كان لكلِّ رواقٍ في الأزهر مكتبةٌ خاصةٌ به، وكان بعضُ أهل الخير يَقِفون الكتُبَ فيها، ولكنها لم تكُنْ خاضِعةً لأيِّ نظامٍ، وكانت معظمُ الكتب في النحو، فاقترح الشيخُ محمد عبده عضوُ مجلس إدارة الأزهر في حينِها من ضِمنِ إصلاحاتِه أن يكون للأزهرِ مَكتبةٌ خاصَّةٌ متكامِلةٌ منظَّمةٌ، تجمَعُ شَتاتَ الكُتُبِ المتفَرِّقة في الأروقة التي ذهب كثيرٌ منها إلى أوربا عن طريقِ سماسرة الكتُبِ ومَن لا أمانة له من الذين كانوا يبيعون المخطوطاتِ، بل إنَّ بعض المكتبات التابعة للأزهر كانت في الحارات وبعضُها في الحوانيت، فتقَدَّم بفكرة المكتبة إلى مجلسِ إدارة الأزهرِ، فنالت القبولَ من أعضائه واختير المكانُ المناسب، وكُتِبَ لديوان الأوقاف الذي يتولى الإشرافَ على شؤون الأزهرِ، ثم نُفِّذَت الفكرةُ فعلًا في شعبان مِن هذا العام ولاقت في البدايةِ صُعوبةً في إقناع أهل الأروقةِ بفائدةِ المكتبة العامَّةِ وضَمِّ مكتباتِهم إليها، كما وُجِدَت صعوبات في ترميمِ الكتب، ولم يُكتَفَ بما جُمِعَ من الأروقة بل دُعِيَ العلماءُ والعظماء للمشاركة في تكوين المكتبة، فوَهَب بعضُ المشايخ مكتباتِهم الخاصةَ لها، مثل الشيخ حسونة النواوي رئيس مجلس إدارة الأزهر، وورثة سليمان باشا أباظة بمكتبةِ والِدِهم، وهي من أنفَسِ المكتبات الخاصة، وتشغَلُ المكتبة الأزهرية الآن ثلاثةَ أمكِنَة؛ اثنان منها داخِلَ الأزهر، وهما المدرسة الأقبغاوية، والمدرسة الطيبرسية، والثالث خارج الأزهر ملاصِق له وهو الطابِقُ الثاني من بناء أنشأته مشيخةُ الجامع الأزهر سنة 1936م كمُلحَق للإدارة العامة المجاورة للأزهرِ، وعدد الكتب التي بدأت بها المكتبة سنة 1897م هو 7703 كتابًا في سبعة وعشرين فنًّا، وبلغت سنة 1943م ثمانية وخمسين فنًّا وعدد الكتب 90075 مجلدًا، وفيها أكثر من اثنتي عشرة مكتبة خاصة، وتختَصُّ المكتبة بكثرة المخطوطات التي بلغت سنة 1943م 24000 مجلدٍ مخطوطٍ.
في هذه السَّنةِ أظهر المأمونُ أوَّلَ بِدَعِه الشنيعةِ، فأمر مناديًا ينادي: بَرِئَت الذمَّةُ ممَّن ذكر معاويةَ بنَ أبي سفيان بخيرٍ أو فضَّلَه على أحدٍ مِن الصَّحابة، وينادي: إنَّ أفضَلَ الخَلقِ بعد رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليُّ بنُ أبي طالب. وقيل: كان المأمون يبالِغُ في التشيُّعِ، لكنَّه لم يتكلَّمْ في الشَّيخينِ بسُوءٍ، بل كان يترضَّى عنهما ويعتقِدَ إمامتَهما.
كان نجيبُ الله مُحمَّد رئيسُ المخابرات الأفغانية (خاد) في عهد الرئيس بابرك كارمل صاحبَ أطماعٍ، ويُجيد المناورة والظُّهور بمظهر المسالمة، ومحبَّة الوصول إلى نتيجةٍ مع المحاور كلها، وفي 25 شعبان نصَّب نفسه رئيسًا للدولة الأفغانية بمُساعدة سلطان علي كشتمند على حين فرَّ سَلَفُهُ بابرك كارمل إلى السفارة الصينية، ومنها إلى الروسية ثم خرج بتدبيرٍ منهم إلى طشقند، ثم إلى موسكو، حيث عاش هناك.
