نزلت جيوش الإسبان في القوارب وكانت بقيادة بييترو نافارو، وفي الصباح، بدأ الهجوم وأطلقت السفن مدافعها على الأسوار وقصر الحكومة. ونزل الجيش المكلف بمنع المسلمين من الاتصال بالمدينة إلى البر بجهة سيدي الشعاب لمنع الاتصال بالمدينة. واندفع الجيش الإسباني نحو المدينة تحميه مدافع الأسطول، فاحتل البرج القائم على باب العرب وبعض الأسوار، وتمكن الإسبان من فتح باب النسور، واتصل الجيش الخارجي بالجيش الداخلي واستبسل الطرابلسيون في الدفاع، وجاء في رسالة القائد نافارو أنه لم يخلُ موضِعُ قَدَمٍ في المدينة من قتيلٍ، ويقَدَّر عدد القتلى بخمسة آلاف، والأسرى بأكثر من ستة آلاف، وتغلَّب الإسبان على مقاومة المسلمين العنيفة، واحتُلَّ قصر الحكومة عَنوةً، وقد حَمِيَ وطيس المعركة حينما تمكَّن حامل العلم الإسباني من نصبِه على برج القصر. وأبدى من التجؤوا إلى الجامع الكبير مقاومة شديدة، فقُتِل منهم نحو ألفي طرابلسي بين رجال ونساء وأطفال. وقتل من الإسبان ثلاثمائة رجل، وكان من بين الموتى كولونيل كبير في الجيش، وأميرال الأسطول، وقبل أن تغرب شمس يوم 18 من ربيع الآخر من هذه السنة، سقطت مدينة طرابلس في يد الإسبان، بعد أن أريقت دماء الطرابلسيين في كل بقعةٍ منها، ولكثرة القتلى فقد أُلقيت جثثُهم في صهاريج الجوامع وفي البحر، وأُحرق بعضها بالنار. وأقام نائب البابا احتفالات الفرح بسقوط هذه المدينة العربية الإسلامية في أيدي النصارى. وأرسل القسيس أمريكو دامبواس رئيس منظمة فرسان القديس يوحنا إلى فرديناند ملك إسبانيا تهنئة، ويرجوه أن يتابع فتوحاته في إفريقية. وعلى الجانب الآخر فقد استاء المسلمون لهذا الاحتلال، وقابله الطرابلسيون المقيمون في الإسكندرية إذ ذاك بإحراق فندق للإسبان في المدينة. انتهز الطرابلسيون المعسكِرون خارج السور غياب القائد الإسباني نافارو وأسطوله، وانقضُّوا على المدينة وتسلَّقوا سورها، ولكنهم لم يوفَّقوا فرجعوا أدراجَهم, وهو ما دفع محمد بن حسن الحفصي إلى إعانة طرابلس، فجمع جيشًا كبيرًا بقيادة محمد أبي الحداد قائد توزر، وكان من أكبر قواده، ووصل طرابلس ونزل خارج السور، وانضم إلى هذا الجيش المحاربون الطرابلسيون، وهاجموا المدينة في ذي الحجة من هذه السنة, ولكنهم لم يظفروا منها بطائل. وظل يحكم طرابلس فرسان القديس يوحنا حتى سنة 936 (1530م) عندما منحها شارل الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية لهم، الذين صاروا يعرفون في ذلك الوقت بفرسان مالطا.
