اشتدَّ اعتِداءُ الحوثيِّين وحِصارُهم لمِنطَقَة دمَّاج؛ ممَّا أدَّى إلى خروجِ شيخِ دار الحديثِ بها، وكَثيرٍ من أهل السُّنَّة منها بعدَ مُفاوضاتٍ من قِبَلِ لجنةِ وَساطةٍ بينهم وبين جماعةِ الحُوثِيِّ، مقابلَ وَقفِ إطلاقِ النَّارِ، وفَكِّ الحِصارِ عن دمَّاجٍ.
ثار أبو عصامٍ ومَن وافقه على إبراهيمَ بن الأغلب، أميرِ إفريقيَّة، فحاربهم إبراهيمُ، فظَفِرَ بهم. واستعمل ابنُ الأغلب ابنَه عبدالله على طرابلس الغرب، فلما قدِمَ إليها ثار عليه الجُندُ، فحصروه في داره، ثم اصطَلَحوا على أن يخرُجَ عنهم، فخرج عنهم، فلم يُبعِد عن البلد حتى اجتمع إليه كثيرٌ من الناس، ووضَعَ العطاء، فأتاه البربرُ من كل ناحية، فاجتمع له عددٌ كثير، فزحف بهم إلى طرابلس، فخرج إليه الجُند، فاقتتلوا فانهزمَ جُند طرابلس، ودخل عبد الله المدينةَ، وأمَّنَ الناسَ وأقام بها؛ ثمَّ عزله أبوه، واستعمل بعده سُفيانَ بن المضاء، فثارت هوارة بطرابلُس، فخرج الجندُ إليهم، والتَقَوا واقتتلوا، فهُزِمَ الجند إلى المدينة، فتَبِعَهم هوارة، فخرج الجندُ هاربين إلى الأميرِ إبراهيم ابن الأغلب، ودخلوا المدينةَ فهَدَموا أسوارها. وبلغ ذلك إبراهيمَ ابن الأغلب، فسيَّرَ إليها ابنَه أبا العباس عبد الله في ثلاثة عشر ألف فارس، فاقتتل هو والبربر، فانهزم البربرُ، وقُتِل كثيرٌ منهم، ودخل طرابلس وبنى سورها. وبلغ خبَرُ هزيمة البربر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، وجمع البربرَ وحَرَّضَهم، وأقبل بهم إلى طرابلس، وهم جمعٌ عظيم، غضبًا للبربر ونصرةً لهم، فنزلوا على طرابلس، وحصروها. فسدَّ أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بابَ زناتة، ولم يزل كذلك إلى أن توفِّي أبوه إبراهيم بن الأغلب، وعَهِدَ بالإمارة لولده عبد الله، فأخذ أخوه زيادةُ الله بن إبراهيم له العهودَ على الجند، وسيَّرَ الكتاب إلى أخيه عبد الله، يخبِرُه بموت أبيه، وبالإمارة له، فأخذ البربرُ الرسولَ والكتابَ، ودفعوه إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، فأمر بأن يناديَ عبد الله بن إبراهيم بموت أبيه، فصالَحَهم على أن يكونَ البلدُ والبحر لعبد الله، وما كان خارجًا عن ذلك يكونُ لعبد الوهاب، وسار عبدُ الله إلى القيروان، فلقيه الناس، وتسلَّمَ الأمرَ، وكانت أيَّامُه أيامَ سُكونٍ ودَعةٍ.
