جَهَّزَ مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان جيشًا عظيمًا بَرًّا وبَحْرًا لِغَزْوِ القُسطنطينيَّة، وكان قائدَ الجيشِ سُفيانُ بن عَوفٍ الأزديُّ، وقاد الأُسْطولَ بُسْرُ بن أَرْطاة, وكان في الجيشِ ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عُمَر، وأبو أَيُّوبَ، وابنُ الزُّبيرِ، والحُسينُ بن عَلِيٍّ رضي الله عنهم، انْضَمُّوا إلى هذه الحَملَةِ مُتَمَثِّلينَ أَمامَ أَعيُنِهم قولَ الرَّسولِ: (لَتُفْتَحَنَّ القُسطنطينيَّةُ فَلَنِعْمَ الأميرُ أَميرُها، وَلَنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيشُ). آمِلِينَ أن يَتَحَقَّقَ فيهم قولُ الرَّسولِ، فقد ثبَت عن رسولِ الله: (أوَّلُ جيشٍ يَغْزون مَدينةَ قَيْصَر مَغفورٌ لهم). وقام الجيشُ بحِصارِ القُسطنطينيَّة، وجَرَتْ اشْتِباكاتٌ عَديدة بين الطَّرفين خَسِرَ فيها المسلمون الكَثيرَ، وقد جاءَهُم مَدَدٌ مِن الشَّام بقيادةِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة ممَّا قَوَّى أَمرَهُم، وتُوفِّي هناك أبو أيُّوبَ ودُفِنَ عند سُورِها؛ ولكن لم يَتِم فتحُها مع شِدَّةِ الحِصارِ وقُوَّتِه؛ وذلك لِمَنَعَةِ المدينةِ، وقُوَّةِ أَسوارِها، ومَكانِها في البَرِّ والبَحرِ، وأُحْرِقَت كثيرٌ مِن سُفُنِ المسلمين.
هو أبو عبدِ الرَّحمن مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان الأُمَويُّ القُرشيُّ، مِن أصحابِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأحدُ كُتَّابِ الوَحْي، سادِسُ الخُلفاءِ في الإسلامِ، وأوَّلُ مُلوكِ المسلمين، ومُؤَسِّسُ الدَّولةِ الأُمويَّة في الشَّام، وُلِدَ بمكَّة وتَعَلَّم الكِتابَةَ والحِسابَ، أَسلَم مُعاوِيَةُ رضي الله عنه يومَ الفَتحِ، وقِيلَ: في عُمرَةِ القَضاءِ وكان يَكتُم إسلامَهُ خَوفًا مِن أَبيهِ، وقد اسْتَعمَله رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على كِتابَةِ الوَحْي، واسْتَعمَلَه على الشَّامِ الخُلفاءُ: عُمَرُ، وعُثمانُ، وبَقِيَ على الشَّام في خِلافَة عَلِيٍّ بغَيرِ رِضاهُ، فبَقِيَ كذلك قُرابةَ العِشرين سنة، ثمَّ تَمَّ له الأَمْرُ بعدَ تَنازُلِ الحسنِ بن عَلِيٍّ له، وبَقِيَ خَليفَةً مُدَّةَ تِسعةَ عشرَ عامًا وأَشْهُر، فتَح الله له فيها الكثيرَ مِن البِلادِ، واشْتُهِرَ بالحِكمَةِ في سِياسَتِه للنَّاس، ومُداراتِه لهم، وكان قد عَهِدَ لابنِه يَزيدَ قبلَ مَوتِه، وبعَث في البِلادِ لِيأخُذوا له ذلك، وتُوفِّي في دِمشقَ وصلَّى عليه الضَّحَّاكُ بن قيسٍ، ودُفِنَ فيها، جَزاهُ الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين.
هو أحمدُ بنُ محمَّدِ بنِ سلامة بن سلمة بن عبد الملك أبو جعفرٍ الأزدِيُّ الحجري المصريُّ الطحاوي، الفقيهُ الحنفيُّ، المحَدِّثُ الحافِظُ، أحدُ الأعلام، ولد سنة 239 بِطَحَا: قريةٍ مِن قُرى مِصرَ مِن ضواحي القاهرةِ بالوجه البحري، رحل إلى البلادِ، قال أبو إسحاق الشيرازي: انتهت إلى أبي جعفر رياسةُ أصحابِ أبي حنيفة بمصرَ، أخذ العلمَ عن أبي جعفرٍ أحمَدَ بن أبي عمران، وأبي حازم، وغيرهما، وكان إمامَ عَصرِه بلا مُدافعةٍ في الفِقهِ والحديثِ، واختلافِ العُلَماءِ، والأحكامِ، واللغة والنحو، وصَنَّف المصَنَّفاتِ الحسانَ، وصَنَّف اختلافَ العُلَماء، وأحكام القرآن، ومعاني الآثار، والشروط. وكان من كبارِ فُقَهاء الحنفيَّة، والمُزَنيُّ الشافعيُّ هو خالُ الطَّحاويِّ، وقِصَّتُه معه مشهورة في ابتداءِ أمره. قال الذهبي: " من نظَرَ في تصانيف أبي جعفرٍ رَحِمَه الله، علم محَلَّه من العلمِ وسَعةِ مَعرفتِه" كانت وفاته في مستهَلِّ ذي القَعدة، ودُفِنَ في القَرافة.
هو السلطان سليمان الثاني بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني, السلطان الثاني والعشرون من سلاطين بني عثمان، ولد عام 1052هـ وتولى الحكم بعد أخيه محمد الرابع عام 1099هـ واستمر التدهور في الدولة العثمانية في عهده، وازدادت شراسة الأعداء على عهده، فاغتصبت النمسا كثيرًا من المواقع والمدن، ومنها بلجراد عام 1099هـ، كما احتلت البندقية سواحل دالماسيا والسواحل الشرقية لبحر الأدرياتيك وبعض الأماكن في اليونان، وتوالت الهزائم على الدولة، وتمرد الجند فقتلوا الصدر الأعظم سياوس باشا, فقيَّض الله للدولة رجلًا لهذا الفترة هو الصدر الأعظم مصطفى بن محمد كوبريلي الذي أعاد قوة الدولة وهيبتها. توفي سليمان الثاني في 26 رمضان عن غير عقب وعمره 50 سنة، بعد أن حكم ثلاث سنوات وثمانية أشهر، ودُفن في تربة جده السلطان سليمان الأول وتولى بعده أخوه أحمد الثاني.
