قام ألفونسو بن فريناند ملك قشتالة بالاستيلاء على حصن أراغونة وعدة حصون أخرى وحاصر غرناطة، فقام ابن الأحمر أبو عبد الله محمد بن نصر بمهادنته بعد أن أيقَنَ أنَّه لا قِبَلَ له به وبمنازلتِه، ففَكَّ الحصار عن غرناطة بصلحٍ بينهما يقضي فيه أن يبقى ابن الأحمر حاكمًا على غرناطة، لكن باسم ملك قشتالة وتحت ظله، ويؤدي جزيةً سنوية ويُعينه على أعدائه وقت يريدُ، وأن يشهَدَ معه اجتماعَ مجلس قشتالة الكورتيس باعتباره بهذا العقد أميرًا من أمراء الملك التابعين له، ثمَّ سَلَّمه جيان وأراغونة وقلعة جابر وأبرم الصلح لمدة عشرين سنةً.
كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين التتار بسَبَبِ أنَّ مَلِكَهم أبا سعيد بن خربندا كان قد ضاق ذرعًا بنائبه الأمير جوبان وعجَزَ عن مَسكِه، فانتدب له جماعةً من الأمراء عن أمرِه، منهم أبو يحيى خال أبيه، ودقماق وقرشي وغيرُهم من أكابر الدولة، وأرادوا كبسَ جوبان فهرب وجاء إلى السلطانِ الناصر محمد بن قلاوون, فأنهى إليه ما كان منهم، وفي صُحبتِه الوزير علي شاه، ولم يزل بالسلطانِ حتى رضي عن جوبان وأمَدَّه بجيشٍ كثيف، ورَكِبَ السلطان معه أيضًا والتقوا مع أولئك فكسروهم وأسروهم، وتحَكَّم فيهم جوبان فقَتَل منهم إلى آخِرِ هذه السنة نحوًا من أربعين أميرًا.
أخذ السلطان مراد الأول بن أورخان بن عثمان الأبلستين، وعزم أن يمشيَ إلى البلاد الشامية، فطلب الأمراء والقضاة وأرباب الدولة إلى القصر السلطاني، وقُرِئَت عليهم كتبٌ تتضمَّنُ أنَّ ابن عثمان ملك الروم بعث أخاه عليًّا بالعساكر، وأنه أخذ ملطية والأبلستين -مدينة مشهورة ببلاد الروم- وفَرَّ منه صدقة بن سولي، فتسلَّمها في الثامن والعشرين من ذي القعدة، وأنَّه محاصر درندة، فوقع الاتفاقُ على المسير إلى قتاله، وتفرَّقوا، فأنكر المماليك السلطانية صِحَّةَ ذلك، وقالوا: "هذه حيلة علينا حتى نخرجَ من القاهرة فقط" وعَيَّنوا سودون الطيار أمير أخور لِكَشفِ هذا الخبر.
لما كان يوم الاثنين السادس عشر صفر وثب جماعة كبيرة من مماليك السلطان الأجلاب-هكذا يُعرَفون- من مشترواته الذين بالأطباق من القلعة، وطلعوا إلى أسطحة أطباقهم، ومنعوا الأمراء وغيرهم من الأعيان من طلوع الخدمة، وأفحشوا في ذلك إلى أن خرجوا عن الحد، ونزلوا إلى الرحبة عند باب النحاس، وكسروا باب الزردخاناه السلطانية، وضربوا جماعةً من أهل الزردخاناه -خزانة السلاح- وأخذوا منها سلاحًا كثيرًا، ووقع منهم أمور قبيحة في حقِّ أستاذهم الملك الظاهر جقمق، ولهجوا بخلعِه من الملك، وهمَّ السلطان بقتالهم، ثم فتَرَ عزمُه عن ذلك؛ شفقة عليهم لا خوفًا منهم، ثم سكنت الفتنة بعد أمورٍ وقعت بينهم وبين السلطانِ.
