هو الأميرُ شِهابُ الدين، أبو الفوارِسِ سَعدُ بن محمد بن سعد بن صيفي التميمي الأديب الفقيه الشافعي، المعروف بالحيص بيص, ومعنى الحيص بيص: الشِّدَّةُ والاختلاطُ, قيل: إنَّه رأى الناسَ في شدَّة وحركةٍ، فقال: ما للنَّاسِ في حيصَ بَيصَ؟ فلزِمَه ذلك. وكان من فضلاءِ العالَم. كان قد سمع الحديثَ، ومدح الخلفاءَ والسلاطين والأكابر، وشِعرُه مشهورٌ، وله (ديوان) وترَسُّل. كان فصيحًا حسَن الشعر, بليغًا وافِرَ الأدَبِ، عظيمَ المنزلةِ في الدولتين العباسيَّة والسلجوقية. كان بديعَ المعاني، مليحَ الرسائِلِ، ذا خبرةٍ تامةٍ باللغة والبلاغة والأدب، وله يدٌ في المناظرة, وكان يناظِرُ على رأي الجمهور. كان لا يخاطِبُ أحدًا إلا بالكلام العربي. تفقَّه في مذهب الشافعي بالريِّ، وتكلَّم في مسائل الخلاف. ذكره ابن السمعاني في «ذيله» فقال: "له باعٌ في اللغة، وحِفظٌ كثيرٌ للشعرِ، وكان إمامًا في الرأي، حَسَن العقيدة". قال عبد الباقي بن زريق الحلبي الزاهد: "رأيتُه واجتمعتُ به، فكان صدرًا في كل علم، عظيمَ النفس، حسَنَ الشارة، يركَبُ الخيل العربية الأصيلة، ويتقلَّدُ بسيفين، ويحمِلُ حلقة الرمح، ويأخذ نفسَه بمآخِذِ الأمراء، ويتبادى في لفظِه، ويعقِدُ القاف, وكان أفصَحَ مَن رأيت". قال ابن كثير: "لم يكُنْ له في المراسلات بديلٌ، كان يتقعَّرُ فيها ويتفاصح جدًّا، فلا تواتيه إلا وهي مُعجرفة، وكان يزعم أنه من بني تميم، فسُئِل أبوه عن ذلك فقال ما سمعتُه إلَّا منه". توفي يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة، وله ثنتان وثمانون سنة، وصلِّي عليه بالنظامية، ودُفن بباب التبن، ولم يُعْقِب.
عندما منع الإمام سعود حاجَّ الشام من دخول مكَّةَ لأداء الحجِّ، أرسل والي الشام إلى الإمام سعود يستنكِرُ منع حجاج الشام من دخول مكة، فأرسل له الإمام سعود رسالةً مطولة بيَّن فيها سبَبَ مَنعِهم من دخول مكةَ، وممَّا ورد في هذه الرسالة: "السلام التام والتحية والإكرام يُهدى إلى سيِّد الأنام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام, ثم ينتهي إلى جناب الأحشم المكرَّم سلمه الله من الآفات واستعمله بالباقيات الصالحات، وبعد.. ما ذكرتَ من طرف الحاجِّ فأنت تفهَمُ أنَّ البيت بيتُ الله، والوفدَ وفدُه، ولا نمنَعُ عن بيته إلَّا من أمرنا بمَنعِه والله سبحانه وتعالى، قال: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]، وقال تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ولا يخفاكم ما يجري مع الحاجِّ من الأمورِ العظائِمِ الشِّركية مِن دعوة غير الله، وتعظيمِ الشِّرك بالله، وتعظيمِ المشاهد، وتَركِ الفرائض, وأعظَمُ الفرائض بعد التوحيد الصلواتُ الخمس، لا يؤذَّنُ لها ولا يصلِّي مع أحد جماعة، والأمور العظائم القبائح التي تُنقَلُ مع الحاج من أنواع المنكرات والفواحش من اللُّواطِ والقِحاب وشُربِ المسكر والزَّمر والطَّبل وما يُشابه ذلك من أنواع الملاهي التي يُعرف قبحُها, والله قال جل جلاله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فإذا كان الرَّفَثُ والجدال مِن مبطلاتِ الحَجِّ، فكيف بهذه القبائِحِ والمنكراتِ؟! فإن قال قائل: إنه لا يفعَلُ ذلك فنحن نقول: ما نعمُّ النَّاسَ بذلك, ولكِنَّ الحُكمَ على الظاهر, والظاهِرُ مع الحاجِّ وفي أوطانِكم فِعلُ ما ذكرناه، ومن رعاياكم من يقول: هذا ما فعَلَه إلا طوارِفُ [أي حاشية] السلطان, وإنَّ السلطان هو الذي يأمُرُ به, ونقول: هذا لا يفعَلُه ولا يأمر به مَن له أدنى عَقلٍ وبصيرةٍ في الدين فضلًا عن أنَّ السلطان يأمرُ به أو يرضاه, وهذا من الافتراءِ عليه والكذب, ولَمَّا أراد الله أن أهل الحرمين يدخلون في الإسلام, ويشهدون أنَّ الذي هم عليه قبل ذلك أنَّه الباطل، والشاهد بذلك الشَّريفُ والعلماء والعامة, وأراد الله أن يجعَلَ لنا في الحرمين حُكمًا نافذًا وأمرًا مطاعًا، فلم يكن لنا عذر من الله مِن مَنعِ [ما] أمَرَنا الله بمَنعِه، ونمنع مَن منَعَه القرآن، ونأذن [لِمن] أذِنَ له القرآن, فغايةُ المطلوب ومنتهى المراد عبادةُ الله وحده، ولا يُشرَكُ له، وتَرْك عبادة ما سواه، وألَّا يُصرَفَ شيء من أنواع العبادة لغير الله، وإقام الصلوات الخمس التي فرض الله في كتابه بعد الشهادتين، وأداء الزكاة والصوم والحج، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونفي البِدَع وإزالة المنكرات، وإقامة الحدود على من أصاب منها شيئًا، وإعطاء كل ذي حَقٍّ حَقَّه، وإنصاف الضعيف من القويِّ بالعدل, فهذا جملة ما نحن عليه، وتفصيلُه يطول ذِكرُه, فمَن عَمِل ذلك ودان به فهو المسلمُ له ما لنا، وعليه ما علينا برًّا وبحرًا، ونحن وهو في بلد الله الحرام سواءٌ, ومن أبى عن ذلك منعناه من بلد الله الحرام، وقاتلناه حتى يكون الدينُ كُلُّه لله، كائنًا من كان، ولَمَّا ورد إلينا كتابُك وآدميك [ومندوبك] أركبنا أوادِمَ من أوادِمنا يمشون بالحاجِّ على هالشروط المذكورة، بأن يظهروا الإسلام، وإقام الصلوات الخمس جماعة بأذان وإقامة، وجميع المنكرات تُزال، وأنَّ الحاجَّ يبايعون على العمل بالإسلام، ولا يحجُّ عسكر قليل ولا كثير، ولا أزغة حرب، ولا يحجُّ المحمل لأنَّ المَحمَل فيه اعتقادات وتآليه به من دونِ الله, وظهرت للمسلمين ورأوها في مخالطتِنا لكم في الحج الماضي، ولا نشتهي أن المحمَلَ يجيء بأمامنا ويرجع ما وصل مكة، ولا يجوز لنا [أن] نقِرَّ سياق الشرك، ولا نرضى به، وعلى أنَّ جميع قوانين الحرمين المعروفة التي للبيت وخُدَّام البيت والشريف وعامة أهل مكة، وكذلك ما كان لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وخُدَّامه، وما كان لأهل المدينة من جميع القوانين علمائهم وعامتهم وأهل القلعة، وكذلك قانون ابن مضيان وحرب أن الجميع ما يختلف منه [في] شيء, وأنه يسلم بأيدي رجاجيلنا وعلى أن ما يبقى في الحرمين ممَّن قَدِم معكم أحد، فإن أحدثتم بعد ما يمشي الحاج حدثًا على الإسلام وأهله، فلا بوجهي من الحاج شيء, فإن صبرتم بما ذكرنا فالحاج يمشي بوجهي عن جميع المسلمين ذهابًا وإيابًا, وذكرنا لملا حسن ورجب مثل ما ذكرنا في هذه الصحيفة, وذكرنا إلى أوادمك أنك معاهدنا على الإسلام، وأنك أمرتَ بالصلوات تقام، وأمرت على معازِفِ الخمر تُرفَع، وهذا إذا وفقك الله للعمل به، وعملت بالتوحيد، وأزلت الشرك، وأقمت الفرائض..."
لم يزلْ أفتكين الشَّرابيُّ مولى مُعِزِّ الدولة بن بُوَيه طُولَ مُقامِه بدمشق يكاتِبُ القَرامِطةَ ويكاتِبونَه بأنَّهم سائرون إلى الشام، إلى أن وافَوا دمشق بعد موتِ المعِزِّ الفاطمي في هذه السنة، وكان الذي وافى منهم: إسحاقُ، وكِسرى، وجعفر، فنزلوا على ظاهرِ دمشق، ومعهم كثيرٌ مِن العجم أصحابِ أفتكين الذين تشَتَّتوا في البلاد وقتَ وَقعتِه مع الديلم، فلَقُوهم بالكوفة في الموقعات، فأركبوهم الإبِلَ، وساروا بهم إلى دمشق، فكساهم أفتكين؛ فقَوِيَ عسكَرُه بهم وتلَقَّى أفتكين القرامِطةَ وحَمَل إليهم وأكرَمَهم وفَرِحَ بهم، وأمِنَ مِن الخوف، فأقاموا على دمشق أيامًا ثم ساروا إلى الرملةِ وبها أبو محمود إبراهيم بن جعفر فالتجأ إلى يافا، ونزل القرامطةُ الرملة، ونصبوا القتالَ على يافا حتى مَلَّ كُلٌّ مِن الفريقين القِتالَ، وصار يُحَدِّثُ بَعضُهم بعضًا. وجبى القرامطةُ المال فأمِنَ أفتكين من مصرَ، وظَنَّ أن القرامِطةَ قد كَفَوه ذلك الوجهَ، وعمِلَ على أخذ الساحل، فسار بمن اجتمَعَ إليه، ونزل على صيدا، وبها ابنُ الشيخ، ورؤساءُ المغاربة، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي، فقاتلوه قتالًا شديدًا، فانهزم عنهم أميالًا، فخرجوا إليه، فواقعهم وهَزَمهم وقتل منهم، وصار ظالمُ إلى صُور، فيقال إنَّه قتل يومئذٍ أربعة آلافٍ مِن عساكِرِ المغاربة، قُطِعَت أيمانُهم وحُمِلَت إلى دمشق، فطِيفَ بها. ونزل أفتكين على عكَّا، وبها جمَعَ مِن المغاربة، فقاتلوه، فسيَّرَ العزيز بالله القائِدَ جَوهرًا بخزائن السلاح والأموال إلى بلاد الشام في عسكرٍ عظيمٍ لم يَخرُجْ قَبلَه مثلُه إلى الشام، من كثرة الكراعِ والسِّلاح