هو المؤرِّخُ اليمنيُّ القاضي إسماعيلُ بن عليٍّ الأكوَعُ، تُوفِّي في مدينةِ صنعاءَ عن (87) عامًا، ودُفن في مقبرة "حدة" وشارك في تشييعِ الجنازة رئيسُ الجمهورية ورئيسُ مجلسِ القضاء الأعلى ورئيسُ مجلسِ الشورى وعددٌ كبيرٌ من العُلَماء والمسؤولين والمثقَّفين. والقاضي إسماعيلُ مؤرِّخٌ ولغويٌّ وفقيهٌ وأديبٌ، كان عضوًا في المَجمَع العلميِّ العراقي، والمَجمعِ العلميِّ الهنديِّ، وعضوًا في المَجمَعِ اللُّغوي الأردنِّي، والمَجمعِ اللُّغوي السوريِّ، وعضوًا في المَجمع الملَكي الأردنِّي لبُحوث الحضارة الإسلامية. وقد أسَّس في اليمن الهيئةَ العامَّةَ للآثار ودُورِ الكتُب، وكان رئيسَها لأكثرَ من عشرين عامًا، كما شَغَل طِيلةَ حياتِه عدةَ مناصِبَ، منها: وزير الإعلامِ، ونائبُ وزيرِ الخارجيةِ، وسفيرُ اليمنِ في موسكو. وللقاضي الأكوع مجموعةٌ كبيرةٌ من الكتبِ والمؤلَّفات والتحقيقات والأبحاثِ العلميَّة، منها: ((هِجَر العلم ومَعاقِله في اليمن))، و((المدارس الإسلامية في اليمن))، و((الدَّولة الرَّسولية في اليمن)) إلى غيرِ ذلك، وقد تُرجِمَ كَثيرٌ من كُتُبِه وأبحاثِه إلى لغاتٍ أجنبيةٍ مختلفةٍ.
هو الإمام أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة النووي، الشافعي نسبة إلى نوى قرية من قرى حوران بسوريا، وُلِدَ بنوى في العشر الأوسط من المحرم سنة 631. رحل أبو زكريا إلى دمشق ودرس فيها وسَمِعَ الحديث مع زهد وورع وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، قال الشيخ محيي الدين: "لما كان لي تسع عشرة سنة قدم بي والدي إلى دمشق في سنة تسع وأربعين، فسكنت المدرسة الرواحية، وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض. وكان قوتي فيها جرايةَ المدرسة لا غير، وحفظت التنبيهَ في نحو أربعة أشهر ونصف, وبقيت أكثَرَ من شهرين أو أقل لما قرأت: يجب الغُسلُ من إيلاج الحشفة في الفرج، أعتقد أن ذلك قرقرة البطنِ، وكنت أستحمَّ بالماء البارد كلما قرقَرَ بطني. وقرأت حفظًا ربع المهذب في باقي السنة، وجعلت أشرحُ وأصحِّحُ على شيخنا كمال الدين إسحاق بن أحمد المغربي، ولازمته فأُعجِبَ بي وأحبني، وجعلني أعيد لأكثر جماعته, وكنت أقرأُ كل يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا وكنت أعلِّقُ جميع ما يتعلق بها من شرح مُشكِل، ووضوحِ عبارة، وضَبطِ لغة، وبارك الله لي في وقتي, وخطَرَ لي الاشتغالُ بعلم الطب، فاشتريتُ كتاب القانون فيه، وعزمتُ على الاشتغال فيه، فأظلم عليَّ قلبي، وبقيت أيامًا لا أقدر على الاشتغالِ بشيءٍ، ففكَّرتُ في أمري ومن أين دخل عليَّ الداخل، فألهمني الله أنَّ سَبَبَه اشتغالي بالطب، فبِعتُ القانون في الحال، واستنار قلبي." وليَ أبو زكريا مشيخة دار الحديث من غيرِ أجر، وله مصنفات عديدة مفيدة أشهرها كتاب: رياض الصالحين، والأربعون النووية، وشرحه لصحيح مسلم المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ومنهاج الطالبين في الفقه الشافعي الذي يعتبر عمدة في المذهب، ويعتبر النووي من المعُتمَدين في المذهب؛ فكلامه أصل في المذهبِ، وهو أحد الشيخين الذين يعتمد على ترجيحهم في المذهب والآخر هو الرافعي، وله كتاب المجموع شرح المهذب أيضًا في الفقه الشافعي لكنه لم يتِمَّه، وله كتاب التقريب والتيسير في مصطلح الحديث. قال ابن العطار: "ذكر لي شيخنا محيي الدين رحمه الله أنه كان لا يضيِّعُ له وقتًا في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطرق يكرِّرُ أو يطالع. وأنه بقي على هذا نحو ست سنين، ثم اشتغل بالتصنيفِ والإشغال والنصح للمسلمين وولاتهم، مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الفقه، والحرص على الخروجِ مِن خلاف العلماء، والمراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من الشوائب، يحاسِبُ نفسَه على الخطرة بعد الخطرة. وكان محقِّقًا في علمه وفنونه، مدققًا في عمله وشؤونه، حافظًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارفًا بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه واستنباط فقهه، حافظًا للمذهب وقواعده وأصوله، وأقوالِ الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم؛ سالكًا في ذلك طريقة السلف. قد صرف أوقاتَه كلَّها في أنواع العلم والعمل بالعلم". توفي في ليلة أربع وعشرين من رجب في نوى عن خمس وأربعين عامًا، ودفن هناك وقبره فيها معروف رحمه الله وجزاه خيرًا.
