وقعَ غَلاءٌ وفَناءٌ عَظيمان ببغداد وغَيرِها مِن البلادِ، بحيث خَلَتْ أَكثرُ الدُّورِ وَسُدَّتْ على أَهلِها أَبوابُها بما فيها، وأَهلُها مَوتى فيها، ثم صار المارُ في الطَّريقِ لا يَلقى الواحدَ بعدَ الواحدِ، وأكلَ النَّاسُ الجِيَفَ والنَّتَنَ مِن قِلَّةِ الطَّعامِ، ووُجِدَ مع امرأةٍ فَخِذُ كَلْبٍ قد اخْضَرَّ, وشَوَى رَجلٌ صَبِيَّةً في الأَتُونِ وأَكَلَها، وسَقطَ طائرٌ مَيِّتٌ مِن حائطٍ فاحْتَوَشَتْهُ خمسُ أَنفُسٍ فاقتَسموهُ وأَكلوهُ. قال ابنُ الجوزي يَصِفُ خبرَ هذا الوباءِ: " في جُمادى الآخِرة: وَردَ كِتابٌ مِن تُجَّارِ ما وَراءَ النَّهرِ قد وقع في هذه الدِّيارِ وَباءٌ عَظيمٌ مُسرِفٌ زَائِدٌ عن الحَدِّ، حتى أنَّه خَرجَ من هذا الإقليمِ في يَومٍ واحدٍ ثمانية عشر ألف جِنازةٍ، وأحصى مَن مات إلى أن كُتِبَ هذا الكِتاب فكانوا ألف ألف وستمائة ألف وخمسين ألفًا، والنَّاسُ يَمُرُّون في هذه البلادِ فلا يَرونَ إلَّا أسواقًا فارغةً، وطُرقاتٍ خاليةً، وأبوابًا مُغلقةً، حتى إنَّ البَقرَ نَفَقَت. وجاء الخَبرُ من أذربيجان وتلك البلادِ بالوباءِ العظيمِ، وأنَّه لم يَسْلَم من تلك البلادِ إلا العَددُ اليَسيرُ جدًّا. وَقعَ وباءٌ بالأهواز وبواط وأَعمالِها وغَيرِها، حتى طَبَقَ البلادَ، وكان أكثرَ سَببِ ذلك الجوعُ، كان الفقراءُ يَشوون الكِلابَ، ويَنبُشون القُبورَ، ويَشوون المَوتى ويَأكلُونهم، وليس للناسِ شُغلٌ في اللَّيلِ والنَّهارِ إلا غَسلُ الأمواتِ وتَجهيزُهُم ودَفنُهُم، فكان يُحفَر الحُفَير فيُدفَن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسانُ بينما هو جالس إذ انشَقَّ قَلبُه عن دَمِ المُهْجَةِ، فيَخرُج منه إلى الفَمِ قَطرةٌ فيموتُ الإنسانُ مِن وَقتِه، وتاب النَّاسُ، وتَصدَّقوا بأَكثرِ أَموالِهم فلم يَجِدوا أحدًا يَقبَل منهم، وكان الفَقيرُ تُعرَض عليه الدَّنانيرُ الكَثيرة والدَّراهِم والثِّياب فيقول: أنا أُريدُ كَسرةً، أُريدُ ما يَسُدُّ جُوعي. فلا يجد ذلك، وأَراقَ النَّاسُ الخُمورَ وكَسَروا آلات اللَّهوِ، ولَزِموا المساجِدَ للعِبادةِ وقِراءةِ القُرآن, وفي يومِ الأربعاءِ لِسَبعٍ بَقِينَ مِن جُمادى الآخرة احتَرقَت قَطِيعةُ عيسى، وسُوقُ الطَّعامِ، والكَنِيسُ، وأَصحابُ السَّقْطِ، وبابُ الشَّعيرِ، وسُوقُ العَطَّارين، وسُوقُ العَروسِ، والأَنماطِيِّين، والخَشَّابين، والجَزَّارين، والتَّمَّارين، والقَطيعَةُ، وسُوقُ مُخَوَّل، ونَهرُ الزُّجاجِ، وسُوَيْقَةُ غالبٍ، والصَّفَّارين، والصَّبَّاغين، وغَيرُ ذلك مِن المواضع، وهذه مُصيبةٌ أُخرى إلى ما بالنَّاسِ مِن الجُوعِ والغَلاءِ والفَناءِ، فضَعُفَ النَّاسُ حتى طَغَت النَّارُ فعَمِلَت أَعمَالَها، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".
كانت فتنةٌ عَظيمةٌ بعَسكَرِ غياث الدين، مَلِك الغور وغزنة، وهو بفيروزكوه، عَمَّت الرعية والملوك والأمراء، وسَبَبُها أن الفخر محمد بن عمر بن الحسين الرازي، الإمامُ المشهور، الفقيهُ الشافعيُّ، فارق بهاءَ الدين صاحِبَ باميان وقَصَد غياثَ الدين الغوري خال بهاء الدين، فالتقاه وبجَّلَه وأنزله، وبنى له مدرسةً، وقَصَده الفُقَهاءُ من النواحي، فعظم ذلك على الكرَّامية، وهم خلقٌ بهراة، وكان أشد الناس عليه ابنَ عم غياث الدين وزَوج بنته، الملك ضياء الدين، فاتفق حضورُ الفُقَهاء الكرَّامية والحنفية والشافعيَّة، وفيهم فخر الدين الرازي، والقاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر بن القدوة، وهو من الكرَّامية الهيصمية، وله عندهم محلٌّ كبير لزُهدِه وعِلمِه وبيته، فلمَّا اجتمعوا عند غياث الدين بفيروزكوه للمناظرة. فتكلَّم الرازي، فاعترض عليه ابن القدوة، وطال الكلامُ، فقام غياث الدين فاستطال عليه الفَخرُ، وسَبَّه وشَتَمَه، وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيد على أن يقولَ: لا يفعل مولانا إلا وأخذك الله، أستغفر الله؛ فانفصلوا على هذا، وقام ضياءُ الدين في هذه الحادثة وشكا إلى غياثِ الدين، وذَمَّ الفخرَ، ونسبه إلى الزندقة ومَذهَب الفلاسفة، فلم يُصْغِ غياث الدين إليه، فلما كان الغدُ وعظ ابن عم المجد بن القدوة بالجامِعِ، فلما صَعِدَ المنبرَ قال بعد أن حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا اللهُ، ربَّنا آمَنَّا بما أنزلْتَ واتَّبَعْنا الرَّسولَ فاكتُبْنا مع الشَّاهِدينَ، أيُّها الناسُ، إنَّا لا نقولُ إلا ما صَحَّ عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما عِلمُ أرسطاطاليس، وكفريَّات ابن سينا، وفلسفة الفارابي، فلا نعلَمُها، فلأيِّ حالٍ يُشتَمُ بالأمس شيخٌ من شيوخ الإسلام يَذُبُّ عن دين الله، وعن سُنة نبيه؟! وبكى وضَجَّ النَّاسُ، وبكى الكرَّامية واستغاثوا، وأعانهم مَن يُؤثِرُ بُعدَ الفخر الرازي عن السلطان، وثار النَّاسُ من كل جانب، وامتلأ البلدُ فِتنةً، وكادوا يَقتَتِلون، ويجري ما يَهلِكُ فيه خلقٌ كثير، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعةً مِن عنده إلى الناسِ وسَكَّنَهم، ووعدهم بإخراجِ الفَخرِ الرازي من عندهم، وتقَدَّمَ إليه بالعَودِ إلى هراة، فعاد إليها.
