سيَّرَ المعِزُّ الفاطميُّ القائِدَ أبا الحسَنِ جوهَرَ الصقليَّ، غلامَ والِدِه المنصور، وهو روميٌّ، في جيشٍ كثيفٍ إلى الديار المصرية، فاستولى عليها، وكان سببُ ذلك أنَّه لَمَّا مات كافور الإخشيدي، صاحِبُ مصر، اختلفت القلوبُ فيها، ووقع بها غلاءٌ شديد، فلما بلغ الخبَرُ بهذه الأحوال إلى المُعِزِّ، وهو بإفريقية، سيَّرَ جوهرًا إليها بجيشٍ عظيمٍ أنفق عليه ما جناه من البربَرِ مِن الضرائبِ، فكانت خمسمائة ألف دينار، ثم عمَدَ المعِزُّ إلى خزائنِ آبائِه فبذل منها خمسمائة حمل من المال، وساروا في أول سنة 358 في أُهبةٍ عظيمة، فلمَّا اتَّصَل خبَرُ مسيره إلى العساكِرِ الإخشيدية بمصرَ، هربوا عنها جميعُهم قبل وصوله، ثمَّ إنَّه قَدِمَها سابِعَ عشر شعبان، وأقيمت الدعوة للمعزِّ بمصرَ في الجامع العتيق في شوال، وفي جُمادى الأولى من سنة تسعٍ وخمسين سار جوهَرُ إلى جامعِ ابن طولون، وأمر المؤذِّنَ فأذَّنَ بحَيَّ على خيرِ العمَلِ، وهو أوَّل ما أُذِّنَ بمِصرَ، ثم أذَّنَ بعده في الجامعِ العتيق، وجهَرَ في الصلاةِ ببِسمِ الله الرحمن الرحيم، ولَمَّا استقَرَّ جوهر بمصرَ، شرع في بناءِ القاهرةِ, وضُرِبَت السِّكَّةُ على الدينار بمصرَ، وهي لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله، عليٌّ خيرُ الوصِيَّينِ، والوجه الآخرُ اسمُ المعِزِّ والتاريخ.
تحرَّكَ الفرنج لغزو ديار مصرَ؛ خوفًا من صلاح الدين ونور الدين محمود زنكي عندما بلغهم تمكُّنُه من ديار مصر وقطعُ آثار جند المصريين. فكاتبوا فرنجَ صقلية وغيرهم واستنجدوا بهم، فأمدوهم بالمالِ والسلاح والرجال، وساروا بالدبابات والمنجنيقات إلى دمياط، فنزلوا عليها في مستهَلِّ صفر بألف ومائة مركب، ما بين شين ومسطح وشلندي وطريدة، وأحاطوا بها برًّا وبحرًا، فأسرع صلاح الدين إلى دمياط وتحصَّنَ فيها، كما قام نور الدين محمود بالإسراع بغزو البلدانِ التي يسيطرون عليها، فحاصر الكرك، وأرسل كذلك نجدةً إلى صلاح الدين وكانت القوةُ تتحرك إثر القوة، وكان على رأسِ أحدِها والد صلاح الدين نجمُ الدين أيوب، واستمرَّ حصار الصليبيين لمدينة دمياط خمسين يومًا اضطروا بعدها لرفع الحصارِ عنها نتيجةَ الإمدادات التي كانت تصِلُ إلى دمياط من نور الدين محمود وشِدَّة مقاومة صلاح الدين، بالإضافة إلى دعم العاضد حاكم مصر الفاطمي، واستيلاء نور الدين على أجزاء من مملكة الصليبيين في بيت المقدس، ولِفَناءٍ وقع فيهم؛ وغرق من مراكبهم نحو الثلاثمائة مركب، فأحرَقوا ما ثَقُل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، فغادروا دمياط, وتفرَّغَ صلاح الدين لتوطيد أقدامِه بمصر.
رسم السلطانُ المَلِكُ الأشرف شعبان صاحِبُ مصر بإسقاط ما على الحَجِّ مِن المكوسِ بمكَّةَ في سائِرِ ما يُحمَلُ إليها من المتاجر، سوى الكارم- الأحجار الكريمة- وتجَّار الهند وتجار العراق، وأسقط المكسَ المتعَلِّق بالمأكولات، وكان المَكسُ يؤخذ من المأكولات بمكَّةَ مد حب جدي، على كل حمل من التمر اللبان الذي يصل إلى مكة، وثلاثة دنانير مسعوديَّة على كلِّ حِملِ تمر محشي يصِلُ إلى مكة، وستة مسعودية على كلِّ شاة يصل إليها، وسُدس وثمن ما يباعُ بمكَّةَ مِن السَّمن والعسل والخُضَر؛ وذلك أنه يحصى ثمنها مسعودية، فإذا عُرِفَ أخذ على كل خمسة دنانير دينار مسعودية، ويؤخذ -أيضًا- دينار مسعودية من ثمن سلة التمر إذا بيعت بالسوق من الثمار الذي باعها ليعيش منها، والمأخوذُ على التمر أولًا مِن جالبه إلى مكة، ويؤخَذُ شَيءٌ مما يباع في السوق من غيرِ ما ذكرناه، وكان الناس يقاسونَ شِدَّةً، فأزال الله تعالى جميعَ هذا بأمرِ السُّلطانِ الأشرف شعبان صاحِبِ مِصرَ، بتنبيه بعضِ أهل الخير له على ذلك، وعَوَّضَ صاحب مكَّةَ عن ذلك ثمانية وستين ألف درهم من بيت المال المعمور بالقاهرة، وألفَ أردب قمح، وقُدِّرَ ذلك في ديوان السلطان الأشرف، وأمضى ذلك الولاةُ بالديار المصرية فيما بعد.
