حاصرَ أحمدُ بن طولون نائِبُ الدِّيارِ المصريةِ مدينةَ أنطاكيةَ وفيها سيما الطويلُ، فأخذها منه وجاءته هدايا مَلِكُ الروم، وفي جُملتِها أُسارى من أُسارى المسلمين، ومع كلِّ أسيرٍ مُصحَفٌ، منهم عبد الله بن رشيد بن كاوس، الذي كان عامِلَ الثغورِ، فاجتمع لأحمد بن طولون مُلكُ الشَّامِ بكمالِه مع الدِّيارِ المصريةِ؛ لأنَّه لَمَّا مات نائِبُ دمشق أماخور ركِبَ ابنُ طولون من مصرَ فتلقَّاه ابن أماخور إلى الرملة، فأقَرَّه عليها، وسار إلى دمشق فدخَلَها، ثمَّ إلى حمص فتسَلَّمَها، ثمَّ إلى حلب فأخذها، ثم أكملَ ابنُ طولون استيلاءَه على الشام باستيلائِه على أنطاكية.
لقي كمشتكين بن الدانشمند طايلو السلجوقي بن صاحب ملطية وسيواس - وإنما قيل له ابن الدانشمند -معنى الدانشمند المعلم- لأن أباه كان معلمًا للتركمان وتقلبت به الأحوال، حتى مَلضك، وهو صاحِبُ ملطية وسيواس وغيرهما- بيمند الفرنجي، وهو من مقدَّمي الفرنج، قريبَ ملطية، وكان صاحبُها قد كاتبه، واستقدمه إليه، فورد عليه في خمسةِ آلاف، فلقيهم ابن الدانشمند، فانهزم بيمند وأُسِر. ثم وصل من البحر سبعةُ قمامصة -كبار القساوسة- من الفرنج، وأرادوا تخليص بيمند، فأتوا إلى قلعة تسمى أنكورية، فأخذوها وقَتَلوا من بها من المسلمين، وساروا إلى قلعة أخرى فيها إسماعيل بن الدانشمند، وحصروها، فجمع ابن الدانشمند جمعًا كثيرًا، ولقي الفرنجَ، وجعل له كمينًا، وقاتلهم، وخرج الكمينُ عليهم، فلم يُفلتْ أحد من الفرنج -وكانوا ثلاثمائة ألف- غيرُ ثلاثة آلاف، هربوا ليلًا وأفلتوا مجروحين. وسار ابن الدانشمند إلى ملطية، فملكها وأسر صاحبها، ثم خرج إليه عسكر الفرنج من أنطاكية، فلقِيَهم وكسرهم، وكانت هذه الوقائع في شهور قريبة.
تطورت الأحداث في بلاد الأندلس، وأصبح اهتمام الإسبان هو توحيد أراضيهم، وانتزاع ما تبقى للمسلمين بها خصوصًا بعدما خضع الإسبان لسلطة واحدة بعد زواج إيزابيلا الكاثوليكية المتعصبة ملكة قشتالة من فرديناند ملك أراغوان، وبعد هلاك الدون جويان الثاني ملك أراغون، وتولَّى مكانه ابنه فرديناند الكاثوليكي، ضمَّ أراغون وبلنسية وصقلية وميورقة إلى قشتالة، وبينما كانت الممالك النصرانية تتَّحد في تلك الأقطار، كانت المملكة الإسلامية الوحيدة في الأندلس تزداد فتقًا على فتق؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا! اندفعت الممالك الإسبانية المتحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود الإسلامي في كل إسبانيا، حتى يفرغوا أنفسَهم ويركزوا اهتمامهم على المملكة الإسلامية الوحيدة في غرناطة، وفرضت إسبانيا أقسى الإجراءات التعسُّفية على المسلمين في محاولة لتنصيرهم وتضييق الخناق عليهم حتى يرحلوا عن بلاد الأندلس؛ نتيجة لذلك وقبل سقوط غرناطة لجأ المورسكيون-وهم الأقلية المسلمة التي بقيت في الأراضي الإسبانية بعد انتزاع حكمها من المسلمين- إلى القيام بثورات وانتفاضات في أغلب المدن الإسبانية، والتي يوجد بها أقلية مسلمة، وأُخمِدَت تلك الثورات بدون رحمة ولا شفقة من قبل السلطات الإسبانية التي اتخذت وسيلة لتعميق الكره والحقد للمسلمين، ومن جهة أخرى كان من الطبيعي أن يرنو المورسكيون بأنظارهم إلى ملوك المسلمين في المشرق والمغرب لإنقاذهم، وتكررت دعوات وفودهم ورسائلهم إليهم للعمل على إنقاذهم مما يعانوه من ظلم، وخاصة من قبل رجال الكنيسة ودواوين التحقيق (محاكم التفتيش) التي عاثت في الأرض فسادًا وأحلت لنفسها كل أنواع العقوبات وتسليطها عليهم، وكانت أخبار الأندلس قد وصلت إلى المشرق فارتج لها العالم الإسلامي، وبعث الملك الأشرف قايتباي بوفود إلى البابا وملوك النصرانية يذكِّرُهم بأن النصارى الذين هم تحت حمايته يتمتعون بالحرية، في حين أن أبناء دينه في المدن الإسبانية