هو السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ المأمون بن أحمد المنصور الذهبي، ملك السعديين في المغرب الأقصى. كان المأمونُ وَلِيَّ عهد أبيه المنصور وخليفتَه على فاس وأعمالها سائرَ مدة أبيه، وكان للمنصور اعتناءٌ تام به واهتمامٌ بشأنه حتى قيل إن المنصور كان لا يختِمُ على صندوق من صناديق المال إلا قال: "جعل الله فتحَه على يد ابنِه الشيخ رجاءَ أن يقوم بالأمر بعدَه، فلم يُقدَّرْ له، وخرج الأمرُ عن مرادِه؛ فقد أساء المأمون السيرةَ وأضَرَّ بالرعية، قال اليفرني: "كان فسيقًا خبيث الطويَّة مُولَعًا بالعبث بالصبيان، مدمنًا للخمر سفاكًا للدماء غير مكتَرِث بأمور الدين من الصلاة وشرائطها، ولَمَّا ظهر فساده وبان للناس عَوارُه، نهاه وزير أبيه القائد أبو إسحاق إبراهيم السفياني عن سوء فعلِه، فلم ينتَهِ واستمر على قبح سيرتِه، فأعاد عليه اللومَ فلَجَّ في مذهبِه، ولما أكثَرَ عليه مِن التقريع سقاه السمَّ فكان فيه حَتفُه, فلما كثرت قبائحُ المأمون وترددت الشكايات لأبيه، كتب إليه لينكَفَّ عن غيِّه وينزجر عن خبثِه، فما زاده التحذيرُ إلا إغراءً، فلما رأى المنصور أنه لم يكترثْ بأمرِه ولم ينزجِرْ عن قبائحه، عزم على التوجُّه إلى فاس بقصد أن يمكُرَ به ويؤدِّبَه بما يكون رادعًا له، فلما سمع الشيخ بذلك جمع عساكِرَه وهيأَ جنده لمدافعة أبيه، فتحيَّل عليه أبوه حتى أسَرَه ثم سجنه في مكناسة، وظل في سجنِه حتى أخرجه أخوه أبو فارس ليحارِبَ به أخاهما زيدان، وتمكن الشيخ وتغلب على أخيه زيدان، ثم على أبي فارس، وسيطر على حكم المغرب، فظلم الرعيةَ وأسرف على نفسِه إلى أن توفي في هذا العام. بعد تذمُّر وسخَط أهل تطوان ونواحيها من أفعال الشيخ المأمون، اجتمع أعيانُ القوم وتآمروا على قتل الشيخ وأتباعه، فقُتِل السلطان الشيخ المأمون في وسط محلَّتِه المعروفة بفج الفرس, وانتُهِبت تلك المحلة وتفرَّقت جموعه, وتولى بعده أخوه زيدان في حُكم المغرب.
هو أبو الحسَنِ عليُّ بن الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله، وهو الأصغر، وكان يلقَّب الملك المعظم، وكان أحبَّ ولدي الخليفة إليه، وقد رشَّحه لولاية العهد بعده، وعزَلَ ولده الأكبر عن ولاية العهدِ؛ لأجل أبي الحسن علي, وكان كريمًا كثير الصدقة والمعروف، حَسَن السيرة، محبوبًا إلى الخاص والعام، وكان سببُ موتِه أنَّه أصابه إسهالٌ فتوفِّيَ، وحَزِنَ عليه الخليفةُ حُزنًا لم يُسمَعْ بمثله، حتى إنه انقطع، ثم أُخرجَ نهارًا، ومشى جميعُ الناس بين يدي تابوتِه إلى تربة جدَّتِه عند قبر معروف الكرخي، فدُفِنَ عندها، ولما أُدخِل التابوت أُغلِقَت الأبواب، وسُمِعَ الصراخ العظيم من داخل التربة، فقيل إن ذلك صوتُ الخليفة, وأمَّا العامة ببغداد فإنَّهم وجدوا عليه وجدًا شديدًا، ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلًا ونهارًا، ولم تبق امرأةٌ إلَّا وأظهرت الحزن، وما سُمِعَ ببغداد مثل ذلك في قديمِ الزمانِ وحديثه. وتَرَك أبو الحسن ولدينِ أحدهما المؤيَّد أبو عبد الله الحسين، والموفَّق أبو الفضل يحيى.
غزا يمينُ الدَّولةِ مَحمودُ بنُ سبكتكين الهندَ، ولَمَّا وصَله خبَرُ دُخولِ إيلك التركي إلى بلادِه واستيلائِه عليها، رجَعَ مِن فورِه إلى بلادِه واستخلصَها مِن يَدِه، فلمَّا فرَغَ سار نحو الهندِ للغزاة، وسبَبُ ذلك أنَّ بعضَ أولادِ مُلوكِ الهند، يُعرَفُ بنواسه شاه، كان قد أسلَمَ على يَدِه، واستخلَفَه على بَعضِ ما افتتَحَه من بلادِهم، فلمَّا بلَغَه أنَّه ارتَدَّ عن الإسلامِ، ومالأَ أهلَ الكُفرِ والطُّغيانِ، سار إليه مُجِدًّا، فحين قارَبَه فَرَّ الهِنديُّ مِن بين يديه، واستعاد يمينُ الدَّولة تلك الوِلايةَ، وأعادها إلى حُكمِ الإسلام، واستخلَفَ عليها بعضَ أصحابِه، وعاد إلى غزنةَ.