رحل السلطانُ بيبرس إلى قريبِ عيونِ الأساور من وادي عارة وعرعرة، فلما كان بعد عشاءِ الآخرِ أمر العسكَرَ كُلَّه فلبسوا آلة الحرب، وركِبَ آخِرَ الليل وساق إلى قيسارية، فوافاها بكرةَ نهار الخميس تاسع جمادى الأولى على حين غفلةٍ مِن أهلها، وضرب عليها بعساكِرِه، وللوقت ألقى الناسُ أنفُسَهم في خندقها، وأخذوا سكك الحديدِ التي برسم الخيولِ مع المقاود والشبح، وتعلَّقوا فيها من كل جانبٍ حتى صعدوا، وقد نُصِبَت المجانيق ورمي بها، فحرقوا أبوابَ المدينة واقتحموها، فَفَرَّ أهلها إلى قلعتها، وكانت من أحصَنِ القلاع وأحسَنِها وتعرف بالخضراء، وكان قد حمل عليها الفرنجُ العُمُدَ الصوان، وأتقنوها بتصليبِ العُمُدِ في بنيانها، حتى لا تُعمَلَ فيها النقوبُ ولا تقَعُ إذا علقت، فاستمر الزحف والقتال عليها بالمجانيق والدبابات والزحَّافات ورمي النشَّاب، وخرجت جريدة- خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- من عسكر السلطان إلى بيسان مع الأمير شهاب الدين القيمري، فسَيَّرَ جماعة من التركمان والعربان إلى أبوابِ عكا، فأسروا جماعةً مِن الفرنج، هذا والقتال ملِحٌّ على قلعة قيسارية، والسلطانُ مقيمٌ بأعلى كنيسةٍ تجاه القلعة ليمنَعَ الفرنج من الصعودِ إلى علو القلعةِ، وتارة يركَبُ في بعضِ الدبَّابات ذوات العجل التي تجري حتى يصل إلى السور ليرى النقوبَ بنَفسِه، وأخذ السلطانُ في يده يومًا من الأيامِ تُرسًا وقاتل، فلم يرجِعْ إلَّا وفي ترسِه عِدَّةُ سِهامٍ، فلما كان في ليلةِ الخميس النصف من جمادى الأولى: سلَّم الفرنجُ القلعةَ بما فيها، فتسلق المسلمونَ من الأسوار، وحرقوا الأبواب ودخلوها من أعلاها وأسفَلِها، وأذِّنَ بالصبحِ عليها، وطلع السلطانُ ومعه الأمراء إليها، وقسَّمَ المدينة على الأمراء والمماليك والحلقة، وشرع في الهدمِ ونزل وأخذ بيَدِه قطاعةً وهدَمَ بنَفسِه، فلما قارب الفراغَ مِن هدم قيسارية بعث السلطانُ الأمير سنقر الرومي والأمير سيف الدين المستعرب في جماعة، فهدموا قلعةً كانت للفرنج عند الملوحة قريب دمشق، وكانت عاتية حتى دكُّوها دكًّا، وفي السادس عشر: سار السلطانُ جريدة إلى عثليث، وسير الأمير سنقرًا السلاح دار، والأمير عز الدين الحموي، والأمير سنقرًا الألفي إلى حيفا، فوصلوا إليها، ففر الفرنجُ إلى المراكب وتركوا قلعَتَها، فدخلها الأمراءُ بعد ما قتلوا عِدَّةً من الفرنج وبعد ما أسروا كثيرًا، وخربوا المدينة والقلعة وأحرقوا أبوابها في يومٍ واحد، وعادوا بالأسرى والرؤوس والغنائم سالمين، ووصل السلطانُ إلى عثليث فأمر بتشعيثِها وقطْع أشجارها، فقُطِعَت كلُّها وخربت أبنيتها في يوم واحد، وعاد إلى الدهليز بقيسارية، وكمَّل هَدْمَها حتى لم يدَعْ لها أثرًا، وقدمت منجنيقات من الصبيبة وزرد خاناه من دمشق، وورد عِدَّة من الفرنج للخدمة، فأكرَمَهم السلطان وأقطعهم الإقطاعات، وفي التاسع عشر: رحل السلطان من قيسارية، وسار من غير أن يَعرِفَ أحدٌ قَصْدَه فنزل على أرسوف مستهلَّ جمادى الآخرة، ونقل إليها من الأحطاب ما صارت حولَ المدينة كالجبال الشاهقة وعَمَل منها ستائر، وحفر سربين من خندق المدينة إلى خندق القلعةِ وسَقَفَه بالأخشاب، وعمل السلطان طريقًا من الخندقين إلى القلعة، وردمت الأحطابُ في الخندق، فتحَيَّل الفرنجُ وأحرقوها كلَّها، فأمر السلطان بالحفر من باب السربين إلى البحرِ، وعمل سروبًا تحت الأرض يكون حائطُ خندق العدو ساترًا لها، وعمل في الحائط أبوابًا يرمي التراب منها وينزل في السروب حتى تساوي أرضُها أرض الخندق، وأحضر المهندسين حتى تقَرَّر ذلك، وولي أمرَه للأمير عز الدين أيبك الفخري، فاستمر العمل، والسلطان بنفسِه ملازم العمل بيده في الحفرِ وفي جر المنجنيقات ورمي الترابِ ونَقلِ الأحجار، أسوةً لغيره من