وَلِيَ الأندلُسَ عليُّ بنُ حَمُّود بنِ أبي العَيشِ بنِ ميمون بنِ أحمَدَ بنِ عليِّ بنِ عبد اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ إدريس بن إدريسَ بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقيل في نَسَبِه غيرُ ذلك، مع اتِّفاقٍ على صِحَّةِ نَسَبِه إلى أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه، وكان سَبَبُ تَوَلِّيه أنَّ الفتى خيرانَ العامريَّ لم يكُنْ راضيًا بولايةِ سُلَيمانَ بنِ الحاكِمِ الأُمويِّ؛ لأنَّه كان من أصحابِ المؤيَّدِ، فلمَّا مَلَك سُلَيمانُ قُرطُبةَ انهزم خيرانُ في جماعةٍ كثيرةٍ مِن الفتيان العامريِّينَ، ثمَّ هَرَب وقَوِيَ أمرُه، وكان عليُّ بنُ حمود بمدينةِ سبتة، وكان أخوه القاسمُ بنُ حمود بالجزيرةِ الخَضراءِ مُستَوليًا عليها، فحَدَثَ لعليِّ بنِ حمود طَمَعٌ في مُلكِ الأندلُسِ لِمَا رأى من الاختلافِ، وكان خيرانُ يُكاتِبُ النَّاسَ، ويأمُرُهم بالخُروجِ على سُلَيمانَ، فوافَقَه جَماعةٌ منهم عامِرُ بنُ فتوح وزيرُ المؤَيَّد، وهو بمالقةَ، وكاتَبوا عليَّ بنَ حَمُّود، وهو بسبتة؛ لِيَعبُرَ إليهم ليقوموا معه ويَسيروا إلى قُرطبة، فعَبَرَ إلى مالقة في سنة 405، ثم تجَهَّزوا وجَمَعوا مَن وافقهم، وساروا إلى قُرطبةَ وبايعوا عليًّا على طاعةِ المُؤَيَّد الأمويِّ، فلمَّا بلغوا غرناطةَ وافَقَهم أميرُها، وسار معهم إلى قُرطبة، فخرج سُلَيمانُ والبربَرُ إليهم، فالتَقَوا واقتتلوا، فانهزم سُلَيمانُ والبربَرُ، وقُتِلَ منهم خَلقٌ كثيرٌ، وأُخِذَ سُليمانَ أسيرًا، فحُمِلَ إلى عليِّ بنِ حمُّود ومعه أخوه وأبوه الحاكِمُ بنُ سُلَيمانَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ الناصر، ودخَلَ عليُّ بنُ حمود قُرطُبةَ في المحَرَّم سنة 407 ودخل خيرانُ وغَيرُه إلى القَصرِ؛ طمعًا في أن يجدوا المؤيَّدَ حَيًّا، فلم يَجدِوه، فأَخَذَ عليُّ بنُ حَمُّود سليمانَ وقَتَلَه سابعَ المحَرَّم، وقتَلَ أباه وأخاه، واستولى عليُّ بنُ حمود على قُرطُبة، ودعا النَّاسَ إلى بيعتِه، فبُويِعَ، واجتَمَعَ له المُلْكُ، ولُقِّبَ المتوكِّلَ على الله.
من أشهَرِ الثَّوراتِ التي قمَعها الحكَمُ بن هشام ثورة ُالربض، وهم قومٌ كانوا يعيشونَ في إحدى ضواحي قُرطُبة، وقد ثار أهلُها ثورةً كبيرة جدًّا عليه؛ بسبب ما عُرِفَ عنه من معاقرةِ الخَمرِ، وتشاغُلِه باللهوِ والصَّيد، وقد زاد من نقمةِ الشَّعبِ عليه قتلَه لجماعةٍ مِن أعيان قُرطبة، فكرهه الناسُ, وصاروا يتعرَّضون لجُندِه بالأذى والسَّبِّ، فشرعَ في تحصينِ قُرطبةَ وعِمارةِ أسوارِها وحَفْرِ خَنادِقِها، وارتبط الخيلَ على بابِه، واستكثَرَ المماليكَ، ورتَّب جمعًا لا يفارِقونَ بابَ قَصرِه بالسلاحِ، فزاد ذلك في حقدِ أهل قُرطبةَ، وتيقَّنوا أنه يفعلُ ذلك للانتقام منهم. ثم وضَعَ عليهم عُشرَ الأطعمةِ كُلَّ سنةٍ، مِن غيرِ خَرصٍ، فكرهوا ذلك، ثم عمدَ إلى عشرةٍ مِن رؤساء سفهائِهم، فقتَلَهم، وصَلَبهم، فهاج لذلك أهلُ الربض، وتداعى أهلُ قُرطبةَ من أرباضِهم وتألَّبوا بالسلاحِ وقصدوا القصرَ، فكان أوَّلَ مَن شهرَ السلاحَ أهلُ الربض، واجتمع أهلُ الربض جميعُهم بالسلاح، واجتمعَ الجندُ والأمويُّون والعبيدُ بالقصر، وفرَّقَ الحكمُ الخيلَ والأسلحة، وجعل أصحابَه كتائبَ، ووقع القتالُ بين الطائفتينِ، فغَلَبهم أهلُ الربض، وأحاطوا بقَصرِه، فنزل الحكَمُ من أعلى القصر، ولَبِسَ سلاحَه، ورَكِبَ وحَرَّضَ الناس، فقاتلوا بين يديه قتالًا شديدًا. ثم أمَرَ ابنَ عَمِّه عُبيد الله، فثلَمَ في السُّورِ ثُلمةً، وخرج منها ومعه قطعةٌ من الجيش، وأتى أهلَ الربض من وراء ظهورِهم، ولم يعلَموا بهم، فأضرموا النَّارَ في الربض، وانهزم أهلُه، وقُتلوا مقتلةً عظيمةً، وأخرجوا من وجَدوا في المنازلِ والدُّور، فأسروهم، فانتقى من الأسرى ثلاثَمائة من وجوهِهم، فقتَلَهم، وصَلَبَهم منكَّسِينَ، وأقام النَّهبَ والقتلَ والحريقَ والخرابَ في أرباض قرطبةَ ثلاثةَ أيام. ثم استشار الحكَمُ عبدَ الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث، فأشار عليه بالصَّفحِ عنهم والعفوِ، وأشار غيرُه بالقتل، فقَبِلَ قَولَه، وأمر فنودي بالأمانِ، على أنَّه من بقي من أهلِ الربض بعد ثلاثةِ أيَّامٍ قَتَلْناه وصَلَبْناه؛ فخرج من بقي بعد ذلك منهم مستخفيًا، وتحمَّلوا على الصَّعبِ والذَّلولِ خارجين من حضرةِ قُرطبة بنِسائِهم وأولادِهم، وما خَفَّ من أموالهم، وقعد لهم الجندُ والفَسَقةُ بالمراصِدِ يَنهبونَ، ومن امتنَعَ عليهم قتلوه. فلما انقَضَت الأيامُ الثلاثة أمر الحكَمُ بكَفِّ الأيدي عن حَرَمِ النَّاسِ، وجمعَهنَّ إلى مكان، وأمر بهدمِ الربضِ القبلي. فكانت وقعةً هائلة شنيعةً، قُتِل فيها عددٌ كثيرٌ زُهاءَ أربعين ألفًا من أهل الربض، وعاينوا البلاءَ وهُدِّمَت ديارُهم ومساجِدُهم، ونزل منهم ألوفٌ بطُليطِلة وخَلقٌ في الثغورِ، وجاز آخرون البحرَ ونزلوا بلادَ البربر، ومنهم من نزل بالإسكندرية في مصر. وكان بزيعُ مولى أميَّة ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشامٍ محبوسًا في حبسِ الدم بقرطبة، في رجليه قيدٌ ثقيلٌ، فلما رأى أهلَ قُرطبة قد غلَبوا الجندَ سأل الحرسَ أن يُفرِجوا له، فأخذوا عليه العهودَ إن سَلِمَ أن يعودَ إليهم، وأطلقوه، فخرج فقاتلَ قتالًا شديدًا لم يكُنْ في الجيشِ مِثلُه، فلما انهزم أهلُ الربض عاد إلى السِّجنِ، فانتهى خبَرُه إلى الحكم، فأطلقه وأحسَنَ إليه.