أرسل السلطانُ الظاهر برقوق من يستجلي أخبارَ تيمورلنك، فجاءت الأخبار وورد البريد بأنَّ تيمورلنك كبس قرا محمد وكَسَره، ففَرَّ منه في نحو مائتي فارس، ونزل قريب ملطية، ونزل تيمورلنك على آمد، فاستدعى السلطانُ القضاة والفقهاء والأمراء وتحدث في أخذ الأوقافِ من الأراضي الخراجيَّة، فكَثُر النِّزاعُ، وآل الأمر إلى أنه يأخُذُ مُتحَصَّل الأوقاف لسنةٍ، ورسم السلطانُ بتجهيز أربعة من الأمراء الألوف، وهم الأميرُ ألطنبغا المعلم أمير سلاح، والأمير قردم الحسني، والأمير يونس الدوادار، والأمير سودن باق، وسبعة من أمراء الطبلخاناه، وخمسة من أمراء العشرات، فتجهزوا وعُيِّنَ معهم من أجناد الحلقة ثلاثمائة فارس، وخرجوا من القاهرة في أول رجب، فساروا إلى حلب، وبها يومئذٍ في نيابة السلطنة سودن المظفري، وقَدِمَ الخبَرُ بوقعة بين قرا محمد وولد تيمورلنك انكسَرَ فيها ابن تيمورلنك، وفي تاسع عشر رجب رُسِمَ للقاضي جمال الدين محمود محتَسِبِ القاهرة بطلبِ التجَّار وأرباب الأموال، وأخْذِ زكَوات أموالهم، وأن يتولى قاضي القضاة الحنفية شمس الدين محمد الطرابلسي تحليفَهم على ما يدَّعونَ أنَّه مِلكُهم، فعُمِلَ ذلك يومًا واحدًا، ثم رد عليهم ما أُخِذَ منهم وبَطَل، فإنَّ الخبَرَ ورد برجوع تيمورلنك إلى بلادِه.
على الرغم من فشل محاولات البرتغال من بناء مدينة لهم في ثغور المغرب على ساحل البريجة سنة 907 بسبب مقاومة المسلمين لهم, إلا أنهم خططوا للعودة إلى هذا الموضع فانتهوا إليه هذا العام وتحيَّنوا غفلة أهل البلاد وشرعوا في بناء حصن مربع على كل ربعٍ منه برج وثيق، ودأبوا في العمل ليلًا ونهارًا، فلم تمض مدة يسيرة حتى فرغوا منه وامتنعوا على المسلمين به، ثم شرع البرتغال بعد الفراغ من هذا الحصن في إدارة سور المدينة على أوثق وجه وأحكمِه, ثم أداروا خارج السور خندقًا فسيحًا وجعلوا عمقَه أربعة عشر شبرًا بحيث بلغوا به الماء، وإذا فاض البحر ملأ ما بين جوانبه واتخذوا للمدينة ثلاثة أبواب أحدها للبحر، واثنان للبر، وجعلوا أمامهما قنطرتين بالعمل الهندسي بحيث تُرفعان وتُوضعان وقت الحاجة إلى ذلك, فصارت المدينة بهذا كلِّه في غاية المناعة، وجعلوا داخل المدينة خمس حارات وسمَّوا كل حارة باسم كبير من قدمائهم على عادتهم في ذلك. واتخذوا بها أربع كنائس واتخذوا المخازن والأهراء للاختزان وسائر المرافق, وأوطنوها بأهلِهم وعيالهم، وكان فيها جماعة من أشرافهم وذوي بيوتاتهم من أهل أشبونه وغيرها، وكانوا يعدون فيها أربعة آلاف نفس ما بين المقاتِلة والعيال والذرية، وكانوا يأملون الاستيلاءَ منها على مراكش.
بدأ الأميرُ عبد القادر الجزائري سياسةً جديدةً في حركته، واستطاع أن يحقِّقَ بعض الانتصارات، وبعد أن كبَّد عبد القادر الجزائري الآلياتِ الفرنسيةَ هزائِمَ متلاحِقةً، دعمت فرنسا قواتِها بسرعة، فلجأ الجزائريُّ مرة ثانية إلى بلاد المغرب، وعلى الرغمِ من انتصار الأمير عبد القادر على جيش الاستطلاع الفرنسي فإن المشكلة الرئيسية أمامَ الأمير كانت هي الحصول على سلاح لجيشِه، ومن ثمَّ أرسل لكُلٍّ من بريطانيا وأمريكا يطلب المساندةَ والمَدَد بالسلاحِ في مقابل إعطائِهم مِساحةً مِن سواحل الجزائر كقواعِدَ عسكرية أو لاستثمارها، وبمثل ذلك تقَدَّم للعرشِ الأسباني ولكِنَّه لم يتلقَّ أي إجابة، وأمام هذا الوضعِ اضطرَّ في النهاية إلى التفاوض مع القائد الفرنسي الجنرال لامور يسيار على الاستسلامِ على أن يسمَحَ له بالهجرة إلى الإسكندرية أو عكَّا ومن أراد من أتباعِه، وتلقى وعدًا زائفًا بذلك فاستسلم في 23 ديسمبر 1847م، أوَّلَ محرم 1264هـ، ورحل على ظهر إحدى البوارج الفرنسية، وإذا بالأمير يجِدُ نفسِه بعد ثلاثة أيام في ميناء طولون، ثم سيق إلى قلعة (أمبوزا) بمدينة طولون الفرنسية، وظل حبيسًا مدة خمس سنوات، وهكذا انتهت دولةُ الأمير عبد القادر، وقد خاض الأميرُ خلال هذه الفترة من حياته حوالي 40 معركةً مع الفرنسيين والقبائل المتمَرِّدة.
