خرج السلطانُ قلاوون من دمشق إلى طرابلس فنازلها، وقد قَدِمَ لنجدة أهلِها أربعة شوان- سفن حربية كبيرة- من جهةِ متمَلِّك قبرص، فوالى السلطانُ الرميَ بالمجانيق عليها والزَّحفِ والنُّقوب في الأسوار، حتى افتَتَحها عَنوةً في الساعة السابعة من يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر، بعدما أقام عليها أربعة وثلاثين يومًا، ونصب عليها تسعةَ عشر منجنيقًا، وعَمِلَ فيها ألف وخمسمائة نفسٍ من الحجَّارين الزرَّاقين- رُماة الرماح- وفرَّ أهلُها إلى جزيرة تجاه طرابلس، فخاض الناس فرسانًا ورجالًا وأسَرُوهم وقتلوهم وغَنِموا ما معهم، وظَفِرَ الغلمان والأوشاقية- مسؤولو ركوب السلطان للأحصنة للمتعة والرياضة- بكثيرٍ منهم كانوا قد ركبوا البحرَ فألقاهم الريحُ بالساحل، وكَثُرت الأسرى حتى صار إلى زردخاناه السلطان ألف ومائتا أسير، واستشهد من المسلمين الأميرُ عِزُّ الدين معن، والأميرُ ركن الدين منكورس الفارقاني، وخمسة وخمسون من رجال الحلقة، وأمر السلطان بمدينة طرابلس فهُدِمت، وكان عرض سورها يمرُّ عليه ثلاثةُ فرسان بالخيل، ولأهلها سعاداتٌ جليلة منها أربعة آلاف نول قزازاة، وأقر السلطان بلدةَ حبيل مع صاحِبِها على مالٍ أخذه منه، وأخذ بيروت وجبلة وما حولها من الحصون، وعاد السلطانُ إلى دمشق في نصف جمادى الأولى، ثم عمر المسلمون مدينة بجوار النهر فصارت مدينة جليلة، وهي التي تعرف اليوم بطرابلس، وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة 503 إلى هذا التاريخ، وقد كانت قبل ذلك في أيدي المسلمين من زمان معاوية، فقد فتحها سفيانُ بن نجيب لمعاوية، فأسكنها معاويةُ اليهود، ثم كان عبدُ الملك بن مروان جدَّدَ عِمارَتَها وحَصَّنَها وأسكنها المسلمين، وصارت آمنةً عامرة مطمئنة، وبها ثمارُ الشام ومصر، فإنَّ بها الجوز والموز والثلج والقصب، والمياه جارية فيها تصعدُ إلى أماكِنَ عالية، وقد كانت قبل ذلك ثلاثَ مدن متقاربةً، ثم صارت بلدًا واحدًا، ثم حُوِّلت من موضعها ثمَّ أمر السلطان الملك المنصور قلاوون أن تهَدَّمَ البلد بما فيها من العمائِرِ والدور والأسوار الحصينة التي كانت عليها، وأن يبنى على ميل منها بلدةٌ غيرُها أمكَنُ منها وأحسَنُ، ففعل ذلك، فهي هذه البلدة التي يقال لها طرابلس.
وصل والي قوص ممَّن معه إلى اتجاه الجزيرة التي بها عامون ملك النوبة، فرأوا بها عدة من مراكب النوبة، فبعثوا إليه في الدخولِ في الطاعةِ وأمَّنوه فلم يقبَلْ، فأقام العسكرُ تجاهه ثلاثة أيام، فخاف عامون من مجيءِ الحراريق والمراكبِ إليه، فانهزم إلى جهةِ الأبواب، وهي خارجةٌ عن مملكتِه وبينها وبين الجزيرة التي كان فيها ثلاثةُ أيام، ففارقه السواكرة وهم الأمراء وفارقه الأسقُفُ والقُسوس، ومعهم الصليبُ الفِضَّة الذي كان يُحمَلُ على رأسِ الملك، وتاجُ الملك، وسألوا الأمان فأمَّنَهم والي قوص وخلَعَ على أكابِرِهم، وعادوا إلى مدينةِ دنقلة وهم جمعٌ كبير، وعند وصولهم عبر الأمير عزُّ الدين الأفرم وقبجاق إلى البر الشرقي، وأقام العسكرُ مكانه، واجتمع الأمراءُ بدنقلة، ولبس العسكرُ آلةَ الحرب وطلبوا من الجانبينِ، وزُيِّنَت الحراريق في البحر، ولعب الزرَّاقون بالنِّفاط، ومدَّ الأمراء السماط في كنيسةِ أسوس أكبَرِ كنائس دنقلة وأكلوا، ثم ملَّكوا الرجلَ الذي بعثه السلطانُ قلاوون وألبسوه التاجَ، وحلفوا وسائِرَ الأكابرِ، وعينوا طائفةً من العسكر تقيمُ عندهم وعليها بيبرس العزي مملوكُ الأمير عزِّ الدين والي قوص، وعاد العسكرُ إلى أسوان بعدما غاب عنها ستة أشهر، وساروا إلى القاهرةِ في آخر جمادى الأولى بغنائِمَ كثيرة، وأما عامون فإنَّه عاد بعد رجوع العسكرِ إلى دنقلة مختفيًا، وصار بطريقِ باب كلِّ واحد من السواكرة ويستدعيه، فإذا خرج ورآه قَبَّلَ له الأرضَ وحلف له، فما طلع الفجرُ حتى ركِبَ معه سائرُ عَسكرِه، وزحف عامون بعسكره على دار الملك، وأخرج بيبرس العزي ومَن معه إلى قوص، وقَبَض على الذي تمَلَّك مَوضِعَه وعرَّاه من ثيابه، وألبسه جلدَ ثورٍ كما ذُبِحَ بعدما قَدَّه سيورًا ولَفَّها عليه، ثمَّ أقامه مع خشبةٍ وتركه حتى مات، وقُتِلَ جريس أيضًا، وكتب عامون إلى السلطانِ يسأله العفو، وأنَّه يقوم بالبقط المقرَّر وزيادة، وبعث رقيقًا وغيره تقدمةً فقَبِلَ منه، وأقرَّه السلطانُ بعد ذلك بالنوبةِ.
