اجتمع جماعةٌ مِن القوَّادِ والجُند والأُمَراء على خَلعِ المُقتَدِر وتوليةِ عبدِ الله بن المعتَزِّ الخلافةَ، فأجابهم ابنُ المعتَزِّ على ألَّا يُسفَكَ بسَبَبِه دَمٌ، وكان المقتَدِرُ قد خرج يلعَبُ بالصولجان، فقصد إليه الحُسَينُ بن حمدان يريد أن يفتِكَ به، فلما سمع المقتَدِرُ الصَّيحةَ بادر إلى دارِ الخلافةِ فأغلقها دونَ الجيشِ، واجتمع الأمراءُ والأعيانُ والقُضاة في دارِ المخرمي فبايعوا عبدَ الله بن المعتَزِّ، وخوطب بالخلافة، ولُقِّبَ بالمرتضي بالله، واستوزر أبا عُبَيد الله محمَّد بن داود وبعث إلى المقتَدِر يأمُرُه بالتحَوُّلِ من دار الخلافةِ إلى دار ابنِ طاهرٍ لينتَقِلَ إليها، فأجابه بالسَّمعِ والطاعة، فركِبَ الحُسَين بن حمدان من الغَدِ إلى دار الخلافةِ ليتسَلَّمَها فقاتله الخدَمُ ومَن فيها، ولم يُسَلِّموها إليه، وهَزَموه فلم يقدِرْ على تخليصِ أهلِه ومالِه إلَّا بالجَهدِ، ثم ارتحلَ مِن فَورِه إلى الموصِل وتفَرَّقَ نظامُ ابنِ المعتَزِّ وجماعتِه، فأراد ابنُ المعتز أن يتحوَّلَ إلى سامرَّا لينزِلَها، فلم يتْبَعْه أحدٌ من الأمراء، فدخل دارَ ابنِ الجصَّاص فاستجار به فأجاره، ووقع النَّهبُ في البلد واختبط النَّاسُ، وبعث المقتَدِرُ إلى أصحابِ ابنِ المعتَزِّ فقُبِض عليهم وقُتِلَ أكثرُهم، وأعاد ابنَ الفرات إلى الوزارةِ، فجَدَّد البيعةَ إلى المقتَدِر، وأرسل إلى دار ابنِ الجصَّاص فتسَلَّمَها، وأحضر ابنَ المعتَزِّ وابنَ الجصاص فصادر ابنَ الجصَّاص بمالٍ جزيلٍ جِدًّا، نحوُ ستة عشر ألفَ ألف درهم، ثم أطلَقَه واعتقل ابن المعتَزِّ، فلما دخل في ربيع الآخر ليلتان ظهَرَ للنَّاسِ مَوتُه وأُخرِجَت جُثَّتُه، فسُلِّمَت إلى أهله فدُفِن، وصَفَحَ المُقتَدِر عن بقيَّةِ مَن سعى في هذه الفتنةِ حتى لا تفسُدَ نيَّاتُ الناس، قال ابن الجوزي: "ولا يُعرَفُ خليفةٌ خُلِعَ ثم أعيدَ إلَّا الأمينُ والمُقتَدِر".