هو محمد أمين عالي باشا، سياسي عثماني، وأحدُ السياسيين البارزين في الإصلاحات السياسية المعروفة باسم التنظيمات التي شهدتها الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، ولِدَ عالي باشا باسطنبول سنة 1815م، وتمكَّن بفضل إجادته للغة الفرنسية من الالتحاق بالسلك الدبلوماسي العثماني في صَدرِ شبابِه، فعُيِّنَ بدائرة الترجمة، ثم سكرتير السفارة العثمانية في فيينا، ثم منصب وزير الخارجية، ثمَّ عيِّنَ سفيرًا للدولة في لندن، ثم عاد إلى اسطنبول ليصبِحَ وزيرًا للخارجية، ثمَّ شغل منصب الصدر الأعظم خمسَ مرات، وكان عالِمًا ولغويًّا وندًّا قويًّا لمعاصريه من سفراء الدول الأوروبية العظمى آنذاك في الدفاع عن مصالح بلاده. وهو من دهاة الدبلوماسية التركية، وقد وصفته الصحافةُ الأوربية بأنَّه أعظم سياسي في أوروبا. كان عالي باشا سياسيًّا إصلاحيًّا رغم ما كان يتَّسِم به من استبداد بالسلطة، طمح إلى تحويل الدولة العثمانية إلى دولة عصرية، وسعى لذلك طولَ فترة صدارته لجلب التنظيمات الغربية، فقد كان المحرِّكَ الأساسي لفرمان الإصلاحات الذي صدر سنة 1856م، وفي عهده وقَّعَ معاهدةَ باريس -بصفته الصدر الأعظم- التي أنهت حرب القرم. توفِّي عالي باشا رئيس الوزراء في الدولة العثمانية عن عمر يناهز 56 عامًا.
كان من محاولات فرنسا للتدخُّلِ في المغرب دون أن تواجِهَ الخصومَ الأوربيين أنْ عَقَدت الاتفاقياتِ معهم، فعقدت مع إيطاليا اتفاقًا بأن تترك لها طرابلس، ثم عقدت مع بريطانيا اتفاقًا على أن تتركَ لها حرية التصرُّفِ في مصر مع بقاء معاهدة إنجلترا القديمة مع مراكش ساريةَ المفعول، ولاقت هذه الاتفاقيةُ قَبولًا أسبانيًّا لكنَّها لاقت رفضًا ألمانيًّا؛ حيث جاء الإمبراطور غليوم إلى طنجة في هذا العام وألقى خطابًا أعلن فيه صداقة ألمانيا لسلطان مراكش، ولوَّح بالتهديد لمن يعتدي على السلطان وبلادِه، وحاول إحباطَ المؤامرة الفرنسية الإنجليزية الأسبانية، ثم حاول السلطانُ عبد العزيز ومجلِسُ أعيانه أن يعرِضوا أمرَ مراكش على مؤتمرٍ دولي إضعافًا للنفوذ الفرنسي، وانعقد مؤتمرُ الجزيرة في ذي القعدة 1323ه إلى ربيع الثاني 1324هـ، وحضره ممثِّلو خمس عشرة دولة، ومِن أهمِّ ما جاء فيه أنَّه تمَّ الاعتراف بسيادة السلطان واستقلالِه ووَحدةِ أراضيه، ومساواة الدُّوَل جميعًا في تجارتها مع مراكش، وتشكيل قوةٍ من الشُّرطة لحفظ الأمن الداخلي تكونُ فرنسية أسبانية بإمرة سويسريةٍ، وتوضَعُ الجمارك تحت رقابةٍ دولية، وتوزَّعُ امتيازاتُ المشروعات الاقتصادية بين شركاتِ مختَلفِ الدول، ولم يقنَعِ المغاربة بقراراتِ هذا المؤتمر؛ لذلك ثاروا على سلطانهم وخَلَعوه.