هو الحاجُّ محمد أمين بنُ محمد طاهر بن مصطفى الحُسيني مفتي القدس. وُلد في القدسِ سنة 1897م، تربَّى في بيت والدِه الشيخِ طاهر الحسينيِّ مفتي القدس، عُرِف بالحاج أمين الحسينيِّ بعد أن حجَّ برفقة والدتِه. تلقَّى علومه الابتدائيَّة والثانوية في مدارسِ القدسِ، ثم التحق بكلية الفرير بالقدس لتعلُّم اللغةِ الفرنسية، بعدها التحق بجامعة الأزهر، وكان يتردَّد على (دار الدعوة والإرشاد) التي أنشأها الشيخُ محمد رشيد رضا حيث تأثَّر به وبفكره الإصلاحيِّ، ومن خلال معرفته به عرف الكثير عنِ الصهيونية وأطماعِها في فلسطين، وبعدَ نُشوب الحرب العالمية الأولى التحق بكلية الأستانةِ العسكرية وتخرَّج منها ضابطًا، والتحق بالجيش العثماني في ولاية أزمير، وعمل فيه حتى نهاية الحرب؛ مما أكسبه خبرة جيِّدة كان لها الأثرُ الأكبر في شخصيتِه وحياتِه. بعدَ نهاية الحرب عاد الحسينيُّ إلى القدس وهو برتبة ضابطٍ، ملِمًّا بالفكر الإسلاميِّ، والعلوم المفيدةِ، والخبرة العسكريةِ، ويعرفُ منَ اللغات الأجنبية التركيةَ والفرنسيةَ، بالإضافة إلى ذلك كلِّه كان بحكم انتمائه إلى أسرة آل الحسيني مهيَّأً ليكون زعيمًا وداعيةً مسموع الكلمةِ. عندما احتلَّ الإنجليز فلسطين انصرف الحُسينيُّ إلى تنظيم الفلسطينيين في حركة وطنية شاملة ضدَّ الاستعمار والصهيونية، فكوَّنوا في القدس أوَّل منظمة سياسيَّة عرفتها فلسطين هو (النادي العربي)، وانتُخب الحسينيُّ رئيسًا له، وكان لهذا النادي أثر كبير في انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية، وقيام المظاهرات ضد الاحتلالِ. تسلَّم الحسينيُّ منصبَ الإفتاء رسميًّا، فأعاد تنظيم المحاكم الشرعية، واختار لها القضاة، ونظَّم الأوقاف، وأخذ يعمل على تقوية المدارس الإسلامية وتنظيم أمورها، كما شارك في تأسيس مجلس شرعي إسلامي لفلسطين تألَّف من مجموعة من العلماء، وعُين الحسيني رئيسًا لهذا المجلس الذي سُمي (المجلس الإسلامي الأعلى) الذي أصبح على مرِّ الأيام أقوى قوة وطنية إسلامية فلسطينية. كان الحاج أمين القوة الدافعة للحركة الوطنية، ومركز الثقل في المقاومة الفلسطينية؛ مما حفَّز الإنجليز واليهود إلى مقاومته والتخلُّص منه، فخرج الحاجُّ من فلسطين إلى لبنانَ بعد رفضه لقرار التقسيم 1937م وتحريضه للفلسطينيين ضدَّ الاحتلالِ، ومكث في لبنان عامين، ثم فرَّ منها إلى العراق، ولما سمع الحاج بالمآسي التي حلَّت بالشعب البوسني المسلم اجتمع بزعماءِ البوسنة والهرسك في ألمانيا؛ للعمل على منع وقوع المذابحِ فيهم، فحصَل على موافقةِ الحكومة الألمانية على تجنيدِ الشبَّان منهم وتسليحِهم للدفاع عن أنفسهِم وعائلاتهم، وكذلك اتَّفق مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة؛ لتوزيعِهم على وَحدات الفرق البوسنيَّة الذين زاد عددُهم عن 100 ألف مقاتل مع دول المحورِ، ولما زحف الحلفاء على ألمانيا عام 1945م انتقل الحاج أمين إلى باريس، ومنها إلى مصر، وفي مصر شكَّل الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسته؛ حيثُ نظَّم الحركة الوطنية الفلسطينية تنظيمًا حديثًا، بل ومدَّ نشاطه إلى الدائرة الإسلامية؛ حيث كان يرأس مؤتمرات إسلامية في مكة نشأت عنها مؤسسة دائمة باسم (مؤتمر العالم الإسلامي) برئاسته، وظل يشغل هذا المنصب طيلة حياته إلى أن تُوفي رحمه الله في بيروت ودُفن في مقبرة الشهداء بالحرج.
هو شَيخُ الآدابِ، أبو العلاء أَحمدُ بن عبدِ الله بن سُليمانَ المَعَرِّي التَّنوخي الشاعر، اللُّغويُّ، صاحبُ الدَّواوين والمُصَنَّفات في الشِّعرِ واللُّغةِ، المشهور بالزَّندقَةِ، وُلِدَ سنة 363هـ, وأصابهُ جُدَري وله أربعُ سِنين أو سَبع، فذَهبَ بَصرهُ، وقال الشِّعْرَ وله إحدى أو ثنتا عشرة سَنة، ودخلَ بغداد سنةَ تِسعٍ وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنةً وسبعةَ أَشهُر، ثم خَرجَ منها طَريدًا مُنهزِمًا، لمَّا عَزَم الفُقهاءُ على أَخذِه ببَعضِ أَشعارهِ الدَّالةِ على فِسْقِه، هَرَب ورَجَع إلى بَلدِه، ولَزِمَ مَنزِلَه فكان لا يَخرُج منه، وسَمَّى نَفسَه: رَهينَ المَحْبَسَينِ لذلك ولِذهابِ بَصرِه, وقد كان المَعَرِّي غايةً في الذَّكاءِ المُفرِط، ومَكَثَ المَعَرِّي خمسًا وأربعين سنةً من عُمُرِه لا يأكلُ اللَّحمَ ولا اللَّبَنَ ولا البَيْضَ، ولا شيئًا مِن حَيوانٍ، على طَريقَةِ البَراهِمَة الفَلاسِفَة، ويُقال: "إنَّه اجتَمَع بِراهبٍ في بَعضِ الصَّوامِع في مَجيئِه من بَعضِ السَّواحِل آواهُ اللَّيلَ عنده، فشَكَّكَهُ في دِينِ الإسلام" فكان لا يَتَقَوَّتُ إلَّا بالنَّباتِ وغَيرِه، وأَكثرُ ما كان يأكلُ العَدسَ، ويَتَحَلَّى بالدِّبْسِ وبالتِّينِ، وكان لا يأكل بِحَضرَةِ أَحدٍ، ويقول: أَكْلُ الأعمى عَورةٌ وسَترُه واجب. قال ابنُ كَثيرٍ: "كان ذَكِيًّا ولم يكن زَكِيًّا، وله مُصنفاتٌ كَثيرةٌ أَكثرُها في الشِّعْرِ، وفي بَعضِ أَشعارِه ما يَدلُّ على زَندَقتِه، وانحِلالِه مِن الدِّين، ومن الناسِ مَن يَعتَذِر عنه ويقول: إنَّه إنمَّا كان يقول ذلك مُجونًا ولَعِبًا، ويقول بلِسانِه ما ليس في قَلبِه، وقد كان باطنُه مُسلِمًا"، قال أبو الوفاء ابن عَقيلٍ شيخُ الحنابلة: "مِن العجائبِ أنَّ المَعَرِّي أَظهرَ ما أَظهرَ مِن الكُفرِ الباردِ، وسَقَطَ مِن عُيونِ الكُلِّ، ثم اُعتُذِرَ بأن لِقَولهِ باطِنًا، وأنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ، لأنَّه تَظاهَر بالكُفرِ وزَعَم أنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، وهذا عَكسُ قضايا المُنافِقين والزَّنادِقة، حيث تَظاهَروا بالإسلامِ وأَبطَنوا الكُفرَ، فهل كان في بلادِ الكُفَّارِ حتى يحتاج إلى أن يُبطِنَ الإسلام، فلا أَسخَف عَقلًا ممَن سَلكَ هذه الطَّريقَة التي هي أَخَسُّ مِن طَريقةِ الزَّنادِقة والمُنافِقين، إذا كان المُتَدَيِّن يَطلُب نَجاةَ الآخِرةِ، والزِّنديق يَطلُب النَّجاةَ في