أبو عبدِ الرحمنِ مُقبلُ بنُ هادي بنِ مُقبلِ بنِ قايدةَ الوادعيُّ الهَمْدانيُّ، نشأ يتيمًا، ونشأ في بيئة مليئةٍ بالجهل والشركِ، وقد منَّ الله عليه بالهداية، فكان يأمُرُ بالمعروفِ ويَنْهى عن المنكرِ، فأُوذيَ بسبب ذلك كثيرًا، ثم عُنيَ بطلب العلم، وخاصَّةً الحديثَ، حتى برعَ فيه، وأجاد، وكان مشهورًا بحرصه على اتِّباع السُّنة، والرد على أصحاب الأهواء والبِدعِ، مع زهدٍ، وعزوفٍ عن الدنيا، وتواضعٍ، وكرمٍ، وسخاءٍ، ومؤلَّفاتُه تُبيِّن مدى براعته في علم الحديث، ومنها: ((الصحيح المسنَد ممَّا ليس في الصحيحَينِ))، و((الصحيح المسنَد من أسباب النزول))، و((الصحيح المسنَد من دلائل النبوة))، و((غارة الفصل على المعتدين على كتب العلل))، و((أحاديث معلة ظاهرها الصحة))، و((أدلة الجمع بين الصلاتين في السفر))، وغيرها، كان الشيخ قد أُصيبَ بمرضٍ في الكبدِ اضطره للسفرِ للخارج لعمل زراعة للكبدِ، ثم بعد عدة سفراتٍ رجَعَ إلى جُدَّةَ، وبَقيَ في مَشفَى الملك فَيصلٍ بين غيبوبةٍ ويَقظةٍ، حتى كان بعد غروب يوم ليلة الأحد أول جمادى الأولى 1422هـ تُوفيَ، ولم يبلُغِ السبعينَ من عمرِه، ثم غُسِّلَ، وكُفِّنَ، وصُلِّيَ عليه بمكَّة المكرَّمة في المسجد الحرام، ودُفِنَ في مقبرة العدل، رحمه اللهُ تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
كان المعِزُّ بنُ باديس الصِّنهاجيُّ ناصِرًا للسُّنَّةِ وقامِعًا لبدعةِ الرَّفضِ الإسماعيليَّة العُبَيديَّة بإفْريقيَّةَ، وفي هذه السَّنَةِ قَتَل الرَّافِضةَ الإسماعيليَّةَ أتباعَ العُبَيديِّينَ في بلاد إفْريقيَّةَ، وبدايتُه أنَّ المُعِزَّ بنَ باديس رَكِبَ في عاشوراء ومشى في القيروانِ والنَّاسُ يُسَلِّمونَ عليه ويَدعُونَ له، فاجتاز بجَماعةٍ، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافِضةٌ يسُبُّونَ أبا بكرٍ وعُمَرَ، فقال: رَضِيَ اللهُ عن أبي بكرٍ وعُمَرَ، فانصرَفَت العامَّةُ مِن فَورِها إلى دَربِ المقلى من القيروانِ، وهو مكانٌ تجتَمِعُ به الشِّيعةُ، فقَتَلوا منهم، فقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وأُحرِقوا بالنَّارِ، ونُهِبَت ديارُهم، وقُتِلوا في جميعِ إفريقيَّةَ، واجتمَعَ جماعةٌ منهم إلى قصر المنصورِ قَريب القيروان، فتحَصَّنوا به، فحصَرَهم العامَّةُ وضَيَّقوا عليهم، فاشتَدَّ عليهم الجوعُ، فأقبلوا يَخرُجونَ والنَّاسُ يَقتُلونَهم حتى قُتِلوا عن آخِرِهم، ولجأ مَن كان منهم بالمهديَّةِ إلى الجامِعِ فقُتِلوا كُلُّهم، وكانت الشِّيعةُ تُسمَّى بالمغرب المشارِقةَ، نسبة إلى أبي عبدِ اللهِ الشِّيعيِّ، وكان مِن المَشرِقِ.
وقع الطاعونُ العظيم الذي عَمَّ العراق والسواد والمجرة وسوق الشيوخ والبصرة والزبير والكويت وما حولها، وليس هذا مِثلَ الوباء الذي قبله المسمى العقاص (أبو زويعة)، بل هذا هو الطاعونُ المعتاد -نعوذ بالله من غضبه وعقابه- وحَلَّ بهم الفَناءُ العظيم الذي انقطع منه قبائل وحمائل، وخلت من أهلها منازلُ، وإذا دخل في بيتٍ لم يخرج منه وفيه عينٌ تطرفُ، وجثا الناسُ في بيوتهم لا يجِدون من يدفنهم، وأموالهم عندهم ليس لها والٍ، وأنتنت البلدانُ مِن جِيَف الناسِ، وبقيت الدواب والأنعام سائبةً في البلدان ليس عندها من يعلِفُها ويسقيها حتى مات أكثَرُها! ومات بعض الأطفال عطشًا وجوعًا، وخر أكثرهم في المساجد صريعًا، لأنَّ أهاليهم إذا أحسُّوا بالألم رموهم في المساجِدِ، رجاء أن يأتيَهم من ينقِذُهم، فيموتون فيها؛ لأنه لا يأتيها أحدٌ ولا يقام فيها جماعةٌ!! وبقيت البلدان خاليةً لا يأتي إليها أحدٌ، وفيها من الأموال ما لا يحصى عَدُّه إلَّا اللهُ.