قدم البريدُ بوصول طائفةِ الأويراتية من التتار ومُقَدَّمُهم طرغاي زوجُ بنت هولاكو، وإنَّهم نحو الثمانية عشر ألف بيت، وقد فَرُّوا من غازان ملك التتار وعبَروا الفراتَ يريدون الشام، فكتب إلى نائب الشام أن يبعَثَ إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري إلى الرَّحبةِ لِيلقاهم، فخرجَ من دمشق، ثم توجَّه بعده الأميرُ سنقر الأعسر شاد الدواوين بدمشق، ووصلت أعيانُ الأويراتيَّة صُحبة سنقر الأعسر في الثالث عشر من صفر، وكانت عِدَّتُهم مائة وثلاثة عشَرَ رجُلًا، ومقَدَّمُهم طرغاي، ومن أكابِرِهم الوص وككباي، فتلقاهم النائبُ والأمراء واحتفل لقدومِهم احتفالًا زائدًا، ثم سار بهم الأميرُ قراسنقر إلى القاهرةِ يوم الاثنين سابعَ ربيع الآخر، فلما وصلوا بالغَ السلطان في إكرامِهم والإحسانِ إليهم، وأمر عدَّةً منهم، وبقُوا على كفرهم، ودخل شهرُ رمضان فلم يَصُمْ منهم أحد، وصاروا يأكلونَ الخيلَ مِن غيرِ ذَبحِها، بل يربط الفَرَسُ ويُضرَبُ على وجهِه حتى يموتَ فيُؤكَلَ، فأنِفَ الأمراء من جلوسِهم معهم بباب القلَّة في الخدمة، وعَظُم على الناس إكرامُهم، وتزايد بعضُهم في السلطان، وانطلقت الألسنةُ بذَمِّه حتى أوجب ذلك خلعَ السلطان العادل كتبغا فيما بعدُ، وأما بقيَّةُ الأويراتية فإنه كتب إلى سنجر الدواداري أن ينزِلَهم ببلاد الساحل، فمَرَّ بهم على مرج دمشق، وأخرجت الأسواقُ إليهم فنُصِبَت بالمرج وبمنزلة الصنمين وفي الكسوة، ولم يمكِنْ أحدًا من الأويرايتة أن يدخُلَ مدينة دمشق، وأُنزلوا من أراضي عثليث ممتَدِّين في بلاد الساحل، وأقام الأميرُ سنجر عندهم إلى أن حضر السلطانُ كتبغا إلى الشام، وقد هلك منهم عالم كبير، وأخذ الأمراء أولادهم الشباب للخدمة، وكثرت الرغبةُ فيهم لجمالِهم، وتزوَّج الناسُ ببناتهم، وتنافسَ الأمراءُ والأجناد وغيرهم في صبيانِهم وبناتهم، ثم انغمس من بَقِيَ منهم في العساكِرِ، فتفَرَّقوا في الممالك، ودخلوا في الإسلامِ واختلطوا بأهل البلاد، ويُذكَرُ أن أصل السلطان كتبغا هو من التتار كان مملوكًا مغوليًّا ثم علا شأنُه حتى تمَلَّك مِصرَ؛ فلذلك قَدِمَت الأسَرُ المغوليَّةُ إليه.
هو منطاش الأشرفي نسبةً إلى الأشرف شعبان بن حسين، كان اسمُه تمربغا، ويقال له أخو تمربيه، وكانت لتمربيه منزلةٌ من الأشرف، وتنقل منطاش إلى أنْ ولاه الظاهر برقوق نيابةَ السلطنة بملطية في سنة 788 فجمع كثيرًا من التركمان وأظهر العِصيانَ وانضوى إليه كثيرٌ مِن الأشرفيَّة الذين شَرَّدَهم برقوق لَمَّا تسَلْطَنَ في البلادِ، فلما بلغ الظاهِرَ ذلك جهَّزَ إليه عسكَرَ حلب مع أربعة أمراء من مقَدَّمي الألوف بالقاهرة، فانضوى منطاش إلى برهان الدين صاحب سيواس فحوصر، ثم آل الأمر إلى رجوع العسكر وقد فر منطاش، واتفق أنَّ الناصريَّ عصى على برقوق وكاتبَ نواب البلاد، فوافقوه فراسَلَ منطاش فجمع من أطاعَه، وحضر إلى حلب وذلك سنة 91 فجهَّزَه الناصري إلى حماة فمَلَكَها إلى أن قَدِمَ الناصري بالعسكر، فتوجهوا إلى القاهرة واستولى الناصريُّ على المملكة وأعاد السلطان حاجي، واستقر منطاش أميرًا كبيرًا، ثم استولى منطاش على المملكة، فطاش وكان أهوجَ كثيرَ العطايا، كما قيل نهابًا وهَّابًا، فاعتقل الناصِرَ والجوباني وغيرَهما بالإسكندرية، وفي غضون ذلك بعد دخول سنة 92 بلغه أن الظاهرَ برقوق خلَصَ مِن سجن الكرك وانضَمَّ إليه جماعة، فجهز العسكر وتوجَّه إلى جهته، فوقعت لهم الوقعة الشهيرة، فانهزم منطاش واحتوى الظاهِرُ على المملكةِ وعلى غالب من كان معه مِن رؤوس المملكة, وفي سنة 93 توجه منطاش من جهة العمق إلى أن وصل إلى قربِ دمشق، ولما لم يحصُلْ للعسكر السلطاني منه غَرَضٌ رجعوا إلى أوطانهم، ونازل منطاش دمشقَ فجَهَّزَ له الناصريُّ من هزمه، فتوجه إلى بلاد نعير فأقام عنده ثم راسَلَ الظاهِرُ نعيرًا في أمر منطاش واسترضاه ورَدَّ عليه إمرتَه، وأوسَعَ له في الوعدِ، فغدر بمنطاش وقَبَضَ عليه وجَهَّزَه إلى حلب فاعتقل بقلعَتِها إلى أن جاء الأمرُ بقَتلِه وتجهيز رأسِه، ففُعِلَ به ذلك في سنة 795 وطِيفَ برأسِه بالقاهرةِ، ثم عُلِّقَ على باب زويلة، وكان شجاعًا قَتَّالًا عاليَ الهِمَّة كثيرَ البَذلِ، أهلك جميعَ ما كان الظاهِرُ حَصَّلَه من الأموال في أيسَرِ مُدَّةٍ.
في رابع عشر شهر صفر قدم الخبر بخروج تنبك البجاسي عن الطاعة ومحاربته أمراء دمشق، وسبب ذلك أنه لما ولي سودن بن عبد الرحمن نيابة الشام عوضا عن تنبك، تقدمت الملطفات السلطانية إلى أمراء دمشق، بالقبض على تنبك البجاسي، فأتوا دار السعادة في ليلة الجمعة رابِعَه، واستدعوه ليقرأ عليه كتاب السلطان، فارتاب من ذلك، وخرج من باب السِّرِّ، وقد لبس السلاحَ في جمع من مماليكه، فثار إليه الأمراءُ واقتتلوا معه حتى مضى صدر نهار الجمعة، فانهزموا منه، وتحصن طائفة منهم بالقلعة، ومضى آخرون إلى سودن بن عبد الرحمن، وقد نزل على صفد، ثم خرج تنبك البجاسي من دمشق بعد محاربته الأمراء حتى نزل على الجسر في يوم الجمعة الحادي عشر، وقد قطع سودن بن عبد الرحمن الجسرَ، فباتوا يتحارسون، وأصبحوا يوم السبت الثاني عشر يترامَون نهارهم كلَّه حتى حجز الليلُ بينهم، فباتوا ليلةَ الأحد على تعبيتهم، وأصبح تنبك يوم الأحد الثالث عشر راحلًا إلى جهة الصبيبة، في انتظار ابن بشارة أن يأتيه تقويةً له، فكتب سودن بذلك إلى السلطان، وركب بمن معه على جرائد الخيل، وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس، وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء السادس عشر، فتمكن من القلعة، فللحال أدركهم تنبك وقد بلغه مسيرهم، فلقوه عند باب الجابية وقاتلوه، فثبت لهم مع كثرتهم، وقاتلهم أشد قتال، والرمي ينزل عليه من القلعة، فتقنطر عن فرسه لضربةٍ أصابت كَتِفَه حتى خلعته، فتكاثروا عليه وجروه إلى القلعة ومعه نحو عشرين من أصحابه، وكُتِبَ بذلك للسلطان، فقَدِمَ الكتاب الأول من جسر يعقوب في يوم الأحد عشرين، فاضطرب الناس، ووقع الشروع في السفر، وأُحضِرَت خيول كثيرة من مرابطها بالربيع، فقدم الخبر الثاني بأخذ تنبك البجاسي بدمشق، فدُقَّت البشائر، وكُتِبَ بقتله وحَمْل رأسه إلي مصر، وتتبُّع من كان معه، وبطلت حركةُ السَّفَرِ.