أرسل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا عُبَيدةَ بنَ الجَرَّاحِ رَضي اللهُ عنه إلى ذي القَصَّةِ -موضِعٍ قريبٍ من المدينةِ- على إثرِ مَقتَلِ أصحابِ مُحمَّدِ بنِ مَسلمةَ رَضي اللهُ عنه في أربعين رجلًا من المسلمين حين صَلَّوُا المَغرِبَ، فسار إليهم مُشاةً حتى وافَوا ذي القَصَّةِ مع عَمايةِ الصُّبحِ -بقيَّةِ ظُلمةِ اللَّيلِ- فأغاروا عليهم، فأعجَزوهم هَرَبًا في الجبالِ، وأصابوا رجلًا فأسلم فتَرَكوه، وغَنِموا نَعَمًا من نَعَمِهِم فاستاقوه، ورِثَّةً -السَّقَطَ من مَتاعِ البَيتِ- من مَتاعِهم، وقَدِموا بذلك المدينةَ، فخَمَّسَه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقسَّم ما بَقيَ عليهم. وعند ابنِ سعدٍ في طَبَقاتِه: أنَّ سببَ بَعثِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا عُبيدةَ رَضي اللهُ عنه إلى ذي القَصَّةِ: هو ما بَلَغه مِن أنَّ بني مُحارِبِ بنِ خَصَفةَ، وثَعلبةَ وأنمارٍ -وهما من غَطَفانَ- أجمَعوا أن يُغيروا على سَرحِ المَدينةِ، وهو يَرعَى بهَيفا -موضِعٍ على سَبعةِ أميالٍ من المدينةِ-، فلَعلَّ الرسولَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بَعَث أبا عُبيدةَ رَضي اللهُ عنه مرَّتَين إلى ذي القَصَّةِ، أو أن يَكونَ البَعثُ مرَّةً واحِدةً، ولكنْ له سَبَبانِ: الأخذُ بثَأرِ أصحابِ مُحمَّدِ بن مَسلَمةَ رَضي اللهُ عنه المَقتولين، ودَفْعُ مَن أراد الإغارةَ على سَرحِ المَدينةِ.
هو أبو الملوكِ السلطانُ الغازي فخرُ الدين عثمانُ بك خان الأول بن أرطغرل بن سليمان شاه القايوي التُركماني، لما توفِّيَ أرطغرل سنة 687 هـ ( 1288م) تولى عُثمانُ زعامةَ القبائِلِ التُّركمانيَّة في المقاطعة التي منحهم إيَّاها السلطان علاء الدين السلجوقي والتي كانت قريبةً من بحر مرمرة التابع للبحرِ الأسود بالقُربِ من مدينة بورصة، كان عثمان قد تمكَّن في البلاد حتى إنَّه بدأ يدعو أمراءَ الروم في آسيا الصغرى إلى الإسلامِ أو الجزيةِ أو الحَربِ؛ ممَّا أدى إلى استعانتهم بالمغول للقضاءِ عليه، ولكنَّه كان قد هيأ جيشًا بإمرة ابنه أورخان فسَيَّرَه لقتال المغول فشَتَّت شَملَهم وعاد فاتَّجَه إلى بورصة فاستطاع أن يدخُلَها عام 717, وكانت بورصة تعَدُّ من الحصون الروميَّة المهمَّة في آسيا الصغرى، فأمَّنَ أهلَها وأحسَنَ إليهم فدفعوا له ثلاثين ألفًا مِن عملتهم الذهبيَّة وأسلمَ حاكِمُها أفرينوس فمنحه عثمانُ لَقَب بيك، وأصبحَ مِن القادة البارزين، ثمَّ إن عثمان توفي في 21 رمضان من هذه السنة بعد معاناتِه من مرض النقرس، وكان قد عَهِدَ لابنه أورخان بالحكم وكان عمرُه تسعة وثلاثين عامًا وليس هو بأكبر أولادِ عثمان، وكان أكبَرُهم علاء الدين الذي رضي بأن يكون وزيرًا لأخيه فاهتَمَّ بالشؤون الداخليَّة وأما أورخان فاهتَمَّ بالشؤون الخارجيَّة.