كان الطَّاعونُ ببِلادِ الهِندِ والعَجَمِ، وعَظُمَ إلى الغاية، وكان أكثَرُه بغُزنة وخراسان وجرجان والريِّ وأصبهان ونواحي الجَبَل إلى حلوان، وامتَدَّ إلى المَوصِل والجزيرة وبغداد، ثمَّ امتَدَّ إلى شيراز، وتَبِعَه غلاءٌ شديد، واستسقى النَّاسُ فلم يُسْقَوا، وكان عامًّا في جميعِ البلادِ، وكَثُرَ المَوتُ، فدُفِنَ في أصبهانَ في عِدَّةِ أيَّامٍ أربعونَ ألفَ مَيِّتٍ، وكَثُرَ الجُدريُّ في النَّاسِ فأُحصي بالموصِلِ أنَّه مات به أربعةُ آلاف صبي، ولم تخْلُ دارٌ مِن مصيبةٍ لعُمومِ المصائِبِ وكثرةِ الموت، وممَّن أُصيبَ بالجُدريِّ الخليفةُ القائِمُ بأمرِ اللهِ ثمَّ سَلِمَ.
لمَّا دُفِنَ عبدُ الملك بن مَرْوان انْصَرَف الوَليدُ عن قَبرِه فدَخَل المَسجِد وصَعَد المِنْبَر واجْتَمع إليه النَّاسُ فخَطَبَهم وقال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون، والله المُستعان على مُصِيبتِنا لِمَوتِ أَميرِ المؤمنين، والحمدُ لله على ما أَنْعَمَ علينا مِن الخِلافَة، قوموا فبايِعُوا، فكان أوَّلَ مَن عَزَّى نَفْسَه وهَنَّأَهَا؛ وكان أوَّلَ مَن قام لِبَيْعَتِه عبدُ الله بن هَمَّام السَّلُولِيُّ.
هو أبو المعالي محمَّدُ بن علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم، الزملكاني الأنصاري السماكي الدمشقي الشافعي قاضي قضاة دمشق، انتهت إليه رياسةُ المذهب تدريسًا وإفتاء ومناظرة، ويقالُ في نسبه السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خَرشة، وُلِدَ ليلة الاثنين ثامن شوال 666، وسمع الكثير واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وفي الأصولِ على القاضي بهاء الدين بن الزكي، وفي النحوِ على بدر الدين بن ملك وغيرهم، وكان من خصومِ شَيخِ الإسلام ابن تيمية؛ قال ابن كثير: "برع وحَصَّل وساد أقرانَه من أهل مذهبه، وحاز قَصَب السَّبقِ عليهم بذِهنِه الوقَّاد, وعبارتِه التي هي أشهى من كلِّ شيء مُعتاد، وخَطِّه الذي هو أنضَرُ مِن أزاهير الوِهاد، وقد درَّسَ بعِدَّة مدارس بدمشق، وباشر عِدَّةَ جِهات كبار، كنظر الخزانة، ونظر المارستان النوري، وديوان الملك السعيد بن الظاهر بيبرس، ووكالة بيت المال، له تعاليقُ على قطعة كبيرة من شرح المنهاج للنووي، ومجلَّد في الرد على الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مسألة الطلاق، ومسألة زيارة القبور، وغير ذلك، وأما دروسُه في المحافل فلم أسمع أحدًا من الناس درَّس أحسن منه ولا أحلى من عبارته، وحُسن تقريره، وجودةِ احترازاته، وصِحَّة ذهنه وقوَّة قريحتِه وحُسن نَظْمه، وقد درَّسَ بالشاميَّة البرَّانية والعذراوية الجوَّانية والرواحية والمسرورية، فكان يعطي كلَّ واحدة منهن حقها بحيث كان يكاد ينسَخُ بكل واحد من تلك الدروس ما قبله مِن حُسنِه وفصاحته، ولا يهيلُه تَعدادُ الدروس وكثرة الفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمعُ أكثَرَ والفضلاءُ أكبَرَ، كان الدرس أنضرَ وأبهر وأحلى وأنصح وأفصَحَ, ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عامله معاملةً مثلها، وأوسع بالفضيلةِ جميعَ أهلها، وسَمِعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم, ثم طُلب إلى