والمال والرجال، بلَغَت عِدَّتُهم عشرين ألفًا بين فارسٍ وراجل، فبلغ ذلك أفتكين وهو على عكَّا، والقرامطة بالرملة، فسار أفتكين مِن عكَّا ونزل طبَريَّة، وخرج القرامِطةُ مِن الرملة، ونزلها جوهرٌ. وسار إسحاق وكسرى مِن القرامطة بمن معهم إلى الأحساءِ؛ لقِلَّةِ مَن معهم من الرجالِ الذين يلقَونَ بها جوهرًا، وتأخَّرَ جعفر من القرامطة فلَحِقَ بأفتكين وهو بطبرية، وقد بعث في جمعٍ في حوران والبثنية، وسار جوهر من الرملة يريدُ طَبَريَّة، فرحل أفتكين، واستحَثَّ النَّاسَ في حَملِ الغَلَّة من حوران والبثنية إلى دمشقَ، وصار أفتكين إلى دمشقَ، ومعه جعفر القرمطي، فنزل جوهرٌ على دمشق لثمانٍ بَقِينَ مِن ذي القعدة فيما بين داريا والشماسية، فجمَعَ أفتكين أحداثَ البلد، وأمَّنَ مَن كان قد فزع منه، فاجتمع حُمَّال السِّلاح والذعار إليه، ورئيسُهم قسام التراب. وأخذ جوهرٌ في حفر خندقٍ عظيمٍ على عسكره، وجعل له أبوابًا، وكان ظالمُ بنُ موهوب معه، فأنزله بعسكَرِه خارج الخندق، وصار أفتكين فيمن جمعَ مِن الذعار، وأجرى لكبيرِهم قسَّام رِزقًا. ووقع النفيُ على قُبَّة الجامع والمنابر، وساروا فجرى بينهم وبين جوهرٍ وقائِعُ وحُروبٌ شديدة وقتالٌ عظيم، وقُتِلَ بينهم خلقٌ كثيرٌ مِن يوم عرفةَ، فجرى بينهم اثنتا عشرة وقيعةً إلى آخر ذي الحجة. ولم يزل إلى الحادي عشر من ربيع الأول سنة 367 فكانت بين الفريقينِ وقعةٌ عظيمة، انهزم فيها أفتكين بمَن معه، وهَمَّ بالهرب إلى أنطاكية، ثم إنَّه استظهر. ورأى جوهرٌ أنَّ الأموال قد تَلِفَت، والرجالَ قد قُتِلَت والشِّتاءَ قد هجم، فأرسل في الصُّلح،ِ فلم يُجِب أفتكين، وذلك أنَّ الحُسَين بن أحمد الأعصم القرمطيَّ بعَثَ إلى ابنِ عَمِّه جعفر المقيم عند أفتكين بدمشقَ: إنِّي سائِرٌ إلى الشام، وبلغ ذلك جوهرًا، فتردَّدَت الرسل بينه وبين أفتكين حتى تقرَّرَ الأمرُ أنَّ جوهرًا يرحل، ولا يتبَعُ عَسكَرَه أحد، فسُرَّ أفتكين بذلك، وبعَثَ إلى جوهرٍ بجِمالٍ ليَحمِلَ عليها ثِقْلَه؛ لقِلَّة الظهر عنده، وبقي من السلاح والخزائنِ ما لم يَقدِرْ جَوهرٌ على حَملِه، فأحرقه، ورحل عن دمشق في ثالث جمادى الأولى. وقَدِمَ البشيرُ مِن الحسن بن أحمد القرمطي إلى عمِّه جعفر بمجيئه، وبلغ ذلك جوهرًا، فجَدَّ في السَّيرَ، وكان قد هلك من عسكرِه ناسٌ كثير من الثَّلجِ، فأسرع بالمسيرِ مِن طبرية، ووافى الحسَنُ بنُ أحمد من البريَّة إلى طبرية، فوجد جوهرًا قد سار عنها، فبعث خلْفَه سريَّةً أدركَتْه، فقابلهم جوهرٌ، وقتل منهم جماعةً، وسار فنزل ظاهِرَ الرملة، وتَبِعَه القرمطي، وقد لَحِقَه أفتكين، فسارا إلى الرملة، ودخل جوهرٌ زيتون الرملة، فتحصَّنَ به، فلما نزل الحسنُ بنُ أحمد القرمطي الرملةَ هلك فيها، وقامَ مِن بعده بأمرِ القرامطةِ ابنُ عَمِّه أبو جعفر، فكانت بينه وبين جوهرٍ حروب كثيرة. ثم إنَّ أفتكين فسَدَ ما بينه وبين أبي جعفرٍ القرمطيِّ، فرجع عنه إلى الأحساءِ، وكان حسَّانُ بنُ علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي أيضًا مع أفتكين على محاربةِ جَوهرٍ، فلم يرَ منه ما يحِبُّ، وراسله العزيزُ فانصرف عن أفتكين، وقَدِمَ القاهرة على العزيز، واشتدَّ الأمر على جوهر، وخاف على رجالِه، فسار يريدُ عسقلان، فتَبِعَه أفتكين. واستولى قَسَّام التراب على دمشقَ وخطَبَ للعزيز، فسار أبو تغلِبَ بنُ حمدان إلى دمشق، فقاتله قسَّام ومنعه، فسارَ إلى طبرية. وأدرك أفتكين جوهرًا، فكانت بينهما وقعةٌ امتدت ثلاثة أيام انهزم في آخرها جوهَرٌ، وأخذ أصحابَه السَّيفُ، فجَلوا عما معهم، والتحَقوا بعسقلان، فظَفِرَ أفتكين من عسكرِ جوهرٍ بما يَعظُمُ قَدرُه، واستغنى به ناسٌ كثيرون. ونزل أفتكين على عسقلانَ، فجَدَّ جوهرٌ حتى بلغ من الضُّرِّ والجَهدِ مَبلغًا عظيما، وغَلَت عنده الأسعارُ، فبلغ قفيزُ القمح أربعين دينارًا، وأخذت كتامة تسُبُّ جوهرًا وتنتَقِصُه، وكانوا قد كايَدوه في قتالهم، فراسل أفتكين يسألُه: ماذا يريدُ بهذا الحصار، فبعث إليه: لا يزولُ هذا الحصارُ إلا بمالٍ تؤدِّيه إليَّ عن أنفُسِكم. فأجابه إلى ذلك، وكان المالُ قد بقي منه شيءٌ يسير، فجمع من كان معه من كتامة، وجمع منهم مالًا، وبعث إليه أفتكين يقول: إذا أمَّنتُكم لابدَّ أن تخرجوا من هذا الحِصنِ مِن تحت السيفِ، وأمَّنَهم وعَلَّقَ السَّيفَ على باب عسقلان، فخرجوا من تحتِه. وسار جوهر إلى مصر، فكان مدَّة قتالهم على الزيتون وقَفلتِهم إلى عسقلان حتى خرجوا منها نحوًا من سبعة عشر شهرًا بقية سنة 366 إلى أن دنا خروجُ سنة 367. وقدم جوهرٌ على العزيز، فأخبره بتخاذُلِ كتامةَ، فغَضِبَ غضبًا شديدًا، وعذر جوهر في باطنه، وأظهر التنكير له، وعزَلَه عن الوزارة، وولَّى يعقوبَ بنَ كلس عوضَه في المحرم سنة 368.
هو أبو بكرٍ الصِّدِّيق عبدُ الله بن عُثمانَ بن عامرِ بن كعبِ بن سعدِ بن تَيْمِ بن مُرَّةَ بن كعبِ بن لُؤَيٍّ. وهو أحدُ العشرةِ المُبشَّرين بالجنَّةِ، وأوَّلُ الخُلفاءِ الرَّاشِدين، مِن أَوائلِ المُصَدِّقين للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمؤمنين به، بَقِيَ معه في مكَّة حتَّى هاجَر معه فكان صاحِبَه في ذلك، قَدَّمَهُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم للصَّلاةِ بالنَّاس في مَرَضِ مَوتِه، أَنفقَ في سبيلِ الله كُلَّ مالِه، كان وَزيرَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحِبَ مَشورَتِهِ، بايَعَهُ المسلمون على الخِلافَةِ بعدَ مَوْتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما هو مَذكور، تُوفِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيق بعدَ أن بَقِيَ خَليفةً مُدَّةَ سَنتين وثلاثةِ أَشهُر وعشرةِ أيَّام، تُوفِّيَ بعدَ أن مَرِضَ، وقد قام خِلالَ هذه المُدَّةِ القصيرةِ بِرَدِّ المُرْتَدِّين وحَرْبِهِم والتي شَمِلَتْ أجزاءَ الجزيرةِ كلَّها، ثمَّ كانت الحُروبُ مع الفُرْسِ والرُّومِ حيث أظهرت قُوَّةَ المسلمين وإمكاناتِهم القِتاليَّة التي لا يُستهان بها، دُفِنَ بجانِبِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حُجْرَةِ عائشةَ، فكان مع صاحِبِه كما كان معه في الدُّنيا، فجزاهُ الله عن الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ خيرًا ورضِي الله عنه وأَرضاهُ.
في الرابعَ عَشَرَ مِن مُحَرَّم خَرَجَ العَرَبُ، زعب ومَن انضَمَّ إليها، على الحُجَّاج بالغرابي، بين مَكَّة والمدينة، فأخذوهم ولم يَسلَمْ منهم إلَّا القليلُ، وكان سَبَبُ ذلك أنَّه سار على الحاجِّ قايماز الأرجواني، وكان حَدَثًا غِرًّا، سار بهم إلى مكَّةَ، فلمَّا رأى أميرُ مكَّةَ قايماز استصَغَرَه وطَمِعَ في الحاجِّ، وتلَطَّفَ قايماز الحالَ معه إلى أن عادوا، فلمَّا سار عن مكَّةَ سَمِعَ باجتماعِ العَرَبِ، فقال للحاجِّ: المصلحةُ أنَّا لا نمضي إلى المدينةِ، وضَجَّ العَجَمُ وتَهَدَّدَه بالشكوى منه إلى السُّلطانِ سنجر، فقال لهم: فأعطُوا العَرَبَ مالًا نَستكِفُّ به شَرَّهم! فامتنعوا من ذلك، فسار بهم إلى الغرابي، وهو مَنزِلٌ يَخرُجُ إليه مِن مَضيقٍ بين جبلين، فوَقَفوا على فَم مَضيقٍ، وقاتلهم قايماز ومَن معه، فلمَّا رأى عَجْزَه أخَذَ لنَفسِه أمانًا، وظَفِروا بالحُجَّاجِ، وغَنِموا أموالَهم وجميعَ ما عِندَهم، وتفَرَّقَ الناسُ في البَرِّ، وهلك منهم خلقٌ كَثيرٌ لا يُحصَونَ كَثرةً، ولم يَسلَمْ إلَّا القليل، فوصل بعضُهم إلى المدينةِ وتحَمَّلوا منها إلى البلادِ، وأقام بعضُهم مع العرب حتى توصَّلَ إلى البلادِ. قال ابن الأثير: "ثمَّ إن الله تعالى انتصَرَ للحاجِّ مِن زعب، فلم يزالوا في نَقصٍ وذِلَّةٍ، ولقد رأيتُ شابًّا منهم بالمدينةِ سنة 576، وجرى بيني وبينه مفاوضةٌ، قلت له فيها: إنَّني- واللهِ- كنتُ أَميلُ إليك حتى سمعتُ أنَّك مِن زعب، فنَفَرْتُ وخِفتُ شَرَّك. فقال: ولمَ؟ فقلت: بسبَبِ أخْذِكم الحاجَّ. فقال لي: أنا لم أدرِكْ ذلك الوقتَ، وكيف رأيتَ اللهَ صَنَعَ بنا؟ واللهِ ما أفلَحْنا، ولا نجَحْنا؛ قَلَّ العَدَدُ وطَمِعَ العدوُّ فينا"!