الدُّنيا، وهو جَعلَ نَفسَه عُرضةً لإهلاكِها في الدنيا حين طَعَنَ في الإسلامِ في بلادِ الإسلامِ، وأَبطَن الكُفرَ، وأَهلكَ نَفسَه في المَعادِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ" قال ابنُ الجوزيُّ: "وقد رَأيتُ لأبي العَلاءِ المَعَرِّي كِتابًا سَمَّاهُ (الفُصول والغايات)، يُعارض به السِّور والآيات، وهو كَلامٌ في نِهايةِ الرَّكَّةِ والبُرودةِ، فسبحان مَن أَعمَى بَصرَهُ وبَصيرتَهُ، وقد ذَكرهُ على حُروفِ المُعجَم في آخرِ كِلماتِه"، قال ابنُ كَثيرٍ: "وقد أَورَد ابنُ الجوزي من أَشعارِه الدَّالَّةِ على استِهتارِه بِدِينِ الإسلامِ أَشياءً كَثيرةً تَدُلُّ على كُفرِه؛ بل كلُّ واحدةٍ مِن هذه الأشياءِ تَدُلُّ على كُفرِه وزَندقَتِه وانحِلالِه، وقد زَعمَ بعضُهم أنَّه أَقلَع عن هذا كُلِّه وتاب منه وأنَّه قال قَصيدةً يَعتذِر فيها مِن ذلك كُلِّه، ويَتنَصَّل منه، ومنهم مَن قال: بل كلُّ ذلك مَدسوسٌ عليه مِن قِبَلِ حُسَّادِه وَهُم كُثُر. بل أَلَّفَ ابنُ العديم كِتابًا في الدِّفاعِ عنه، وللمَعَرِّي (دِيوانُ اللُّزومِيَّات)، و(سِقْطُ الزَّنْدِ) و(رِسالةُ الغُفران)"، قال الباخرزي: "أبو العلاء ضَريرٌ ما له ضَريبٌ، طال في ظِلِّ الإسلامِ آناؤهُ، ورَشَحَ بالإلحاد إناؤهُ، وعندنا خَبرُ بَصرِه، والله العالم بِبَصيرَتِه والمُطَّلِع على سَريرَتِه، وإنمَّا تَحدَّثت الأَلسُنُ بإساءتِه بكِتابِه الذي عارَضَ به القُرآنَ، وعَنْوَنَهُ: (الفُصولُ والغايات في مُحاذاةِ السُّوَرِ والآيات)", وقال غَرسُ النِّعمَة محمدُ بن هلالِ بن المُحسِن بن إبراهيمَ الصابئ عنه: "له شِعْرٌ كَثيرٌ، وأَدَبٌ غَزيرٌ، ويُرمَى بالإلحادِ، وأَشعارُه دَالَّةٌ على ما يُتَّهَمُ به" قال أبو زكريا التِّبريزي: "لمَّا قَرأتُ على أبي العَلاءِ بالمَعَرَّةِ قوله:
تَناقُضٌ ما لنا إلَّا السُّكوتُ له
وأن نَعوذُ بمولانا مِن النَّارِ
يَدٌ بِخَمسِ مِئٍ مِن عَسْجَدٍ وُدِيَت
ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دِينارِ؟
سَألتُه، فقال: هذا كَقولِ الفُقهاءِ: عِبادَةٌ لا يُعقَل مَعناها". قال الذَّهبيُّ: لو أراد ذلك؛ لقال: تَعَبُّد، ولَمَا قال: تَناقُض, ولِمَا أَردَفهُ ببَيتٍ آخرَ يَعترِض على رَبِّه, وبإسنادي قال السَّلفيُّ: إن كان قاله مُعتَقِدًا مَعناهُ، فالنَّارُ مَأْواهُ، وليس له في الإسلامِ نَصيبٌ". تُوفِّي في المَعَرَّةِ مَعَرَّةِ النُّعمانِ، وفيها دُفِنَ عن عُمُرٍ 86 عامًا.
لم يَشعُر الحُجَّاجُ في هذا العامِ إلَّا وأبو طاهرٍ سُلَيمانُ الجنابي القرمطي- لعنه الله- قد خرج عليهم في جماعتِه يومَ الترويةِ، فانتهب أموالَهم واستباح قتالَهم، فقتَلَ في رحابِ مَكَّة وشعابِها وفي المسجِدِ الحرامِ وفي جوفِ الكعبةِ مِن الحُجَّاجِ خَلقًا كثيرًا، وجلس أميرُهم أبو طاهرٍ- لعنه الله- على باب الكعبة، والرجالُ تُصرَعُ حوله، والسيوفُ تَعمَلُ في الناس في المسجدِ الحرام في الشَّهرِ الحرام في يومِ التَّروية، فكان الناسُ يَفِرُّون منهم فيتعَلَّقونَ بأستار الكعبة فلا يُجدي ذلك عنهم شيئًا، بل يُقتَلون وهم كذلك، فلما قضى القرمطي- لعنه الله- أمْرَه، وفعل ما فعل بالحَجيجِ مِن الأفاعيلِ القبيحة، أمَرَ أن تدفن القتلى في بئرِ زمزم، ودفَنَ كثيرًا منهم في أماكِنِهم من الحرم، وفي المسجِدِ الحرام، وهدم قُبَّة زمزم وأمر بقلعِ باب الكعبةِ، ونزع كِسوتَها عنها، وشَقَّقَها بين أصحابه، وأمر رجلًا أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتَلِعَه، فسقط على أمِّ رأسِه فمات إلى النَّار، فعند ذلك انكَفَّ الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يُقلَعَ الحجَرُ الأسود، فجاءه رجل فضربه بمِثقلٍ في يده، وقال: أين الطيرُ الأبابيلُ، أين الحجارةُ من سِجِّيل؟ ثم قلع الحجَرَ الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادِهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردُّوه، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجِعونَ، ولَمَّا رجع القرمطي إلى بلادِه ومعه الحجر الأسود وتبعه أميرُ مَكَّة هو وأهل بيتِه وجُنده، وسأله وتشفَّعَ إليه أن يرُدَّ الحجَرَ الأسود ليُوضَعَ في مكانه، وبذَلَ له جميعَ ما عنده من الأموالِ، فلم يلتَفِتْ إليه، فقاتله أميرُ مكَّةَ فقَتَله القرمطي، وقتَلَ أكثَرَ أهلِ بيته، وأهل مكة وجنده، واستمَرَّ ذاهبًا إلى بلاده ومعه الحجَرُ الأسود وأموالُ الحجيج، وذكر ابن الأثير أنَّ عُبيدَ الله المهدي بإفريقيةَ كتب إلى أبي طاهرٍ يُنكِرُ عليه ذلك ويلومُه ويلعَنُه، ويقيم عليه القيامة، ويقول: "قد حَققتَ على شيعتِنا ودُعاةِ دَولتِنا اسمَ الكُفرِ والإلحادِ بما فعلْتَ، وإن لم تَرُدَّ على أهلِ مَكَّةَ وعلى الحُجَّاجِ وغَيرِهم ما أخذتَ منهم، وتَرُدَّ الحَجَرَ الأسودَ إلى مكانه، وتَرُدَّ كِسوةَ الكعبةِ، فأنا بريءٌ منك في الدُّنيا والآخرة". فلمَّا وصَلَه هذا الكتابُ أعاد الحجرَ الأسودَ على ما نذكُرُه، واستعاد ما أمكَنَه من الأموالِ مِن أهل مكة، فرَدَّه، وقال: إنَّ النَّاسَ اقتَسَموا كِسوةَ الكَعبةِ وأموالَ الحُجَّاج، ولا أقدِرُ على مَنعِهم.