الناس، وكان يمشي بمفرده وفي يده ترسٍ، تارة في السَّرَب وتارة في الأبوابِ التي تفتح، وتارة على حافةِ البحر يرامي مراكِبَ الفرنج، وكان يجرُّ في المجانيق، ويطلع فوق الستائر يرمي من فوقها، ورمى في يوم واحد ثلاثمائة سهم بيده، وحضر في يومٍ إلى السرب وقُدَّ في رأسه خلف طاقة يرمي منها، فخرج الفرنج بالرماح وفيها خطاطيف ليجبذوه فقام وقاتلهم يدًا بيد وكان معه الأميرُ سنقر الرومي، والأمير بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، فكان سنقر يناوله الحجارةَ حتى قتل فارسين من الفرنج، ورجعوا على أسوأ حال، وكان يطوفُ بين العساكر في الحصار بمفردِه، ولا يجسِرُ أحد ينظر إليه ولا يشير إليه بإصبُعِه، بل كان الناسُ فيها سواءً في العمل، حتى أثرت المجانيق في هدمِ الأسوار، وفُرِغَ من عمل الأسربة التي بجانبي الخندق، وفتحت فيها أبواب متسعة، فلما تهيأ ذلك وقع الزحفُ على أرسوف في يوم الخميس ثامن رجب، ففتحها الله في ذلك اليوم عندما وقَعَت الباشورة – الباشورة حائط ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- فلم يشعر الفرنج إلا بالمسلمين قد تسلقوا وطلعوا القلعة، ورفعت الأعلام الإسلامية على الباشورة، وحَفَّت بها المقاتلة وطُرِحَت النيران في أبوابها، هذا والفرنجُ تقاتل، فدفع السُّلطانُ سنجقه للأميرِ سنقر الرومي وأمَرَه أن يؤمِّنَ الفرنج من القتل، فلما رآه الفرنجُ تركوا القتالَ، وسلَّمَ السنجق للأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط الحاجب، ودُلِّيَت له الحبال من القلعة فربطها في وسطِه والسنجق معه، ورفع إليها فدخَلَها وأخذ جميعَ سيوف الفرنج وربَطَهم بالحبال وساقهم إلى السلطانِ والأمراء صفوف وهم ألوف، وأباح السلطانُ القلعة للناس، وكان بها من الغِلالِ والذخائر والمال شيءٌ كثير، وكان فيها جملةٌ من الخيول والبغال لم يتعرض السلطان لشيءٍ منه، إلا ما اشتراه ممَّن أخذه بالمال ووجد فيها عِدَّةً من أسرى المسلمين في القيود فأُطلِقوا، وقَيَّد الفرنجَ بقيودهم، وعيَّنَ السلطانُ جماعةً مع الأسرى من الفرنج ليسيروا بهم، وقسَّم أبراج أرسوف على الأمراء، وأمر أن يكون أسرى الفرنجِ يتولون هدم السورِ، فهُدِمَت بأيديهم، وأمرَ السلطان بكشف بلاد قيسارية وعمَل متحَصَّلِها، فعُمِلَت بذلك أوراقٌ، وطَلَبَ قاضي دمشق وعدوله ووكيل بيت المال، وتقدم بأن يملك الأمراءُ المجاهدون من البلاد التي فتحها الله عليه، وكتبت تواقيع كل منهم من غير أن يطَّلعوا على ذلك، فلما فرغت التواقيعُ فُرِّقَت على أربابها، وكتب بذلك مكتوبٌ جامع بالتمليك ورحل السلطانُ من أرسوف بعد استكمال هدمِها في يوم الثلاثاء الثالث عشر شهر رجب إلى غزة وسار منها إلى مصر ودخل السلطان من القاهرة في يوم الخميس حادي عشر شعبان والأسرى بين يديه.
هو السَّيِّدُ أبو الحسن العلوي موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والِدُ الإمام علي بن موسى الرضا, المدنِيُّ، ولد سنة ثمان وعشرين ومائة بالمدينةِ ثم نزلَ بغداد,َ لقب بالكاظِمِ لكَظمِه عمَّن أساء إليه، كان مجتهدًا في العبادةِ كريمًا، قيل: إنَّ سبَبَ سَخَطِ الرشيدِ عليه هو أنَّ الرشيدَ لَمَّا زار قبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: السَّلامُ عليك يا عمَّاه يفتَخِرُ بذلك، فقال موسى: السَّلامُ عليك يا أبتِ. فقال الرشيدُ: هذا هو الفَخرُ يا أبا الحسَنِ, ثم لم يزَلْ ذلك في نفسِه، فحَنقَ عليه حتى استدعاه في سنة تسعٍ وسبعين وسجَنَه فأطال سَجنَه، وقيل: بل لأنَّه سَمِعَ أنَّ النَّاسَ يبايعونَ له فحَمَله معه إلى البصرةِ وحَبَسَه عند واليها عيسى بن جعفرٍ، ثمَّ نقَلَه إلى الفضلِ البرمكي، ثمَّ حَوَّله إلى السندي بن شاهك، إلى أن مات عنده ودُفِنَ في بغداد.