أرسل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بكِتابٍ إلى قَيصرِ الرُّومِ وكان حاملَ الكِتابِ هو دِحيةُ بنُ خَليفةَ الكَلبيُّ، فلمَّا كان مِن قَيصرَ ما كان أجاز دِحيةَ بنَ خَليفةَ الكَلبيَّ بمالٍ وكِسوَةٍ، ولمَّا كان دِحيةُ بحِسْمَى في الطَّريقِ لَقِيَهُ ناسٌ مِن جُذَامَ، فقَطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئًا، فجاء دِحيةُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قبلَ أن يَدخُلَ بيتَه فأخبرَهُ، فبعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيدَ بنَ حارثةَ إلى حِسْمَى، وهي وَراءَ وادي القُرى، في خمسمائةِ رجلٍ، فشَنَّ زيدٌ الغارةَ على جُذامَ، فقَتل فيهم قتلًا ذَريعًا، واسْتاقَ نَعَمَهُم ونِساءَهُم، فأخذ مِنَ النَّعَمِ ألفَ بَعيرٍ، ومِنَ الشَّاةِ خمسةَ آلافٍ، والسَّبْيِ مائةً مِنَ النِّساءِ والصِّبيانِ. وكان بين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وبين قَبيلةِ جُذامَ مُوادَعةٌ، فأسرعَ زيدُ بنُ رِفَاعةَ الجُذاميُّ أَحَدُ زُعماءِ هذه القَبيلةِ بتَقديمِ الاحْتِجاجِ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد أَسلمَ هو ورِجالٌ مِن قومِه، ونَصَروا دِحيةَ حين قُطِعَ عليه الطَّريقُ، فقَبِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم احْتِجاجَهُ، وأَمَر بِرَدِّ الغَنائمِ والسَّبْيِ.
هو المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة ظالم، أبو سَعيد الأَزْدِيُّ، الأميرُ البَطَل، قائدُ الكَتائِب أحدُ أَشْرافِ أهلِ البَصْرَةِ، ووُجَهائِهِم ودُهاتِهِم وأَجْوادِهِم وكُرَمائِهِم، وُلِدَ عامَ الفَتْح، نَزَل المُهَلَّبُ البَصْرَة وغَزا في أيَّام مُعاوِيَة أرضَ الهِنْد سنةَ أربع وأربعين، ووَلِيَ الجزيرةَ لابنِ الزُّبير سنةَ ثمانٍ وسِتِّين، ثمَّ وَلِيَ حَربَ الخَوارِج أوَّلَ دَولةِ الحَجَّاج، وقَتَل منهم في وَقعةٍ واحدة أربعةَ آلاف وثمانمائة، فعَظُمَت مَنزِلتُه عندَ الحَجَّاج, وكان فاضلًا شُجاعًا كريمًا، وله كلامٌ حسن، منه: نِعْمَ الخَصْلَة السَّخاء، تَسْتُر عَورةَ الشَّريف، وتَلْحَق خَسِيسَة الوَضِيع، وتُحَبِّب المَزْهُود فيه. وقال: يُعْجِبُني في الرَّجُل خَصْلَتان: أن أرى عَقْلَه زائِدًا على لِسانِه، ولا أرى لِسانَه زائدًا على عَقْلِه. تُوفِّي المُهَلَّبُ غازيًا بِمَرْو الرُّوذ، وعُمُرهُ سِتَّة وسبعون سنة رَحِمَه الله، وكان مِن الشُّجْعان، وله مَواقِف حَميدة، وغَزَوات مَشْهورة في التُّرْك والأَزارِقَة وغَيرهِم مِن أنواعِ الخَوارِج، وجَعَل الأمرَ مِن بَعدِه لِوَلَدِه يَزيدَ بن المُهَلَّب على إِمْرَةِ خُراسان، فأَمْضَى له ذلك الحَجَّاجُ وعبدُ الملك بن مَرْوان.