الديار المصرية ليولَّى الشامية دار السنة النبويَّة فعاجلته المنيَّةُ قبل وصوله إليها، فمَرِضَ وهو سائر على البريد تسعةَ أيام، ثم عقب المرض بحراق الحِمامِ فقَبَضه هادمُ اللذات، وحال بينه وبين سائر الشَّهوات والإرادات، والأعمالُ بالنيَّات, وكان من نيَّتِه الخبيثة إذا رجع إلى الشَّامِ متَوَلِّيًا أن يؤذِيَ شيخَ الإسلام ابن تيمية فدعا عليه، فلم يبلغ أمَلَه ومُرادَه، فتوفِّيَ في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس، وحُمِلَ إلى القاهرة ودُفِنَ بالقرافة ليلة الخميس جوار قبة الشافعي تغَمَّده الله برحمتِه"
هو الشيخُ أبو محمد عثمان بن محمد الملقب بـ (فودي) بن عثمان بن صالح بن هارون بن محمد أحدُ علماء نيجيريا، كان مالكيَّ المذهب. ولِدَ في قرية طقِل في شمال نيجيريا، سنة 1169هـ يعتبرُ عثمان دان فوديو مؤسِّسَ دولة تكرور في سوكوتو في غربِ أفريقيا قريبًا من نهر الكونغو، وكان قد عاد من الحجِّ وهو ممتلئٌ حماسةً للإصلاح الديني، فكَثُر أتباعُه والمتحمِّسون لأفكارِه، فلما زاد عددُ أتباعه ومريديه، وفكَّرَ في الاتصال بأحدِ الملوك ليشُدَّ مِن أزره، فلجأ إلى أقوى ملوكِ الهوسة- وهو وقتذاك- الملِكُ نافتا (ملك غوبر)، وشرح له الإسلامَ الصحيح وطلبَ إليه إحياءَ معالم الدين، وإقامةَ العدل بين الناس. فاستجاب له أوَّلَ الأمر وأسند إليه الفتوى والإرشادَ بمجلِسِه وديوانه، غيرَ أنَّ بعض مدَّعي العلمِ الحاقدين قاموا يعَيِّرونه لاتصاله بالمَلِك ويتَّهمونه بالرياء والسعي إلى الجاه والسلطان، ووشَوا به عنده، ومنهم من أنكر عليه بعضَ أقواله وأفعاله، فوقعت بينه وبين المَلِك جفوة سافر بسَبَبِها الشيخ إلى بلاد زمفرة وكبي. يقول الإمام محمد بللو ابن الشيخ عثمان بن فودي عن معاناة والده: "ثم إنَّه لما برز هكذا، وكثُرَ أتباعه من العلماء والعوام، وتراسل الخلقُ إلى الاقتداء به، وكفاه اللهُ من ناوأه من علماءِ وَقتِه، حتى نشر أعلامَ الدين، وأحيا السنة الغرَّاء، فتمكَّنت في البلد أيَّ تمكين- نصَبَ أهل الدنيا له العداوةَ مِن أمراء هذه البلاد،..... وإنما غاظهم ما يرون من ظهورِ الدين وقيام ما درس مِن معالم اليقين، وذَهاب بقاءِ ما هم فيه من الضَّلالِ والباطِلِ والتخمين، مع أنَّ سَلطنتَهم.. مؤسَّسة على قواعِدَ مخُالِفة للشريعة.... فلمَّا أوضح الشيخُ الطريق، واهتدى إليه أهلُ التوفيق... وبقِيَ أهل الدنيا من علماءِ السوء والملوك في طغيانِهم يعمهون،... فجعل أولئك الملوك والعلماء يؤذون الجماعةَ (أتباعه)، ويعترضون كلَّ من ينتسب إلى الشيخ،... ولم يزَلْ كُلُّ من تولى من ملوكِ بلادنا مجتَهِدًا في إطفاءِ ذلك النور، ويكيد بالشيخِ وبجماعته، ويمكُرُ بهم ويحتال في استئصالهم" استطاع الشيخ عثمان بالدعوة أن يوحِّدَ تلك الجماعات المتناثرة في شتى أقاليم الحوصة ويجعل منها جماعةً واحدةً مُتماسِكةً، فأصبح له جَيشٌ قوي، ثم تعرض لولايات الحوصة الإسلامية، فسقطت واحدة تلوَ الأخرى في يدِه، وكان قد قسَّم مملكتَه على ولديه، ومات في هذه السنة بعد أن أسَّس مملكةً كبيرة سُرعان ما هبَّ الإنجليز للتدخل فيها, ولفودي مؤلَّفات كثيرة تجاوزت 150 كتابًا. توفِّي في ولاية سقطو (سوكوتو) بنيجيريا.