يعانون أشد أنواع الظلم، وقد هدد باتباع سياسة التنكيل والقصاص تجاه رعايا المسيحيين، إذا لم يكفَّ ملك قشتالة وأراغون عن هذا الاعتداء وترحيل المسلمين عن أراضيهم وعدم التعرض لهم، ورد ما أخذ من أراضيهم، ولم يستجيب البابا والملكان الكاثوليكيان لهذا التهديد من قبل الملك الأشرف قايتباي، ومارسوا خطتهم في تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس، وجُدِّدت رسائل الاستنجاد لدى السلطان العثماني بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، فوصلته رسالةٌ منهم يذكرون فيها آلامَهم ومعاناتهم ويسألونه الخلاص، ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على المدن الأندلسية للسلطان بايزيد خان الثاني ما نصه بعد سطر الافتتاح: الحضرة العلمية، وصل الله سعادتها وأعلى كلمتها ومهد أقطارها وأعز أنصارها وأذل عداتها، حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا، السلطان الملك الناصر ناصر الدين والدنيا، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام وناصر دين نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، محيي العدل ومنصف المظلوم ممن ظلم ملك العرب والعجم والترك والديلم، ظِل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين وسلطان البحرين حامي الذمار وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا مولانا بايزيد، لا زال ملكه موفور الأنصار مخلد المآثر والآثار مشهور المعالي والفخار، مستأثرا من الحسنات بما يضاعف الله الأجر الجزيل في الدار الآخرة والثناء الجميل، والنصر في هذه الدار، ولا بَرِحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد مجردة من أعداء الدين من بأسها ما يروي صدور السمر والصفاح وألسنة السلاح باذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف فيها الأخيار مفارقة الأرواح للأجساد، سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد:
سلام كريم دائم متجدد
أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا
ومن ألبس الكفار ثوب المذلة
سلام على من وسع الله ملكه
وأيده بالنصر في كل وجهة
سلام على مولاي من دار ملكه
قسنطينة أكرم بها من مدينة
سلام على من زين الله ملك
بنجد وأترك من أهل الرعاية
سلام عليكم شرف الله قدركم
وزادكم ملكا على كل ملة....
وكان السلطان بايزيد يعاني من العوائق التي تمنعه من إرسال المجاهدين، بالإضافة إلى مشكلة النزاع على العرش مع أخيه الأمير جم، وما أثار ذلك من مشاكل مع البابوية في روما وبعض الدول الأوربية، ومع ذلك قام السلطان بايزيد بتقديم المساعدة وتهادن مع السلطان قايتباي لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة ووقَّعا اتفاقًا بموجبه يرسل السلطان بايزيد أسطولًا على سواحل صقلية باعتبارها تابعة لمملكة إسبانيا، وأن يجهز السلطان المملوكي قايتباي حملات أخرى من ناحية أفريقيا، وبالفعل أرسل السلطان بايزيد أسطولًا عثمانيًّا تحول إلى الشواطئ الإسبانية، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع والخوف والرعب في الأساطيل النصرانية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامِه وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيون قد بدؤوا في التحرك لنجدة إخوانهم المسلمين، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السهلة الحصول من النصارى، كذلك وصل عددٌ كبير من هؤلاء المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثماني، ودخلوا في خدمته بعد ذلك أخذ العثمانيون يستخدمون قوتهم البحرية الجديدة في غرب البحر المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين، وهذا الذي كان في وُسع السلطان بايزيد الثاني فعلُه.