وهي غزوةُ ذي أمَرَّ بناحيةِ نَجدٍ. وسَبَبُها: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَلَغه أنَّ جَمعًا من بني ثَعلَبَة بنِ سَعيدِ بن ذُبْيانَ بن بَغيضٍ بنِ رَيثِ بن غَطَفانَ، وبني مُحارِبِ بن خَصَفةَ بن قَيسٍ بذي أمَرَّ قد تَجَمَّعوا يُريدون أن يُصيبوا مِن أطرافِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَمَعهم رجلٌ منهم يُقال له: دُعْثورُ بن الحارِثِ بن مُحارِبٍ، فنَدَب رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المسلمين، وخرج في أربعِمِئةٍ وخَمسين، معهم عِدَّةُ أفراسٍ، واستَخلَف على المدينةِ عُثمانَ بنَ عفانَ، فأصابوا بالمدينةِ رجلًا منهم بذي القَصَّةِ يُقال له: جَبَّارٌ من بني ثَعلَبةَ، فقال له المسلمون: أين تُريد؟ فقال: أُريدُ يَثرِبَ لأرتاَد لنَفسي وأنظُرَ، فأُدخِلَ على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرَه مِن خَبَرِهم، قال: لن يُلاقوك ولو سَمِعوا بسَيرِك هَرَبوا في رؤوسِ الجبالِ وأنا سائِرٌ معك، فدعاه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الإسلامِ وأسلم، وضمَّه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بلالٍ، فأخَذَ به جبَّارٌ طَريقًا، وهَبَط به عليهم، وسَمِع القومُ بمَسيرِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهَرَبوا في رؤوسِ الجِبالِ، فبَلَغ ماءً يقال له: ذو أمَرَّ، فعَسكرَ به، وأصاب رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه مطرٌ كثيرٌ، فابتَلَّت ثيابُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وثيابُ أصحابِهِ؛ فنزل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تحتَ شجرةٍ ونَشَر ثيابَهُ لتَجِفَّ، واضطَجَع، وذلك بمَرأًى من المُشرِكين، واشتَغَل المسلمون في شؤونِهم. فبَعَث المشركون رَجلًا شُجاعًا منهم يقال له: دُعْثورُ بنُ الحارث، وكان سيِّدَها وأشجَعَها، ومعه سيفٌ متقلِّدٌ به، فبادَرَ دُعْثورٌ وأقبَلَ مُشتَمِلًا على السَّيفِ، حتى قام على رأسِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالسَّيفِ مشهورًا، فقال: يا مُحمَّدُ، مَن يَمنَعُك مِنِّي اليَومَ؟ فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اللهُ". ودَفَع جِبريلُ في صدرِه، فوقَع السَّيفُ من يدِه؛ فأخَذه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال له: "مَن يَمنَعُك مِنِّي؟!" فقال: لا أحَدَ، وأنا أشهَدُ أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ الله، والله لا أُكثِّرُ عليك جَمعًا أبدًا، فأعطاهُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سيفَه.ثم أتى قَومَه فقالوا: ما لك؟ وَيلَكَ! فقال: نَظرتُ إلى رجلٍ طَويلٍ، فدَفَع في صَدري، فوَقَعتُ لظَهري، فعَرَفتُ أنَّه مَلَك، وشَهِدتُ بأنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، واللهِ لا أُكثِّرُ عليه جَمعًا. وجَعَل يَدعو قومَه إلى الإسلامِ. وأنزل الله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة 11]. وعاد رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المدينةِ، ولم يَلْقَ كَيدًا، وكانت غَيبَتُه خمسَ عشرةَ ليلةً، وقيل: قام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنَجدٍ صَفَرَ كُلَّه.
هو قطبُ الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحِبُ ماردين، ومَلَك بعده ابنُه حسام الدين بولق أرسلان، وهو طفل، وقام بتربيته وتدبيرِ مملكته نظامُ الدين البقش مملوك أبيه، وكان شاه أرمن صاحِبُ خلاط خالَ قطب الدين فحَكَم في دولته، وهو رتَّبَ البقشَ مع ولده، وكان البقشُ ديِّنًا خيرًا عادلًا حَسَن السيرة حليمًا، فأحسن تربيتَه وتزوَّجَ أمَّه. فلما كَبِرَ الولد لم يمكِنْه النظام من مملكتِه لخبطٍ وهَوجٍ فيه، وكان لنظام الدين هذا مملوكٌ اسمه لؤلؤ قد تحكَّمَ في دولته وحَكَم فيها، فكان يحمِلُ النظام على ما يفعَلُه مع الولَدِ, ولم يزَل الأمر كذلك إلى أن مات الولَدُ وله أخ أصغر منه لقَّبَه قطب الدين، فرَتَّبَه النظام في المُلكِ وليس له منه إلا الاسمُ، والحكمُ إلى النظام ولؤلؤ، فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمَرِضَ النظام البقش فأتاه قطبُ الدين يعوده، فلما خرج مِن عنده خرج معه لؤلؤ وضرَبَه قطبُ الدين بسكينٍ معه فقتله، ثم دخل إلى النظامِ وبِيَدِه السكينُ فقتله أيضًا، وخرج وحده ومعه غلامٌ له وألقى الرأسينِ إلى الأجناد، وكانوا كلُّهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعةِ، فلما تمكَّنَ أخرج من أراد وتَرَك من أراد، واستولى على قلعةِ ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور، وهو إلى الآن حاكِمٌ فيها حازِمٌ في أفعالِه.