كان جدُّ السامانيين أسدُ بن سامان من أهل خراسان، وينتسبونَ إلى الفُرس تارة وإلى سامة بن لؤيِّ بن غالب أحيانًا, وكان لأسدِ بن سامان أربعةُ بنين: نوح وأحمد ويحيى وإلياس، وكان في خراسان حين استولى عليها المأمونُ، فأكرمهم المأمونُ أربعَتَهم وقَدَّمَهم واستعملهم، فتولى أحمدُ بن أسد فرغانةَ في سنة أربع ومائتين، ويحيى بن أسد الشاشَ مع أسروشنه، وإلياس بن أسد هراةَ، ونوح بن أسد سمرقندَ، ولَمَّا تولى طاهرُ بن الحسين خراسان أقرَّهم على الأعمال، ثم مات نوح ثم مات إلياس بهراة, وكان لأحمد بن أسدٍ سبعةُ بنين: نصر ويعقوب ويحيى وأسد وإسماعيل وإسحاق وحميد، ثم مات أحمد بن أسد، واستخلف ابنه نصرًا على أعمالِه بسمرقند وما وراءها، فبقي عاملًا عليها إلى آخِرِ أيام الطاهريَّة, وفي هذه السَّنة ولى الخليفةُ المعتمِد نصرَ بن أحمد بلادَ ما وراء النهر، فجعل سمرقند قاعدةَ مُلكِه، وكان إسماعيلُ بن أحمد يخدُم أخاه نصرًا، فولَّاه بُخارى.
سار قائدٌ كبيرٌ من الدَّيلمِ، يُسمَّى فولاذ، وهو صاحبُ قَلعةِ إصطخر، إلى شيراز، فدَخلَها وأَخرجَ عنها الأَميرَ أبا منصور فولاستون، ابنَ المَلِكِ أبي كاليجار، فقَصدَ فيروزآباذ وأَقامَ بها، وقَطعَ فولاذ خُطبةَ السُّلطانِ طُغرلبك في شيراز، وخَطبَ للمَلِكِ الرَّحيمِ، ولأَخيهِ أبي سعدٍ، وكاتَبَهُما يُظهِر لهُما الطَّاعةَ، فعَلِمَا أنَّه يَخدَعهُما بذلك، فسار إليه أبو سعدٍ، وكان بأرجان، ومعه عَساكرُ كثيرةٌ، واجتمع هو وأَخوهُ الأَميرُ أبو منصور على قَصْدِ شيراز ومُحاصرتِها بَعدَ أن اتَّفَقَا على طَاعةِ أَخيهِما المَلِكِ الرَّحيم، فتَوَجَّهَا نَحوَها فيمَن معهما مِن العَساكِر، وحَصَرَا فولاذ فيها، وطال الحِصارُ إلى أن عُدِمَ القُوتُ فيها، وبَلَغَ سِعرُ سَبعةِ أَرطالٍ حِنطَة بدِينار ومات أَهلُها جُوعًا، وكان مَن بَقِيَ فيها نحوَ أَلفِ إنسانٍ، وتَعَذَّرَ المُقامُ في البَلدِ على فولاذ، فخَرَجَ هاربًا مع مَن في صُحبَتِه من الديلم إلى نَواحي البَيضاءِ وقَلعةِ إصطخر، ودَخَل الأَميرُ أبو سعدٍ، والأميرُ أبو منصور شيراز، وعَساكِرُهما، ومَلَكوها، وأَقاموا بها.
لقي كمشتكين بن الدانشمند طايلو السلجوقي بن صاحب ملطية وسيواس - وإنما قيل له ابن الدانشمند -معنى الدانشمند المعلم- لأن أباه كان معلمًا للتركمان وتقلبت به الأحوال، حتى مَلضك، وهو صاحِبُ ملطية وسيواس وغيرهما- بيمند الفرنجي، وهو من مقدَّمي الفرنج، قريبَ ملطية، وكان صاحبُها قد كاتبه، واستقدمه إليه، فورد عليه في خمسةِ آلاف، فلقيهم ابن الدانشمند، فانهزم بيمند وأُسِر. ثم وصل من البحر سبعةُ قمامصة -كبار القساوسة- من الفرنج، وأرادوا تخليص بيمند، فأتوا إلى قلعة تسمى أنكورية، فأخذوها وقَتَلوا من بها من المسلمين، وساروا إلى قلعة أخرى فيها إسماعيل بن الدانشمند، وحصروها، فجمع ابن الدانشمند جمعًا كثيرًا، ولقي الفرنجَ، وجعل له كمينًا، وقاتلهم، وخرج الكمينُ عليهم، فلم يُفلتْ أحد من الفرنج -وكانوا ثلاثمائة ألف- غيرُ ثلاثة آلاف، هربوا ليلًا وأفلتوا مجروحين. وسار ابن الدانشمند إلى ملطية، فملكها وأسر صاحبها، ثم خرج إليه عسكر الفرنج من أنطاكية، فلقِيَهم وكسرهم، وكانت هذه الوقائع في شهور قريبة.