خرجت سَريَّةٌ من طرسوسَ إلى بلادِ الرومِ، فوقع عليها العدوُّ، فاقتتلوا فاستظهَرَ الرُّومُ وأسَروا من المُسلمين أربعمائة رجل، فقُتِلوا صبرًا، وفيها سار الدُّمُسْتُق في جيشٍ عظيمٍ من الروم إلى مدينة دَبيل، وفيها نصر السُّبكيُّ في عسكرٍ يحميها، وكان مع الدُّمُستُق دَبَّابات ومجانيقُ معه مِزراقٌ يزرقُ بالنَّارِ عدَّةَ اثنى عشر رجلًا، فلا يَقِرُّ بين يديه أحدٌ من شدَّةِ نارِه واتِّصاله، فكان من أشدِّ شيءٍ على المسلمين، وكان الرامي به مباشِرُ القتالِ مِن أشجَعِهم، فرماه رجلٌ من المسلمين بسَهمٍ فقَتَله، وأراح اللهُ المسلمين من شرِّه، وكان الدُّمُسْتُق يجلِسُ على كرسي عالٍ يُشرِفُ على البلد وعلى عسكَرِه، فأمَرَهم بالقتالِ على ما يراه، فصبَرَ له أهل البلد، وهو ملازِمٌ القتال، حتى وصلوا إلى سور المدينة، فنَقَبوا فيه نقوبًا كثيرةً، ودخلوا المدينة، فقاتلهم أهلُها ومَن فيها من العسكرِ قتالًا شديدًا، فانتصر المسلمونَ، وأخرجوا الرومَ منها، وقتلوا منهم نحوَ عشرة آلاف رجلٍ.
اتفق في هذا العام أن اجتمع للسُّلطانِ الناصر محمد بن قلاوون بمصرَ مِن رُسُلِ الملوك ما لم يجتَمِعْ مثلُهم في دولة المماليك التركية، وهم: رسلُ صاحِبِ اليَمَنِ، ورسُلُ صاحبِ إسطنبول، ورسل الأشكري، ورسل متملِّك سيس، ورسُلُ أبي سعيد بن خربندا التتري، ورسُلُ ماردين، ورسُلُ ابن قرمان، ورُسُل ملك النوبة، وكُلُّهم يبذلونَ الطاعةَ للسُّلطانِ!
بعد أن سيطر الحلفاء على استانبول وألقِيَ القبضُ على رئيس الوزراء، وحُلَّت جمعيةُ الاتحاد والترقي، واغتيلَ أكثَرُ أعضائها، وأُقيل مصطفى كمال من منصبِه، وأعلنت الحكومة تمرُّدَ مصطفى كمال الذي ظهر بمظهرِ البطل الثائر حتى لقَّب نفسه بالغازي، فتقدَّم إلى الغرب من الأناضول، وحاصر أسكي شهر فانسحب الإنجليزُ منها دون مقاومة، فدخلها بصورة الفاتح ودخل قونية، وأعلن إجراءَ انتخابات جديدة بحيث تكون أنقرة مقرًّا للمجلس الجديد، فنجح أنصاره، واجتمع المجلس وبدأ يعمل على تشكيل جيشٍ خاصٍّ، أما الحكومة فسيطرت على كافةِ المناطق وبَقِيَت أنقرة وحدها، وكادت تسقط، فأذاع الحلفاء في هذا الوقت شروطَ معاهدة سيفر التي وافق عليها الخليفةُ ورئيس الوزراء الداماد فريد باشا مرغَمَينِ، ولما فيها من إجحافٍ بحقِّ الدولة المهزومة فقد ثار الأهالي؛ إذ تنص المعاهدة على: إقامة دولة في استانبول، آخر الولايات العربية من الدولة، إعطاءُ الاستقلال لأرمينيا، إعطاء كردستان استقلالًا ذاتيًّا، تُعطى تراقيا وجزر بحر إيجة لليونان، توضع المضائق تحت إشراف دولي، يوجِّهُ الحلفاءُ الجيشَ ويحدَّدُ عدد أفراده، يحِقُّ للحلفاء السيطرة على المالية، فبدأت ثورة الأهالي على الحكومة لتوقيعها المعاهدة، وبدأ مصطفى كمال الهجومَ على الحكومة الذي أعلن أنها عميلة، وبدأت كِفَّتُه ترجح، ودعت إنجلترا لعقد مؤتمر في لندن لإعادة النظر في معاهدة سيفر، ثم قوِيَ أمر مصطفى كمال، واتفق مع الدول الأخرى؛ إذ اتفق مع اليونان على إعطاء أزمير استقلالًا ذاتيًّا تحت حكم نصراني، وتنازل لروسيا عن باطوم في جورجيا، وانسحبت فرنسا من كيليكيا جنوب الأناضول بتركيا، وانسحبت إيطاليا من أنطاكية، واستطاع أن يهزم اليونانَ واضطرَّهم للانسحاب من تركيا، فظهر مصطفى كمال بصورة البطل المغوار!!!