ظهَرَ السُّفيانيُّ بدمشقَ وبويع بالخلافةِ، واسمُه عليُّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وطرَدَ عامِلَ الأمينِ عن دمشق- وهو سليمانُ بن أبي جعفر- بعد أن حصَرَه السفيانيُّ بدمشق مدَّةً، ثمَّ أفلت منه، وخالد بن يزيد جدُّ السفياني هذا، هو الذي وضع حديثَ السُّفياني في الأصل؛ فإنَّه ليس بحديثٍ، غيرَ أن خالدًا لَمَّا سَمِعَ حديثَ (المهديُّ من أولادِ عليٍّ في آخِرِ الزَّمانِ) أحَبَّ أن يكونَ مِن بني سُفيانَ من يظهَرُ في آخر الزمان، فوضعَ حديثَ السُّفياني؛ فمشى ذلك على بعضِ العوامِّ، ثم بعث الأمينُ إليه جيشًا، لكنهم بَقُوا في الرقَّة ولم يسيروا إلى دمشق؛ فقد قاتله ابنُ بيهس محمد بن صالح وغلَبَه وضَعُف أمر السفياني وقُتِلَ ممَّن كان معه الكثيرُ، ثمَّ قُبِضَ عليه وسُجِنَ، ثمَّ هرب بعد ذلك.
مَلَكَ المقَلَّدُ بنُ المسيب مدينةَ الموصل، وكان سبَبُ ذلك أنَّ أخاه أبا الذواد توفِّيَ هذه السنة، فطَمِعَ المقلدُ في الإمارة، فلم تساعِدْه عقيل على ذلك، وقلَّدوا أخاه عليًّا؛ لأنه أكبَرُ منه، فأسرع المقلد واستمال الديلمَ الذين كانوا مع أبي جعفرٍ الحَجَّاج بالموصِل، فمال إليه بعضُهم، وكتب إلى بهاءِ الدَّولةِ أنْ قد ولَّاه المَوصِل، وسأله مساعدتَه على أبي جعفرٍ؛ لأنَّه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصِلِ، فخرج إليهم كلُّ مَن استماله المقلد من الديلم، وضَعُف الحَجَّاج، وطلب منهم الأمانَ، فأمَّنوه، ودخل المقلدُ البلدَ، واستقَرَّ الأمرُ بينه وبين أخيه على أن يُخطَبَ لهما، ويُقَدَّم عليٌّ لكِبَرِه، ويكون له معه نائبٌ يَجبي المالَ، واشتركا في البلَدِ والولاية، وسار عليٌّ إلى البَرِّ، وأقام المقلد، وجرى الأمرُ على ذلك مُدَّةً، ثم تشاجرا واختَصَما.
كانت قُريشٌ تُحذِّر منَ الاستِماعِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا قَدِم الطُّفَيلُ بن عمرٍو مكةَ مَشَى إليه رجالٍ من قُرَيشٍ، وكان الطُّفَيلُ رجلًا شَريفًا شاعِرًا لَبيبًا، فقالوا له: "يا طُفَيلُ، إنَّك قَدِمتَ بلادَنا، وهذا الرجلُ الذي بين أظهُرِنا قد أعضَلَ -اشتَدَّ أمرُه- بنا، وقد فرَّق جماعَتَنا، وشتَّت أمْرَنا، وإنَّما قَولُه كالسِّحرِ يُفرِّق بين الرَّجلِ وبين أبيه، وبين الرَّجُلِ وبين أخيه، وبين الرَّجُلِ وبين زَوجَتِه، وإنَّا نَخشَى عليك وعلى قَومِك ما قد دَخلَ علينا، فلا تُكلِّمَنَّه ولا تَسمَعَنَّ منه شيئًا". قال: فَواللهِ ما زالوا بي حتَّى أجمعتُ ألَّا أسمَعَ منه شيئًا ولا أُكلِّمه، حتى حَشَوتُ في أُذُنَيَّ حين غَدَوتُ إلى المسجِدِ كُرسُفًا -قُطنًا- خوفًا مِن أن يَبلُغَني شيءٌ مِن قَولِه، وأنا لا أُريدُ أن أسمَعَه. فغَدَوتُ إلى المسجدِ فإذا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائمٌ يصلِّي عند الكَعبةِ. قال: فقُمتُ منه قريبًا، فأبى الله إلَّا أنْ يُسمِعَني بعضَ قولِه. قال: فسَمِعتُ كَلامًا حَسَنًا. فقُلتُ في نَفسي: وا ثُكْلَ أُمِّي، واللهِ إنِّي لرَجلٌ لَبيبٌ شاعِرٌ ما يَخفَى علَيَّ الحَسنُ من القَبيحِ، فما يَمنَعُني أن أسمَعَ من هذا الرَّجلِ ما يقولُ؟ فإنْ كان الذي يَأتي به حَسنًا قَبِلتُه، وإن كان قَبيحًا تَرَكتُه. فمَكَثتُ حتى انصَرَف رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بيتِه فاتَّبَعتُه، حتى إذا دخل بَيتَه دَخَلتُ عليه، فقلتُ: يا مُحمَّدُ، إنَّ قومَك قد قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا؛ فوالله ما بَرِحوا يُخوِّفونَني أمْرَك حتى سَدَدتُ أُذُنَيَّ بكُرسُفٍ لِئَلَّا أسمَعَ قولَك، ثمَّ أبَى الله إلا أن يُسمِعَني قَولَك، فسَمِعتُه قَولًا حَسَنًا، فاعرِضْ علَيَّ أمْرَك. قال: فعَرَضَ علَيَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإسلامَ، وتلا علَيَّ القُرآنَ، فلا والله ما سَمعتُ قولًا قطُّ أحسنَ منه، ولا أمرًا أعدَلَ منه. فأسلمتُ وشَهِدتُ شهادةَ الحقِّ، وقلتُ: يا نبيَّ الله، إنِّي امرُؤٌ مُطاعٌ في قومي، وأنا راجِعٌ إليهم، وداعيهِم إلى الإسلامِ، فادعُ الله أن يجعلَ لي آيةً تَكون لي عَونًا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: "اللَّهمَّ اجعَل له آيةً".
قال: فخَرَجتُ إلى قومي، حتى إذا كنتُ بثَنيَّةٍ -الفُرجةُ بين الجَبَلَين- تُطلِعُني على الحاضِرِ -أي: القوم النَّازِلين على الماء- وقع نورٌ بين عينَيَّ مِثلُ المِصباحِ، فقُلتُ: اللَّهمَّ في غيرِ وجهي، إنِّي أخشى أن يَظُنُّوا أنَّها مُثلةٌ وَقَعت في وَجهي لفِراقي دينَهم. قال: فتَحَوَّل فوَقَع في رأسِ سوطي. قال: فجَعَل الحاضِرُ يَتراءَون ذلك النُّورَ في سَوطي كالقِنديلِ المُعلَّقِ، وأنا أهبِطُ إليهم من الثَّنيَّةِ، قال: حتى جِئتُهم فأصبَحتُ فيهم. فلمَّا نزلتُ أتاني أبي، وكان شيخًا كبيرًا، قال: فقلتُ: إليك عنِّي يا أبتِ، فلستُ منك ولستَ منِّي. قال: ولِمَ يا بُنَيَّ؟ قال: قلتُ: أسلمتُ وتابَعتُ دينَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: أيْ بنيَّ، فديني دينُك. قال: فقلتُ: فاذهَبْ فاغتَسِلْ وطهِّرْ ثيابَك، ثم تعالَ حتى أُعَلِّمَك ما عَلِمتُ. فذَهَب فاغتَسَلَ، وطهَّرَ ثيابَه، ثم جاء فعَرَضتُ عليه الإسلامَ، فأسلمَ.
ثم أتَتْني صاحِبَتي -زَوجَتي- فقلتُ: إليكِ عنِّي، فلستُ منكِ ولستِ منِّي. قالت: لِمَ؟ بأبي أنت وأمي. قلتُ: قد فرَّق بيني وبينكِ الإسلامُ، وتابَعتُ دينَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قالت: فديني دينُكَ. قلتُ: فاذهَبي فتطهَّري، فذَهَبَت فاغتسَلَت، ثم جاءت فعَرَضتُ عليها الإسلامَ، فأسلَمَت.