حضر الأمير علاء الدين ألطبغا نائب الملك الظاهر مجد الدين عيسى صاحب ماردين، فأنعم عليه وعلى من معه، وكان سببُ قدومه أنَّ الظاهِرَ عيسى لما قبض عليه تيمورلنك وأقام في أسْرِه، قام ألطبغا بأمر ماردين ومنع تيمورلنك منها، وكان الظاهر قد أقام في مملكة ماردين الملك الصاع شهاب الدين أحمد بن إسكندر بن الملك الصالح صالح، وهو ابنُ أخيه وزوجُ ابنته، فقاتل أصحاب تيمورلنك قتالًا شديدًا، وقتل منهم جماعة، فشقَّ هذا على تيمورلنك، ثم أفرج عن الظاهر بعد أن أقام في أسره سنتين وسبعة أشهر، وحَلَّفه على الطاعة له وإقامة الخُطبة باسمه، وضَرْب السكة له، والقَبْض على ألطبغا وحَمْله، فعندما حضر إلى ماردين فرَّ منه ألطبغا إلى مصر، فرتَّب له السلطان ما يليقُ به، وقَدِمَت رسل تيمور إلى دمشق فعُوِّقوا بها، وحُمِلت كتُبُهم إلى السلطان فإذا فيها طلب أطلمش، فأمر أن يُكتَب إلى أطلمش بما هو فيه ورفيقه من إحسان السلطان، وكتب جوابه بأنه متى أرسل من عنده من أصحاب السلطان خبر إليه أطلمش.
الخليفةُ أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر ابن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، وكان عرض عليه الاستقلال بالأمر مرتين فأبى، وكان بويع بالخلافة بعهد من أبيه في سابع جمادى الآخرة سنة 763، وجعله الأمير أينبك البدري بن زكريا بن إبراهيم في ثالث عشرين صفر سنة تسع وسبعين، ثم أعيد في عشرين ربيع الأول، منها، وقبض عليه الظاهر برقوق في أول رجب سنة خمس وثمانين، وقيَّده وسجنه إلى أول جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين، ثم أفرج عنه. توفي المتوكل على الله في سابع عشرين شهر رجب. وفي يوم الاثنين أول شعبان استدعى السلطان الملك الناصر أبا الفضل العباس ولد الخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، وبايعه بالخلافة بعد موت أبيه، ولبس العباس التشريف، ولُقِّب بالمستعين بالله، ونزل إلى داره.
هو الشيخُ العلامة أبو عبد الله عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن أبي بكر المعَلِّمي العتمي اليمني، وُلِدَ في أولِ سنة 1313هـ بقرية المحاقرة التابعة لمحافظة صنعاء، قرأ القرآنَ على والدِه، ثم درس في المدرسةِ الحكومية، وتعلَّم القرآنَ والتجويدَ والحسابَ، ثم قرأ النحو، ثم ارتحل إلى جازان سنة 1336هـ، فترأَّس فيها القضاءَ، ثم ارتحل إلى عَدَن ثمَّ الهند مصحِّحًا لكتب الحديث وعلومه، ثمَّ إلى مكة سنة 1371هـ وكان بارعًا في علم الحديثِ والرِّجالِ والجَرح والتعديل، وله مؤلفات، منها: ((التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل))، و ((الأنوار الكاشفة بما في كتاب أضواء على السُّنَّة من الزلل والتضليل والمجازفة))، في الردِّ على أبي رَيَّة. و ((علمُ الرجال وأهميته))، وله بحوث كثيرة مستقِلَّة، وله تحقيقات، منها تحقيق كتاب الرد على الأخنائي لابن تيمية، والفوائد المجموعة، والجَرح والتعديل وتقدِمتُه، والمنار المنيف في الصحيح والضعيف، وغيرها كثير، توفي رحمه الله في مكَّةَ المكرمة، وعمره ثلاث وسبعون سنة.