وُلد جون جارانج في عام 1945م في قبائل دينكا جنوبَ السودان، لعائله نصرانية من قبائل الدينكا الجنوبية المعروفة بعبادة السماء، وقد أرسلته عائلتُه إلى الولاياتِ المتحدة لتلقِّي تعليمِه، فدرسَ في كلية جرنيل، بولاية أيووا، ثم عاد إلى السودان عام 1982م، معَ بداية الحرب الأهلية معَ حركة أنانيا الجنوبية، ثم عاد إلى الولايات المتحدة مرةً ثانيةً لتلقِّي تدريب عسكري في فورت بينينج، جورجيا، وكان أولَ اختبار لجارانج في حرب العصابات عامَ 1962م، في بداية الحرب الأهلية مع حركة أنانيا الجنوبية، وبعد ذلك بعَشْر سنواتٍ، وقَّعَت الحكومة المركزية اتفاقًا مع أنانيا، وصار الجنوب منطقةَ حُكم ذاتي. استوعب الجيشُ السودانيُّ جارانج وآخرين، حيث انتقلوا للعيش في الخرطوم، لكنْ بعد خمس سنواتٍ من اكتشاف البترول في الجنوب السوداني عام 1978م، اندلعت الحرب الأهلية مرةً ثانيةً، وكان طرفاها القواتِ الحكوميةَ والحركةَ الشعبيةَ لتحرير السودان، وجناحُها العسكريُّ الجيشَ الشعبيَّ لتحرير السودان، وقد ترأَّسَ الحركةَ الشعبيةَ إثْرَ تخلُّصه من زعيمها ويليام نون، تمَّ تَعيينُه النائبَ الأولَ لرئيس السودان، ورئيس حكومة جنوب السودان، وقائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، تُوفي عندما تحطَّمت مِروحيَّتُه وهو عائدٌ من أوغندا.
هو الشيخُ الإمام العلامة الحافظُ الحجَّة الرُّحَلة الفقيه المقرئ المسنِد المؤرخ الخطيبُ: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن الزين أحمد بن الجمال محمد بن الصفي محمد بن المجد حسين بن التاج علي القسطلاني الأصل، القتيبي المصري الشافعي، ويعرف بالقسطلاني علَّامة الحديث, وأمُّه حليمة ابنة الشيخ أبي بكر بن أحمد بن حميدة النحاس. ولِدَ في الثاني والعشري ذي القعدة سنة 851 بمصر ونشأ بها فحفظ القرآن والشاطبيتين, والقراءات السبع ثم العشر، وكذا أخذ القراءات عن الشمس بن الحمصاني إمام جامع ابن طولون, وقرأ صحيحَ البخاري بتمامه في خمسة مجالسَ على الشاوي، وكذا قرأ عليه ثُلاثيات مسند أحمد، وحجَّ غير مرة وجاور سنة أربع وثمانين ثم سنة أربع وتسعين وسنتين قبلها على التوالي. وجلس للوعظ بالجامع العمري سنة ثلاث وسبعين وكذا بالشريفية بالصبانيين، بل وبمكة, ولم يكن له نظيرٌ في الوعظ، وكان يجتمع عنده الجمُّ الغفير مع عدم ميلِه في ذلك، وولي مشيخة مقام أحمد بن أبي العباس الحرَّاز بالقرافة الصغرى، وأقرأ الطلبة وجلس بمصر شاهدًا رفيقًا لبعض الفضلاء, وبعده اعتزل وتفرَّغ للكتابة, فكتب بخطِّه لنفسه ولغيره أشياء، بل جمع في القراءات العقود السنية في شرح المقدمة الجزرية في التجويد، ومن مؤلفاته: إرشاد الساري على صحيح البخاري، انتهى منه سنة 916, وتحفة السامع والقاري بختم صحيح البخاري, ونفائس الأنفاس في الصحبة واللباس, والروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر, وعمل تأليفًا في مناقبه سماه: نزهة الأبرار في مناقب الشيخ أبي العباس الحرَّار, وتحفة السامع والقارئ بختم صحيح البخاري. وهو كثير الأسقام قانعٌ متعفِّف جيد القراءة للقرآن والحديث والخطابة، شجيُّ الصوت بها، مشارك في الفضائل، متواضع متودِّد لطيف العشرة سريعُ الحركة. قال محي الدين عبد القادر العَيدَروس: "وارتفع شأنُه بعد ذلك فأُعطيَ السعدَ في قَلَمِه وكَلِمِه، وصنَّف التصانيف المقبولة التي سارت بها الركبانُ في حياته، ومن أجَلِّها شرحُه على صحيح البخاري مزجًا في عشرة أسفار كبار، لعله أحسَنُ شروحِه وأجمعُها وألخصُها، ومنها المواهب اللدُنِّية بالمنح المحمدية، وهو كتاب جليل المقدار عظيم الوقع كثير النفع، ليس له نظير في بابه، ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغُضُّ منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمدُّ منها ولا ينسبُ النقل إليها، وأنَّه ادَّعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا فألزمه ببيان مدَّعاه، فعدد عليه مواضِعَ قال إنه نقَلَ فيها عن البيهقي، وقال إن للبيهقي عدةَ مؤلفات فليذكرْ لنا ما ذكر في أي مؤلفَّاته ليُعلَمَ أنَه نقل عن البيهقي، ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك النقلَ عن البيهقي فنقله برُمَّته، وكان الواجب عليه أن يقول نقل السيوطي عن البيهقي، وحكى الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله: أنَّ الشيخ رحمه الله تعالى قصد إزالةَ ما في خاطر الجلال السيوطي فمشى من القاهرة إلى الروضة، وكان السيوطي معتزلًا عن الناس بالروضة فوصل القسطلاني إلى باب السيوطي ودق الباب فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلاني جئتُ إليك حافيًا مكشوف الرأس ليطيبَ خاطرُك عليَّ، فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب ولم يقابله! وبالجملة فإنه كان إمامًا حافظًا متقنًا جليل القدر حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة بليغ العبارة، حسن الجمع والتأليف، لطيف الترتيب والتصنيف، كان زينة أهل عصره، ونقاوة ذوي دهره، ولا يقدح فيه تحامُلُ معاصريه عليه، فلا زالت الأكابر على هذا في كل عصرٍ- رحمهم الله" أصيب القسطلاني بالفالج، ثم توفي ليلة الجمعة السابع محرم بالقاهرة ودفن بالمدرسة العينية جوار منزله، ووافق يومُ دفنه الثامن محرم دخولَ السلطان سليم الأول العثماني عَنْوةً إلى مصر وتملُّكه بها.