أقبل يحيى بن زكرَوَيه بن مهرويه أبو قاسم القرمطي المعروفُ بالشيخ في جحافلِه، فعاث بناحية الرقَّة فسادًا، فجهز إليه الخليفةُ جيشًا نحو عشرة آلاف فارس، وكان قد سار يحيى بن زكرويه إلى دمشق وحاصرها، فقُتِلَ على باب دمشق، زرَقَه رجلٌ من المغاربةِ بِمزراقِ نارٍ- المزراقُ رُمحٌ قصير أو خفيفٌ يُقْذَف باليد- فقَتَله، ففَرِحَ الناس بقتله، وكان هذا المغربيُّ من جملة جيش المصريين، فقام بأمرِ القرامطةِ مِن بعده أخوه الحُسَين وتسمَّى بأحمد وتكنَّى بأبي العباس وتلقَّب بأمير المؤمنين، وأطاعه القرامطة، فحاصر دمشقَ فصالحه أهلُها على مال، ثم سار إلى حمصَ فافتتحها وخُطِبَ له على منابِرِها، ثمَّ سار إلى حماة ومعرَّة النعمان فقهر أهلَ تلك النواحي واستباح أموالَهم وحريمَهم، وكان يقتُلُ الدوابَّ والصِّبيانَ في المكاتب، ويُبيحُ لِمَن معه وطء النِّساء، فربما وطئَ الواحدةَ الجماعةُ الكثيرةُ مِن الرجال، فإذا ولَدَت ولدًا هنأَ به كلُّ واحدٍ منهم الآخَرَ، فكتب أهل الشامِ إلى الخليفة ما يلقَونَ مِن هذا اللعين، فجهَّز إليهم جيوشًا كثيفة، وأنفق فيهم أموالًا جزيلة، وركب في رمضان فنزل الرقَّةَ وبَثَّ الجيوشَ في كلِّ جانبٍ لقتال القرامطة، وكان القرمطي هذا يكتُبُ إلى أصحابه: "مِن عبد الله المهديِّ أحمد بن عبد الله المهدي المنصور الناصر لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله، الذابِّ عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله" وكان يدَّعي أنَّه من سلالة علي بن أبي طالب من فاطمة، وهو كاذِبٌ أفاكٌ أثيمٌ- قبَّحه الله- فإنَّه كان من أشدِّ الناس عداوةً لقريش، ثم لبني هاشم، دخل سلميةَ فلم يدَعْ بها أحدًا من بني هاشم حتى قتَلَهم، وقتل أولادَهم، واستباح حريمَهم.
بقي الاستعمارُ الفرنسي في الجزائر قائمًا، وأخذ أشكالًا جديدة، فبدأ ينشر الجهلَ، ويحارب اللغة العربية، وينشر الرذيلة والفواحش بين المسلمين، ولكِنْ أبقى الله في الأمة بقيةً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فكان من المصلحين الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كان يُلقي دروسًا في التفسير في مسجد سيدي الأخضر بقسنطينة، والتفَّ حوله الكثير واشتد ساعده، وقام بدعوة العلماء لتوحيد الكلمة، فحضر 190 من علماء الجزائر، واتَّفق الجميع على تأسيس جمعية العلماء المسلمين، وتولى هو رئاسَتَها، وفَتَحت هذه الجمعية المدارسَ للناشئة، وأصدرت جريدة المرصاد، وأخذ الشيخ عبد الحميد الحملَ على الفرنسيين، وبالمقابل جهدت فرنسا للإيقاع بالجمعية؛ حيث كانت تغتالُ سِرًّا بعض العلماء المعارضين لهذه الجمعية، وتتهم بهذا الفعل الجمعية، ثم انشَقَّ عن الجمعية بعضُ الذين استاؤوا من محاضرة الطيب العقبي التي تكَلَّم فيها على أصحاب الطرق، فانشقوا وألَّفوا جمعية علماء أهل السنة وجريدتهم البلاغ الجزائري، وارتفع أمرُ ابن باديس في الجزائر، وقد قام وفدٌ برئاسته بالذَّهاب إلى فرنسا وتقديم مطالب الشعب الجزائري للحكومة الفرنسية، ومنها: إلغاء كافة القوانين والقرارات الاستثنائية بالجزائر، وإلغاء الحكم العامِّ في الجزائر، واشتراك الجزائريين