هو الشيخُ، الإمامُ، القُدوَةُ، المُجتَهِد، شيخُ الإسلامِ، أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن عليِّ بن يوسفَ الفيروزاباذي الشِّيرازيُّ، الشافعيُّ، الأشعريُّ, نَزيل بغدادَ، قِيلَ: لَقَبُه جَمالُ الدِّينِ، وُلِدَ سَنةَ 393هـ في قَريةِ فيروزباذ من قُرَى فارس، وقِيلَ: هي مَدينَة خوارزم، وهو شيخُ الشافعيةِ في عَصرِه, ومُدَرِّسُ النِّظاميَّةِ ببغداد، تَفَقَّه بفارس على أبي عبدِ الله البَيضاوي، ثم قدم بغداد سَنةَ خَمس عشرة وأربعمائة، فتَفَقَّه على القاضي أبي الطَّيِّبِ الطَّبريِّ، وبَرَعَ على يَدِه، وصار مُعيدَهُ، وكان يُضرَب المَثَلُ بفَصَاحَتِه وقُوَّةِ مُناظَرتِه. وسَمِعَ الحَديثَ من ابنِ شاذان والبرقاني، وكان عابِدًا وَرِعًا، مُتواضِعًا، ظَريفًا، كَريمًا، جَوَادًا، طَلْقَ الوَجْهِ، دائِمَ البِشْرِ، مَليحَ المُحاوَرَةِ، زاهِدًا، جاءَتهُ الدُّنيا صاغِرةً، فأَبَاهَا، واقتَصرَ على خُشونَةِ العَيْشِ أيامَ حَياتِه. كان كَبيرَ القَدْرِ مُعَظَّمًا مُحتَرمًا إمامًا في الفِقْهِ والأُصولِ والحَديثِ، وفُنونٍ كَثيرةٍ. رَحلَ الناسُ إليه من البلادِ، وقَصَدوهُ، وتَفَرَّدَ بالعِلمِ الوافرِ مع السِّيرَةِ الجَميلةِ، والطَّريقَةِ المَرْضِيَّةِ. قال السَّمعانيُّ: سَمعتُ جَماعةً يقولون: "لمَّا قَدِمَ أبو إسحاقَ نيسابور رَسولًا تَلَقَّوهُ، وحَملَ إمامُ الحَرمَينِ غاشِيَتَهُ، ومَشَى بين يَديِه وقال: أَفتَخِرُ بهذا". وكان عامَّةُ المُدَرِّسِينَ بالعِراقِ والجِبالِ تَلامِذتَهُ وأَتباعَهُ, وكان يُنشِد الأَشعارَ المَلِيحَةَ، ويُورِدُها، ويَحفَظ منها الكَثيرَ. قال محمدُ بن عبدِ المَلِكِ الهمذانيُّ: حَكَى أبي قال: "حَضرتُ مع قاضي القُضاةِ أبي الحَسنِ الماوردي عَزاءً، فتَكلَّم الشيخُ أبو إسحاقَ واجلا وأَجادَ، فلمَّا خَرَجنا، قال الماورديُّ: ما رَأيتُ كأبي إسحاقَ! لو رَآهُ الشافعيُّ لتَجَمَّلَ به" قال خَطيبُ المَوصِل أبو الفضلِ: "حَدَّثنِي أبي قال: تَوجَّهتُ من المَوصِل سَنةً إلى أبي إسحاقَ، فلمَّا حَضرتُ عنده رَحَّبَ بي، وقال: مِن أين أنت؟ فقلتُ: من المَوصِل. قال: مرحبًا أنت بَلدِيِّي. فشاهدتُ من حُسْنِ أَخلاقِه ولَطافَتِه وزُهدِه ما حَبَّبَ إليَّ لُزومَه، فصَحِبتُه إلى أن مات" له مُصنَّفاتٌ كَثيرةٌ نافعةٌ، كـ((المُهَذَّبِ)) في المَذهبِ، و((التنبيه))، و((النكت في الخِلاف))، و((اللمع في أصول الفقه))، و((التبصرة))، و((طبقات الشافعية)) وغيرِ ذلك، تُوفِّي لَيلةَ الأَحدِ الحادي والعشرين في دارِ أبي المُظَفَّرِ ابنِ رَئيسِ الرُّؤساءِ، وغَسَّلَهُ أبو الوَفاءِ بن عقيل الحنبليُّ وصَلَّى عليه ببابِ الفردوس من دارِ الخِلافةِ، وشَهِدَ الصلاةَ عليه المُقتدِي بأَمرِ الله، وتَقدَّم للصلاةِ عليه أبو الفَتحِ المُظفَّر ابنُ رَئيسِ الرُّؤساءِ، ثم صُلِّيَ عليه مَرَّةً ثانيةً بجامعِ القَصرِ، ودُفِنَ ببابِ إبرز في تُربَةٍ مُجاورةٍ للناحيةِ.
هو الشيخُ أبو عبد الله محمد بن الشيخ المفتي زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل شيخِ الشافعية في زمانه، وأشهَرُهم في وقته بكثرة الاشتغالِ والمطالعة والتحصيل والافتنان بالعلوم العديدة، وقد أجاد معرفةَ المذهب والأصلين، ولم يكن بالنحوِ بذاك القويِّ، وكان يقع منه اللَّحنُ الكثير، مع أنه قرأ منه المفَصَّل للزمخشري، وكانت له محفوظاتٌ كثيرة، ولد في شوال سنة 665، وسمِعَ الحديث على المشايخ، من ذلك مسند أحمد على ابن علان، والكتب الستَّة، وكان يتكَلَّم على الحديث بكلام مجموعٍ من علوم كثيرة، من الطبِّ والفلسفة وعلم الكلام، وليس ذلك بعلمٍ، وعلوم الأوائل، وكان يكثر من ذلك، وكان يقول الشعرَ جَيِّدًا، وله ديوانٌ مجموع مشتَمِلٌ على أشياء لطيفة، وكان له أصحابٌ يحسدونه ويحبُّونه، وآخرون يحسدونه ويُبغِضونه، وكانوا يتكَلَّمون فيه بأشياء ويرمونه بالعظائِمِ، وقد كان مسرفًا على نفسِه، قد ألقى جلبابَ الحياءِ فيما يتعاطاه من القاذورات والفواحش، وكان أحَدَ خصومِ شَيخِ اسلام ابن تيمية ينصِبُه العداوة ويناظِرُه في كثير من المحافل والمجالس، وكان يعترف للشيخ تقي الدينِ بالعلوم الباهرةِ ويُثني عليه، ولكِنَّه كان يجاحِفُ عن مذهبه وناحيته وهواه، وينافِحُ عن طائفته، وقد كان شيخُ الإسلام ابن تيمية يثني عليه وعلى علومِه وفضائِلِه ويشهَدُ له بالإسلامِ إذا قيل له عن أفعالِه وأعماله القبيحة، وكان يقول: "كان مخَلِّطًا على نفسِه مُتَّبِعًا مراد الشيطان منه، يميلُ إلى الشهوة والمحاضرة، ولم يكنْ كما يقول فيه بعضُ أصحابه ممن يحسده ويتكَلَّم فيه هذا أو ما هو في معناه، وحين بلغ شيخَ الإسلام ابن تيمية وفاتُه قال: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدرَ الدينِ" وقد درَّس بعِدَّة مدارس بمصر والشام، ودرس بدمشق بالشاميتين والعذراوية ودار الحديث الأشرفية، وولي في وقت الخطابة أيامًا يسيرة، ثم قام الخلقُ عليه وأخرجوها من يَدِه، ولم يَرْقَ مِنبَرَها، ثم خالط نائِبَ السلطنة الأفرم فجَرَت له أمور لا يمكِنُ ذِكرُها ولا يحسن من القبائحِ، ثم آل به الحالُ على أن عزم على الانتقالِ مِن دمشق إلى حلب لاستحواذه على قلب نائبِها، فأقام بها ودرَّس، ثم استقر به المنزل بمصر ودرس فيها بمشهد الحسين إلى أن توفي بها بكرة نهار الأربعاء رابع عشرين ذي الحجة بداره قريبا من جامع الحاكم، ودفن من يومه قريبا من الشيخ محمد بن أبي جمرة بتربة القاضي ناظر الجيش بالقرافة، ولما بلغت وفاته دمشق صلي عليه بجامعها صلاة الغائب, ورثاه جماعة منهم ابن غانم علاء الدين، والقجقازي والصفدي، لأنهم كانوا من عشرائه.