كان المستنصِرُ بالله أبو القاسِمِ أحمَدُ بن أمير المؤمنين الظاهِر مُعتقَلًا ببغداد فأُطلِقَ، وكان مع جماعةِ الأعراب بأرض العراق، ثم قصَدَ الظاهر بيبرس حين بلغه تسلطُنَه بمصر، فقدم إليه بصحبته جماعةٌ مِن أمراء الأعراب عشرةٌ منهم الأمير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب من هذه السنة، فخرج السلطانُ الظاهر ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتلَقَّوه وكان يومًا مشهودًا، وخرج أهلُ التوراة بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ودخل مِن باب النصر في أبهةٍ عظيمة، فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالإيوان بقلعةِ الجبل، والوزيرُ والقاضي والأمراء على طبقاتهم، وأثبت نَسَب الخليفة المستنصر بالله على الحاكِم تاج الدين بن الأعز، وهذا الخليفةُ هو أخو المستنصر باني المستنصريَّة، وعم المستعصِم بالله، فبويع بالخلافةِ بمصرَ، بايعه المَلِك الظاهر والقاضي والوزير والأمراء، وركب في دست الخلافةِ بديار مصر والأمراء بين يديه والناسُ حَولَه، وشَقَّ القاهرة في ذلك اليوم، وهو الخليفة الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبًا، قال عز الدين بن عبد السلام: لما أخَذْنا في بيعة المستنصر باللهِ، قلت للملك الظاهر: بايِعْه، فقال: ما أُحسِنُ، لكن بايِعْه أنت أوَّلًا وأنا بعدك، فكان أوَّلَ من بايعه القاضي تاج الدين لما ثَبت نَسَبه، ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والدولة، وخطب له على المنابر، وضُرِبَ اسمُه على السكة وكان مَنصِبُ الخلافة قد شغر منذ ثلاثِ سنين ونصف؛ لأنَّ المستعصم بالله قُتِلَ في أول سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة، وقد أُنزل الخليفةُ المستنصر بالله وحَشَمُه في البرج الكبير بقلعة الجبل، فلما كان يوم سابع رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامِعِ بالقلعة فصَعِدَ المنبر وخطب خطبةً ذكر فيها شَرَفَ بني العباس، ثم استفتح فقرأ صدرًا من سورة الأنعام، ثم صلى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم ترضى عن الصحابةِ ودعا للسلطان الظاهر، ثم نزل فصلى بالنَّاسِ فاستحسنوا ذلك منه، وكان وقتًا حسنًا ويومًا مشهودًا، ثم لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفةُ والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحَل والعَقدِ إلى خيمة عظيمةٍ قد ضُرِبَت ظاهِرَ القاهرةِ فجلسوا فيها، فأُلبِسَ الخليفةُ السلطان بيده خلعةً سوداء، وطوقًا في عنقه، وقيدًا في رجليه وهما من ذهب، ثمَّ إن الخليفة طلب من السلطان أن يجَهِّزَه إلى بغداد، فرتَّبَ السلطان له جندًا هائلة وأقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك، ثم سار السلطانُ بصحبته قاصدين دمشق فدخلوا دمشقَ يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وكان يومًا مشهودًا، وصلَّيَا الجمعة بجامع دمشق، وكان دخولُ الخليفة من باب البريد، ودخل السلطانُ من باب الزيارة، وكان يومًا مشهودًا أيضًا، ثم جهَّزَ السلطان بيبرس الخليفةَ المستنصر بالله إلى بغداد ومعه أولاد صاحِبِ الموصل, وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقَلَّ معه من الجيش الذين يَرِدونَ عنه من الذَّهَب العين ألف ألف دينار، وأطلق له وزاده، فجزاه الله خيرًا.