وقعَتْ أزمةٌ بين موريتانيا والسنغال، بسبب الزُّنوجِ في الصحْراءِ المتاخِمة للبلَدَينِ، فقد قُتِلَ اثنانِ من السنغاليِّينَ في قريةٍ على الحدود في الجنوب الشرقي من موريتانيا على يدِ رُعاةٍ موريتانيِّينَ من الزُّنوج، وقام وزيرُ الداخليَّةِ السنغاليِّ بزيارة موريتانيا، وقابَلَ الرئيس، وأعلَنَ الوزيرُ أنَّ الأمر مُبَيَّتٌ، ولن تَسكُتِ السنغالُ، فقام في اليوم التالي السنغاليُّونَ بمظاهَراتٍ في البلدة القريبة من الحادث، وهاجموا محلاتِ الموريتانيِّينَ، ونهبوها، ثم حَرَقوها، وقَتَلوا مَنِ استطاعوا قَتلَه منهم، ومَثَّلوا بجُثَثِهم، وعمَّتِ المظاهَراتُ أجزاءَ السنغال، وفعَلوا كما فعَلَ إخوانُهم في تلك القرية، وهرَبَ مَنِ استطاع الهربَ منَ الموريتانيِّينَ إلى المساجِدِ، أو القُنْصليَّة التي لم تَسلَمْ كذلك من الهجومِ، وتَعرَّضَ ما يُقارِبُ من نصف مليون موريتانيٍّ في السنغال للأذى، ثم في 19 رمضان انفجَرَ الوضْعُ في موريتانيا على ما فعَلَه السنغاليون في بلادهم، فهاجموا الرعايا السنغاليِّينَ في موريتانيا، وقاموا بنفس ما قام به السنغاليُّونَ بإخوانِهم الموريتانيِّينَ، ثم سَيْطَرت الحكومةُ على الوضع، وأُعلن منعُ التجوُّلِ، وجُمِعَ السنغاليُّونَ في المساجِدِ والمعارضِ، وشُدِّدت عليهم الرقابةُ، ثم عاد الأمر، وتفجَّرَ في السنغال في 24 رمضان، وأخذ القتلُ يلحَق بالموريتانيِّينَ حتى أَعلنت الدولةُ حالةَ الطوارئِ، ثم تمَّ الاتفاق على نقلِ رَعايا كل بلدٍ إلى بلدِه، فنُقِلَ أكثرُ من مِئَتَيْ ألف موريتانيٍّ من السنغال، ومئةُ ألفِ سِنغاليٍّ من موريتانيا.
هو الحافِظُ أبو بكرٍ أَحمدُ بن عليِّ بن ثابتِ بن أَحمدَ بن مَهدِيٍّ، الخَطيبُ البغداديُّ، أَحدُ الحُفَّاظِ الأَعلامِ المَشهورِينَ، صاحبُ ((تاريخ بغداد)) وغَيرِه من المُصنَّفاتِ العَديدةِ المُفيدةِ، وُلِدَ سَنةَ 392هـ، وكان أبوه أبو الحَسنِ الخَطيبُ قد قَرأَ على أبي حَفصٍ الكِتَّانيِّ، وصار خَطيبَ قَريةِ درزيجان، إحدى قُرى العِراقِ، فحَضَّ وَلدَه أبا بكرٍ على السَّماعِ في صِغَرِه، فسَمِعَ وله إحدى عشرة سَنةً، نَشأَ ببغداد، وتَفَقَّهَ على أبي طالبٍ الطَّبريِّ وغَيرِه من أَصحابِ الشيخِ أبي حامدٍ الأسفراييني، وسَمِعَ الحَديثَ الكَثيرَ، ورَحلَ إلى البَصرةِ, ونيسابور, وأصبهان، وهمذان, والشامِ, والحِجازِ. وسُمِّيَ الخَطيبَ لأنه كان يَخطُب بدرزيجان، ولمَّا وقعت فِتنةُ البساسيري ببغداد سَنةَ 450هـ خَرجَ الخَطيبُ إلى الشامِ فأَقامَ بدِمشقَ بالمأذَنةِ الشرقيَّةِ مِن جامِعِها، وكان يَقرأُ على