هو الأميرُ الكبيرُ, قائِدُ الجُيوشِ, أبو الحسَنِ جَوهرُ بنُ عبد الله الروميُّ الصقلِّيُّ، قائد المعِزِّ الفاطميِّ, مِن نُجَباء الموالي. كان عاليَ الهِمَّة, نافِذَ الأمر. فتح مِصرَ للفاطميِّينَ فأنهى الحُكمَ الإخشيديَّ عليها لَمَّا تهيَّأَ له أخذُ البلاد بمُكاتبةٍ مِن أمراء مصر, عندما قَلَّت عليهم الأموالُ, اختَطَّ القاهِرةَ في اللَّيلةِ التي دخل فيها مِصرَ, والجامِعَ الأزهَرَ، كُلُّ ذلك قبلَ مجيءِ المعِزِّ الفاطميِّ إليها، ثمَّ لَمَّا تَمَلَّك العزيزُ أرسَلَه إلى فتح دمشق، لكنَّه انسحب لاستنجادِهم بالقرامِطةِ، فعُزِلَ عن القيادةِ إلى أن توفِّيَ. قال الذهبي: "كان جوهرٌ حسَنَ السيرةِ في الرَّعايا, عاقِلًا أديبًا, شُجاعًا مَهيبًا, لكِنَّه على نِحلةِ بَني عُبَيدٍ، التي ظاهِرُها الرَّفضُ, وباطِنُها الانحلالُ. وعُمومُ جُيوشِهم من البربَرِ، وأهلُ زعارةٍ وشَرٍّ لا سيَّما مَن تَزَندقَ منهم, فكانوا في معنى الكَفَرةِ, فكم ذاقَ المُسلِمونَ منهم من القَتلِ والنَّهبِ وسَبيِ الحريمِ، ولا سيَّما في أوائِلِ دَولتِهم, حتى إنَّ أهلَ صور استنجدوا بنصارى الرُّومِ لَمَّا لَحِقَهم من المغاربةِ مِن الظُّلمِ والجَورِ وأخْذِ الحَريمِ مِن الحَمَّامات والطُّرُقِ أمرٌ كبيرٌ"، فقاموا عليهم, وقَتَلوا فيهم فهربوا. توفِّيَ جَوهرٌ في هذه السَّنةِ في القاهرةِ، ودفن في الجامعِ الأزهر.
لما فرغ عماد الدين زنكي من أمرِ البلاد الشامية، حلب وأعمالها، وما ملكه، وقرَّر قواعده؛ عاد إلى الموصل، وديار الجزيرة؛ ليستريح عسكره، ثم أمرهم بالتجهُّز للغَزاة، فتجهزوا وأعدُّوا واستعدوا، وعاد إلى الشام وقَصَد حلب، فقَوِيَ عَزمُه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته؛ لشدة ضرره على المسلمين، وهذا الحصن بين حلب وبين أنطاكية، وكان مَن به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية، وكان أهل البلد معهم في ضرٍّ شديد وضيق كل يوم؛ قد أغاروا عليهم، ونهبوا أموالهم. فلما رأى زنكي هذه الحالَ صَمَّم العزمَ على حصر هذا الحصن، فسار إليه ونازله، فلما علمَ الفرنج بذلك جمعوا فارِسَهم وراجِلَهم، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها، فحشدوا وجمعوا ولم يتركوا من طاقتهم شيئًا إلا استنفدوه، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه، ثم ترك عماد الدين الحصن وتقدم إليهم، فالتقوا واصطفُّوا للقتال، وصبر كلُّ فريق لخصمه، واشتدَّ الأمر بينهم، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين فظفروا، وانهزم الفرنج أقبحَ هزيمة، ووقع كثيرٌ من فرسانهم في الأَسْر، وقُتِل منهم خلق كثير، فلما فرغ المسلمون من ظَفَرِهم عادوا إلى الحصن فتسلَّموه عَنوةً، وقتلوا وأسروا كل من فيه، وأخربه عماد الدين، وجعله دكًّا، ثم سار منه إلى قلعة حارم، وهي بالقرب من أنطاكية، فحصرها، وهي أيضًا للفرنج، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه، فأجابهم إلى ذلك،وعاد عنهم وقد استقوى المسلمون بتلك الأعمال؛ قال ابن الأثير تعليقًا على انتصارات زنكي في حصن الأثارب وقلعة حارم: "وضعفت قُوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حِفظَ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طَمِعوا في ملك الجميع".