هو الشَّيخُ الزَّاهِدُ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن الحاج الفاسي المغربي نزيلُ مِصرَ العَبدري الفقيه المالكي عُرِفَ بابنِ الحاجِّ، وأخذ عن جماعةٍ منهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد بن أبي جمرة، قَدِمَ القاهرة وسَمِعَ بها الحديث وحَدَّث بها وهو أحدُ المشايخ المشهورين بالزُّهدِ والخير والصلاح، صَحِبَ جماعة من الصلحاء أربابِ القلوب وتخَلَّق بأخلاقهم وأخذ عنهم الطريقةَ, وصَنَّف كتابه المشهور "المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدع والعوائد التي انتحلت وبيان شناعتها وقبحها" قال عنه ابن حجر: " جمع ابن الحاجِّ كتابًا سَمَّاه المدخَل كثير الفوائد كشف فيه من معايبَ وبِدَع يفعلها الناسُ ويتساهلون فيها، وأكثَرُها مما ينكَرُ وبَعضُها مما يُحتَمَل". #قال الألباني عن هذا الكتاب ما نصه: "قولُ بَعضِهم: إنه ينبغي ألَّا يذكُرَ حوائِجَه ومغفرةَ ذُنوبِه بلِسانِه عند زيارةِ قَبرِه صَلَّى الله عليه وآله وسلم لأنَّه أعلَمُ منه بحوائِجِه ومصالحه! ومما يؤسَفُ له أن هذه البدعة واللتين بعدها قد نقلتها من «كتاب المدخل» لابن الحاج (1/ 259، 264) حيث أوردها مسلِّمًا بها كأنَّها من الأمور المنصوصِ عليها في الشِّريعةِ، وله من هذا النحو أمثلة كثيرة سبق بعضُها دون التنبيه على أنها منه، وسنذكر قسمًا كبيرًا منها في الكتابِ الخاصِّ بالبدع إن شاء الله تعالى، وقد تعجَّبَ من ذلك لِما عُرِف أن كتابه هذا مَصدرٌ عظيم في التنصيص على مفردات البدع، وهذا الفصل الذي خَتَمتُ به الكتاب (أحكام الجنائز) شاهِدٌ عدل على ذلك، ولكِنَّك إذا علمت أنَّه كان في عِلمِه مُقَلِّدًا لِغَيره، ومتأثرًا إلى حد كبير بمذاهِبِ الصوفية وخُزَعبلاتها، يزول عنك العَجَبُ وتزداد يقينًا على صِحَّةِ قول مالك: "ما مِنَّا من أحد إلا رَدَّ ورُدَّ عليه الا صاحِبُ هذا القبر" صلَّى الله عليه وآله وسلم, و قوله- ابن الحاج-: لا فَرقَ بين موتِه صَلَّى الله عليه وآله وسلم وحياتِه في مشاهدتِه لأُمَّتِه ومعرفتِه بأحوالِهم ونيَّاتِهم وتحَسُّراتهم وخواطِرِهم! قال شيخ الإسلام في "الرد على البكري" (ص 31): "ومنهم من يظنُّ أن الرَّسولَ أو الشيخَ يَعلَمُ ذنوبه وحوائِجَه وإن لم يذكُرْها، وأنه يَقدِرُ على غفرانِها وقضاء حوائجه ويَقدِرُ على ما يقدِرُ الله، ويَعلَمُ ما يعلم الله، وهؤلاء قد رأيتُهم وسَمِعتُ هذا منهم وعنهم شيوخٌ يقتدى بهم، ومُفتون وقضاة ومدرسون! والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله" توفي ابن الحاج عن بضع وثمانين، وكانت وفاته في العشرين من جمادى الأولى، ودُفِنَ بالقرافة وقد عَلَت سِنُّه وكُفَّ بَصَرُه، وكانت جنازتُه عظيمةً.
بينما أيبك البدريُّ في أمْرِه ونَهْيِه بمصرَ، ورد عليه الخبَرُ بعصيان نوَّاب الشامِ، ففي الحال علَّق أيبك جاليش السفر في التاسع عشر من ربيع الأوَّل ورسم للعساكر بالتجهيز إلى سفر الشام وأسرع بالنفقةِ على العساكر وتجهَّزَ في أسرع وقت وخرج الجاليش من القاهرة إلى
الريدانية في السادس والعشرين من ربيع الأول، وهم خمسةٌ من أمراء الألوف ومائةُ مملوك من المماليك السلطانية، ومائةُ مملوك من مماليك الأتابك أيبك، وفي التاسِعِ والعشرين من ربيع الأول خرج طلَبُ السلطان الملك المنصور، ثم استقَلُّوا بالمسير قاصدينَ البلاد الشامية، وساروا حتى وصلوا بلبيس، ثم رجعوا على أعقابِهم بالعساكر إلى جهة الديار المصرية، وخبَرُ ذلك أن قطلوخجا أخا أيبك مُقَدَّم الجاليش بلغه أنَّ الجماعة الذين معه مخامِرون، وأنهم أرادوا أن يكبِسوا عليه، فاستقَصَّ الخبَرَ حتى تحققه، فرَكِبَ مِن وقته وساعته وهرب في الحال، وهو في ثلاثةِ أنفس، عائدًا إلى أخيه أيبك فاجتمع به وعَرَّفه الخبر، ففي الحال أخذ أيبك السلطانَ ورجع به إلى نحو القاهرة حتى وصلها في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر، وطلع به إلى قلعةِ الجبل، وأنزل الأتابك أيبك السلطانَ المَلِكَ المنصور إلى الإسطبل السلطاني، وجاءه بعض أمراء من أصحابه، ثم أخذ أيبك في إصلاحِ أمْرِه، وبينما هو في فلك بلَغَه أنَّ الأمير قطلقتمر العلائي الطويل والأمير ألطنبغا السلطاني، وكانا رجَعا معه من بلبيس، ركبا بجماعَتِهما في نصف الليل، ومعهما عِدَّة من الأمراء وسائر المماليك السلطانية، وخرج الجميعُ إلى قبة النصر موافَقةً لِمن كان من الأمراءِ بالجاليش، فجهز أيبك الأمير قطلوخجا في مائتي مملوك لقتال هؤلاء، فخرج بهم قطلوخجا إلى قبة النصر، فتلقَّاه القوم وحملوا عليه، فانكسر ومُسِكَ، فلما بلغ أيبكَ ذلك، جهَّز الأمراء الذين كانوا بقلعة الجبل، وأرسلهم إلى قُبَّةِ النصر، هذا وقد ضعف أمر أيبك وخارت قواه؛ فإنه بلغه أنَّ جميع العساكر اتَّفَقَت على مخالفته، حتى إنَّه لم يعلم من هو القائِمُ بهذا الأمر لكثرةِ من خرج عليه، فلما رأى أمرَه في إدبار، ركب فَرَسَه ونزل من الإسطبل السلطاني من غير قتال، وهرب إلى ناحيةِ كيمان مصر، ولما استولت الأمراءُ على القلعة ألزموا واليَ القاهرة ومصر بإحضاره، فنُودِيَ عليه بالقاهرة ومصر، وهدِّدَ من أخفاه بأنواعِ النَّكال، فخاف