الناسِ الحَديثَ، وكان جَهورِيَّ الصوتِ، يُسمَع صَوتُه من أَرجاءِ الجامعِ كُلِّها، فاتَّفَق أنه قَرأَ على الناسِ يومًا فَضائلَ العبَّاسِ فثَارَ عليه الرَّوافِضُ من أَتباعِ الفاطِميِّين، فأَرادوا قَتْلَه فتَشَفَّعَ بالشَّريفِ الزَّينبيِّ فأَجارَهُ، وكان مَسكَنُه بدارِ العقيقي، ثم خَرجَ من دِمشقَ فأَقامَ بمَدينةِ صور، فكَتبَ شَيئًا كَثيرًا من مُصنَّفاتِ أبي عبدِ الله الصوري بِخَطِّهِ كان يَستَعيرُها من زَوجَتِه، فلم يَزَل مُقيمًا بالشامِ إلى سَنةِ 462هـ، ثم عاد إلى بغداد فحَدَّثَ بأَشياءَ من مَسمُوعاتِه، وله مُصنَّفاتٌ كَثيرةٌ مُفيدةٌ، نحو من سِتِّينَ مُصَنَّفًا، ويُقالُ: بل مائة مُصَنَّف، منها كتاب ((تاريخ بغداد))، وكتاب ((الكفاية))، و((الجامع))، و((شرف أصحاب الحديث))، و((المتفق والمفترق))، و((السابق واللاحق))، و((تلخيص المتشابه في الرسم))، و((اقتضاء العلم للعمل))، و((الفقيه والمتفقه))، وغير ذلك، ويُقال: إن هذه المُصَنَّفات أَكثرُها لأبي عبدِ الله الصوري، أو ابتَدأَها فتَمَّمَها الخَطيبُ، وجَعَلَها لِنَفسِه، قال الذهبيُّ: "ما الخَطيبُ بِمُفْتَقِرٍ إلى الصوري، هو أَحْفَظُ وأَوْسَعُ رِحلةً وحَديثًا ومَعرِفةً" كان الخَطيبُ أولا أَوَّلَ أَمرِهِ يَتكلَّم بمَذهبِ الإمامِ أَحمدَ بن حَنبلٍ، فانتَقلَ عنه إلى مَذهبِ الشافعيِّ. كان مَهيبًا وَقورًا، ثِقَةً مُتَحَرِّيًا، حُجَّةً، حَسَنَ الخَطِّ، كَثيرَ الضَّبْطِ، فَصيحًا، خُتِمَ به الحُفَّاظِ، قال ابنُ ماكولا: "كان أبو بكرٍ آخِرَ الأَعيانِ، ممَّن شاهَدناه مَعرِفةً، وحِفظًا، وإتقانًا، وضَبطًا لِحَديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَفَنُّنًا في عِلَلِهِ وأَسانيدِه، وعِلمًا بصَحيحِه وغَريبِه، وفَرْدِه ومُنكَرِه ومَطروحِه، ولم يكُن للبَغداديِّينَ بعدَ أبي الحَسنِ الدَّارقطنيِّ مِثلُه". كان الخَطيبُ يقول: "مَن صَنَّفَ فقد جَعلَ عَقلَهُ على طَبَقٍ يُعرِضُه على الناسِ", "كان للخَطيبِ ثَروةٌ من الثِّيابِ والذَّهبِ، وما كان له عَقِبٌ، فكَتبَ إلى القائمِ بأَمرِ الله قال له: إنَّ مالي يَصيرُ إلى بَيتِ مالٍ، فَأْذَنْ لي حتى أُفَرِّقَهُ فيمَن شِئتُ. فأَذِنَ له، ففَرَّقَها على المُحَدِّثين". تُوفِّيَ يومَ الاثنين ضُحًى، وله ثِنتانِ وسَبعون سَنةً، في حُجرَةٍ كان يَسكُنها بِدَربِ السلسلةِ، جِوارَ المَدرسةِ النِّظاميَّةِ، واحتَفلَ الناسُ بجِنازَتِه، وكان فيمَن حَملَ نَعشَه الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، ودُفِنَ إلى جانبِ قَبرِ بِشْرٍ الحافيِّ.