في الهيئة الانتخابية، ويكون لهم نوابٌ في المجلس النيابي الفرنسي، وعدمُ التمييز بين الفرنسيين والجزائريين، مع الاحتفاظ بالهُوية الإسلامية، واستقلال الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية، وجَعْل اللغة العربية لغةَ الدراسة، ورُفِضَت مطالبهم جملة، وزادت فرنسا من توسيعِ الشِّقاق بمساعدة أصحاب الطُّرُق الصوفية، والاغتيالات السرية واتهام جمعية المسلمين بها، كما فعلت بالشيخ عمر بن دالي الذي جعلَتْه إمام الجامع الكبير في قسنطينة ثم طلَبَت منه الهجوم على الوفد الذي سافر لفرنسا، ثم دفعت من قَتَله حيث سَلَّم نفسه بعد فترةٍ واعترف بكُلِّ المخطَّط، ثم لَمَّا توفي ابن باديس 1359هـ تولى محمد بشير الإبراهيمي رئاسةَ الجمعية.
ثبَت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتمَرَ مِنَ الجِعْرانةِ عامَ حُنينٍ، وهذه العُمرَةُ هي الثَّالثةُ بعدَ عُمرَةِ الحُديبيَةِ وعُمرَةِ القَضاءِ. قال ابنُ حَجَرٍ: فإنَّه صلى الله عليه وسلم أَحرَمَ مِنَ الجِعْرانةِ ودخَل مكَّةَ ليلًا فقَضى أمْرَ العُمرَةِ ثمَّ رجَع ليلًا فأَصبحَ بالجِعْرانةِ كَبائِتٍ. قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: كانوا يَستَحِبُّون أن يَدخلوا مكَّةَ نهارًا ويَخرُجوا منها ليلًا. وعن عطاءٍ: إن شِئْتُم فادْخُلوا ليلًا إنَّكم لَستُم كرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، إنَّه كان إمامًا فأَحَبَّ أن يَدخُلَها نهارًا لِيَراهُ النَّاسُ. انتهى. وقَضيَّةُ هذا أنَّ مَن كان إمامًا يُقْتَدى به اسْتُحِبَ له أن يَدخُلَها نهارًا.
لَمَّا صارت الهزيمةُ على عبد الله بن سعود في جمادى الآخرة رحل بالقُربِ من جَبَل ماوية ونزل إبراهيمُ باشا وقواته الرسَّ، فثبت له أهلُ الرس وحاربوه، وأرسل عبد الله للرس مرابِطةً مع حسن بن مزروع، والهزاني صاحب حريق نعام، فحاصرهم الرومُ أشَدَّ الحصار وتابعوا الحربَ عليهم في الليل والنهار، وكُلَّ يوم يسوقُ الباشا على سورِها صناديدَ الروم بعدما يجعل السورَ بالقبوس فوق الأرضِ مهدومًا، ومع ذلك ثبت أهلُ الرس والمرابطة، وقاتلوا قتالَ مَن حمى الأهل والعيال، وصبروا صبرًا عظيمًا، فكلما هَدَم الرومُ السورَ بالنهار بنوه بالليل، وكلَّما حفروا حُفَرًا للبارود حفَرَ أهل الرس تجاهَه حتى يبطلوه، وبعض الأحيان يثور عليهم وهم لا يعلمون، وطال الحصار إلى ذي الحجة، وذُكر أنَّ الروم رموه في ليلةٍ 5000 رمية بالمدافع والقنبر والقبس، وأهلكوا ما خلفَ القلعة من النخيل وغيرها، وعبدُ الله بن سعود وجنوده في عنيزة، فأرسل أهل الرس إليه إمَّا أن يرحلَ إليهم لقتال الرومِ، وإمَّا أن يأذَنَ لهم بالمصالحةِ، ثم أقبل عساكِرُ وقبوس وأمداد من الروم كثيرة ونزلوا على إبراهيم ومن معه في الرس واستعظم أمرُه وكثرت دولتُه، فوقعت المصالحة بينه وبين أهلِ الرسِّ على دمائِهم وأموالِهم وسلاحِهم وبلادِهم وجميعِ مَن عندهم من المرابِطة يخرجون إلى مأمَنِهم بسلاحِهم وبجميع ما معهم، فخرجوا من الرس وقصدوا عبدَ الله وهو في عنيزة، وقتُل من أهل الرس والمرابطة نحو سبعين رجلا وقُتِلَ من عسكر الروم ما ينيف على 600 رجلٍ.