ثم دعوتُ دَوسًا إلى الإسلامِ فأبطَؤوا علَيَّ، ثم جئتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمكةَ، فقلتُ له: يا نبيَّ الله، إنَّه قد غَلَبني على دوسٍ الزِّنا -لَهوٌ مع شُغُلِ القَلبِ والبَصرِ-، فادعُ الله عليهم، فقال: "اللَّهمَّ اهدِ دَوسًا، ارجِعْ إلى قومِكَ فادعُهم وارفُقْ بِهِم". قال: فلَم أزَلْ بأرضِ دَوسٍ أدعوهم إلى الإسلامِ، حتى هاجَرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المدينةِ، ومَضَى بدرٌ وأُحُدٌ والخَندَقُ، ثم قَدِمتُ على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِمَن أسلم معي من قومي، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَيبَرَ، حتى نزلتُ المدينةَ بسبعين أو ثمانين بَيتًا من دوسٍ، ثم لَحِقْنا برسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَيبَرَ، فأسهَمَ لنا مع المسلمين".
ثم لم يَزَل رَضي اللهُ عنه مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى فتح الله عليه مكَّةَ، وكان معه بالمدينةِ حتى قَبَض الله رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا ارتدَّتِ العربُ خرج مع المسلمين، فسار معهم حتى فَرَغوا من طُلَيحةَ، ومن أرضِ نجدٍ كلِّها. ثم سار مع المسلمين إلى اليَمامةِ، واستشهد فيها.
هو محمَّد المهدي بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد بسامرَّا، وهو المهديُّ المنتظَرُ عند الرافضة، يقولون إنَّه دخل في سردابٍ في بيت والده ولم يخرُج منه، وزعموا أنَّه سيخرج في آخر الزمان بنفس العمُرِ الذي دخل فيه السرداب، وهم ينتظرونَه إلى اليومِ عند السرداب المزعوم. قيل: إنه دخل وعمُره تسعُ سنين، وقيل: تسع عشر سنة. وقيل: إنَّ أباه الحسن مات عن غيرِ عَقِبٍ، وقيل: وُلِدَ له ولدٌ بعد موتِه مِن جارية اسمها "نرجس" أو "سوسن" وقيل: إن اسمَها "صقيل" ادَّعَت الحملَ به بعد وفاةِ سَيِّدها, فزادت فتنةُ الرافضة بصقيل هذه، وبدَعواها، إلى أن حبسها المعتضِدُ بعد نيِّف وعشرين سنة من موت سَيِّدها، وبقيت في قصره إلى أن ماتت في زمن المقتَدِر؛ قال الذهبي: "نعوذ بالله من زوالِ العَقلِ، فلو فرَضْنا وقوعَ ذلك في سالفِ الدَّهرِ، فمن الذي رآه؟! ومن الذي نعتَمِدُ عليه في إخباره بحياته؟ ومن الذي نصَّ لنا على عصمتِه وأنَّه يعلمُ كلَّ شَيءٍ؟! هذا هَوَسٌ بيِّنٌ، إنْ سَلَّطْناه على العقولِ ضَلَّت وتحيَّرَت، بل جَوَّزَت كلَّ باطلٍ، أعاذنا اللهُ وإياكم من الاحتجاجِ بالمُحالِ والكَذِب، أو رَدِّ الحقِّ الصحيحِ، كما هو ديدَنُ الإماميَّةِ، وممن قال: إنَّ الحسن العسكري لم يُعقِب: محمد بن جرير الطبري، ويحيى بن صاعد، وناهيك بهما معرفةً وثِقةً"..