قَدِم ابنُ القُشيريُّ بغدادَ فجَلسَ يَتكلَّم في النِّظاميَّةِ وأَخذَ يَذُمُّ الحَنابلةَ ويَنسُبُهم إلى التَّجسِيمِ، وساعَدهُ أبو سعدٍ الصُّوفيُّ، ومالَ معه الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، وكَتبَ إلى نِظامِ المُلْكِ يَشكُو إليه الحَنابلةَ ويَسأَلُه المَعونةَ عليهم، وذَهبَ جَماعةٌ إلى الشَّريفِ أبي جَعفرِ بن أبي موسى شَيخِ الحَنابلةِ، وهو في مَسجدِه فدافَعَ عنه آخرون، واقتَتَل الناسُ بسَببِ ذلك، وقُتِلَ رَجلٌ خَيَّاطٌ من سُوقِ التِّبنِ، وجُرِحَ آخرون، وثارَت الفِتنةُ بين الحَنابلَةِ وبين فُقهاءِ النِّظاميَّةِ، وحَمِيَ لكلٍّ مِن الفَريقينِ طائفةٌ من العوامِّ، وقُتِلَ بينهم نحوٌ من عِشرينَ قَتيلًا، وكَتبَ الشيخُ أبو إسحاقَ وأبو بكرٍ الشاشيُّ إلى نِظامِ المُلْكِ في كِتابِه إلى فَخرِ الدولةِ يُنكِر ما وَقعَ، ويَكرَهُ أن يُنسَب إلى المَدرسةِ التي بناها شيءٌ من ذلك، وعَزمَ الشيخُ أبو إسحاقَ على الرِّحلَةِ من بغدادَ غَضَبًا ممَّا وَقعَ من الشَّرِّ، فأَرسلَ إليه الخَليفةُ يُسَكِّنُهُ، ثم جَمعَ بينه وبين الشَّريفِ أبي جعفرٍ وأبي سعدٍ الصُّوفيِّ، وأبي نصرِ بنِ القُشيريِّ، عند الوَزيرِ، فأَقبلَ الوَزيرُ على أبي جعفرٍ يُعَظِّمُهُ في الفِعالِ والمَقالِ، وقام إليه الشيخُ أبو إسحاقَ فقال: أنا ذلك الذي كنتَ تَعرِفُه وأنا شابٌّ، وهذه كُتُبِي في الأُصُولِ، ما أقولُ فيها خِلافًا للأَشعَرِيَّةِ. ثم قَبَّلَ رَأسَ أبي جَعفرٍ، فقال له أبو جَعفرٍ: صَدقتَ، إلَّا أنَّك لمَّا كُنتَ فَقيرًا لم تُظهِر لنا ما في نَفسِك، فلمَّا جاءَ الأَعوانُ والسُّلطانُ وخواجه بزك - يعني نِظام المُلْكِ- وشَبِعتَ، أَبدَيتَ ما كان مُختَفِيًا في نَفسِك، وقام الشيخُ أبو سعدٍ الصُّوفيُّ وقَبَّلَ رَأسَ الشَّريفِ أبي جَعفرٍ أيضًا وتَلطَّفَ به، فالتَفتَ إليه مُغضَبًا وقال: أيها الشيخُ، أمَّا الفُقهاءُ إذا تَكلَّموا في مَسائلِ الأُصولِ فلهم فيها مَدخَلٌ، وأمَّا أنت فصاحِبُ لَهْوٍ وسَماعٍ وتَغْبِيرٍ، فمَن زاحَمَكَ مِنَّا على باطلِك؟! ثم قال: أيها الوَزيرُ أَنَّى تُصلِح بيننا؟ وكيف يَقعُ بيننا صُلْحٌ ونحن نُوجِبُ ما نَعتَقِدُه وهُم يُحَرِّمُون ويُكَفِّرُون؟! وهذا جَدُّ الخَليفةِ القائم والقادر قد أَظهرَا اعتِقادَهُما للناسِ على رُؤوسِ الأَشهادِ على مَذهبِ أَهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ والسَّلَفِ، ونحن على ذلك كما وَافقَ عليه العِراقِيُّونَ والخُراسانِيُّونَ، وقُرِئَ على الناسِ في الدَّواوينِ كلِّها، فأَرسلَ الوَزيرُ إلى الخَليفةِ يُعلِمُه بما جَرَى، فجاءَ الجَوابُ بِشُكرِ الجَماعةِ وخُصوصًا الشَّريفَ أبا جَعفرٍ، ثم استَدعَى الخَليفةُ أبا جَعفرٍ إلى دارِ الخِلافةِ للسلامِ عليه، والتَّبَرُّكِ بِدُعائِه.