وُلِدَ ثناءُ الله المَدَني في قريةِ (كلس) في إقليم (البنجاب) في (باكستان) سنة 1360هـ، الموافق 1940م.
بدأ دراستَه الابتدائيَّةَ في قريتِه، وحَفِظَ القُرآنَ الكريمَ ثمَّ سافر إلى (لاهور) لإتمام دراستِه الجامعيَّة في جامعة أهلِ الحديثِ، وتخرَّج فيها سنة 1381هـ.
التحق بالجامعةِ الإسلاميَّة في المدينةِ المنوَّرة، في كليَّة الشَّريعةِ سنة 1383هـ، وتخرَّج فيها سنة 1388هـ، وهو من أوائِلِ المتخرِّجين في الجامعةِ الإسلاميَّة.
رجع إلى بلدِه مُدَرِّسًا وداعيًا، وواصَلَ الدِّراسةَ العُليا في جامعةِ البنجاب، ونال درجة الماجستير سنة 1393هـ، وفي السَّنة التي بعدها نال شهادةَ التخصُّص في اللُّغةِ العَرَبيَّةِ.
أخذ -رحمه الله- عن كثيرٍ من العُلَماءِ في باكستان والسُّعودية، منهم: الشَّيخ عبد الله الروبري شيخُ أهلِ السُّنَّة في باكستان، والشَّيخُ محمَّد بن إبراهيم آل الشَّيخ، والشَّيخُ محمَّد الأمين الشِّنقيطيُّ، والشَّيخُ عبدُ العزيز بن باز، والشَّيخُ محمَّد ناصر الدين الألباني.
كانت له مَقرآتٌ كثيرةٌ في أكثَرَ من بلدٍ يقرأ فيها كُتُبَ السُّنَّة، فأقرأ في الكويتِ الكُتُبَ السَّبعةَ، وأقرأ في الدوحة صحيحَ البخاريِّ والمُسنَد، وأقرأ في الرِّياضِ المسنَد، وأقرأ في مكَّة السُّنَن.
كتب شرحًا على سُنَن الترمذيِّ، سمَّاه: (جائزة الأحوذيِّ في التعليقاتِ على شَرحِ الترمذي)، وله شرحٌ على الشَّمائِلِ: (الوصائِلُ في شرح الشَّمائِلِ).
درَّس في عددٍ من الجامعاتِ والمدارسِ، وعُيِّن مديرًا للتعليمِ في الجامعةِ السَّلَفيَّة في فيصل آباد، ثم انتقل إلى جامعة لاهور الإسلاميَّة، واختير مُفتيًا لعمومِ أهلِ الحديثِ في باكستان سنة 1428هـ، كما شارك في عُضويَّة مجمَعِ فُقَهاءِ الشَّريعةِ بأمريكا.
تُوُفِّي رحمه الله عن عُمر 82 سنة.