جمَعَ مَلِكُ قشتالة الفونسو عساكِرَه من الفرنج، وركب البحرَ إلى قرطبة يريد أخذ غرناطة من المسلمين، فاشتدَّ البلاء عليهم؛ لقلة المال بغرناطة، وفناء عسكرها في الفتنة التي حصلت في استعادة الملك، وموت من هلك في الزلزلة أكثر من ستة آلاف إنسان، ونزل الفرنج عليهم، فلقُوهم في يوم الجمعة عاشر رمضان من هذه السنة، وقاتلوهم يومهم ومن الغد، قُتِلَ من المسلمين نحو الخمسة عشر ألفًا، وألجأهم العدو إلى دخول المدينة، وعسكر بإزائها على بريد منها، وهم نحو خمسمائة وثمانين ألفًا، وقد اشتد الطمع في أخذها، فبات المسلمون ليلة الأحد في بكاء وتضرع إلى الله، ففتح عليهم الله تعالى، وألهمهم رُشدَهم، وذلك أن الشيخ أبا زكريا يحيى بن عمر بن يحيى بن عمر بن عثمان بن عبد الحق شيخ الغزاة خرج من مدينة غرناطة في جمع ألفين من الأجناد، وعشرين ألفًا من المطوعة، وسار نصف الليل على جبل الفخار، حتى أبعد عن معسكر الفرنج إلى جهة بلادهم، ورفع أمارة في الجبال يُعلِمُ بها السلطان بغرناطة، فلما رأى تلك العلامات من الغد خرج يوم الأحد، بجميع من بقي عنده إلى الفرنج، فثاروا لحربهم، فولى السلطان بمن معه من المسلمين، كأنهم قد انهزموا، والفرنجُ تتبَعُهم، حتى قاربوا المدينة، ثم رفعوا الأعلام الإسلامية، فلما رآها الشيخ أبو زكريا نزل بمن معه إلى معسكر الفرنج، وألقى فيه النار، ووضع السيفَ فيمن هنالك، فقَتَل وأسَرَ وسبى، فلم يدع الفرنج إلا والصريخ قد جاءهم، والنار ترتفع من معسكرهم، فتركوا أهل غرناطة ورجعوا إلى معسكرهم، فركب السلطانُ بمن معه أقفيَتَهم، يقتلون ويأسرون، فبلغت عدة من قتل من الفرنج ستة وثلاثين ألفًا، ولحق باقيهم ببلادهم، بعدما كادوا أن يملكوا غرناطة، وبلغت عدةُ مَن أَسَر المسلمون من الفرنج نحو اثني عشر ألفًا، ويقول المكثِر: إنه قُتِل ومات وأُسِر من الفرنج في هذه الكائنة زيادة على ستين ألفًا.
لم يتجاوب الشعب الجزائري مع السياسة الفرنسية في جميع الجهاتِ بدون استثناء؛ فلم يكن هناك أثَرٌ في فَرْنَسة الشعب الجزائري المسلِم، وهو ما دفع مخطِّطي السياسة الفرنسية إلى اتهام الجزائريين بأنَّهم شَعبٌ يعيش على هامش التاريخ. حارب الجزائريون سياسةَ التفرقة الطائفية، وقد رأى المصلِحون من أبناء الجزائر في ظِلِّ فَشلِ حركات المقاومة يتقَدَّمُهم الشيخ العالِم عبد الحميد بن باديس أنَّ العمل يجب أن يقومَ في البداية على التربية الإسلامية؛ لتكوين قاعدة صلبة يمكِنُ أن يقومَ عليها الجهاد في المستقبل، مع عدم إهمال الصراع السياسي؛ فتمَّ تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1350هـ -1931م بزعامة عبد الحميد بن باديس، وعلى الصعيد السياسي بدأ الجزائريون المقاومةَ من خلال التنظيم السياسي الذي خاض هذا الميدانَ بأفكار متعددة، وظهرت عدةُ تنظيمات سياسية، ولَمَّا اشتعلت الحربُ العالمية الثانية ذهب كثيرٌ من الجزائريين إلى الحرب للدفاع عن فرنسا، فدُمِّر الإنتاج في الجزائر وزادت صعوباتُ الحياة؛ لذلك تقدَّموا ببيان إلى السلطات الفرنسية يطالبون فيه بحَقِّ تقرير المصير، تقدَّم به فرحات عباس زعيم حزب اتحاد الشعب الجزائري، ورفضت فرنسا قَبولَ البيان كأساسٍ للمحادثات، فأحدث ذلك ردَّ فِعلٍ عنيفًا عند الجزائريين الذين أصَرُّوا على تمسُّكِهم بالبيان والتزامهم به، ففرض الجنرال كاترو الحاكِمُ العام في الجزائر الإقامةَ الجبرية على فرحات عباس وغيره من الزعماء الجزائريين، فاستغلت فرنسا قيامَ بعض المظاهرات في عدد من المدن الجزائرية وإحراقها للعلم الفرنسي، فارتكبت مذبحةً رهيبة سقط فيها (45) ألف شهيد جزائري، فاتجه الجزائريون بعد تلك المذابح البَشِعة إلى العَمَل السري، وكان يتم اختيارُ أفراد هذا العمل من خيرة الشبانِ خُلقًا وأدبًا، فلم يكن يُسمَحُ بضَمِّ المُلحِدين أو الفوضويين، وبدأت خلايا المجاهِدين تنتشر في الجزائر طولًا وعرضًا، وأحيطت أساليبُ العمل بسريةٍ تامةٍ؛ مما كان له أكبر الأثر في نجاح الثورة، واستطاع هذا التنظيمُ الدعايةَ للثورة في صفوف الشعب وإعداده للمعركة القادمة.
تَجدَّدت الفِتنةُ ببغداد بين السُّنَّةِ والشِّيعَة، وعَظُمَت أضعافَ ما كانت عليه قديمًا، وكان سببُ هذه الفِتنَة أنَّ أهلَ الكَرخ عَمِلوا أَبراجًا كَتَبوا عليها بالذَّهَبِ: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ. وأَنكرَ السُّنَّةُ ذلك، وادَّعوا أنَّ المكتوبَ: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ، فمَن رَضِيَ فقد شَكَر، ومَن أَبَى فقد كَفَر. وأَنكَر أهلُ الكَرخ الزِّيادةَ وقالوا: ما تَجاوَزنا ما جَرَتْ به عادتُنا فيما نَكتُبه على مساجِدِنا. فأَرسَل الخليفةُ القائمُ بأَمرِ الله أبا تَمَّام، نَقِيبَ العبَّاسِيِّين ونَقِيبَ العَلَوِيِّين، وهو عَدنان بن الرَّضي، لِكَشفِ الحالِ وإنهائِه، فكَتَبا بِتَصديقِ قَولِ الكَرخِيِّين، فأَمَرَ حينئذ الخليفةُ ونُوَّابُ المَلِكِ الرَّحيم البويهي بِكَفِّ القِتالِ، فلم يَقبَلوا، فأَمسَك نُوَّابُ المَلِكِ الرَّحيم عن كَفِّهِم غَيْظًا من رَئيسِ الرُّؤساءِ لِمَيْلِه إلى الحَنابِلَة، وتَشَدَّدَ رَئيسُ الرُّؤساءِ على الشِّيعَةِ، فمَحَوْا: خَيرَ البَشَر. وكتبوا: عليهما السَّلامُ. فقالت السُّنَّةُ: لا نرضى إلا أن يُقلَع الآجُرُّ، وأن لا يُؤَذَّنَ: حَيَّ على خَيرِ العَمَل. وامتَنَع الشِّيعَةُ من ذلك، ودام القِتالُ إلى ثالِثِ ربيعٍ الأوَّل، وقُتِلَ فيه رَجلٌ هاشِمِيٌّ مِن السُّنَّةِ، فحَمَلهُ أَهلُه على نَعْشٍ، وطافوا به في الحربِيَّة، وبابِ البَصرَةِ، وسائرِ مَحالِّ السُّنَّةِ، واسْتَنْفَروا النَّاسَ للأَخْذِ بِثَأْرِهِ، ثم دَفنوهُ عند أحمد بن حَنبل، وقد اجتمع معهم خَلْقٌ كَثيرٌ أضعافَ ما تَقدَّم. فلمَّا رجعوا من دَفنِه قَصَدوا مَشهدَ بابِ التِّبْنِ فأُغْلِقَ بابُه، فنَقَبوا في سُورِهِ وتَهَدَّدوا البَوَّابَ، فخافَهُم وفَتحَ البابَ فدخلوا ونَهَبوا ما في المَشهَدِ من قَناديلَ ومَحارِيبَ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ وسُتُورٍ وغيرِ ذلك، ونَهَبوا ما في التُّربِ والدُّورِ، وأَدرَكهم اللَّيلُ فعادوا، فلمَّا كان الغَدُ كَثُرَ الجَمْعُ، فقَصَدوا المَشهَد، وأحرقوا جميعَ التُّربِ والآزاجِ، واحتَرقَ ضَريحُ موسى، وضَريحُ ابنِ ابنِه محمدِ بن عَلِيٍّ، والجوار، والقُبَّتانِ السَّاج اللَّتانِ عليهما، واحتَرَق ما يُقابِلهما ويُجاوِرهما من قُبورِ مُلوكِ بني بُويه الشِّيعَة، مُعِزِّ الدَّولَة، وجَلالِ الدَّولَة، ومن قُبورِ الوُزراءِ والرُّؤساءِ، وقَبرُ جَعفرِ بن أبي جَعفرِ المنصور، وقَبرُ الأمير محمدِ بن الرَّشيد، وقَبرُ أُمِّهِ زُبيدَة، فلمَّا كان الغَدُ خامِس الشَّهر عادوا وحَفَروا قَبرَ موسى بن جَعفرِ ومحمدِ بن عَلِيٍّ لِيَنقُلوهما إلى مَقبرَة أحمد بن حَنبل، فحال الهَدْمُ بينهم وبين مَعرفَة القَبرِ، فجاء الحَفرُ إلى جانِبِه، وسَمِعَ أبو تَمَّام نَقيبُ العبَّاسِيِّين وغَيرُه من الهاشِمِيِّين السُّنَّة الخَبَرَ، فجاؤوا ومَنَعوا عن ذلك، وقَصَد أهلُ الكَرخِ الشِّيعَة إلى خان الفُقهاءِ الحَنفِيِّين فنَهَبوه، وقَتَلوا مُدَرِّسَ الحَنفِيَّة أبا سعد السَّرخسي، وأحرقوا الخانَ ودُورَ الفُقهاءِ، وتَعَدَّت الفِتنةُ إلى الجانبِ الشَّرقيِّ، فاقْتَتَلَ أهلُ بابِ الطَّاقِ وسُوق بَجٍّ، والأساكِفَةُ -صُنَّاع الأحذية- وغَيرُهم، ولمَّا انتهى خَبَرُ إحراقِ المَشهَد إلى نُورِ الدَّولة دُبَيْسِ بن مَزْيَد عَظُم عليه واشتَدَّ وبَلَغ منه كُلَّ مَبلَغ؛ لأنَّه وأهلَ بَيتِه وسائِرَ أَعمالِه من النيل وتلك الوِلايَة كُلُّهم شِيعَة، فقُطِعَت في أَعمالِه خُطبةُ الإمامِ القائمِ بِأَمرِ الله، فرُوسِلَ في ذلك وعُوتِبَ، فاعتَذرَ بأنَّ أهلَ وِلايتِه شِيعَة، واتَّفَقوا على ذلك، فلم يُمكِنهُ أن يَشُقَّ عليهم، كما أنَّ الخليفةَ لم يُمكِنهُ كَفُّ السُّفَهاء الذين فعلوا بالمَشهدِ ما فعلوا، وأعاد الخُطبةَ إلى حالِها، ثم تَجدَّدَت هذه الفِتنةُ في السَّنَةِ التَّاليةِ في ذي القعدة.
هو أبو الفتح موسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، الملقب بالملك الأشرف مظفر الدين. ولد سنة 576، بالديار المصرية بالقاهرة، وقيل بقلعة الكرك, ونشأ بالقُدس الشريف بكفالة الأمير فخر الدين عثمان الزنجاري، وكان أبوه يحبه، وكذلك أخوه المعظَّم, مليحَ الهيئة، حلو الشمائل، وكان فيه دينٌ وخوف من الله وفضيلة، على لَعِبِه, وعكوف على الملاهي- عفا الله عنه - وكان جوادًا سمحًا فارسًا شجاعًا. وكان يبالغ في الخضوع للفقراء ويزورهم ويعطيهم، ويجيز على الشعر، ويبعث في رمضان بالحلاوات إلى أماكن الفقراء. كان محبوبًا إلى الناس مسعودًا مؤيَّدًا في الحروب، قيل: ما هُزِمَت له راية, لقِيَ نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل، وكان من الملوك المشاهير الكبار، وتواقعا في مصافَّ فكَسَره الأشرف، وذلك سنة 600, وله فهمٌ وذكاء وسياسة, وهو باني دار الحديث الأشرفية، وجامع التوبة، وجامع جراح، وكان قد بنى دار حديث بالسفح وبالمدينة للشافعية أخرى، ونقل إليها كتبًا سَنيَّة نفيسة، وبنى جامع التوبة بالعقبية، والذي كان محله خانًا للزنجاري فيه من منكرات كثير، وبنى مسجِدَ القصب وجامع جراح ومسجد دار السعادة, وقد استنابه أبوه على مدن كثيرة بالجزيرة، منها الرها وحران، ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط وميافارقين، وبسط العدل على الناس وأحسن إليهم إحسانًا لم يعهدوه ممَّن كان قبله، وعَظُمَ وَقعُه في قلوب الناس، وبَعُدَ صِيتُه، ثم ملك نصيبين وسنجار ومعظم بلاد الجزيرة. لَمَّا أخذت الفرنج دمياط سنة 616 تأخَّر عن إنجاد أخيه الملك الكامل؛ لِمنافرةٍ كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك المعظَّم وأرضاه، ولم يزل يلاطفه حتى استصحبه معه، فصادف عقيبَ وُصولِه إلى مصر بأشهر انتصار المسلمين على الفرنج وانتزاع دمياط من أيديهم، وكانوا يرَون ذلك بسبب يُمن غرة الأشرف, ولما مات الملك المعظم سنة 624 قام بالأمر بعده ولده الملك الناصر داود، فقصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخُذَ دمشق منه، فاستنجد بعَمِّه الملك الأشرف، فوصل إليه، واجتمع به في دمشق، ثم توجَّه إلى الكامل واتفقا على أخذ دمشق من الناصر وتسليمها إلى الأشرف، ويبقى للناصر الكرك والشوبك ونابلس وبيسان وتلك النواحي، وينزل الأشرفُ عن حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، ويسَلِّمها إلى الكامل، فاستتب الحالُ على ذلك, وانتقل الأشرف إلى دمشق واتخذها دارَ إقامة وأعرض عن بقية البلاد، ولَمَّا ملك الأشرف دمشق في سنة 626 نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطقِ وعلوم الأوائل نفي من البلد، وكان البلد به في غاية الأمن والعدل، توفِّيَ الأشرف يوم الخميس رابع المحرم، بقلعة المنصورة، ودُفِنَ بها حتى أنجزت تربته التي بنيت له شمالي الكلاسة، ثم حُوِّلَ إليها في جمادى الأولى، وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة الماضية، واختلفت عليه الأدواءُ، فلما كان آخر السنة تزايد به المرض واعتراه إسهال مفرط، فخارت قوته حتى توفي، وكانت مدة ملكه بدمشق ثماني سنين وأشهر, وقد أوصى الأشرف بالملك من بعده لأخيه الصالح إسماعيل، فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ومشى الناسُ بين يديه، وركب إلى جانبه صاحب حمص وعز الدين أيبك المعظمي حامل الغاشية على رأسه.