هو الإمام، فقيه الملة، أبو حنيفة النُّعمانُ بنُ ثابت بن زوطى التيميُّ ولاءً، فقيهُ العراقِ إمامُ الحنفيَّة، أحد الأئمة الأربعة المشهورين أصحاب المذاهب المعروفة، يقال: إنه من أبناء الفرس ولد سنة 80, وكان حسن الوجه حسن المجلس، شديد الكرم حسن المواساة لإخوانه، وكان ربعة من الرجال، وقيل كان طوالا تعلوه سمرة،. أدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة، رضوان الله عليهم وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحداً منهم ولا أخذ عنه، وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل. أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وسمع عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له, وأبا إسحاق السبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصواف ومحمد بن المنكدر ونافعاً مولى عبد الله بن عمر، وكان معروفًا بالزهد والورَع وكثرة العبادة، والوقار والإخلاص وقوة الشخصيَّة، كثير التعطر، لا يتكلم إلا جوابا، ولا يخوض فيما لا يعنيه. قال ابن المبارك: ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه، ولا أحسن سمتا وحلما من أبي حنيفة. كان خزازا يبيع الخز. قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة فقال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. لم يرضَ أن يليَ القَضاءَ لأحدٍ، وطلبه المنصورُ للقضاء فأبى، وكان منها حبسُه، وقيل: مات في الحبسِ ببغداد، قال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: "مررت مع أبي بالكناسة – موضع بالكوفة- فبكى، فقلت له: يا أبت ما يبكيك فقال: يا بني، في هذا الموضع ضرب ابن هبيرة أبي عشرة أيام، في كل يوم عشرة أسواط، على أن يلي القضاء، فلم يفعل". وقيل: إنَّه توفِّيَ وهو يصلِّي.
هي أم المؤيد زينبُ بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرجاني الأصل النيسابوري الدار، الصوفي المعروف بالشعري- وتدعى حرة- وُلِدَت سنة 524 بنيسابور، وكانت عالمة، وأدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة. سمعت من أبي محمد إسماعيل بن أبي القاسم ابن أبي بكر النيسابوري القارئ، وأبي القاسم زاهر وأبي بكر وجيه ابني طاهر الشحاميين، وأبي المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي وغيرهم، وأجاز لها الحافظ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي، والعلامة أبو القاسم محمود ابن عمر الزمخشري صاحب " الكشاف " وغيرهما من السادات الحُفَّاظ. قال ابن خلكان: "ولنا منها إجازة كتبتها في بعض شهور سنة 610، ومولدي يوم الخميس بعد صلاة العصر حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة 608 بمدينة إربل بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين" توفيت الحرة سنة 615 في جمادى الآخرة بمدينة نيسابور" قال الذهبي: "حدثت أم المؤيد أكثر من ستين سنة، روى عنها: عبد العزيز بن هلالة، وابن نقطة، والبرزالي، والضياء، وابن الصلاح، والشرف المرسي، والصريفيني، والصدر البكري، ومحمد بن سعد الهاشمي، والمحب ابن النجار، وجماعة كثيرة. وسمعت بإجازتها على التاج بن عصرون، والشرف بن عساكر، وزينب الكندية. وكانت شيخة صالحة، عالية الإسناد معمرة، مشهورة، انقطع بموتها إسناد عال". قال ابن خلكان: "الشَّعْري بفتح الشين المثلثة وسكون العين المهملة وفتحها وبعدها راء، هذه النسبة إلى الشعر وعمله وبيعه، ولا أعلم من كان في أجدادها يتعاطاه فنسبوا إليه، والله أعلم".
أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ صالحِ بنِ سليمانَ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عُثمانَ (الذي كان مَعروفًا بعُثيمينٍ تَصغيرًا) التميميُّ، نزَحَ أجدادُه من الوشمِ إلى عُنيزةَ، التي وُلد فيها الشيخ محمد سنةَ 1347هـ في السابع والعشرين من شهر رمضانَ، في بيت علمٍ واستقامةٍ، وكان الشيخ قد رُزق ذكاءً وهمَّةً عاليةً، مع إعراضٍ عن الدنيا، يأمُرُ بالمعروف، ويَنْهى عن المنكرِ، صَبورًا حازمًا حريصًا على وقته، معَ زُهدٍ وورَعٍ، تتلمذَ على يد عددٍ من العلماء من أبرزهم: الشيخُ عبدُ الرحمن بنُ سِعديٍّ، والشيخُ عبدُ العزيز بنُ بازٍ، والشيخُ محمدٌ الأمينُ الشنقيطيُّ، وعلى جَدِّه الشيخِ عبدِ الرحمنِ بنِ سليمانَ آلَ دامغٍ، وغيرِهم، وكان قد تصدَّرَ للتدريس في جُمادى الآخرةِ 1376هـ، وبَقيَ إلى وفاتِه يُقدِّمُ للأمة الإسلامية عِلمًا وفِقهًا بأسلوبٍ سهلٍ يَفهَمُه العامةُ والخاصةُ، وهذا من ميزات الشيخِ رحمه اللهُ، وجمَعَ في تعليمِه بين مدرسَتَيِ الفقهاءِ والمحدِّثينَ، فغدا فقيهَ عصرِه، ولا أدلَّ على ذلك من أشرطتِه السمعيَّة التي شرحَ فيها العديدَ من المتونِ في مختلِفِ الفنون، من الحديث، والنحو، والفقه، والأصول، وأشهرُها الشرحُ الممتعُ بالإضافة للفتاوى، وكذلك مؤلَّفاتُه التي بلغت قُرابةَ المئةِ وخمسةَ عَشَرَ مؤلَّفًا بين كتابٍ وكُتيِّبٍ، منها: ((أصول التفسير))، و((الأصول من علم الأصول))، و((حكم تارك الصلاة))، و((رسالة في صفة الصلاة))، و((شرح لمعة الاعتقاد))، و((الشرح الممتع))، و((القواعد المثلى))، و((القول المفيد على كتاب التوحيد))، وغيرها كثيرٌ، أثْرى بها المكتبةَ الإسلاميةَ، فجزاه اللهُ خيرًا، أمَّا وفاتُه فكانت في عصر يوم الأربعاء، في الخامسَ عَشَرَ من شوالٍ 1421هـ / العاشر من كانون الثاني 2001م، إثْرَ مرضٍ ألمَّ به في أمعائه، وكان في المستشفى التخصصي بجُدَّةَ، وصُلِّيَ عليه في اليوم التالي بعد صلاة العصر في المسجد الحرام، ودُفِنَ بمقبرة العدل، بجوار شيخه الإمام ابن بازٍ، الذي تُوفيَ قبلَه بسنةٍ وثمانية أشهرٍ وثمانيةَ عَشَرَ يومًا. رحمهما اللهُ رحمةً واسعةً، وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