هو الإمام أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة النووي، الشافعي نسبة إلى نوى قرية من قرى حوران بسوريا، وُلِدَ بنوى في العشر الأوسط من المحرم سنة 631. رحل أبو زكريا إلى دمشق ودرس فيها وسَمِعَ الحديث مع زهد وورع وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، قال الشيخ محيي الدين: "لما كان لي تسع عشرة سنة قدم بي والدي إلى دمشق في سنة تسع وأربعين، فسكنت المدرسة الرواحية، وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض. وكان قوتي فيها جرايةَ المدرسة لا غير، وحفظت التنبيهَ في نحو أربعة أشهر ونصف, وبقيت أكثَرَ من شهرين أو أقل لما قرأت: يجب الغُسلُ من إيلاج الحشفة في الفرج، أعتقد أن ذلك قرقرة البطنِ، وكنت أستحمَّ بالماء البارد كلما قرقَرَ بطني. وقرأت حفظًا ربع المهذب في باقي السنة، وجعلت أشرحُ وأصحِّحُ على شيخنا كمال الدين إسحاق بن أحمد المغربي، ولازمته فأُعجِبَ بي وأحبني، وجعلني أعيد لأكثر جماعته, وكنت أقرأُ كل يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا وكنت أعلِّقُ جميع ما يتعلق بها من شرح مُشكِل، ووضوحِ عبارة، وضَبطِ لغة، وبارك الله لي في وقتي, وخطَرَ لي الاشتغالُ بعلم الطب، فاشتريتُ كتاب القانون فيه، وعزمتُ على الاشتغال فيه، فأظلم عليَّ قلبي، وبقيت أيامًا لا أقدر على الاشتغالِ بشيءٍ، ففكَّرتُ في أمري ومن أين دخل عليَّ الداخل، فألهمني الله أنَّ سَبَبَه اشتغالي بالطب، فبِعتُ القانون في الحال، واستنار قلبي." وليَ أبو زكريا مشيخة دار الحديث من غيرِ أجر، وله مصنفات عديدة مفيدة أشهرها كتاب: رياض الصالحين، والأربعون النووية، وشرحه لصحيح مسلم المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ومنهاج الطالبين في الفقه الشافعي الذي يعتبر عمدة في المذهب، ويعتبر النووي من المعُتمَدين في المذهب؛ فكلامه أصل في المذهبِ، وهو أحد الشيخين الذين يعتمد على ترجيحهم في المذهب والآخر هو الرافعي، وله كتاب المجموع شرح المهذب أيضًا في الفقه الشافعي لكنه لم يتِمَّه، وله كتاب التقريب والتيسير في مصطلح الحديث. قال ابن العطار: "ذكر لي شيخنا محيي الدين رحمه الله أنه كان لا يضيِّعُ له وقتًا في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطرق يكرِّرُ أو يطالع. وأنه بقي على هذا نحو ست سنين، ثم اشتغل بالتصنيفِ والإشغال والنصح للمسلمين وولاتهم، مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الفقه، والحرص على الخروجِ مِن خلاف العلماء، والمراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من الشوائب، يحاسِبُ نفسَه على الخطرة بعد الخطرة. وكان محقِّقًا في علمه وفنونه، مدققًا في عمله وشؤونه، حافظًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارفًا بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه واستنباط فقهه، حافظًا للمذهب وقواعده وأصوله، وأقوالِ الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم؛ سالكًا في ذلك طريقة السلف. قد صرف أوقاتَه كلَّها في أنواع العلم والعمل بالعلم". توفي في ليلة أربع وعشرين من رجب في نوى عن خمس وأربعين عامًا، ودفن هناك وقبره فيها معروف رحمه الله وجزاه خيرًا.
خرج عن الطاعةِ قراجا بن دلغادر أمير ألبستان وكان ممن ساعد الأمير بيبغا روس نائب حلب على الخروج أولًا ثمَّ سَلَّمه بنفسِه، وكان نائب حلب الجديد أرغوان الكاملي قد حلف له أنَّه لا يقاتِلُه إن سَلَّم له بيبغا، فلما طلب من أرغون المسيرَ إلى قراجا للقضاء عليه لعصيانِه امتنع واعتذر بأنَّه حلف له ألَّا يُقاتِلَه، ثم ألزم الأمير أرغون الكاملي نائِبَ حلب حتى سار لحرب ابن دلغادر وأتاه نوابُ القلاع حتى صار في عشرة آلاف فارس، سوى الرَّجَّالة والتركمان، ونزل الأميرُ أرغون الكاملي على الأبلستين، فنهبها وهدمها، وتوجَّه إلى قراجا بن دلغادر، وقد امتنع بجبلٍ عالٍ، فقاتلوه عشرين يومًا، فقُتِلَ فيها وجُرِحَ عدد كثير من الفريقين، فلما طال الأمرُ نزل إليهم قراجا بن دلغادر، وقاتَلَهم صدرًا من النهار قتالًا شديدًا، فاستمَرَّ القتل في تركمانه، وانهزم إلى جهة الروم، فأُخِذَت أمواله ومواشيه، وصَعِدَ العسكر إلى جبل، فوجدوا فيه من الأغنام والأبقار ما لا يكاد ينحَصِرُ، فاحتووا عليها، بحيث ضاقت أيديهم عنها، وبِيعَ الرأسُ من البقر بعشرينَ إلى ثلاثين درهمًا، والرأسُ من الضأن بثلاثةِ دراهم، والإكديش- حصان غير أصيل، أبوه من جنسٍ وأمُّه من جنس- من أربعين إلى خمسين درهمًا، وسُبِيَت نساؤه ونِساءُ تركمانه وأولاده، وبِيعوا بحَلَب وغيرها بالهوان، فكانت خيارُ بناته تباع بخمسمائة درهم، وظَفِروا بدفائنَ فيها مال كبير، وكان ابن دلغادر لَمَّا انهزم تبعه العسكر، وأسروا ولَدَيه ونحو الأربعين من