في يوم الاثنين ثاني شعبان مَلَك المَلِك الأشرف بن الملك العادل مدينة دمشق من ابن أخيه الملك الناصر صلاح الدين داود بن المعظم، وسبب ذلك أن صاحب دمشق لما خاف من عمِّه الملك الكامل أرسل إلى عمه الأشرف يستنجده، ويستعين به على دفع الكاملِ عنه، وسار صاحب دمشق إلى بيسان وأقام بها، وعاد الملك الأشرف من عند أخيه، واجتمع هو وصاحب دمشق، ولم يكن الأشرف في كثرة من العسكر، ووصلت العساكر من الكامل إلى الأشرف، وسار فنازل دمشق وحصرها، وأقام محاصرًا لها إلى أن وصل إليه الملك الكامل، فحينئذ اشتدَّ الحصار، وكان من أشد الأمور على صاحبها أن المال عنده قليل؛ لأنَّ أمواله بالكرك، ولوثوقه بعمه الأشرف لم يحضر منها شيئًا فاحتاج إلى أن باع حلي نسائِه وملبوسَهنَّ، وضاقت الأمور عليه، فخرج إلى عمِّه الكامل وبذل له تسليم دمشق وقلعة الشوبك على أن يكون له الكرك والغور وبيسان ونابلس، وأن يبقي على أيبك قلعة صرخد وأعمالها، وتسلم الكاملُ دمشق، وجعل نائبَه بالقلعة إلى أن سلم إليه أخوه الأشرف حران والرها والرقة وسروج ورأس عين من الجزيرة، فلما تسلَّم ذلك سلم قلعة دمشق إلى أخيه الأشرف، فدخلها وأقام بها، وسار الكامل إلى الديار الجزرية، فأقام بها إلى أن استدعى أخاه الأشرف بسبب حصر جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة خلاط، فلما حضر عنده بالرقة عاد الكامل إلى ديار مصر.
بعد أن رجع الناصِرُ محمَّد إلى السلطنة وقَتَل المظَفَّر بيبرس الجاشنكيري، بقِيَ هناك الكثيرُ مِن الأمراء الذين كان يتخَوَّفُ منهم فبدأ بالقَبضِ عليهم فاستدعى من دمشقَ سبعةً من الأمراء واعتقَلَهم وحبَسَهم عنده، وفي مِصرَ قَبَض على أربعةَ عَشرَ أميرًا وحَبَسَهم، ومنهم من قُتِلَ وأُخِذَت إقطاعاته، وقُبض أيضًا على مماليك المظَفَّر بيبرس، ولكِنَّه تَرَكهم رحمة لهم، ثم إنَّه كان يهتَمُّ أكثَرَ شَيء ٍلأمرِ الأمير سيف الدين سلار المغولي الذي كان نائِبَ السلطان بيبرس الجاشنكيري، فهو الذي كان الآمِرَ الناهيَ في الدولة، وهو الذي حَرَّض بيبرسَ على كلِّ الأفعال التي صدرت منه وخاصةً مُصادرة أموال الناصر، وكان سلار قد هرب إلى الشوبك، ثمَّ إنَّه قَرَّر الحضورَ إلى السلطانِ النَّاصر، فلمَّا حضر حبَسَه وبقي محبوسًا شَهرًا حتى مات في سِجنِه جُوعًا وعَطَشًا، وقد استُخرِجَت منه كلُّ أمواله وإقطاعاته، فكانت كثيرة جدًّا بما لا يُحَدُّ ولا يوصَفُ من الذهب والفضَّة والجواهر الثمينة من الياقوت والزمُرُّد واللؤلؤ وغير ذلك من الأموال والأراضي والحيوانات الشيء المهول، ويُذكَرُ أنَّ سلار أصله من المماليك التتار الأويراتية، وصار إلى الملك الصالحِ عليِّ بن قلاوون، وبقِيَ بعد موته في خدمة الملك المنصورِ قلاوون حتى مات، ثم دخل في خدمةِ الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وحَظِي عنده، فلما قُتِلَ حظي عند لاجين لمودَّة كانت بينهما، وترقى إلى أن صار نائِبَ السلطنة بديار مصرَ للسُّلطانِ المظَفَّر بيبرس.
كانت وقعةُ دلقة من غير رضاء أمير العُيينة ابن معمر ولم يشاوَرْ فيها؛ لذلك لم يحضُرْها. يقول ابن غنام: "لما رأى ابنُ معمر عودةَ الجماعة من الحرب خَشِيَ أن ينكشف نفاقُه وأن تظهر خيانته, فأرسل إلى الشيخ وإلى محمد بن سعود يستشفع إليهما, ويطلب منهما الصفحَ عن تخلُّفِه، فقبلا عذره رجاءً منهما ألا يعودَ إلى مكره, ثم قَدِمَ عليهما ومعه وجوهُ أهل حريملاء والعُيينة، وعاهدهما على الجهاد والقيام بنصرة الدين، ولو في أي مكان, فتوهَّما فيه الصدق والوفاء، فرأَّسوه ورفعوه على المسلمين وأمَّروه, وكان من أعظم ما أظهر نفاق عثمان بن معمر أنَّه أرسل إلى إبراهيم بن سليمان أمير ثرمداء وأمَرَه أن يركب إلى دهام بن دواس مع جماعتِه ويزين له الاتِّفاقَ مع عثمان والقدوم عليه إلى العُيينة على أن يُظهِرَ في أحاديثه بمجالِسِه أنه اهتدى وانضم إلى الجماعة, فقدم مع دهام مع إبراهيم بن عثمان، وكان ذلك من غير مشورة الشيخ وابن سعود، فحين رأى أهل العيينة دهامًا وعَلِموا بما حدث شَقَّ عليهم ذلك واجتمعوا جميعًا وساروا إلى عثمان, فلما رأى حالَهم مَوَّه عليهم وقال لهم: ليس لي مرادٌ إلا الإرسال للشيخ ليحضُرَ عقد الصلح ويدخُلَ دهام في دائرة الإسلامِ، فاطمأنت نفوسُ القوم, ثم أرسل إلى الشيخ وألحَّ عليه في القدوم، ولكن الله ألقى في رُوعِ الشيخ ما استبان به خيانةَ عثمان وغدره، فامتنع عن الذهاب فلمَّا رجع الرسول وأخبرهم بذلك عرف أهل البلد مكرَ عثمان، فحصروا ابن دواس في القصرِ وهَمُّوا أن يفتكوا به، لكن دهام هرب منهم تحت جنح الظلام، وعاد إبراهيم بن سليمان إلى ثرمداء وفارق منهج الحق, وكان هذا كلُّه قبل أن يفِدَ عثمان على الشيخ وابن سعود ويأخذ منهما العهد المجدد, ولكنه مع ذلك لم يخلِصِ النية ولم يعقِدْ على الوفاء، وسيتبين غدرُه "