كلُّ أحد على نفسه من تقريبه، فلم يجِدْ أيبك بدًّا من طلب الأمان من الأميرِ يلبغا الناصري فأمَّنَه بعد مدة، فطلع أيبك إليه، فحالَ وقَعَ بَصَرُ القوم عليه قبضوه، وأرسلوه مقَيَّدًا إلى سجن الإسكندرية، وكان ذلك آخِرَ العهد به، أما الأمراءُ فإنهم لما بلَغَهم هروب أيبك من قلعة الجبل رَكِبَ الجميع من قبة النصر وطلعوا إلى الإسطبلِ السلطاني من القلعة، وصار المتحدث فيهم قطلقتمر العلائي الطويل، وضرب رنكه على إسطبل شيخون بالرميلة تجاه باب السلسلة، وأقام ذلك اليومَ مُتحَدِّثًا، فأشار عليه مَن عنده من أصحابه أن يسلطنَ سلطانًا كبيرًا يرجِعُ الناس إلى أمْرِه ونهيه، فلم يفعَلْه وقال: حتى يأتيَ إخوانُنا- يعني الأمراء الذين كانوا بالجاليش مع قطلوبغا- ثم حضرت الأمراءُ الذين كانوا بالجاليش إلى الإسطبل السلطاني، وهم جمعٌ كبير ممن أنشأه أيبك وغيرُهم، وتكَلَّموا فيمن يكون إليه تدبيرُ الملك، واشتوروا في ذلك، فاختلفوا في الكلام، وظهر للقادمينَ الغَدرُ مِمَّن كان بالإسطبل السلطاني، فقبضوا على جماعة منهم وقَيَّدوا الجميع، وأُرسلوا إلى الإسكندرية صحبة جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب، واتفقوا على أن يكون المتكَلِّم في المملكة الأمير يلبغا الناصري، فصار هو المتحَدِّثَ في أحوال الملك، وسكن الإسطبلُ السلطاني، وأُرسِلَ بإحضار الأمير طشتمر العلائي الدوادار نائب الشام، ثمَّ في يوم الأحد تاسع شهر ربيع الآخر، لما تزايد الفَحصُ على أيبك حضر أيبك بنفسه إلى عند الأمير بلاط، فطلع به بلاط إلى يلبغا الناصري بعد أن أخذ له منه الأمانَ حَسَب ما تقدَّمَ ذِكرُه، ولم تطُلْ أيام يلبغا الناصري في التحدث، وظهر منه لِينُ جَنب، فاتفق برقوق وبركة- وهما حينذاك من أمراء الطبلخانات، لهما فيها دون الشهرين - مع جماعةٍ أُخَرَ وركبوا في سادس عشر شهر ربيع الآخر، وركبت معهم خشداشيتهم- زملاء المهنة- من المماليك اليلبغاوية، ومسكوا دمرداش اليوسفي، وتمرباي الحسني، وآقبغا آص الشيخوني، وقطلوبغا الشعباني، ودمرداش التمان تمري المعلم، وأسندمر العثماني، وأسنبغا تلكي، وقُيِّدوا وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية فسُجِنوا بها، فصار برقوق العثماني هو متولي السَّلطنةِ، فسكن القصر وكان هذا بدايةَ التمَكُّن للماليك الشَّراكِسةِ.
كان أبو سَلمةَ عبدُ الله بنُ عبدِ الأسدِ أوَّلَ مَن هاجر إلى المدينةِ مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ المُهاجرين مِن قُريشٍ مِن بني مَخزومٍ، وكانتْ هِجرتُه إليها بعدَ بَيعةِ العَقبةِ الأولى، وقبلَ بَيعةِ العَقبةِ الثَّانيةِ، حين آذتْهُ قُريشٌ بعدَ مَرجعِهِ مِنَ الحَبشةِ، فعزم على الرُّجوعِ إليها، ثمَّ بَلغهُ أنَّ بالمدينةِ لهم إخوانًا، فعزم في الهِجرةِ إليها.
قالتْ أمُّ سَلمةَ: لمَّا أجمع أبو سَلمةَ الخُروجُ إلى المدينةِ رَحَّلَ لي بَعيرَهُ ثمَّ حملَني عليه، وجعل معي ابْنِي سَلمةَ بنَ أبي سَلمةَ في حِجْري، ثمَّ خرج يقود بي بَعيرَهُ، وانطلق به بنو عبدِ الأسدِ، وحبسني بنو المُغيرةِ عندهم وانطلق زوجي أبو سَلمةَ إلى المدينةِ. قالتْ: ففُرِّق بيني وبين ابْنِي وبين زوجي. قالت: فكنتُ أخرُج كُلَّ غَداةٍ فأجلِسُ في الأَبْطَحِ، فما أزالُ أبكي حتَّى أُمْسي، سَنَةً أو قريبًا منها، حتَّى مَرَّ بي رجلٌ مِن بني عَمِّي أحدُ بني المُغيرةِ، فرأى ما بي فرحِمَني، فقال لِبَني المُغيرةِ: ألا تحرجون من هذه المِسكينةِ؟ فرَّقتُم بينها وبين زوجِها وبين ولدِها؟ قالت: فقالوا لي: الْحَقي بزوجِك إن شئتِ. قالت: فَرَدَّ بنو عبدِ الأسدِ إليَّ عند ذلك ابْنِي، قالت: فارتحلتُ بعيري، ثمَّ أخذتُ ابْنِي فوضعتُه في حِجْري، ثمَّ خرجتُ أُريدُ زوجي بالمدينةِ. قالت: وما معي أحدٌ من خَلقِ الله، حتَّى إذا كنتُ بالتَّنعيمِ لَقيتُ عُثمانَ بنَ طلحةَ بنِ أبي طلحةَ أخا بني عبدِ الدَّارِ، فقال: إلى أين يا ابنةَ أبي أُميَّةَ؟ قلتُ: أُريدُ زوجي بالمدينةِ. قال: أَوَمَا معكِ أحدٌ؟ قلتُ: ما معي أحدٌ إلَّا الله وابْنِي هذا. فقال: والله ما لكِ مِن مَتْرَكٍ. فأخذ بخِطامِ البَعيرِ فانطلق معي يَهْوي بي، فَوَالله ما صَحِبتُ رجلًا مِن العربِ قَطُّ أَرى أنَّه كان أَكرمَ منه، كان إذا بلغ المنزِلَ أناخ بي، ثمَّ استأخر عنِّي حتَّى إذا نزلتُ استأخر ببعيري فحَطَّ عنه ثمَّ قيَّدهُ في الشَّجرِ، ثمَّ تنحَّى إلى شجرةٍ فاضطجع تحتها. فإذا دَنا الرَّواحُ قام إلى بعيري فقدَّمهُ فَرَحَّلَهُ، ثمَّ استأخر عنِّي وقال: ارْكَبي. فإذا رَكِبْتُ فاستويتُ على بعيري أتى فأخذ بخِطامهِ فقادَني حتَّى يَنزِلُ بي، فلمْ يَزلْ يصنعُ ذلك بي حتَّى أَقْدَمَني المدينةَ، فلمَّا نظر إلى قريةِ بني عَمرِو بنِ عَوفٍ بقُباءٍ قال: زوجُكِ في هذه القريةِ. وكان أبو سَلمةَ بها نازلًا، فادْخُليها على بركةِ الله. ثمَّ انصرف راجعًا إلى مكَّةَ. فكانت تقولُ أمُّ سَلمةَ: ما أعلمُ أهلَ بيتٍ في الإسلامِ أصابهم ما أصاب آلَ أبي سَلمةَ، وما رأيتُ صاحبًا قَطُّ كان أكرمَ مِن عُثمانَ بنِ طلحةَ. أَسلمَ عُثمانُ بنُ طلحةَ بنِ أبي طلحةَ العَبْدَريُّ بعدَ الحُدَيبيةِ.