كانت سَريَّةُ أبي سَلَمةَ عبدِ الله بنِ عبدِ الأسَدِ، وهو ابنُ عمَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَرَّةَ بنتِ عبد المطلب، وأخوه من الرَّضاعةِ، أرضَعَتهما ثُوَيبةُ. وقَطَنٌ: هو جبلٌ، وقيل: ماءٌ مِن مياهِ بني أسَدٍ. وسَبَبُها: أن رجلًا مِن طيِّئٍ اسمُه الوليدُ بن زُهَيرِ بن طَريفٍ قَدِم المدينةَ زائرًا ابنةَ أخيه زَينَبَ، وكانت تَحتَ طُلَيبِ بنِ عُمَيرِ بن وَهبٍ، فأُخبِرَ أنَّ طُليحةَ وسَلَمةَ ابنَي خوَيلِدٍ تَرَكَهما قد سارا في قَومِهِما ومَن أطاعَهما لحَربِ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنَهاهم قَيسُ بن الحارِثِ فعَصَوه؛ فلمَّا بَلَغ ذلك رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعا أبا سَلَمةَ رضي اللَّه تعالى عنه وقال: "اخرُج في هذه السَّريَّةِ فقدِ استَعمَلتُكَ عليها". وعَقَد له لِواءً وقال: "سِر حتَّى تَرِدَ أرضَ بَني أسَدِ بنِ خُزَيمةَ، فأغِرْ عليهم قبلَ أن يَتلاقَى عليك جُموعُهم". وأوصاه بتقوى اللَّه تعالى وبمَن معه من المسلمين خيرًا.
فخَرَج معه في تلك السَّريَّةِ خمسون ومئةُ رجلٍ، ومعه الرَّجلُ الطَّائيُّ دَليلًا، فأسرَعَ السَّيرَ وعَدَل بهم عن سَيفِ الطَّريقِ، وسار بهم ليلًا ونهارًا، فسَبَقوا الأخبارَ وانتَهَوا إلى ذي قَطَنٍ -ماءٍ من مياهِ بني أسَدٍ وهو الذي كان عليه جَمعُهم-، فأغاروا على سَرحٍ لهم، وأسَروا ثلاثةً من الرُّعاةِ وأفلَتَ سائِرُهم، فجاؤوا جَمْعَهم فأخبَروهم الخَبَرَ وحَذَّروهم جَمْعَ أبي سَلَمةَ، وكثَّروه عندهم، فتَفرَّق الجمعُ في كُلِّ وَجهٍ، ووَرَدَ أبو سَلَمةَ الماءَ، فوَجَد الجَمْعَ قد تَفرَّق. فعَسكَرَ وفرَّق أصحابَه في طَلَبِ النَّعَمِ والشَّاءِ؛ فجَعَلهم ثلاثَ فِرَقٍ: فِرقةٌ أقامت معه، وفِرقَتان أغارَتا في ناحيَتينِ شتَّى، وأوعَزَ إليهما ألا يُمعِنوا في الطلب، وألَّا يَبيتوا إلَّا عنده إن سَلِموا، وأمَرَهم ألَّا يَفتَرِقوا، واستَعمَل على كلِّ فِرقةٍ عامِلًا منهم فآبوا إليه جَميعًا سالِمين قد أصابوا إبِلًا وشاءً، ولم يَلْقَوا أحدًا، فانحَدَر أبو سَلَمةَ بذلك كُلِّه راجعًا إلى المدينةِ ورَجَع معه الطَّائيُّ.
فلمَّا ساروا ليلةً قسَّمَ أبو سَلَمةَ الغنائِمَ، وأخرَجَ صَفيَّ رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عبدًا وأخرَجَ الخُمُسَ وأعطَى الطائيَّ الدليلَ رِضاهُ من المَغنَمِ، ثم قَسَّم ما بَقي بين أصحابِه فأصاب كلُّ إنسانٍ سبعةَ أبعِرةٍ، وقَدِم بذلك إلى المدينةِ ولم يَلْقَ كَيدًا.