خرج رجلٌ بآمل طبرستان يقال له مازيار بن قارن بن يزداهرمز، وكان لا يرضى أن يدفَعَ الخراجَ إلى نائب خراسان عبد الله بن طاهر بن الحُسَين، بل يبعثه إلى الخليفةِ ليقبِضَه منه، فيبعث الخليفةُ من يتلقى الحملَ إلى بعض البلاد ليقبِضَه منه ثم يدفَعُه إلى ابن طاهر، ثم آل أمرُه إلى أن وثب على تلك البلادِ وأظهر المخالفةَ للمُعتَصِم، وقد كان المازيار هذا ممَّن يكاتب بابك الخرميَّ ويَعِدُه بالنصر، ويقال: إنَّ الذي قوَّى رأس مازيار على ذلك الأفشينُ لِيَعجِزَ عبدُ الله بن طاهر عن مقاومتِه فيُولِّيه المعتصِمُ بلاد خراسان مكانَه، فبعث إليه المعتصِمُ محمَّدَ بن إبراهيم بن مصعب- أخا إسحاقَ بن إبراهيم- في جيشٍ كثيف، فجرت بينهم حروبٌ طويلةٌ، وكان آخِرَ ذلك أسْرُ المازيارِ وحَملُه إلى ابنِ طاهر، فاستقَرَّه عن الكتب التي بعثها إليه الأفشينُ فأقَرَّ بها، فأرسله إلى المعتَصِمُ وما معه من أموالِه التي احتُفِظَت للخليفة، وهي أشياءُ كثيرةٌ جِدًّا من الجواهر والذهَبِ والثياب، فلما أُوقِفَ بين يدي الخليفةِ سأله عن كتُبِ الأفشين إليه فأنكَرَها، فأمر به فضُرِبَ بالسياط حتى مات، وكان ذلك عام 225هـ، وصُلِبَ إلى جانبِ بابك الخرمي على جسرِ بغداد، وقُتِلَ عُيونُ أصحابِه وأتباعِه.
لم تنقَطِعْ حركاتُ التشَيُّع ولم تتوقَّف، فقد كانوا متعصِّبين لآرائهم، مؤمنينَ بفِكرتِهم، يزعمونَ أنَّ أحَقَّ النَّاسِ بالخلافةِ أبناءُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ مِن نسلِ السَّيِّدةِ فاطمةَ الزَّهراءِ، فإن نالَها غيرُهم فما ذاك إلَّا أمرٌ باطِلٌ يجب أن يُمحى، ونَشِطَ دُعاةُ الشيعةِ في الدعوةِ إلى مذهبهم، وبخاصةٍ في الجهاتِ البعيدةِ عن مركز الخلافةِ، مثل أطراف فارِسَ واليمَنِ وبلاد المغرب. وكان من هؤلاء الدُّعاةِ أبو عبدالله الشِّيعي وهو رجُلٌ مِن صنعاء اتَّجه إلى المغرب بعد أن رأى دويلاتِ الأغالبةِ والأدارسةِ وغَيرِهما تنشأُ وتُقام بعيدًا عن يدِ الدَّولةِ العباسيَّة وسُلطانها، وركَّزَ أبو عبد الله دعايتَه بين البربرِ، وسُرعانَ ما انضَمُّوا إليه في آلافٍ عديدة، فأرسل إلى زعيمِه الفاطميِّ عُبَيدِ الله بن محمَّد. وقال لهم إنَّ عُبَيد الله شريف علوي فاطميٌّ. ولَمَّا عَلِمَ الخليفة العباسي بالأمرِ أمر بمطاردةِ عُبيد الله، والقبضِ عليه، فاضطُرَّ حين وصل مصرَ إلى أن يتنكَّرَ في زيِّ التجَّار، ثم حاول أن يُفلِتَ مِن دويلات شمال إفريقيا، ولكنَّه سقط أخيرًا في يد أميرِ سجلماسة. فاعتَقَله، وكان معه ابنُه محمد وسجَنَهما.