كانت حربٌ شديدة بين سنجر وابن أخيه السلطان محمود بن محمد، وكان سنجر عزم على قصد بلد الجبال والعراق وما بيد محمود ابن أخيه، ثمَّ إن السلطان محمودًا أرسل إلى عمه سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغايرك بن اليزن، ومعهما الهدايا والتحف، وبذل له النزول عن مازندران، وحمل مائتي ألف دينار كل سنة، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة، فتجهَّز ليسير إلى الري، فأشار عليه شرف الدين أنوشروان بترك القتال والحرب، فكان جوابه في ذلك: إنَّ ولد أخي صبي، وقد تحكَّم عليه وزيره والحاجب علي، فلما سمع السلطان محمود بمسير عمه نحوه، ووصول الأمير أنر في مقدمته إلى جرجان؛ تقدم إلى الأمير علي بن عمر، وضم إليه جمعًا كثيرًا من العساكر والأمراء، فالتقيا بالقرب من ساوة ثاني جمادى الأولى من السنة، واستهان عسكر محمود بعسكر عمِّه بكثرتهم وشجاعتهم، وكثرة خيلهم، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية لما رأوا لهذا العسكر من القوة والكثرة، فانهزمت ميمنة سنجر وميسرته، واختلط أصحابُه، واضطرب أمرُهم، وساروا منهزمين، فألجأت سنجر الضرورة عند تعاظم الخطب عليه، أن يقَدِّمَ الفِيَلة للحرب، وكان من بقي معه قد أشاروا عليه بالهزيمة، فقال: إما النصر أو القتل، وأما الهزيمة فلا. فلما تقدمت الفِيَلة ورآها خيل محمود تراجعت بأصحابها على أعقابها، فأشفق سنجر على السلطان محمود في تلك الحال، وقال لأصحابه: لا تُفزِعوا الصبيَّ بحملاتِ الفِيَلة، فكفُّوها عنهم! وانهزم السلطان محمود ومن معه في القلب، ولما تم النصر والظفر للسلطان سنجر أرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه إليه، ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام، فأرسل الأمير دبيس بن صدقة إلى المسترشد بالله في الخطبة للسلطان سنجر، فخُطِب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى، وقُطِعت خطبة السلطان محمود، وحمل له السلطان محمود هدية عظيمة، فقبلها ظاهرًا، ورَدَّها باطنًا، ولم تُقبَل منه سوى خمسة أفراس عربية، وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التي بيده كخراسان وغزنة وما وراء النهر، وغيرها من الولايات، بأن يُخطَب للسلطان محمود بعده، وكتب إلى بغداد مثل ذلك، وأعاد عليه جميعَ ما أخذ من البلاد سوى الري، وقصد بأخذها أن تكون له في هذه الديار لئلا يحَدِّثَ السلطان محمود نفسَه بالخروج.
كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد، وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها، ونازلوا مدينة حمص، وكان جمعهم كثيرًا لم يكن لصاحبها أسدِ الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بهم قوَّةٌ ولا يقدر على دفعِهم ومنعِهم، فاستنجد الظاهِرَ غازي، صاحِبَ حلب، وغيره من ملوك الشام، فلم ينجده إلا الظاهر؛ فإنه سيَّرَ له عسكرًا أقاموا عنده، ومنعوا الفرنجَ عن ولايته، ثمَّ إن الملك العادل خرج من مصر بالعساكر الكثيرة، وقصد مدينةَ عكا، فصالحه صاحبُها الفرنجي على قاعدة استقرت من إطلاق أسرى من المسلمين وغير ذلك، ثم سار إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، وجاءته عساكرُ الشرق وديار الجزيرة، ودخل إلى بلادِ طرابلس، وحاصر موضعًا يسمَّى القليعات، وأخذه صلحًا، وأطلق صاحِبَه، وغنم ما فيه من دواب وسلاح، وخرَّبه، وتقدَّمَ إلى طرابلس، فنهب وأحرق وسبى، وغنم وعاد، وكانت مدَّة مقامه في بلد الفرنج اثني عشر يومًا، وعاد إلى بحير قدس، وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصُّلح، فلم تستقِرَّ قاعدة، ودخل الشتاء، وطلبت العساكر الشرقيَّة العودَ إلى بلادهم قبل البرد الشديد، فنزل طائفةٌ من العسكر بحمص عند صاحبها، وعاد إلى دمشق فشتى بها، وعادت عساكر ديار الجزيرة إلى أماكنها.
كان أميرُ الحُجَّاج العراقيين الشَّريفان أبو الحسن محمد بن عبد الله، وأبو عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويان، فجرى بينهما وبين عساكِرِ المِصريِّين من أصحابِ ابنِ طغج حربٌ شديدة، وكان الظَّفَرُ لهما، فخطَبَ لمُعِزِّ الدولة بمكَّة، فلما خرجا من مكَّة لَحِقَهما عسكرُ مِصرَ، فقاتَلَهما، فظفرا به أيضًا.