أصحابِه، ونجا بخاصَّة نفسه إلى ابن أرتنا، وقد سبق الكتابُ إليه بإعمال الحيلة في قبضِه، فأكرَمَه ابن أرتنا وأواه، ثم قبض عليه وحمله إلى حلب، فدخلها وسُجِنَ بقلعتها في ثاني عشر شعبان، فكتب السلطانُ إلى الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بحَملِه إلى مصر، وأنعم عليه بخمسمائة ألف درهم، منها ثلاثمائة ألف من مالِ دمشق، وباقيه من مال حلب، وأعفيَ الأمير أرغون من تسيير القَوَد الذي جرت عادةُ نواب حلب بحَملِه إلى السلطان من الخَيلِ والجِمال البخاتي والهجن والعراب، ومن البغال والقماش والجواري والمماليك، وقيمتُه خمسمائة ألف درهم، فعَظُم بذلك شأن الأمير أرغون الكاملي نائبُ حلب، فإنَّه مع صِغَرِ سِنِّه كان له أربعة مماليك أمراء، وله ولد عمره ثلاث سنين أميرُ مائة مقَدَّم ألف، فلما مات هذا الولد أضيفت تقدمتُه إلى إقطاع النيابة، وكان لأربعة من أخوته القادمين من البلاد وأقاربه أربع إمرات، وفي يوم الخميس خامس عشر رمضان وصل مقدم التركمان الأمير قراجا بن دلغادر، وهو مقيَّدٌ في زنجير، فأقيم بين يدى السلطان، وعُدِّدَت ذنوبه، ثم أُخرِجَ إلى الحبس، فلم يَزَل به إلى أن قَدِمَ البريد من حلب بأن جبار بن مهنا استدعى أولادَ ابن دلغادر في طائفةٍ كبيرة من التركمان، ليُنجِدوه على سيف، وكان سيف قد التجأ إلى بني كلاب، فالتقى الجمعانِ على تعبئة، فانكسر التركمانُ وقُتِلَ منهم نحو سبعمائة رجل، وأُخِذَ منهم ستمائة إكديش، فكتب السلطان من سرياقوس-وكان بها- إلى النائب قبلاي بقتل ابن دلغادر، فأخرجه من السجنِ إلى تحت القلعة ووسَّطه-قتله- في يوم الاثنين رابع عشر ذي القعدة، بعد ما أقام مسجونًا ثمانية وأربعين يومًا.
سار طغرلبك إلى خوارزم فحصرها وملكها واستولى عليها، وانهزم شاه ملك بين يديه، واستصحَبَ أموالَه وذخائِرَه، ومضى في المفازةِ إلى دهستان، ثم انتَقَل عنها إلى طبس، ثمَّ إلى أطراف كرمان، ثمَّ إلى عمال التيز ومكران، فلمَّا وصَلَ إلى هناك عَلِمَ خلاصَه ببُعدِه، وأمِنَ في نفسه، ثمَّ خرجَ طغرلبك من خراسانَ إلى الريِّ بعد فراغِه مِن خوارزم، وجرجان، وطبرستان، فلمَّا سَمِعَ أخوه إبراهيمُ ينال بقدومِه سار إليه فلَقِيَه، وتسَلَّم طغرلبك الريَّ منه، وتسَلَّمَ غيرَها من بلد الجبل وسار إبراهيمُ إلى سجستان، وأخذ طغرلبك أيضًا قلعةَ طبرك من مجدِ الدَّولة بن بُوَيه، وأقام عنده مُكَرَّمًا، وأمَرَ طغرلبك بعمارةِ الرَّيِّ وكانت قد خَرِبَت، ثمَّ ساروا إلى قزوين، فامتنعَ عليه أهلُها، فزحف إليهم ورماهم بالسِّهامِ والحجارة، فلم يَقدِروا أن يَقِفوا على السورِ، وقُتِلَ مِن أهل البلد برشق، وأخذ ثلاثَمِئَة وخمسين رجلًا، فلمَّا رأى كامرو ومرداويج بن بسو ذلك خافوا أن يملِكَ البلد عَنوةً ويَنهَب، فمنعوا الناسَ مِن القتال، وأصلحوا الحالَ على ثمانينَ ألف دينار، وصار صاحبُها في طاعته، ثمَّ إنه أرسل إلى كوكتاش وبوقا وغيرهما من أمراء الغز، الذين تقَدَّم خروجُهم، يُمَنِّيهم ويدعوهم إلى الحضورِ في خدمته، وأرسل طغرلبك إلى ملك الديلمِ يدعوه إلى الطاعة، ويطلُبُ منه مالًا، ففعل ذلك، وحَمَل إليه مالًا وعُروضًا، وأرسل أيضًا إلى سلار الطرم يدعوه إلى خدمتِه، ويطالبُه بحمل مِئَتي ألفِ دينار، فاستَقَرَّ الحالُ بينهما على الطاعةِ وشَيءٍ مِن المال. وأرسلَ سَريَّةً إلى أصبهان، وبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدَّولة، فأغارت على أعمالِها وعادت سالِمةً، وخرج طغرلبك من الريِّ، وأظهر قصدَ أصبهان، فراسلَه فرامرز، وصانَعَه بمالٍ، فعاد عنه وسار إلى همذان فمَلَكَها من صاحِبِها كرشاسف بن علاء الدَّولة، ثمَّ عاد إلى الريِّ، واستناب بهمذان ناصرًا العَلويَّ، وسَيَّرَ طغرلبك طائفةً من أصحابِه إلى كرمان مع أخيه إبراهيم ينال، بعد أن دخل الريَّ، وقيل إنَّ إبراهيمَ لم يقصِدْ كرمان، وإنَّما قصد سجستان، وكان مُقَدَّم العساكِرِ التي سارت إلى كرمان غيره، فلما وصلوا إلى أطراف كرمان نَهَبوا، ولم يُقدِموا على التوغُّلِ فيها، فلم يَرَوا من العساكِرِ مَن يَكُفُّهم، فتوسَّطوا ومَلَكوا عِدَّةَ مواضعَ منها ونَهَبوها، فبلغ الخبَرُ إلى الملك أبي كاليجار، صاحِبِها، فسَيَّرَ وزيرَه مُهذَّب الدَّولة في العساكِرِ الكثيرة، فخرجت الغزُّ إلى الجِمالِ والبغال والميرة ليأخُذوها، وسَمِعَ مهذَّب الدَّولة ذلك، فسيَّرَ طائفةً مِن العسكر لمنعِهم، فتواقعوا واقتَتلوا، وتكاثرَ الغز، فسَمِعَ مُهَذَّب الدَّولة الخبَرَ، فسار في العساكِرِ إلى المعركة، وهم يقتَتِلون، وقد ثبَتَت كل طائفة لصاحبتِها واشتَدَّ القتال، فلما وصل مهذَّب الدَّولة إلى المعركة انهزم الغُزُّ وتركوا ما كانوا ينهَبونَه، ودخلوا المفازةَ، وتَبِعَهم الديلم إلى رأسِ الحدِّ، وعادوا إلى كرمان فأصلحوا ما فسَدَ منها.