أمَرَ الملِكُ عبد العزيز بوضعِ نظامٍ لتولية العرش مِن بعدِه، فانعقد مجلِسَا الوكلاء والشورى، وأبرمَا قرارًا في 16 محرم 1352هـ الموافق 11/ 5 / 1933م بمبايعةِ كبير أبنائه الأمير سعود وليًّا للعهد،ثم أبرق الملِكُ على الأثرِ إلى سعود برقيةً جاء فيه: " تفهَمُ أنَّنا نحن والناس جميعًا ما نُعِز أحدًا ولا نذِلُّ أحدًا، وإنما المعِزُّ والمذِلُّ اللهُ هو سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتَرَّ بغيره عياذَ اللهِ وقع وهلك، موقِفُك اليومَ غيرُ موقفك بالأمس؛ ينبغي أن تعقِدَ نيَّتَك على ثلاثةِ أمور: أولًا/ نية صالحة، وعزمٌ على أن تكونَ حياتُك وديدنك إعلاءَ كلمة التوحيد، ونصر دين الله، وينبغي أن تتَّخِذَ لنفسِك أوقاتًا خاصة لعبادة الله والتضَرُّع بين يديه في أوقات فراغك. تعبَّدْ إلى الله في الرخاء تجِدْه في الشدة، وعليك بالحرصِ على الأمر بالمعروف، والنهيِ عن المنكر، وأن يكون ذلك كلُّه على برهانٍ وبصيرة في الأمر، وصِدقٍ في العزيمة، ولا يصلُحُ مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدقُ، وإلا العَمَلُ الخفيُّ الذي بين المرء وربه. ثانيًا/ عليك أن تجِدَّ وتجتهِدَ في النظر في شؤون الذين سيولِّيك الله أمْرَهم بالنصحِ سرًّا وعلانيةً، والعدلِ في المحبِّ والمُبغَض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنًا وظاهرًا، وينبغي ألَّا تأخُذَك في الله لومة لائم. ثالثًا/ عليك أن تنظُرَ في أمر المسلمين عامةً، وفي أمر أسرتِك خاصةً، اجعل كبيرَهم والدًا، ومتوسِّطَهم أخًا، وصغيرهم ولدًا، وهنْ نفسَك لرضاهم، وامحُ زلَّتَهم، وأقِل عَثرتَهم، وانصح لهم، واقضِ لوازِمَهم بقدر إمكانك، فإذا فهمت وصيتي هذه، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل؛ فأبشر بالخير، وأوصيك بعلماء المسلمين خيرًا. احرص على توقيرِهم ومجالستِهم، وأخذِ نصيحتِهم. واحرِصْ على تعليم العِلمِ؛ لأنَّ الناس ليسوا بشيءٍ إلَّا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة. احفَظِ الله يحفظك. هذه مقدمة نصيحتي إليك، والباقي يصلك إن شاء الله في غير هذا".
ظهر محمَّدُ بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بالطالقان من خراسان، يدعو إلى الرضا من آل محمَّد، وكان ابتداءُ أمرِه أنَّه كان ملازمًا مسجدَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حسَنَ السِّيرةِ، فأتاه إنسانٌ من خراسان كان مجاورًا، فلما رآه أعجَبَه طريقُه، فقال له: أنت أحَقُّ بالإمامةِ مِن كُلِّ أحَدٍ، وحَسَّنَ له ذلك وبايعه، وصار الخُراساني يأتيه بالنَّفَرِ بعد النفر مِن حُجَّاجِ خُراسان يبايعونه، فعل ذلك مُدَّةً. فلما رأى كثرةَ مَن بايعه من خراسانَ سارا جميعًا إلى الجوزجان، واختفى هناك، وجعل الخراساني يدعو النَّاسَ إليه، فعَظُم أصحابُه، وحمله الخراسانيُّ على إظهارِ أمْرِه، فأظهره بالطالقان، فاجتمع إليه بها ناسٌ كثير، وكانت بينه وبين قوَّادِ عبدِ الله بن طاهر وقَعاتٌ بناحيةِ الطالقان وجبالِها، فانهزم هو وأصحابه، وخرج هاربًا يريدُ بعضَ كور خراسان، وكان أهلُها كاتبوه، فلما صار بنسا، وبها والدُ بعضِ مَن معه، فلمَّا بَصُرَ به سأله عن الخبَرِ فأخبره، فمضى الأبُ إلى عامِلِ نسا فأخبَرَه بأمر محمد بن القاسم، فأعطاه العامِلُ عشرةَ آلاف درهم على دَلالَتِه، وجاء العامِلُ إلى محمد، فأخذه واستوثَقَ منه، وبعثه إلى عبدِ الله بن طاهر، فسيَّرَه إلى المعتصم، فحُبِسَ عند مسرور الخادمِ الكبير، وأجرى عليه الطَّعامَ، ووكَلَ به قومًا يحفَظونَه، فلمَّا كان ليلةُ الفطرِ اشتغلَ النَّاسُ بالعيد، فهرب من الحبسِ، دُلِّيَ إليه حبلٌ مِن كوَّة كانت في أعلى البيتِ، يدخل عليه منها الضوءُ، فلما أصبحوا أتَوْه بالطعام، فلم يَرَوه، فجعلوا لِمَن دلَّ عليه مائة ألفٍ، فلم يُعرَف له خبَرٌ.