هو هارونُ الرَّشيدُ أميرُ المؤمنينَ ابنُ المهديِّ محمد بن أبي جعفر المنصور، أبو محمد، ويقال أبو جعفر. وأمُّه الخَيزُران أمُّ ولَدٍ. كان مولِدُه في شوَّال سنة 147هـ وقيل غيرُ ذلك, وبويِعَ له بالخلافةِ بعد موت أخيه الهادي في ربيع الأوَّل سنة 170هـ، بعهدٍ مِن أبيه المهدي. وكان الرشيدُ أبيضَ طويلًا سمينًا جَميلًا، وقد غزا الصائفةَ في حياة أبيه مرارًا، وعقد الهدنةَ بين المسلمين والرومِ بعد محاصرتِه القُسطنطينيَّة، ثمَّ لَمَّا أفضَت إليه الخلافةُ في سنة سبعين كان من أحسَنِ النَّاسِ سِيرةً وأكثَرِهم غَزوًا وحَجًّا، وكان يتصَدَّقُ مِن صُلبِ مالِه في كلِّ يومٍ بألفِ دِرهمٍ، وإذا حَجَّ أحَجَّ معه مائةً من الفُقَهاء وأبنائِهم، وإذا لم يحُجَّ أحَجَّ ثلاثَمائة بالنَّفقةِ السابغةِ والكُسوةِ التَّامَّة، وكان يحِبُّ التشَبُّهَ بجَدِّه أبي جعفرٍ المنصورِ إلَّا في العطاءِ؛ فإنَّه كان سريعَ العَطاءِ، جزيلَه، وكان يحِبُّ الفُقَهاءَ والشُّعَراءَ ويُعطيهم. كان هارونُ الرَّشيد قد سار إلى خراسانَ لقِتالِ رافِعِ بنِ الليثِ، وكان مريضًا ثم اشتَدَّ مَرَضُه عند دخولِهم طوس- قرية من قرى سناباذ- ومات ودفُنَ فيها عن عمر سبع وأربعين سنة, بعد أن دامَت خلافتُه عشرين عامًا، وقيل: ثلاثةً وعشرين, وقد كانت حافِلةً بالفتوحِ والعِمارة.
هو العلَّامة، الأخباريُّ أبو الفَرَج عليُّ بنُ الحسين بن محمَّد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي، وجَدُّه مروان بن محمَّد آخِرُ خُلَفاء بني أمية، وهو أصبهانيُّ الأصل بغداديُّ المنشأ، كان من أعيانِ أُدَبائِها، وأفراد مُصَنِّفيها, صاحِبُ كتاب الأغاني، وكتاب أيَّام العرب، ذكَرَ فيه ألفًا وسَبعمائة يومٍ مِن أيامهم، وكان شاعرًا أديبًا كاتبًا، عالِمًا بأخبار الناس وأيَّامِهم، بحرًا في نقل الآداب، وكان فيه تشيُّع، قال ابن الجوزي: "ومِثلُه لا يُوثَقُ به؛ فإنَّه يُصَرِّحُ في كتُبِه بما يوجِبُ العِشقَ ويُهَوِّنُ شُربَ الخَمرِ، وربَّما حكى ذلك عن نَفسِه، ومن تأمَّل كِتابَ الأغاني رأى فيه كلَّ قبيحٍ ومُنكَرٍ " قال التنوخي: "كان يحفَظُ مِن الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديثِ المُسنَدة والنَّسَب ما لم أرَ قَطُّ مَن يحفَظُ مِثلَه، ويحفظ دونَ ذلك من علومٍ أُخَرَ- منها اللغة والنحو، والخرافات والسِّيَر والمغازي، ومن آلةِ المُنادمة- شيئًا كثيرًا، مثل علم الجوارح والبَيطرة ونُتَف من الطب والنُّجوم والأشربة وغير ذلك، وله شِعرٌ يجمَعُ إتقانَ العُلَماء وإحسانَ الظُّرَفاء الشعراء ". كان مولده في سنة أربع وثمانين ومائتين، السنة التي توفِّيَ فيها البحتري الشاعر.