جازَ يوسفُ بن تاشفين ثانِيةً وتَثاقَلَ أُمراءُ الطَّوائفِ عن لِقائِه لِمَا أَحَسُّوا مِن نَكيرِه عليهم أَخذَهُم المُكوسَ، فوَجَدَ عليهم، وعَهِدَ بِرَفعِ المُكوسِ وتَحرِّى العَدل، فلمَّا أَجازَ انقَبَضوا عنه إلا ابنَ عبَّادٍ فإنه بادَرَ إلى لِقائِه, وتَوافَقَ مُلوكُ الطَّوائفِ على قَطْعِ المَدَدِ عن عَساكرِه ومحلاتِه فساءَ نَظرُه، قال ابنُ خَلدون: "وأَفتاهُ الفُقهاءُ وأَهلُ الشُّورَى من المَغرِب والأَندَلُس بخَلعِهم وانتِزاعِ الأَمرِ من أَيدِيهم، وصارَت إليه بذلك فَتاوَى أَهلِ الشرقِ الأَعلامِ مثل: الغَزَالي والطَّرطوشي"، فاتَّجَهَ إلى غرناطة واستَنزَل صاحِبَها عُبيدَ الله بن بلكّين بن باديس وَأخاهُ تَميمًا من مالقة بعدَ أن كان منهما مُداخلةُ الطَّاغِيَة ألفونسو في عَداوَةِ يوسف بن تاشفين، وبَعَثَ بهما إلى المَغرِب فخافَ ابنُ عبَّادٍ عند ذلك منه وانقَبَضَ عن لِقائِه وفَشَت السِّعاياتُ بينهما. ونَهَضَ يُوسفُ بن تاشفين إلى سَبتَة فاستَقرَّ بها، وعَقَدَ للأَميرِ سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأَندلسِ وأَجازَهُ فقَدِمَ عليها، وقَعَدَ ابنُ عبَّادٍ عن تَلَقِّيهِ ومَبَرَّتِه فأَحفَظَهُ ذلك، وطالَبَهُ بالطَّاعَةِ للأَميرِ يوسف والنُّزولِ عن الأَمرِ، ففَسَدَ ذاتُ بينِهما، وغَلَبَهُ على جَميعِ عَمَلِه. واستَنزَلَ أَولادَ المأَمونِ من قُرطبة، ويَزيدَ الرائضَ من رندة وقرمونة، واستَولَى على جَميعِها وقَتَلَهم. وصَمَدَ إلى إشبيليّة فحاصَرَ المُعتَمِد بها وضَيَّقَ عليه، واستَنجَدَ الطاغِيَة فعَمَدَ الى استِنقاذِه من هذا الحِصارِ، فلم يُغنِ عنه شَيئًا، وكان دِفاعُ لمَتونَة ممَّا فَتَّ في عَضُدِه، ودَخلَ المُرابِطون قُرطبة سَنةَ 484هـ, واقتَحمَ والمُرابِطون إشبيليّة عليه عُنوةً سَنةَ 484هـ وتقبّض وقَبَضَ على المُعتَمِد وقادَهُ أَسيرًا إلى مَراكش، فلم يَزَل في اعتِقالِ يوسف بن تاشفين إلى أن هَلَكَ في مَحبَسِه بأغمات سَنةَ 490هـ، ثم عَمَدَ إلى بطليوس وتقبّض وقَبَضَ على صاحبها عُمرَ بنَ الأَفطَس فقَتَلَه وابنَيْهِ يومَ الأضحى سَنةَ 489هـ بما صَحَّ عنده مِن مُداخَلَتِهم الطاغية، وأن يُمَلِّكوهُ مَدينةَ بطليوس، ثم أجازَ يوسفُ بن تاشفين الجوازَ الثالثَ سَنةَ 490هـ وزَحَفَ إليه الطاغية فبَعثَ عَساكرَ المُرابِطين لنظر محمد بن الحاج فانهَزمَ النَّصارَى أَمامَه، وكان الظهورُ للمُسلِمين. ثم أَجازَ الأَميرُ يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سَنةَ 493هـ، وانضَمَّ إليه محمدُ بن الحاج، وسيرُ بنُ أبي بكر، واقتَحَموا عامَّةَ الأندلسِ من أَيدِي مُلوكِ الطَّوائفِ، ولم يَبقَ منها إلا سرقسطة في يَدِ المُستَعينِ بن هود الذى كان قد أَبلَى بَلاءً حَسَنًا في جِهادِ النَّصارَى جَعلَت ابنُ تاشفين يُبقِيه في مُلكِه، وصار سَدًّا مَنيعًا في حِمايَةِ الثُّغورِ الشماليَّةِ من هَجَماتِ النَّصارَى, قال الذهبيُّ: "سالَمَ المُستَعِينُ بالله ابنُ هود صاحِبُ شَرقِ الأندلسِ ابنَ تاشفين، وكان يَبعَثُ إليه بالتُّحَفِ. وكان هو وأَجنادُه ممَّن يُضرَب بهم المَثَلُ في الشَّجاعَةِ، فلمَّا احتَضَر يوسفُ بن تاشفين أَوْصَى وَلَدَهُ عَلِيًّا بِبَنِي هود، وقال: اترُكهُم بينَك وبين العَدُوِّ، فإنَّهم شُجعانٌ" وغَزَا الأَميرُ مزدلي صاحِبُ بلنسية إلى بَلدِ برشلونة فأَثخَنَ بها وبَلَغَ إلى حيث لم يَبلُغ أَحدٌ قَبلَهُ، ورَجَعَ.