في نصف المحرَّمِ اتَّفَق أنَّه كان للنصارى مجتَمَعٌ بالكنيسة المعَلَّقة بمصر، واستعاروا من قناديلِ الجامِعِ العتيق جملةً، فقام في إنكارِ ذلك الشيخ نور الدين علي بن عبد الوارث البكري (وهو من أعداء شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة الذين كانوا قد سَعَوا في أذاه، مع أنَّ شيخَ الإسلام شَفَع فيه أيضًا لما طُلب من جهته)، وجمَعَ مِن البكريَّة وغيرِهم خلائِقَ، وتوجَّه إلى المعلقة وهَجَم على النصارى وهم في مجتَمَعِهم وقناديلُهم وشموعُهم تُزهِرُ، فأخرقَ بهم وأطفأ الشموعَ وأنزل القناديلَ، وعاد البكريُّ إلى الجامع، وقصد القومةَ، وجمع البكريُّ الناسَ معه على ذلك، وقصد الإخراقَ بالخطيب، فاختفى منه وتوجَّه إلى الفخر ناظِرِ الجيش وعَرَّفه بما وقع، وأنَّ كريمَ الدين أكرم هو الذي أشار بعاريَّة القناديلِ، فلم يَسَعْه إلَّا موافقَتُه، فلمَّا كان الغَدُ عرَّفَ الفَخرُ السلطانَ بما كان، وعَلِمَ البكري أنَّ ذلك قد كان بإشارة كريم الدين، فسار بجَمعِه إلى القلعة واجتمع بالنائِبِ وأكابر الأمراء، وشَنَّع في القول وبالغَ في الإنكار، وطلب الاجتماعَ بالسلطان، فأحضر السُّلطانُ القضاة والفُقهاءَ وطلب البكريَّ، فذكر البكريُّ من الآيات والأحاديث التي تتضَمَّنُ معاداة النَّصارى، وأخذ يحُطُّ عليهم، ثم أشار إلى السلطانِ بكلامٍ فيه جفاءٌ وغِلظةٌ حتى غَضِبَ منه عند قولِه: أفضَلُ المعروفِ كَلِمةُ حَقٍّ عند سلطان جائر، وأنت وَلَّيت القبطَ المسالمةَ، وحَكَّمْتَهم في دولتك وفي المسلمين، وأضعْتَ أموال المسلمين في العمائِرِ والإطلاقاتِ التي لا تجوز، إلى غير ذلك، فقال السلطانُ له: ويلك! أنا جائِرٌ؟ فقال: نعم! أنت سَلَّطتَ الأقباط على المسلمين، وقَوَّيت دينَهم، فلم يتملَّكِ السلطانُ نفسَه عند ذلك، وأخذ السَّيفَ وهَمَّ بضربه، فأمسك الأميرُ طغاى يده، فالتَفَت السلطان إلى قاضي القضاة زين الدين بن مخلوف، وقال: هكذا يا قاضي يتجَرَّأُ عليَّ؟ أيش يجبُ أفعل به؟ قل لي!، وصاح به، فقال له ابن مخلوف: ما قال شيئًا يُنكَرُ عليه فيه، ولا يجِبُ عليه شيء، فإنه نقل حديثًا صحيحًا، فصرخ السلطانُ فيه وقال: قمْ عني!، فقام مِن فَورِه وخرج، فقال صدر الدين بن المرحل- وكان حاضرًا- لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي: يا مولانا! هذا الرجل تجرَّأ على السلطانِ، وقد قال الله تعالى آمرًا لموسى وهارون حين بعَثَهما إلى فرعون {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فقال ابن جماعة للسلطان: قد تجرَّأَ ولم تبقَ إلَّا مَراحِمُ مولانا السُّلطان، فانزعج السلطانُ انزعاجًا عظيمًا، ونهض عن الكرسي، وقَصَد ضربَ البكريِّ بالسَّيف، فتقدَّم إليه طغاي وأرغون في بقية الأمراء، وما زالوا به حتى أمسك عنه، وأمر بقَطعِ لسانه، فأخرج البكريُّ إلى الرحبة، وطُرِحَ إلى الأرض، والأميرُ طغاي يشير إليه أن يستغيثَ، فصرخ البكريُّ وقال: أنا في جيرةِ رسول الله، وكررها مرارًا حتى رقَّ له الأمراء، فأشار إليهم طغاي بالشَّفاعة فيه، فنهضوا بأجمَعِهم وما زالوا بالسلطانِ حتى رسم بإطلاقِه وخروجِه مِن مصر، وأنكر الأميرُ أيدمر الخطيري كونَ البكري قوى نفسَه أولًا في مخاطبة السلطان، ثمَّ إنَّه ذل بعد ذلك، ونسب إلى أنَّه لم يكن قيامُه خالصًا لله.