شرع السلطانُ الأشرفُ صلاحُ الدين خليلُ بن قلاوون في الاهتمامِ بفَتحِ عَكَّا، وبعثَ الأميرَ عِزَّ الدين أيبك الأفرم أمير جاندار إلى الشامِ لتجهيزِ أعوادِ المجانيق، فقَدِمَ دِمشقَ وجُهِّزَت أعوادُ المجانيق، وبرزت في أول ربيع الأول وتكامَلَت في الثاني عشر، وسار بها الأميرُ عَلَم الدين سنجر الدواداري أحدُ أمراء الشام، ثم فُرِّقَت على الأمراء مقَدَّمي الألوف، فتوجَّهَ كل أمير ومضافيه بما أمر بنقله منها، وخرج من القاهرةِ الأمير سيف الدين طغريل الأيغاني إلى استنفار الناسِ مِن الحصون بممالكِ الشام، فوصل المظفَّر صاحب حماة إلى دمشق في الثالث عشر بعسكره وبمجانيقِ وزردخاناه- خزانة الأسلحة- ووصل الأميرُ سيف الدين بلبان الطباخي نائبُ الفتوحات بعساكِرِ الحصون وطرابلس، وبالمجانيق والزردخاناه في الرابع عشر، وتوجَّه الأميرُ حسام الدين لاجين نائبُ الشام بالجيشِ مِن دمشق في العشرينَ مِن ربيع الأول، وسار جميعُ النواب بالعساكر إلى عكا، وكان السلطانُ الأشرف خليل توجَّه بالعساكِرِ يوم الثلاثاء ثالث ربيع الأول يريد أخْذَ عَكَّا، وسيَّرَ حريمه إلى دمشق فوصلوا إليها في سابع ربيع الآخر، وسار السلطان فنزل عكَّا في يوم الخميس ثالث ربيع الآخر، ووصلت المجانيقُ يوم ثاني وصولِه وعدَّتُها اثنان وتسعون منجنيقًا، فتكاملَ نَصبُها في أربعة أيام، وأُقيمَت الستائرُ ووقع الحصارُ، وقد أتت جمائِعُ الفرنجِ إلى عكا أرسالًا من البحر، صار بها عالمٌ كبير، فاستمَرَّ الحصارُ إلى سادس عشر جمادى الأولى، وكثُرَت النقوب بأسوارِ عَكَّا، فلما كان يومُ الجمعة السابع عشر عزم السُّلطانُ على الزحف، فرَتَّب كوساته- قطعتان من نحاس تشبهانِ الترسَ الصغيرَ يُدَقُّ بأحدها على الآخر بإيقاع مخصوص- على ثلاثمائة جمل، وأمر أن تُضرَبَ كُلُّها دفعة واحدة، وركب السلطانُ وضُرِبَت، فهال ذلك أهلَ عكا، وزحف بعساكِرِه ومن اجتمع معه قَبلَ شروق الشمس، فلم ترتفع الشمسُ حتى علت السناجِقُ- الرايات- الإسلاميَّة على أسوار عكا، وهرب الفرنجُ في البحر وهلك منهم خلقٌ كثير في الازدحام، والمسلمون يقتُلونَ ويأسِرونَ وينهَبونَ فقَتَلوا ما لا يحصى عَدُّه كثرةً، وأخذوا من النساءِ والصبيان ما يتجاوَزُ الوصفَ، وكان عند فتحها أن أقبل من الفرنجِ نحوُ عشرة آلاف في هيئةٍ مُستأمنين، ففَرَّقهم السلطان على الأمراء فقتلوهم عن آخِرِهم، وكانت مدَّةُ حصار عكا أربعة وأربعين يومًا، واستُشهِدَ من المسلمين الأميرُ علاء الدين كشتغدي الشمسي ودُفِنَ بجلجولية، وعزُّ الدين أيبك العزي نقيب العساكر، وسيفُ الدين أقمش الغتمي، وبدرُ الدين بيليك المسعودي، وشرفُ الدين قيران السكزي، وأربعةٌ من مقَدَّمي الحلقةِ، وجماعةٌ من العسكر، وفي يومِ السبت الثامن عشر وقع الهدمُ في مدينة عكا، فهُدِّمَت الأسوار والكنائسُ وغيرها وحُرِقَت، وحُمِلَ كثير من الأسرى بها إلى الحصونِ الإسلاميَّة.
بعد أن خرج الظاهِرُ برقوق السلطانُ المخلوعُ مِن سجن الكرك واجتمَعَ له أهلُ الكرك ونصروه، وما زال أمرُه في ظهور حتى العُربان اجتمعت عليه، وأخلاطُ أهل مدينة الكرك، فخرج من الكرك يريد الشَّامَ فأقام بالثنية خارج الكرك يومين، ورحل في الثامِنِ والعشرين من شوال، وسار بهم يريد دمشقَ، وبها الأمير جَنتمُر أخو طاز، متولِّي نيابتها وقد وصل إليه الأمير ألطنبغا الحلبي الدوادار من مصر نائبًا على حلب بحُكم عصيان كمشبغا الحموي، فاستعَدَّا لقتال الظاهر، وتوجَّه إليهما الأميرُ حسام الدين حسين بن باكيش نائب غزة بعساكرها وعشيرها، وأقبل الظاهِرُ بمن معه، فخرجوا إليه وقاتلوه بشقحب قريبًا من دمشق