اجتمع البربَرُ فقَدَّموا على أنفُسِهم سُلَيمانَ بنَ الحَكَمِ بنِ سُلَيمانَ بنِ عبد الرحمن الناصرِ، فنهض بالبربَرِ إلى الثَّغرِ واستجاش بالنَّصارى وأتى بهم إلى بابِ قُرطبةَ فبرَزَ إليه جماعةُ أهلِ قُرطبةَ، فلم تكُنْ إلَّا ساعةٌ حتى قُتِلَ مِن أهلِ قُرطبةَ نَيِّفٌ وعشرونَ ألفَ رجُلٍ في جبَلٍ هنالك يُعرَفُ بجبلِ قنطش، وهي الوقعةُ المشهورة، ذهب فيها من الخِيارِ والفُقَهاءِ وأئمَّةِ المساجِدِ والمؤذِّنينَ خَلقٌ كثيرٌ، واستتَرَ مُحمَّدُ بنُ هشام المهديُّ أيامًا ثمَّ لحِقَ بطُلَيطِلة، وكانت الثغورُ كُلُّها من طرطوشة إلى الأشبونة باقيةً على طاعتِه ودَعوتِه، واستجاش بالإفرنجِ وأتى بهم إلى قُرطبةَ، فبَرَز إليه سُلَيمانُ بنُ الحَكَمِ مع البربر إلى موضعٍ بقُربِ قُرطُبةَ على نحوِ بضعةَ عشر ميلًا يُدعَى دارَ البَقَر، فانهزم سُلَيمانُ والبربَرُ، واستولى المهديُّ على قُرطُبةَ ثمَّ خرج بعد أيَّامٍ إلى قتالِ جمهورِ البربر، وكانوا قد عاثُوا بالجزيرةِ، فالتَقَوا بموضعٍ يُعرَفُ بوادي أره، فكانت الهزيمة على مُحمَّدِ بنِ هشامٍ المهديِّ، وانصرف إلى قُرطُبةَ، فوثب عليه العَبيدُ مع واضحٍ الصَّقلبيِّ فقتلوه ورَدُّوا هِشامًا المؤيَّدَ، فكانت مدَّةُ ولاية المهديِّ منذ قام إلى أن قُتِلَ سبعة عشر شهرًا مِن جُملتِها السِّتَّة الأشهر التي كان فيها سُلَيمانُ بقُرطُبة، وكان هو بالثَّغرِ، وانقَرَض عَقِبُه فلا عَقِبَ له، فقام سُلَيمانُ بنُ الحكم يوم الجمعة لسِتٍّ خَلَونَ مِن شَوَّال سنة 399هـ وتلقَّبَ بالمُستعين بالله، ثمَّ دخل قُرطُبةَ في ربيع الآخر سنة 400ه، فتلقَّبَ حينئذ بالظَّافِرِ بحَولِ الله، مضافًا إلى المستعين بالله، ثمَّ خرج عنها في شوال مِن السنة بعينها، فلم يزل يجول بعساكِرِ البربَرِ معه في بلاد الأندلُسِ يُفسِدُ وينهَبُ ويُقفِرُ المدائِنَ والقُرى بالسَّيف والغارةِ، لا يُبقي البربرُ معه على صغيرٍ ولا كبيرٍ، ولا امرأةٍ، إلى أن دخل قُرطبةَ في صدر شوال سنة 403، وأُحضِرَ هِشامٌ المُؤَيَّدُ فخَلَعَه من الخلافةِ، وأمره بمبايعتِه، فبويع لسليمانَ هذا، ثمَّ قَبَض على القائِدِ واضحٍ قائِدِ هِشامٍ المُؤَيَّدِ وقَتَلَه.