بعد أن رحل تيمورلنك من بغداد كتب إلى بايزيد الأول صاحب الروم أن يخرجَ السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلا قصده وأنزل به ما نزل بغيره، فردَّ بايزيد جوابه بلفظ خَشِنٍ إلى الغاية، فسار تيمور إلى نحوه، فجمع بايزيد الأولُ عساكرَه من المسلمين والنصارى وطوائف التتر، فلما تكامل جيشُه سار لحربه، فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع بايزيد الأول يقول لهم: نحن جنسٌ واحد، وهؤلاء تركمان ندفعُهم من بيننا، ويكون لكم الرومُ عِوَضَهم، فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه، وسار بايزيد الأول بعساكِرِه على أنه يلقى تيمور خارج سيواس، ويردُّه عن عبور أرض الروم، فسلك تيمور غير طريق بايزيد واختار الطريق الأطول، ومشى في أرض غير مسلوكة، ودخل بلاد بايزيد، ونزل بمعسكر بايزيد الأول بالقرب من أنقرة وضرب الحصار حولها, فلم يشعر بايزيد إلا وقد نُهِبت بلاده، فقامت قيامته وكرَّ راجعًا، وقد بلغ منه ومن عسكره التعبُ مبلغًا أوهَنَ قواهم، وكلَّت خيولهم، ونزل على غير ماء، فكادت عساكره أن تهلك، فلما تدانوا للحرب كان أول بلاء نزل ببايزيد مخامرة التتار بأسْرِها عليه، فضَعُفَ بذلك عسكره؛ لأنهم كانوا معظمَ عسكره، ثم تلاهم ولدُه سليمان ورجع عن أبيه عائدًا إلى مدينة بورصا بباقي عسكرِه، فلم يبقَ مع بايزيد إلا نحو خمسة آلاف فارس، فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمورلنك فالتَقَوا في معركة عُرِفت بمعركة أنقرة في ذي الحجة 804 (1402م) واستمر القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر، فصدمهم جيش بايزيد صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم، فكفَّت عساكر بايزيد، وتكاثر التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلَّتهم وكثرة التمرية، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية، إلى أن صُرِعَ منهم أكثرُ أبطالهم، وأُخِذَ بايزيد الأول أسيرًا قبضًا باليدِ على نحو ميل من مدينة أنقرة، في يوم الأربعاء سابع عشرين ذي الحجة بعد أن قُتِل غالب عسكره بالعطش، وصار تيمور يوقَف بين يديه في كل يوم السلطان بايزيد ويسخر منه ويُنكيه بالكلام، وجلس تيمور مرةً لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب بايزيد طلبًا مزعجًا، فحضر وهو يرسُفُ في قيوده وهو يرجف، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه، ثم وقف تيمور وسقاه من يد جواريه اللاتي أسرهن تيمور، ثم أعاده إلى محبسه، وأما أمر سليمان بن السلطان بايزيد الأول، فإنه جمع المال الذي كان بمدينة بورصا، وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة وتلاحق به الناس، وصالح أهل استانبول، فبعث تيمورلنك فرقةً كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى بورصا فأخذوا ما وجدوا بها، ثم تبعهم هو أيضًا بعساكره، ثم أفرج تيمور عن محمد وعلي أولاد ابن قرمان من حبس السلطان بايزيد، وخلع عليهما وولَّاهما بلادهما، وألزم كلَّ واحد منهما بإقامة الخطبة، وضَرْب السكة باسمه واسم السلطان محمود خان المدعو صرغتمش، ثم شتا في معاملة منتشا وعمل الحيلة في قتل التتار الذين أتوه من عسكر بايزيد حتى أفناهم عن آخرِهم، وأما السلطان بايزيد فإنه استمر في أسر تيمورلنك من ذي الحجة سنة أربع إلى أن مات بكربته وقيوده في أيام من ذي القعدة سنة 805.
قَدِمَ دمرداش بن جوبان بن تلك بن تداون المغولي مصرَ في سابع ربيع الأول، وسَبَبُ ذلك أن القان أبا سعيد بن خربندا المغولي لَمَّا مَلَك أقبلَ على اللهو، فتحَكَّم الأميرُ جوبان بن تلك على الأردو، وقام بأمر المملكة، واستناب ولدَه خواجا رمشتق بالأردو، وبعث ابنَه دمرداش إلى مملكة الروم، فانحصر أبو سعيد بن خربندا إلى أن تحَرَّك بعض أولاد كبك بجهة خراسان، وخرج عن الطاعةِ، فسار جوبان لحَربِه في عسكرٍ كبير، فما هو إلَّا أن بَعُد عن الأردو قليلًا حتى رجع العدوُّ عن خراسان، وقصد جوبان العودَ، وكان قد قبض أبو سعيدٍ على خواجا رمشتق، وقتَلَه بظاهر مدينة السلطانيَّة في شوال من السنة الماضية، وأتبَعَ به إخوتَه ونَهَب أتباعهم، وسَفَك أكثَرَ دمائهم، وكتب إلى من خرج من العسكَرِ مع جوبان بما وقع، وأمَرَهم بقبضه، وكتب إلى دمرداش أن يحضُرَ إلى الأردو، وعَرَّفه شَوقَه إليه، ودَسَّ مع الرسول إليه عِدَّة ملطفات إلى أمراء الروم بالقَبضِ عليه أو قَتْلِه، وعَرَّفَهم ما وقع، وكان دمرداش قد مَلَك بلاد الروم جميعَها وجبالَ ابن قرمان، وأقام على كلِّ دربند جماعةً تحفَظُه، فلا يمُرُّ أحد إلا ويعلم به خوفًا على نفسِه من السلطان الملك الناصر أن يبعَثَ إليه فداويًّا لقتلِه، بسبب ما حصل بينهما من المواحَشةِ التي اقتضت انحصارَ السلطان منه، وأنَّه منع التجارَ وغَيرَهم مِن حَملِ المماليكِ إلى مصر، وإذا سمِعَ بأحد من جهة صاحِبِ مصر أخرق به، فشَرَعَ السلطان يخادِعُه على عادته، ويهاديه ويتَرَضَّاه، وهو لا يلتَفِتُ إليه، فكتب إلى أبيه جوبان في أمْرِه حتى بعث ينكِرُ عليه، فأمسك عمَّا كان فيه قليلًا، ولَبِسَ تشريف السلطان، وقَبِلَ هَدِيَّته وبعث عِوَضَها، وهو مع هذا شديدُ التحَرُّز، فلما قَدِمَت رسل أبي سعيد بطَلَبِه فتَّشَهم الموكَّلون بالدربندات، فوجدوا الملطفات، فحملوهم وما معهم إلى دمرداش، فلما وقف دمرداش عليهما لم يزَلْ يعاقِبُ الرسُلَ إلى أن اعترفوا بأنَّ أبا سعيد قَتَل خواجا رمشتق