قتالًا شديدًا، كسَروه فيه غيرَ مرة، وهو يعودُ إليهم ويقاتِلُهم، إلى أن كسرهم وانهزموا منه إلى دمشق، وقَتَل منهم ما ينيفُ على الألف، فيهم خمسةَ عشر أميرًا، وقُتِلَ من أصحابه نحو الستين، ومن أمرائِه سَبعةٌ، وركب أقفيةَ المنهزمين، فامتنع جَنتمر بالقلعة، وتوجَّه بالقلعة وتوجَّهَ من أمراء دمشق ستة وثلاثون أميرًا، ومعهم نحو الثلاثمائة وخمسين فارسًا، قد أُثخِنوا بالجراحات، وأخَذوا نائِبَ صفد، وقَصَدوا ديار مصر، فلم يمضِ غيرُ يوم واحد حتى وصل ابنُ باكيش بجمائعه، فقاتله الظاهِرُ وهَزَمَه، وأخذ جميعَ ما كان معه، فقَوِيَ به قوة كبيرة، وأتاه عِدَّةٌ من مماليكه، ومن أمراء الشام، فصار في عسكرٍ كبير، وأقبل إليه الأميرُ جبرائيل حاجِبُ الحجاب بدمشق، وأمير علي بن أسندمر الزيني، وجَقمَق، ومقبل الرومي، طائعين له، فصاروا في جملته، ونزل السلطان برقوق على قبة يلبغا ظاهر دمشق، وقد امتنع أهلُها بها، وبالغوا في تحصينِها، فحصرها وأحرق القبيبات وخربها، وأهلك في الحريق خلقًا كثيرًا، وجَدَّ أهل المدينة في قتالِه، وأفحشوا في سَبِّه، وهو لا يفتُرُ عن قتالهم، فأمَدَّه الأمير كمشبغا من حلب بثمانين فارسًا من المماليك الظاهريَّة، فأخرج إليهم الأمير جَنتمر خمسمائة فارس من دمشق، ليَحُولوا بينهم وبين الظاهر، فقاتلوهم فكسَرَهم الظاهرية، واستولوا على جميعِ ما معهم، وأتَوا إلى الظاهر فأقبل الأمير نعير بعُربانه يريدُ محاربته، فحاربه وكَسَرَه فانهزم عنه، وتقوى ممَّا صار إليه في هذه الوقائع، واستمَرَّ الظاهرُ برقوق على حصار دمشق وقتال أهلها، فورد الخبَرُ بذلك إلى منطاش في خامس عشر ذي القعدة، فتقَدَّم في السابع عشر منه إلى الصاحب موفق الدين أبي الفرج بتجهيز المَلِك المنصور حاجي للسَّفَر، فلم يجِدْ في الخزائن ما يجَهِّزُه به، فأخذ أموال اليتامى التي في الخزائِنِ وأخذ كذلك من اليهود والنصارى أموالًا، واستصدر فتوى بحلِّ قَتلِ الظَّاهِرِ برقوق بسَبَبِ ما قام به من خَلعِ الخليفة والسلطان السابق وغيرها من الأمور، ثمَّ جُهِّزَت العساكر من مصر للسير لقتال الظاهر برقوق، ففي ثاني محرم من سنة 792 وصل السلطانُ الملك المنصور إلى مدينة غزَّةَ بعساكرِ مِصرَ، وبلغ ذلك المَلِكَ الظاهر فترك قتالَ أهل دمشق، وأقبل نحوَهم، فنزل العسكَرُ المصري على قرية المليحة، وهي تبعد عن شقحب بنحو بريدٍ، وأقاموا بها يومَهم، وبعثوا كشافَتَهم، فوجدوا الظاهِرَ برقوق على شقحب، فكان اللقاءُ يوم الأحد الرابع عشر، وقد وافاهم الظاهِرُ برقوق، فوقف الأمير منطاش في الميمنةِ وحمل على ميسرة الظاهر، فحمل أصحابُ ميمنة الظاهر على ميسرة المنصور، وبذل كلٌّ من الفريقين جُهدَه، وكانت حروبًا شديدة، انهزمت فيها ميمنةُ الظاهر وميسرتُه، وتَبِعَهم منطاش بمن معه، وثبت الظاهرُ في القلب، وقد انقطع عنه خبَرُ أصحابه، وأيقَنَ بالهلاك، ثم حمل على المنصورِ بمن بقي معه، فأخذ المنصورَ والخليفةَ المتوكِّلَ والقُضاة والخزائِنَ، ومالت الطائفةُ التي ثبتت معه على الأثقال، فأخَذَتْها عن آخرها، وكانت شيئًا يخرُجُ عن الحَدِّ في الكثرة، ووقع الأميرُ قجماس ابن عم الظاهر في قبضةِ منطاش، ومَرَّ في أثر المنهزمين حتى وصل إلى دمشق، وأما الظاهر وأصحابه، فإن الأمير كمشبغا نائب حلب كان ممن انهزم على شَقْحب، فتَمَّ في الهزيمة إلى حلب، وتَبِعَه الأمير حسام الدين حسن الكجكني نائب الكرك، ومن بَقِي من عساكر حلب، فاستولى عليها، وانهزم أهلُ الكرك إليها، فلم يَصِلوا حتى مرَّت بهم شدائد، ولم يتأخَّرْ مع الظاهر إلا نحو الثلاثين، وقد تمَزَّقت عساكره وعساكِرُ مصر، فلم