لَمَّا توقَّفَ الحجُّ مِن العِراقِ عِدَّةَ سَنَواتٍ مُتَتالياتٍ خَوفًا مِن الأعرابِ قُطَّاعِ الطُّرُقِ، قَصَد النَّاسُ يَمينَ الدَّولةِ محمودَ بنَ سبكتكين وقالوا له: أنت سُلطانُ الإسلامِ وأعظَمُ مُلوكِ الأرض، وفي كلِّ سَنةٍ تَفتَحُ مِن بلادِ الكُفرِ ما تُحِبُّه، والثَّوابُ في فَتحِ طَريقِ الحَجِّ أعظَمُ، وقد كان الأميرُ بَدرُ بنُ حسنويه، وما في أمرائِك إلَّا مَن هو أكبَرُ منه شأنًا، يُسَيِّرُ الحاجَّ بمالِه وتدبيرِه عشرينَ سَنةً، فتقَدَّمَ ابنُ سبكتكين إلى قاضيه أبي مُحمَّدٍ الناصحي بالتأهُّبِ للحَجِّ، ونادى في أعمالِ خُراسان بالحَجِّ، وأطلق للعَرَبِ ثلاثينَ ألفَ دينارٍ سَلَّمَها إلى النَّاصحيِّ المذكورِ غيرَ ما للصَّدَقاتِ، فحَجَّ بالنَّاسِ أبو الحَسَن ِالأقساسي، فلمَّا بلغوا فيدَ حاصَرَتْهم العرَبُ، فبذل لهم القاضي النَّاصحي خمسةَ آلافِ دينارٍ، فلم يَقنَعوا وصَمَّموا على أخذِ الحافي، فرَكِبَ رأسَهم جَمَّازُ بنُ عديٍّ، وقد انضم عليه ألفا رجُلٍ مِن بني نبهان، وأخذ بِيَدِه رمحًا وجال حولَ الحاجِّ، وكان في السَّمَرْقنديِّينَ غُلامٌ يُعرَفُ بابنِ عَفَّان، فرماه بسَهمٍ فسَقَط منه مَيِّتًا وهَرَب جَمعُه، وعاد الحاجُّ في سلامةٍ.
سار السُّلطانُ ملكشاه إلى الرَّيِّ، وعَرضَ العَسكرَ، فأَسقطَ منهم سبعةَ آلافِ رجُلٍ لم يَرضَ حالَهم، فمَضوا إلى تكش -قِيلَ: إنه مملوك لملكشاه. وقِيلَ: إنه لَصيق له وإن أبوه النُّعمان-، وهو ببوشنج، فقَوِيَ بهم، وأَظهرَ العِصيانَ على أَخيهِ ملكشاه، واستَولَى على مرو الروذ، ومرو الشاهجان، وترمذ، وغيرَها، وسار إلى نيسابور طامِعًا في مُلْكِ خُراسان، وقِيلَ: إن نِظامَ المُلْكِ قال للسُّلطانِ لمَّا أَمرَ بإسقاطِهِم من العَطاءِ: إنَّ هؤلاء ليس فيهم كاتبٌ، ولا تاجرٌ، ولا خَيَّاطٌ، ولا مَن له صَنعَةٌ غير الجُندِيَّة، فإذا أُسقِطوا لا نأَمَن أن يُقيموا منهم رجُلًا ويقولوا: هذا السُّلطانُ، فيكون لنا منهم شُغلٌ، ويَخرُج عن أَيدِينا أَضعافُ ما لهم من الجاري إلى أن نَظفرَ بهم. فلم يَقبَل السلطانُ قَولَه، فلمَّا مَضوا إلى تكش وأَظهرَ العِصيانَ نَدِمَ على مُخالفةِ وَزيرِه حيث لم يَنفَع الندمُ, فسارَ ملكشاه مُجِدًّا إلى خُراسان، فوَصلَ إلى نيسابور قبلَ أن يَستَولِي تكش عليها، فلمَّا سَمِعَ تكش بقُربِه منها سار عنها، وتَحصَّن بتِرمِذ، وقَصدَه السلطانُ، فحَصرَه بها، وكان تكش قد أَسَرَ جَماعةً من أَصحابِ السلطانِ، فأَطلَقَهم، واستَقرَّ الصُّلحُ بينهما، ونَزلَ تكش إلى السلطانِ ملكشاه، ونَزلَ له عن تِرمِذ.