كانت قلعةُ البيرة، وهي مُطِلَّة على الفرات من أرض الجزيرة، لشهاب الدين الأرتقي، وهو ابنُ عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تورتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان في طاعةِ نور الدين محمود بن زنكي، صاحِبِ الشام، فمات شهابُ الدين وملك القلعةَ بعده ولدُه وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلما كان هذه السنة أرسل صاحِبُ ماردين إلى عز الدين مسعود يطلبُ منه أن يأذن له في حَصْرِ البيرة وأخْذِها، فأذِنَ له في ذلك، فسار في عسكرِه إلى قلعة سميساط، وهي له، ونزل بها وسيَّرَ العسكر إلى البيرة، فحصرها، فلم يظفَرْ منها بطائل إلَّا أنهم لازموا الحصار، فأرسل صاحبُها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر، يطلب منه أن ينجدَه ويُرحِلَ العسكر المارديني عنه، ويكون هو في خدمته، كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك، وأرسل رسولًا إلى صاحِبِ ماردين يشفَعُ فيه، ويطلب أن يرحل عسكَره عنه، فلم يقبَلْ شفاعته، واشتغل صلاحُ الدين بالفرنج، فلما رأى صاحب ماردين طولَ مقام عسكره على البيرة، ولم يبلُغوا منها غرضًا، أمرهم بالرحيلِ عنها، وعاد إلى ماردين، فسار صاحبُ البيرة إلى صلاح الدين، وكان معه حتى عبر معه الفراتَ.
حَصَل اجتماعُ الأمراءِ والملوكِ، ببغداد، على خلافِ السُّلطانِ مسعود، والخُطبةِ للمَلِك داود بن أخيه السُّلطان محمود، فجمع السُّلطانُ مسعود العساكِرَ وسار إلى بغداد، ولَمَّا وصل السُّلطانُ نزل على بغداد وحَصَرها وجميعَ العساكِرِ فيها، وثار العيَّارون ببغداد وسائِرِ محالِّها، وأفسدوا ونَهَبوا، وقَتَلوا، وحصرهم السُّلطانُ نَيِّفًا وخمسين يومًا فلم يَظفَرْ بهم، فعاد إلى النهروان عازمًا على العَودِ إلى همذان، فوصله طرنطاي صاحِبُ واسط ومعه سفن كثيرة، فعاد إليها وعبَرَ فيها إلى غربيَّ دجلةَ، وأراد العَسكَرُ البغدادي مَنْعَه، فسبقهم إلى العبور، واختلفت كَلِمتُهم، فعاد الملك داودُ إلى بلاده وتفَرَّق الأمراء، وكان عماد الدين زنكي بالجانبِ الغربيِّ فعبَرَ إليه الخليفة الراشد بالله وسار معه إلى الموصِل في نفَرٍ يَسيرٍ مِن أصحابه، فلمَّا سَمِعَ السُّلطانُ مسعود بمفارقة الخليفة وزنكي بغداد سار إليها واستقَرَّ بها، ومنع أصحابَه من الأذى والنَّهبِ، وكان وصولُه مُنتصَفَ ذي القعدة، فسكنَ النَّاسُ واطمأنُّوا بعد الخوفِ الشَّديدِ، وأمَرَ فجُمِعَ القضاةُ والشُّهود والفُقَهاء وعَرَض عليهم اليمينَ التي حلف بها الراشِدُ بالله لمسعود، فأفتَوا بخروجه من الخلافةِ، فتقَدَّمَ السُّلطانُ بخَلعِه وإقامةِ مَن يَصلُحُ للخلافة، فخُلِعَ وقُطِعَت خُطبتُه في بغداد وسائِرِ البلاد، وكانت خلافتُه أحد عشر شهرًا وأحدَ عشر يومًا.