وإخواته ومن يلوذُ بهم، ونهب أموالَهم، وبعث بقتل جوبان، فقَتَل دمرداش الرسُلَ، وبعث إلى الأمراء أصحابِ الملطفات فقَتَلَهم أيضًا، وكتب إلى السلطانِ الملك الناصر يَرغَبُ في طاعته، ويستأذِنُه في القدوم عليه بعساكر الروم، ليكون نائبًا عنه بها، فسُرَّ السلطان بذلك، وكان قد ورد على السلطانِ كتابُ المجد السلامي من الشرق بقَتلِ خواجا رمشتق وإخوته، وكتاب أبي سعيد بقَتلِ جوبان، وطلب ابنه دمرداش، وأنه ما عاق أبا سعيد عن الحركة إلا كثرةُ الثلج وقُوَّة الشتاء، فكتب السلطانُ الناصر جواب دمرداش يَعِدُه بمواعيد كثيرة، ويُرَغِّبُه في الحضور، فتحَيَّرَ دمرداش بين أن يقيم فيأتيه أبو سعيد، أو يتوجَّه إلى مصر فلا يدري ما يتَّفِقُ له، ثم قَوِيَ عنده المسير إلى مصر، وأعلَمَ أمراءَه أنَّ عسكَرَ مِصرَ سار ليأخُذَ بلاد الروم، وأنه قد كتب إليه المَلِكُ الناصر يأمره أن يكون نائِبَه، فمشى عليهم ذلك وسَرَّهم، فلمَّا قدم دمرداش إلى القاهرة في سابع ربيع الأول أتاه الأميرُ طايربغا وأحضره إلى السلطانِ بالجيزة، فقَبَّل الأرض ثلاثَ مرات، فترحَّبَ السلطان به وأجلَسَه بالقرب منه، وأكرمه وبالغ في ذلك واجتَمَعَ دمرداش بالسلطانِ وفاوضه في أمرِ بلاد الروم، وأن يجهِّزَ إليها عسكرًا، فأشار السلطانُ بالمهلة حتى يَرِدَ البريد بخبر أبيه جوبان مع أبي سعيد، فاستأذن دمرداش في عَودِ مَن قَدِمَ معه إلى بلادِهم، فأذِنَ له في ذلك، فسار كثيرٌ منهم، ثم جاء كتابٌ فيه بيان أحوال دمرداش هذا وأنَّه سفك دماءً كثيرة، وقَتَل من المسلمين عالَمًا عظيمًا، وأنَّه جَسورٌ وما قصد بدخولِه مِصرَ إلا طمعًا في مُلكِها، وبعث ابن قرمان الكتابَ صحبة نجم الدين إسحاق الرومي صاحب أنطالية، وهي القلعة التي أخذها منه دمرداش وقَتَل والِدَه، وأنَّه قَدِمَ ليطالِبَه بدَمِ أبيه، فلما وقف السلطانُ على الكتاب تغيَّرَ، وطلب دمرداش وأعلَمَه بما فيه، وجمع السلطانُ بينه وبين إسحاق، فتحاقَقا بحضرة الأمراء، فظهر أنَّ كُلًّا منهما قتَلَ لصاحِبِه قتيلًا، فكتب جواب ابن قرمان معه وأُعيد، وقد تبَيَّن للسلطان خُبثُ نية دمرداش، فقبضه ومن معه واعتقل دمرداش ببرج السباعِ مِن القلعة، وفَرَّق البقية في الأبراج، وفُرِّقَت مماليكُه على الأمراء، ورُتِّبَ له ما يكفيه، وكان للقبضِ على دمرداش أسباب: منها أنه كان قد أخذ يوقِعُ في الأمراء والخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان كذا، وهذا ألماس الحاجب كان حمَّالًا، فما حمل السلطان هذا منه، فلما كان في ليلة الخميس رابع شوال من هذه السنة أُخرِجَ دمرداش من مُعتَقَلِه بالبرج، وفُتِحَ باب السِّرِّ من جهة القرافة وأُخرِجَ منه وهو مُقَيَّدٌ مَغلول، وشاهَدَه رسُلُ الملك أبي سعيد وهو على هذه الحالِ، ثم خُنِقَ دمرداش، وشاهده الرسُلُ بعد موته، وقُطِعَ رأسُه وسُلِخَ وصُبِرَ وحُشِيَ، وأرسل السلطانُ الرأسَ إلى أبي سعيد، ودُفِنَ الجسَدُ بمكانِ قَتْلِه.
لمَّا مات يَزيدُ بن مُعاوِيَة أَقْلَع جَيشُه عن مكَّة، وهم الذين كانوا يُحاصِرون ابنَ الزُّبيرِ وهو عائِذٌ بالبيتِ، فلمَّا رجَع حُصينُ بن نُميرٍ السَّكونيُّ بالجيشِ إلى الشَّام بعدَ أن عرَض الحُصينُ على ابنِ الزُّبيرِ أن يُبايِعَه بالخِلافَة شَرْطَ أن يَأتِيَ معهم للشَّامِ؛ لكنَّ ابنَ الزُّبيرِ رفَض الذِّهابَ إلى الشَّام, كان يَزيدُ قد أَوْصى بالخِلافَة لابنِه مُعاوِيَة؛ لكنَّه لم يكُن راغِبًا فيها فترَكَها وجعَلَها شُورى للمسلمين. اسْتَفْحَل أَمْرُ ابنِ الزُّبير بالحِجازِ وما والاها، وبايَعَهُ النَّاسُ في العِراق وما يَتْبَعُه إلى أقصى مَشارِق دِيارِ الإسلامِ، وفي مِصْرَ وما يَتْبَعُها إلى أقصى بِلادِ المغربِ، وبايَعَت الشَّامُ أيضًا إلَّا بعضَ جِهاتٍ منها، ففي دِمشقَ بايَع الضَّحَّاكُ بن قيسٍ الفِهرىُّ لابنِ الزُّبيرِ، وفي حِمْص بايَع النُّعمانُ بن بَشيرٍ، وفي قِنَّسْرين زُفَرُ بن الحارثِ الكِلابيُّ، وفي فِلَسْطين بايَع ناتِلُ بن قيسٍ، وأَخرَج منها رَوْحَ بن زِنْباع الجُذاميَّ، ولم يكُن رافضًا بَيْعَة ابنِ الزُّبيرِ في الشَّام إلَّا مِنطقةُ البَلْقاءِ وفيها حَسَّان بن مالكِ بن بَحْدَل الكَلبيُّ. وقد كان الْتَفَّ على عبدِ الله بن الزُّبيرِ جَماعةٌ مِن الخَوارِج يُدافِعون عنه، منهم نافعُ بن الأزرقِ، وعبدُ الله بن إباض، وجَماعةٌ مِن رُؤوسهم, فلمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرهُ في الخِلافَة قالوا فيما بينهم: إنَّكم قد أَخْطأتُم لأنَّكم قاتَلتُم مع هذا الرَّجُلِ ولم تَعْلَموا رَأيَه في عُثمان بن عفَّان -وكانوا يَنْتَقِصون عُثمانَ- فاجْتَمَعوا إليه فسألوه عن عُثمانَ فأجابهم فيه بما يَسُوؤهُم، فعند ذلك نَفَرُوا عنه وفارقوه وقَصَدوا بِلادَ العِراق وخُراسان، فتَفَرَّقوا فيها. صَرَّح العديدُ مِن العُلماءِ والمُؤَرِّخِين بأنَّ بَيْعَة ابنِ الزُّبير بَيْعَة شَرْعِيَّةٌ، وأنَّه أَوْلى بها مِن مَرْوان بن الحكمِ, فيَروِي ابنُ عبدِ البَرِّ، عن مالكٍ أنَّه قال: إنَّ ابنَ الزُّبيرِ كان أفضل مِن مَرْوان وكان أَوْلى بالأمرِ منه، ومِن ابنِه عبدِ المَلِك. ويقولُ ابنُ كثيرٍ عن ابنِ الزُّبيرِ: ثمَّ كان هو الإمام بعدَ مَوتِ مُعاوِيَة بن يَزيدَ لا مَحالَة، وهو أَرْشَدُ مِن مَرْوان بن الحكمِ، حيث نازَعَهُ بعدَ أن اجْتَمَعت الكَلِمَةُ عليه، وقامَت البَيْعَة له في الآفاقِ، وانْتَظَم له الأمرُ، والله أعلم.