ثار أهلُ عكَّا بتجَّار المسلمين وقتلوهم، فغَضِبَ السلطان قلاوون وكتب إلى البلاد الشاميَّة بعَمَلِ مجانيق وتجهيزِ زردخاناة- خزنة الأسلحة- لحصارِ عكا، وذلك أنَّ الظاهِرَ بيبرس كان قد هادَنَهم، فصاروا يحمِلونَ إليه هديَّتَهم في كلِّ سَنةٍ واستمَرُّوا في حَملِها إلى الملك المنصور قلاوون، إلَّا أنهم كثُرَ طَمَعُهم وفسادُهم وقَطعُهم الطريقَ على التجار، فأخرج لهم السلطانُ قلاوون الأميرَ شمس الدين سنقر المساح على عسكر، ونزلوا اللجونَ على العادة في كلِّ سنة، فإذا بفرسانٍ مِن الفرنج بعكا قد خرَجَت فحاربوهم، واستمَرَّت الحربُ بينهم وبين أهل عكا مُدَّة أيام، وكُتِبَ إلى السلطان بذلك، فأخذ في الاستعدادِ لحَربِهم، فشرع الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر في عمل ذلك، وقرَّرَ على ضياع المرج وغوطة دمشق مالًا على كلِّ رجلٍ ما بين ألفي درهمٍ إلى خمسمائة درهم، وجبى أيضًا من ضِياعِ بعلبك والبقاع، وسار إلى وادٍ بين جبال عكا وبعلبك لقطع أخشابِ المجانيق، فسقط عليه ثلجٌ عظيمٌ كاد أن يُهلِكَه، فركب وساق وتَرَك أثقالَه وخيامه لينجوَ بنفسه، فطَمَّها الثلجُ تحته إلى زَمَنِ الصيف، فتَلِفَ أكثَرُها.
أرسل الإمامُ سعود بن عبد العزيز إلى عمان عبدَ الله بن مزروع صاحِبَ
منفوحة وعِدَّةَ رجال من أهل نجد، وأمرهم بنزولِ قصر البريمي المعروف في عمان وإحصانه، ثمَّ إن سعودًا بعث بعده إلى عُمان مطلق المطيري بجيش من أهل نجد، وأمرَ أهل عمان بالاجتماع عليه والقتال معه، فاجتمع عليه مقاتِلةُ أهل عمان مع ما معه من أهل نجد، فقاتل أهل الباطنة سحار ونواحيها ومن تبعهم، ورئيسُهم يومئذ عزان بن قيس، وقاتلوا سعيدَ بن سلطان صاحِبَ مسقط، ودام القتالُ بينهم، وقُتِل من عسكر عزان مقتلة عظيمة، قيل بلغ عدد القتلى خمسمائة رجل، ثم اجتمع مع مطلق المطيري جميعُ من هو في رعية الإمام سعود من أهل عُمان، فنازل أهل سحار بألوف من المقاتِلة، ودخلت سنة 1225 هـ وهم على ذلك يقاتلون ويغنمون، وأخذ مطلق ومن معه قرًى كثيرة من نواحي سحار من أهل الباطنة، وبايع غالبُهم على دين الله ورسوله والسمع والطاعة، ولم يبقَ محارب إلا مسقط ونواحيها، مملكة سعيد بن سلطان وما تحت ولاية عزان من سحار، وغنموا منها غنائم كثيرة وبعثوا بالأخماس إلى سعود في الدرعية.
أمر حمد بن يحيى أمير شقراء وناحية الوشم على أهل بلد شقرا أن يحفِروا خندقَ بلَدِهم، وكانوا قد بدؤوا في حَفرِه وقتَ حملة طوسون، فلمَّا صارت المصالحةُ تركوه فقاموا في حَفرِه أشَدَّ القيام واستعانوا فيه بالنِّساءِ والولدان لحَملِ الماء والطعامِ، حتى جعلوه خندقًا عميقًا واسعًا وبَنَوا على شفيرِه جدارًا من جهة السورِ، ثم ألزمَهم كل رجل غني يشتري من الحنطةِ بعَدَدٍ معلومٍ من الريالات خوفًا أن يطول عليهم الحصارُ، فاشتروا من الطعام شيئًا كثيرًا، ثم أمر على النخيلِ التي تلي الخندقَ والقلعة أن تُشذبَ عسبانها ولا يبقى إلا خوافيها، ففعلوا ذلك وهم كارهون، وذلك لأنَّ أهل هذه البلد هم المشارُ إليهم في نجد، والمشهورون بالمساعدة للشيخ والإمامِ عبد العزيز ومَن بَعدَهم، وكثيرًا ما يلهجُ بهم الباشا إبراهيم في مجالِسِه بذكرِهم، فخاف الأمير حمد على بلدِهم من الروم، فألزمهم ذلك فكانت العاقبةُ أنَّ اللهَ سَلَّم بلادهم من الروم بسَبَبِ الخندق، وحَمِدوا الله على ذلك، وصالحهم الباشا على ما يريدون، وصاحِبُ الطعام الذي اشتراه على عشرةِ آصُع باع خمسة، وسَلِمت النخيل المشذوبة من القَطعِ في الحربِ دون غيرها؛ لأنها ما تستُرُ عن الرصاص.