بعد رحيلِ صلاح الدين عن عكَّا إلى الخروبة لِمَرَضِه، سمع الفرنج أنَّ صلاح الدين قد سار للصيد، ورأوا أنَّ عسكر اليزك- اليزك كلمة فارسية تعني مقدِّمة الجيش- عندهم قليلًا، وأنَّ الوحل الذي في مرج عكا كثيرٌ يمنع من سلوكه من أراد أن ينجدَ اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندَقِهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمونَ، وقُتِلَ من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنجُ إلى خندقهم، ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سَمِعَ خبر الوقعة، فندب الناسَ إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبَرُ أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكِرُ من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكَّا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنجَ كُلَّ يومٍ لِيَشغَلَهم عن قتال من بعكَّا من المسلمين، فكانوا يقاتِلون الطائفتَينِ ولا يسأمون، وكان الفرنجُ، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخَشَب عالية جدًّا، وعملوا كل برج منها خمسَ طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وغَشُوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنَعُ النار من إحراقها، وأصلحوا الطرُقَ لها، وقدَّموها نحو مدينة عكا من ثلاثِ جِهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرَفَت على السور، وقاتَلَ من بالأبراج العالية مِن على السور، فانكشف المُسلمون، وشرع الفرنجُ في طم خندق المدينة، فأشرف البلدُ على أن يملِكَه الفرنج عَنوةً وقهرًا، فأرسل أهلُ عكا إلى صلاح الدين إنسانًا سبَحَ في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيقِ، وما قد أشرفوا عليه من أخْذِهم وقَتْلِهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنجِ وقاتلوهم من جميعِ جهاتهم قتالًا عظيمًا دائمًا يشغَلُهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنجُ فرقتين: فرقةٌ تقاتل صلاح الدين، وفِرقةٌ تقاتل أهل عكا، إلَّا أنَّ الأمر قد خَفَّ عمن بالبلد، ودام القتالُ ثمانية أيام متتابعة، آخِرُها الثامن والعشرون من الشهر، وسَئِمَ الفريقان القتال، وملُّوا منه لملازمته ليلًا ونهارًا، والمسلمون قد تيقَّنوا استيلاء الفرنج على البلد؛ لِما رأوا من عَجزِ مَن فيه عن دفع الأبراج، فإنَّهم لم يتركوا حيلةً إلَّا وعملوها، فلم يُفِدْ ذلك ولم يُغنِ عنهم شيئًا، وتابَعوا رميَ النفطِ الطيار عليها، فلم يؤثِّرْ فيها، فأيقنوا بالبوارِ والهلاك، فأتاهم الله بنصرٍ مِن عنده وإذنٍ في إحراقِ الأبراج، فلما احترق البرجُ الأوَّلُ انتقل إلى الثاني، وقد هَرَب مَن فيه لخوفِهم، فأحرقوه، وكذلك الثالث، وأرسل صلاحُ الدين يطلب العساكِرَ الشرقيَّة، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحِبُ سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيَّرَه أبوه مقدَّمًا على عسكره وهو صاحِبُ الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحِبُ إربل، وكان كل منهم إذا وصل يتقَدَّم إلى الفرنج بعسكره، وينضَمُّ إليه غيرهم ويقاتلونهم، ثم ينزلون، ووصل الأسطول من مصر، فلما سَمِعَ الفرنج بقُربِه منهم جَهَّزوا إلى طريقه أسطولًا ليلقاه ويقاتِلُه، فركب صلاح الدين في العساكر جميعِها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتَغِلوا بقتاله عن قتالِ الأسطول ليتمَكَّنَ مِن دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قَصدِه بشيء، فكان القتالُ بين الفريقين برًّا وبحرًا، وكان يومًا مشهودًا لم يؤرَّخْ مِثلُه، وأخذ المسلمونَ من الفرنج مركبًا بما فيه من الرِّجالِ والسلاح، وأخذ الفرنجُ من المسلمين مثلَ ذلك، إلا أن القتلَ في الفرنج كان أكثَرَ منه في المسلمين، ووصل الأسطولُ الإسلاميُّ- بحمد الله- سالِمًا.