هو وزيرُ الديار المصرية العبيدي، الملك أبو عبد الله المأمون بن البطائحي الرافضي، ويقال: إنَّ أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق، وإنه مات ولم يخلِّفْ شيئًا، فتزوَّجت أمه وتركته فقيرًا، ثم صار من أجناد المشارقة, وهو ممَّن خدم المستنصر، وإنه الذي لقبه بالمأمون. وترقى به الحال إلى المُلك، وهو الذي أعان الآمر بالله على الفتك بالوزير أمير الجيوش الأفضل السُّني، وولي منصبه، وكان المأمون شهمًا مِقدامًا، جوادًا بالأموال، سفَّاكًا للدماء، عضلةً من العضل، ثم إنَّه زين لأحد إخوة الآمر قَتلَ الآمر، ودخل معهما أمراء، فعرف بذلك الآمر، فقبض على وزيره المأمون في ليلة السبت لأربع خلون من شهر رمضان سنة519، وقبض على إخوته الخمسة مع ثلاثين رجلًا من أهله وخواصِّه، ولَمَّا اعتُقِل المأمون وُجِد له سبعون سرجًا من ذهب مرصع ومائتا صندوق مملوءة كسوة بدنه. ووجد لأخيه المؤتمن أربعون سرجًا بحُلي ذهب وثلاثمائة صندوق فيها كسوة بدنه، ومائتا سلة ما بين بلور محكم وصيني لا يُقدَر على مثلها، ومائة برنية (فخار كبير) مملوءة كافور قنصوري؛ ومائة وعاء مملوء عودًا، ومن ملابس النساء ما لا يُحَد. حُمل جميع ذلك إلى القصر، وصُلِب المأمون مع إخوة الآمر سنة 522. وقيل: إن سبب القبض عليه أنه بعث إلى الأمير جعفر بن المستعلى، أخي الآمر، يعزِّيه بقتل أخيه الآمر ووعده أنه يُعتمَدُ مكانه في الحكم، فلما تعذَّر ذلك بينهما بلغ الشيخَ الأجَلَّ، أبا الحسن علي بن أبي أسامة، كاتب الدست، وكان خصيصًا بالآمر قريبًا منه، وكان المأمون يؤذيه كثيرًا. فبلَّغ الآمرَ الحالَ، وبلَّغه أيضًا أن بلغ نجيب الدولة أبا الحسن إلى اليمن وأمره أن يضرب السكة ويكتبَ عليها: الإمام المختار محمد بن نزار. ويقال: إنه سمَّ مِبضَعًا ودفعه لفصَّاد الآمر، فأعلم الفصَّاد الآمر بالمِبضَع. وكان مولد المأمون سنة 478، وقيل سنة تسع. وكان من ذوي الآراء والمعرفة التامة بتدبير الدول، كريما واسع الصدر، سفاكًا للدماء، شديد التحرُّز، كثير التطلع إلى أحوال الناس من الجند والعامة؛ فكثر الواشون والسعاة بالناس في أيامه. وكان المأمون شديد المهابة في النفوس وعنده فطنة تامة وتحرز وبحث عن أخبار الناس وأحوالهم، حتى إنه لا يتحدث أحد من سكان القاهرة ومصر بحديث في ليل أو نهار إلا ويبيت خبره عند المأمون، ولا سيما أخبار الولاة وعمَّالهم. ومشت في أيامه أحوال البلاد وعمرت، وساس الرعايا والأجناد وأحسن سياسته، إلا أنه اتُّهِم بأنه هو أقام أولئك الذين قتلوا الأفضل وأعدَّهم له وأمرهم بقتلِه؛ ليجعل له بذلك يدًا عند الآمر، ولأنَّه كان يخاف أن يموتَ الأفضل فيَلقى من الآمر ما يكرهه؛ لأنه كان أكبر الناس منزلةً عند الأفضل ومتحكِّمًا في جميع أموره. وكان مع ذلك محبَّبًا إلى الناس؛ لكثرة ما يقضيه من حوائجهم ويتقربُ به من الإحسان إليهم، ويأخذ نفسه بالتدبير الجيد والسيرة الحسنة.