اللِّواء قاسم سُليماني مِن مَواليدِ عامِ 1377هـ / 1957م، كان قائدًا لفَيلَق القُدسِ التابعِ للحرَسِ الثَّوري الإيراني، والمسؤولَ عن العمَليات العسْكريةِ السِّرِّية خارجَ الحدود الإقليميَّةِ لإيرانَ. وهو مِن قُدامى المحاربينَ في الحربِ العراقيةِ الإيرانيةِ في الثَّمانينيَّات، رُقِّيت الرُّتبةُ العسكرية لقاسم سُليماني مِن عقيدٍ إلى لِواء بواسطةِ قائدِ الثَّورة الإيرانية علِي خامنئي. كان سُليماني نشِطًا في العراق والشامِ، وقدَّم مُساعداتٍ عسكريةً للشِّيعةِ والجماعات الكُرْدية المناهِضة للرئيس صدَّام حُسين في العراق، وحِزب الله في لُبنان، وحرَكةِ حَماس في الأراضي الفِلَسطينية. وساعَدَ الحكومةَ السوريةَ بعْد انطلاق الثَّورة عام 2011 م، كما ساعَدَ في قِيادة قوَّات الحكومةِ العراقية والحشْد الشَّعبي الشِّيعي.
قُتِل قاسم سُليماني في غارةٍ جويَّة أمريكيةٍ بطائرةٍ بدونِ طيَّار بالقرْب مِن مَطار بغدادَ، بعْد تصنيفِه قائدًا إرهابيًّا يُهدِّد الجنودَ الأمريكيينَ في العراقِ.
هو أبو الحسَنُ عليُّ بنُ العبَّاسِ بن جريج، مولى آل المنصورِ, أصلُه روميٌّ يُوناني، شاعِرُ زمانِه مع البحتريِّ، وُلد سنة 221. كان من كُتَّاب الدواوين، غلب عليه الشِّعرُ فلم يُعرَفْ إلَّا به، كان مُرَّ الهِجاءِ، قيل توفِّيَ مسمومًا بأمر القاسم بن عبيدالله وزيرِ المعتَضِد؛ لأنه أكثَرَ مِن هجائِه وأفحشَ، توفِّي في بغداد عن 62 عامًا. وقيل: مات سنة 284.
أسندت الدرعيةُ إمارةَ بُريدة وما يتبعها إلى حجيلان بن حمد العليان بعدَ مقتَلِ أميرها عبد الله بن حسن في وقعةِ مخيريق, فنجح حجيلان في توطيدِ حُكم الدرعية هناك، وقام بكثيرٍ مِن الغزوات لمصلحةِ ذلك الحُكمِ، ومَدَّ رقعتَه، وظلَّ أميرًا نَشِطًا في غزواته حتى قضى إبراهيم باشا على الدولة السعودية الأولى، فأُخِذَ حجيلان إلى المدينة النبوية عام 1234هـ، وتوفِّيَ فيها بعد وصولِه إليها بقليل.
لَمَّا وَلِيَ إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس إمارةَ مِصرَ لم يرضَ بما كان يأخُذُه قبله الأمراءُ، وزاد على المُزارعين زيادةً أفحَشَت بهم فسَئِمَته الناسُ وكَرِهَته وخرج عليه جماعةٌ مِن أهل الحوفِ مِن قيس وقضاعة، فحاربَهم إسحاقُ، وقُتل من حواشيه وأصحابِه جماعةٌ كبيرة، فكتب إسحاقُ يُعلِمُ الرَّشيدَ بذلك، فعَظُمَ على الرشيدِ ما ناله من أمرِ مِصرَ، وصَرَفه عن إمرَتِها وعقَدَ الرَّشيدُ لهرثمة بن أعيَن على إمرة مصرَ، وأرسله في جيشٍ كبير إلى مصرَ، فتلقَّاه أهلُ مِصرَ بالطاعةِ وأذعنوا له، فقَبِلَ هرثمة منهم ذلك، وأمَّنَهم وأقَرَّ كُلَّ واحدٍ على حاله.
اشتَدَّت الفِتنةُ ببغداد، وانتشَرَ العَيَّارون والمُفسِدون، فبَعَث بهاءُ الدَّولة بنُ بُوَيه الدَّيلمي, عميدَ الجُيوشِ أبا عليِّ بنَ أستاذ هرمز إلى العراقِ ليُدَبِّرَ أمْرَه، فوصل إلى بغداد، والفِتَنُ ثائرةٌ بها، فضبط العِراقَ بأتَمِّ سياسةٍ، وأباد الحَراميَّة، وقتل عِدَّةً منهم، فقَمَع الفَسادَ وأهلَه، ومنَعَ الرَّافضةَ مِن إحياءِ مآتِمِ يومِ عاشوراءَ بالنَّوحِ وتَعليقِ المُسوح ببغداد وغيرها، ومنَعَ أهلَ السُّنَّة مِمَّا كانوا ابتَدَعوه أيضًا في مُقابلةِ الرَّافِضةِ مِن التوجُّهِ إلى قَبرِ مُصعَبِ بنِ الزُّبيرِ وغَيرِه، ونفى بعد ذلك ابنَ المُعَلِّم المعروف بالشيخ المفيد، فَقيه الإماميَّة، فاستقام أمرُ البَلَدِ.