هو الأَميرُ الكَبيرُ، ناصِرُ الدَّولةِ، حُسينُ بنُ الأَميرِ ناصِرِ الدَّولةِ وسَيفِها حَسنِ بنِ الحُسينِ ابنِ صاحِبِ المَوصِل ناصِرِ الدَّولةِ، أبي مُحمدٍ الحَسنِ بنِ عبدِ الله بن حمدان، التَّغلبيُّ. كان أَبوهُ حَسنٌ قد عَمِلَ نِيابةَ دِمشقَ لصاحِبِ مصر المُستَنصِر، ونَشأَ ناصرُ الدَّولةِ، فكان أَحَدَ الأَبطالِ، شَهْمًا شُجاعًا، مِقدامًا مَهِيبًا، وافِرَ الحِشمَةِ، تَمَكَّنَ بمِصرَ، وتَقدَّم على أُمَرائِها، وجَرَت له حُروبٌ وخُطوبٌ وعَجائِبُ، وأَظهرَ بمصر السُّنَّةَ، وكان عازِمًا على إِقامَةِ الدَّعوةِ لِبَنِي العبَّاسِ، فإنَّه تَهَيَّأَت له الأَسبابُ، وقَهَرَ المُستَنصِرَ بالله العُبيديَّ، قال الذهبيُّ: "كان عَمَّالًا على إِقامَةِ الدَّولةِ لِبَنِي العبَّاسِ، وقَهْرِ العُبيديَّة، وتَهَيَّأَت له الأَسبابُ، وتَرَكَ المُستَنصِر على بَرْدِ الدِّيارِ، وأَبادَ الكِبارَ، إلى أن وَثَبَ عليه أَتراكٌ، فقَتَلوهُ" وكان قد وَلِيَ إِمْرَةَ دِمشقَ أيضًا، وكان قد رَاسلَ ناصِرُ الدَّولةِ السُّلطانَ ألب أرسلان لِيَنجِدَهُ بعَسكرٍ للقَضاءِ على العُبيديِّين فأَجابَه. فلمَّا خَشِيَ الأُمراءُ على أَنفُسِهم منه انتَدَبوا لاغتِيالِه وللفَتْكِ به إلدكزَ التُّركيَّ في جَماعةٍ من الأُمراءِ، فقَتَلوهُ وقَتَلوا أَخويهِ تاجَ المعالي وفَخْرَ العَربِ، وانتهى ذِكْرُ بني حمدان في مصر.
ملَكَ نورُ الدين محمود بن زنكي قلعةَ جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه مِن قَبلِه من أيام السلطان ملك شاه، وهي من أمنَعِ القلاع وأحصَنِها، مطلة على الفرات من الجانب الشرقي. وأمَّا سبب ملكها فإن صاحِبَها نزل منها يتصيد، فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة 563، فاعتقله وأحسنَ إليه، ورغَّبَه في المال والإقطاع ليُسَلِّمَ إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسيَّرَ إليها نور الدين عسكرًا مُقَدَّمُه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفَرْ منها بشيء، فأمَدَّهم بعسكر آخر، فحصرها أيضًا فلم ير له فيها مطمعًا، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العِوَض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقَبِلَ قولَه وسَلَّمَها، فأخذ عِوَضًا عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار مُعَجَّلة، وهذا إقطاع عظيم جدًّا، إلا أنَّه لا حصن فيه، وهذا آخِرُ أمر بني مالك بالقلعة.
كان عددٌ قليل من العثمانيين قد نادى بالإصلاح للوصول إلى الوسائل التي حققت بها أوروبا قوَّتها خاصة في التنظيم العسكري والأسلحة الحديثة, وكان الداماد إبراهيم باشا الذي تولى الصدارة العظمى في عهد السلطان أحمد الثالث هو أول مسؤول عثماني يعترف بأهمية التعرف على الإصلاحات الأوربية؛ لذا فإنه أقام اتصالاتٍ منتظمةً بالسفراء الأوربيين المقيمين بالآستانة، وأرسل السفراءَ العثمانيين إلى العواصم الأوروبية، وبخاصة فيينا وباريس للمرة الأولى, وكانت مهمة هؤلاء السفراء لا تقتصر على توقيع الاتفاقات التجارية والدبلوماسية الخاصة بالمعاهدات التي سبق توقيعها، بل إنه طلب منهم تزويد الدولة بمعلومات عن الدبلوماسية الأوروبية وقوة أوربا العسكرية. وكان معنى ذلك فتح ثغرة في الستار الحديدي العثماني والاعتراف بالأمر الواقع الخاص بأنه لم يعُد بإمكان العثمانيين تجاهل التطورات الداخلية التي كانت تحدُث في أوروبا. وقد بدأ التأثر بأوروبا في مجال بناء القصور والإسراف والبذخ اللذين شارك فيهما السلطان أحمد ذاته بنصيب كبير؛ مما جعل الأغنياء وعلية القوم يسعون الى اقتباس العادات الأوروبية الخاصة بالأثاث وتزيين الدور وبناء القصور وإنشاء الحدائق، حتى بدا ظهور تقليد الغرب في شهواتهم وإسرافهم للعِيان