يقصِدْ إلا المنصور، فأخذه بمن معه فصار السلطانُ حاجي والخليفةُ المتوكل في قبضة الظاهر، ثم في يوم الاثنين أقبل منطاش في عالمٍ كبير من عوام دمشقَ وعساكرها ومن كان معه، فدارت بينه وبين الظاهِرِ في هذا اليوم منذ شروق الشمسِ إلى آخره حروبٌ لم يُعهَدْ بمصر والشام في هذه الأعصُرِ مِثلُها، وبعث الله ريحًا ومطرًا في وجهِ منطاش ومن معه، فكانت من أكبَرِ أسبابِ خِذلانه، ولم تغرُب الشمس حتى فَنِيَ من الفريقين خلقٌ كثير من الفرسان والعامة، وانهزم منطاش إلى دمشق، وعاد الظاهِرُ إلى منزلته فأقام بها سبعة أيام، وعَزَّت عنده الأقواتُ، وفي أثناء إقامته أمر الظاهر فجَمَع كُلَّ من معه من الأعيان، وأشهد على المنصور حاجي أنَّه خلع نفسه، وحَكم بذلك القضاة، ثم بويع الظاهِرُ، وأثبت القضاةُ بَيعَتَه، فولَّى الظَّاهِرُ الأميرَ فخر الدين إياس الجرجاوي نيابة صفد، والأمير سيف الدين قديد القَمطاي الكرك، والأمير علاء الدين أقبغا الصغير غزة، ورحل الظاهِرُ فأتاه عند رحيله منطاش بعَسكرِ الشام، ووقف على بُعدٍ فاستعد الظاهر إلى لقائه، فولى عنه وعاد إلى دمشق، وسار الملك الظاهِرُ ومن معه يريدُ ديار مصر، وبعث إلى غزة يأمرُ منصور الحاجب بالقبضِ على حسام الدين حسن بن باكيش، فقُبِض عليه واستولى على غزة، وبعث بابن باكيش إلى السلطان الظاهر برقوق فضربه بالمقارع وهو بالرملة، وسار الظاهر إلى غزة فضربه بها ضربًا مبَرِّحًا يوم دخلها مستهَلَّ صفر، ثم في بكرة نهار يوم الثلاثاء رابع عشر صفر نزل الملك الظاهر بالريدانية خارج القاهرة، فخرج إلى لقائِه الأشرفُ مع السيد علي نقيب الأشراف، وخرجت طوائِفُ الفقراء بصناجِقِها، وخرجت العساكِرُ بلبوسِها الحربية، وكانت العساكِرُ منذ خرج بطا وأصحابه لابسةً السلاح ليلًا ونهارًا، وخرجت اليهودُ بالتوراة، والنصارى بالإنجيل، ومعهم شموعٌ كثيرةٌ مُشعَلة، وخرج من عامةِ الناس رجالُهم ونساؤهم ما لا يحصيه إلا الله، وعندهم من الفَرَحِ والسرور شيءٌ زائد، وهم يضجُّون بالدعاء للسلطان، حتى لَقُوه وأحاطوا به، وقد فُرِشَت الشُّقَق الحريرُ من الترب إلى باب السلسة، فلما وصل إليها تنحى بفَرَسِه عنها، وقَدَّمَ المَلِكَ المنصور حاجي بن الأشرف حتى مشى بفَرَسِه عليها، ومشى بجانِبِه، فصار كأنَّ الموكِبَ للمنصور، فوقع هذا من الناسِ مَوقعًا عظيمًا، ورفعوا أصواتَهم بالدعاء والابتهال له؛ لتواضعه مع المنصور في حال غَلَبتِه وقَهْرِه له، وأنَّه معه أسيرٌ! وعُدَّ هذا من فضائله، واستَدعى الخليفةَ وشيخَ الإسلام وقضاة القضاة وأهل الدولة، وهو بالإسطبل، وجدد عقد السلطنة وتجديد التفويض الخليفتية، فشهد بذلك القضاةُ على الخليفة ثانيًا، وأُفيضَت التشاريف الخليفتيَّة على السلطان، ثم أُفيضَت التشاريف السلطانية على الخليفة، وركب السلطانُ مِن الإسطبل وصَعِدَ القلعة، وتسَلَّمَ قُصوره، وقد عاد إليها حَرَمُه وجواريه، فحقت البشائرُ.
لَمَّا وَلِيَ إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس إمارةَ مِصرَ لم يرضَ بما كان يأخُذُه قبله الأمراءُ، وزاد على المُزارعين زيادةً أفحَشَت بهم فسَئِمَته الناسُ وكَرِهَته وخرج عليه جماعةٌ مِن أهل الحوفِ مِن قيس وقضاعة، فحاربَهم إسحاقُ، وقُتل من حواشيه وأصحابِه جماعةٌ كبيرة، فكتب إسحاقُ يُعلِمُ الرَّشيدَ بذلك، فعَظُمَ على الرشيدِ ما ناله من أمرِ مِصرَ، وصَرَفه عن إمرَتِها وعقَدَ الرَّشيدُ لهرثمة بن أعيَن على إمرة مصرَ، وأرسله في جيشٍ كبير إلى مصرَ، فتلقَّاه أهلُ مِصرَ بالطاعةِ وأذعنوا له، فقَبِلَ هرثمة منهم ذلك، وأمَّنَهم وأقَرَّ كُلَّ واحدٍ على حاله.