بعدَ نَجاح غَزوَة طَريف بن مالِك بَعَث موسى بن نُصَير مَولاهُ على طَنْجَة طارِقَ بن زِياد في سَبعةِ آلاف مُقاتِل فسار فنَزَل في جَبَل مُنِيف يُعرَف إلى اليومِ بِجَبَلِ طارِق، ثمَّ دَخَل الجَزيرَة الخَضْراء ثمَّ تابَع مَسيرِه ومعه يُولْيان يَدُلُّه على طُرُق الأَندَلُس, ولمَّا بَلَغ لُذْرِيق (رودريغو) غَزْو طارِق بِلاده عَظُمَ ذلك عليه، وكان غائِبًا في غَزاتِه، فرَجَع منها وطارِق قد دَخَل بلاده، فجَمَع له جَمْعًا يُقالُ بَلَغ مائةَ ألف، فلمَّا بَلَغ طارِقًا الخَبَرُ كَتَب إلى موسى يَسْتَمِدُّه ويُخْبِرُه بما فَتَح، وأنَّه زَحَف إليه مَلِكُ الأندَلُس بما لا طاقةَ له به. فبَعَث إليه بخمسةِ آلاف، فتَكامَل المسلمون اثني عَشر ألفًا، ومعهم يُولْيان يَدُلُّهم على عَوْرَةِ البِلادِ، ويَتَجَسَّس لهم الأَخبارَ. فأَتاهُم لُذْرِيق في جُنْدِه، فالْتَقوا على نَهرِ لَكَّة مِن أَعمالِ شَذُونَة لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتا مِن رَمضان سنة اثنتين وتِسعين، واتَّصَلت الحَرْبُ ثَمانِيَة أيَّام، فانْهَزموا وهَزَم اللهُ لُذْرِيق ومَن معه، وغَرِقَ لُذْرِيق في النَّهرِ، وسار طارِق إلى مَدينَة إسْتِجَة مُتَّبِعًا لهم، فلَقِيَه أَهلُها ومعهم مِن المُنهزِمين خَلْقٌ كَثيرٌ، فقاتَلوه قِتالًا شَديدًا، ثمَّ انْهَزَم أَهلُ الأندَلُس ولم يَلْقَ المسلمون بعدَها حَربًا مِثلَها. ونَزَل طارِق على عَيْن بينها وبين مَدينَة إسْتِجَة أَربعَة أَميال فسُمِّيَت عَيْن طارِق إلى الآن. لمَّا سَمِعَت القُوط بهاتين الهَزِيمَتَين قَذَف الله في قُلوبِهم الرُّعْبَ. فَرَّقَ طارِقُ بن زِياد جَيْشَه لِفَتْح المُدُن مِن مَدينَة إسْتِجَة، فبَعَث جَيْشًا إلى قُرْطُبَة، وجَيْشًا إلى غَرْناطَة، وجَيْشًا إلى مالَقَة، وجَيْشًا إلى تُدْمِير، وسار هو ومُعظَم الجَيْش إلى جَيَّان يُريدُ طُلَيْطُلَة، فلمَّا بَلَغَها وَجَدَها خالِيَة فَضَمَّ إليها اليَهودَ، وتَرَك معهم رِجالًا مِن أَصحابِه، ثمَّ مَضَى إلى مَدينَة ماية، فغَنِمَ منها ورَجَع إلى طُلَيْطُلة في سنة ثلاث وتِسعين. وقِيلَ: اقْتَحَم أَرضَ جِلِّيقِيَّة، فخَرَقَها حَتَّى انْتَهى إلى مَدينَة إِسْتَرْقَة، وانْصَرَف إلى طُلَيْطُلَة، ووافَتْهُ جُيوشُه التي وَجَّهَها مِن إسْتِجَة بعدَ فَراغِهم مِن فَتْحِ تلك المُدُن التي سَيَّرَهم إليها.
كان المُعتَدُّ بالله أبو بكر هِشامُ بنُ مُحمَّدِ بنِ عبدِ المَلِك بن عبد الرحمن النَّاصر الأمويُّ أميرَ قُرطُبةَ، لكنَّه لم يَقُمْ بها إلا يسيرًا حتى قامت عليه طائفةٌ مِن الجُندِ فخُلِعَ، وجَرَت أمورٌ مِن جُملتِها إخراجُ المُعتَدِّ بالله مِن قَصرِه هو وحشَمُه والنِّساءُ حاسراتٍ عن أوجُهِهنَّ حافيةً أقدامُهنَّ إلى أن أُدخِلوا الجامِعَ الأعظَمَ على هيئةِ السَّبايا، فأقاموا هنالك أيامًا يُتعَطَّفُ عليهم بالطَّعامِ والشَّرابِ إلى أن أُخرِجوا عن قُرطُبةَ، ولَحِقَ هِشامٌ ومَن معه بالثُّغورِ بعد اعتقاله بقُرطُبةَ، فلم يزَلْ يجولُ في الثغور إلى أن لَحِقَ بابن هود المتغَلِّب على مدينة لاردة وسرقسطة وأفراغة وطرطوشة وما والى تلك الجهاتِ، فأقام عنده هشامٌ إلى أن مات في سنة 427 ولا عَقِبَ له، فهِشامٌ هذا آخِرُ مُلوكِ بني أميَّة بالأندلُسِ، وبخَلْعِه انقطَعَت الدَّعوةُ لبني أميَّةَ وذِكرُهم على المنابِرِ بجَميعِ أقطارِ الأندلس، ولَمَّا انقَطَعَت دعوةُ بني أمية استولى على تدبيرِ مُلكِ قُرطُبةَ أبو الحزم جهورُ بنُ مُحمَّدِ بنِ جهور وهو قديمُ الرِّياسةِ شَريفُ البيتِ، كان آباؤه وزراءَ الدَّولةِ الحَكَميَّة والعامريَّة، فلمَّا خلا له الجوُّ وأصفَرَ الفِناءُ وأقفَرَ النادي من الرُّؤساءِ وأمكَنَتْه الفرصةُ؛ وثَبَ عليها فتولى أمْرَها واضطلَعَ بحِمايتِها، ولم ينتَقِلْ إلى رتبةِ الإمارةِ ظاهرًا بل دَبَّرَها تدبيرًا لم يُسبَقْ إليه؛ وذلك أنَّه جعَلَ نَفسَه مُمسِكًا للمَوضِعِ إلى أن يجيءَ مَن يتَّفِقُ النَّاسُ على إمارتِه فيُسَلِّم إليه ذلك، ورتَّبَ البوَّابينَ والحَشَم على تلك القُصورِ على ما كانت عليه أيامَ الدَّولةِ، ولم يتحَوَّلْ عن دارِه إليها، وجعَلَ ما يرتَفِعُ مِن الأموالِ السُّلطانيَّةِ بأيدي رجالٍ رَتَّبَهم لذلك، وهو المُشرِفُ عليهم، وصَيَّرَ أهلَ الأسواقِ جُندًا له وجَعَلَ أرزاقَهم رُؤوسَ أموالٍ تكونُ بأيديهم مُحصاةً عليهم، يأخذونَ رِبحَها، ورُؤوسُ الأموالِ باقيةٌ مَحفوظةٌ يُؤخَذونَ بها ويُراعَونَ في كُلِّ وَقتٍ كيف حِفظُهم لها، وفَرَّقَ السِّلاحَ عليهم واستمَرَّ أمْرُه على ذلك إلى أن مات في غُرَّةِ صَفَر سَنةَ 435، ثم ولِيَ ما كان يتولَّى مِن أمر قُرطُبةَ بَعدَه ابنُه أبو الوليدِ مُحَمَّدُ بنُ جهور فجرى في السياسةِ وحُسنِ التدبيرِ على سَنَنِ أبيه غيرَ مُخِلٍّ بشيءٍ مِن ذلك إلى أن مات أبو الوليدِ في شوَّال من سنة 443.