كانت أسرة سولونغ تحكم منطقة دارفور غرب السودان حتى عام 1293هـ، ثمَّ بعد أن أعيد الحُكمُ الإنجليزي على السودان وبعد معركةِ كرري 1316هـ غادر أم درمان علي دينار بن زكريا السولونغي ومعه عشرة أفراد، وانضم لهم في طريقِهم قرابةُ الألفي رجلٍ، واتجه نحو دارفور، ولما وصل الفاشر سلمت له وبدأت المنافسة بينه وبين إبراهيم علي الذي وضعته القواتُ الإنجليزية في دارفور، فتنازل إبراهيم لعلي دينار الذي استطاع أن يضبِطَ أمور دارفور وينشر الأمنَ، ثم بدأت شهرتُه تزداد حتى أصبحت الحكومةُ السودانيةُ الخاضعةُ للإنجليز تخافه؛ فقد وصل أمرُه إلى أن أصبح يرسِلُ محملًا للحجاز كأيِّ حاكمٍ مُسلمٍ، وبالمقابل رأى هو أنه لا يحصُلُ على حقِّه من الحكومة، بل إن كلَّ تعدٍّ عليه تسكت عنه الحكومة، وكلَّ متمرد عليه تؤويه الحكومة، وكان علي دينار قد أيَّد العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، فسيَّرت الحكومة جيشًا من ثلاثة آلاف مقاتل أغلبُهم مصريون إلى دارفور، وجرت موقعةُ برنجية بين الطرفين، فهُزم علي دينار أمام هذا الجيش المجهَّز، وهرب إلى جبل مرة، ثم تبعوه وقُتِلَ في محرم 1335هـ / 6 تشرين الثاني 1916م وضُمَّت دارفور إلى السودان.
وُلد سليم خان ياندرباييف في كازخستانَ عام 1952م، ثم عاد إلى الشيشانِ معَ عائلتِه عام 1958م، ويُعَدُّ سليم خان ياندرباييف الرجلَ الثانيَ في القيادة الشيشانية، ووصديقَ الرئيس جوهو دوداييف، شغلَ سليم خان ياندرباييف منصبَ رئيس الجمهورية المستقِلَّة لفترة قصيرةٍ عامَ 1996م، عندما بدأت الحرب الأولى التي شنَّتْها روسيا في الشيشان تُشارفُ على نهايتها.
تعلَّم اللغةَ العربيةَ على يد أحدِ الطلابِ العربِ، كما طالَبَ الدولَ العربيةَ والإسلاميةَ بإرسال أساتذةٍ لتعليمِ شعبِ الشيشانِ، وشعوبِ القوقازِ العلومَ الإسلاميةَ واللغةَ العربيةَ، وأن يؤسِّسوا المدارسَ والجامعاتِ الخاصةَ بذلك.
تولَّى مسؤولية قيادة الجهادِ الشيشاني بعد مَقتَلِ الرئيس (جوهر دوداييف) في 21/4/1996، وبايَعَه مجلس القيادة الشيشانية في 24/4/1996م، وفي نهاية 1996م أصدر الرئيس سليم خان ياندرباييف مرسومًا بتحويل المحاكم إلى محاكمَ شرعيةٍ، تُطبِّق نصوصَ الشريعة الإسلامية وأحكامها، كما أصدر ياندرباييف مرسومًا آخَرَ يَقْضي بأنْ تُصبحَ اللغة العربية مادةً إجباريةً في المدراس الشيشانية بجميع مراحلها، وقد قُتل في عملية تفجير استهدفت سيارتَه يومَ جُمعة في مدينة الدوحة بقَطَر.