بعد هزيمةِ جَيشِ مَلِك المرينيين أمام تحالُفِ الأسبان، تشَجَّع مَلِكُ قشتالةَ للعَودِ إلى غزو غرناطةَ فتابعَ حُروبَه عليها واستولى على قلعةِ بني سعيدٍ، فأثار هذا الحميَّةَ لدى مَلِك بني مرين أبي الحَسَن علي بن عثمان، فأراد الانتقامَ مِن هزيمتِه الماضية، فأرسل أسطولًا بحريًّا إلى بحرِ الزقاق من مضيقِ جَبل طارق، فالتقى بجيش قشتالة في معركةٍ بحرية كانت فيها هزيمةُ جيش مَلِك بني مرين مرة أخرى، وتمَزُّق أسطوله الذي أرسله، ثم توجَّه الجيش الفرنجي إلى غرناطة فنَصَبوا عليها أكثَرَ مِن عَشرةِ مجانيق حتى صالحهم مَلِكُ غرناطة على مالٍ يؤدِّيه كُلَّ عام، وأن يكون الصلحُ بينهم عشرَ سنين.
في حوالَيْ عامِ 232هـ ومع ضَعفِ الحُكام العباسيِّينَ بدأت تظهرُ أطماعُ بعضِ الوُلاةِ المحلِّيينَ في كَوْكبانَ وعلى رأسِهم يَعفُرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الحَوَاليُّ. ومع أواخِرِ القرنِ التاسعِ الميلاديِّ، أصبحت اليَمنُ قاعدةَ عملياتٍ لحركةِ الشِّيعةِ الفاطميِّينَ. وقد عهِدَ يَعفُرُ بالسُّلطةِ لابنِه محمدٍ الذي فضَّلَ أن تكونَ مِن صَنعاءَ، ثم عهِدَ محمدُ بنُ يَعفُرَ بالسُّلطةِ بعدَ ذلك لابنِه إبراهيمَ، الذي اختَلَف مع أبيه على أسلوبِ الحُكم، وانتهي الأمرُ بقتلِ أبيه عامَ 892م/269هـ. تَبِعَ ذلك فوضى وتمَرُّدٌ بينَ القبائلِ وأهالي القُرى بَينَ السُّنِّيِّينَ والشِّيعةِ، وعَمَّ التَّوتُّرُ شوارعَ صَنعاءَ حتى أرسلَ الخليفةُ العباسيُّ في بغدادَ آنذاكَ، علِيَّ بنَ الحُسَينِ إلى اليَمنِ لِيقضيَ على الفِتنةِ ويَضعَ نهايةً لِلتَّمرُّدِ.
بعدَ استِدعاءِ ابنِ الحُسَينِ إلى بَغدادَ عامَ 895م/282هـ. اهتزَّتِ الأمورُ في صَنعاءَ، وحينَئِذٍ ظهرَ أوَّلُ إمامٍ زَيديٍّ ليتوَلَّى زِمامَ الأمرِ، وهو الإمامُ الهادي إلى الحقِّ يحيى بنُ الحُسَينِ، ولكنَّه لم يَستطِعْ أن يحُدَّ مِنَ الصِّراعاتِ، فعادَ بنو يَعفُرَ إلى الحُكمِ، ومع وفاةِ آخِرِ حُكَّامِهم عبدِ اللهِ بنِ قَحطانَ، انتهى حُكمُهم، وظلَّتِ البِلادُ في حالةِ فوضى سياسيةٍ إلى أن جاء إلى الحُكمِ سُلالةٌ أُخرى حاكمةٌ، وهم بَنو الصُّليحيِّ عامَ 1047م/439هـ.