لمَّا بَلَغَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَمانيَ سنواتٍ توُفِّي جدُّه عبد المطلب. وكان عبدُ المُطَّلِب لمَّا حَضَرته الوفاةُ أوصى ابنَه أبا طالبٍ بحِفظِ رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحياطَتِه، والقيامِ عَليهِ، وأوصَى به إلى أبي طالِبٍ؛ لأنَّ عبدَ الله -والِدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأبا طالبٍ كانا لأُمٍّ واحدةٍ، فلمَّا مات عبدُ المطلب كان أبو طالِبٍ هو الذي يَلي أمْرَ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد جدِّه. ورَوَى ابنُ سعدٍ، وابنُ عساكِرَ عن ابن عبَّاسٍ رَضي اللهُ عنهما، وغَيرِه، قالوا: لمَّا توُفِّيَ عبدُ المطلب قَبَضَ أبو طالبٍ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكان يكونُ معه، وكان يُحِبُّه حبًّا شديدًا لا يُحِبُّ وَلَدَه مِثله، وكان لا يَنامُ إلَّا إلى جَنبِه، وكان يَخُصُّه بالطَّعامِ، وكان عيالُ أبي طالِبٍ إذا أكلوا جميعًا أو فُرادَى لم يَشبَعوا، وإذا أكَل معهم رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَبِعوا. وكان أبو طالِبٍ إذا أراد أن يُغدِّيَهم أو يُعشِّيَهم يقول: كما أنتُم حتى يَحضُرَ ابني. فيَأتي رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيأكُلُ معهم فيُفضِلون من طَعامِهم، وإن لم يَكُن معهم لم يُشبِعْهم، وإن كان لَبنًا شَرِبَ هو أوَّلَهم ثم يتناوَلُ العيالُ القَعْبَ -إناءٌ ضخمٌ كالقَصْعةِ- فيَشرَبون منه فيُروَون عن آخِرِهم من القَعبِ الواحِدِ، وإن كان أحدُهم لَيَشرَبُ قَعبًا وَحدَه، فيقول أبو طالبٍ: "إنَّكَ لَمُبارَكٌ!".
هو أبو عبدِ الرَّحمنِ عبدُ الله بنُ أحمدَ بنِ محمد بن حنبل الشيباني البغدادي، الحافظ، مِن أهل بغداد، والده هو الإمامُ أحمد بن حنبل، ولد سنة 213 وأمُّه اسمها ريحانة، تزوجَّها الإمام أحمد بعد وفاةِ زوجته الأولى عبَّاسة أم ابنِه صالحٍ، وأنجبت له ريحانةُ ابنَه عبد الله. تعلَّمَ على يدِ أبيه فسَمِعَ منه المُسنَد، فكان مُكثِرًا في الروايةِ عن أبيه وعن غيره, وكان إمامًا ثِقةً حافِظًا ثَبتًا، قال ابن المنادي: لم يكُنْ أحدٌ أروى عن أبيه منه، روى عنه المسندَ ثلاثينَ ألفًا، والتفسير مائة ألفِ حديث وعشرون ألفًا، من ذلك سماعٌ، ومن ذلك إجازة، ومن ذلك الناسِخُ والمنسوخ، والمقَدَّم والمؤخَّر، والمناسِك الكبير والصغير، وغير ذلك من التصانيف، وحديث الشيوخِ، وقال- أي ابن المنادي: وما زِلْنا نرى أكابِرَ شيوخِنا يشهدون له بمعرفةِ الرِّجالِ وعِلَل الحديث، والأسماءِ والكُنى، والمواظبة على طلَبِ الحديث في العراق وغيرها، ويذكُرونَ مِن أسلافهم الإقرارَ له بذلك، حتى إنَّ بعضَهم أسرفَ في تقريظه له بالمعرفة وزيادةِ السَّماعِ للحديث عن أبيه"، ولَمَّا مَرِضَ قيل له أين تُدفَنُ ؟ فقال: صحَّ عندي أنَّ بالقطعيَّة نبيًّا مدفونًا، ولَأن أكونَ بجوارِ نبيٍّ أحَبُّ إليَّ مِن أن أكونَ في جوار أبي، مات عن سبع وسبعين سنة، كما مات لها أبوه، واجتمع في جنازته خلقٌ كثيرٌ من الناس، وصلَّى عليه زهير ابن أخيه، ودُفِنَ في مقابِرِ باب التين- رحمَه الله تعالى.
وقَعَت بين المُختارِ أبي عليِّ بنِ عبيد الله العَلَويِّ وبين الزكيِّ أبي علي النهرسابسي، وأبي الحَسَن عليِّ بنِ أبي طالب بن عمر مُباينةٌ، فاعتضَدَ المُختارُ بالعباسيِّينَ، فساروا إلى بغدادَ، وشَكَوا ما يَفعَلُ بهم النهرسابسي، فتقَدَّمَ الخليفةُ القادِرُ باللهِ بالإصلاح بينهم مراعاةً لأبي القاسمِ الوَزيرِ المغربيِّ؛ لأنَّ النهرسابسي كان صديقَه، وابنُ أبي طالبٍ كان صِهرَه، فعادوا، واستعان كلُّ فريق ببني خفاجةَ، فأعان كلُّ فَريقٍ مِن الكوفيِّينَ طائفةً مِن خفاجة، فجرى بينهم قتالٌ، فظهر العَلويُّونَ، وقُتِلَ مِن العباسيِّينَ سِتَّةُ نَفَر، وأُحرِقَت دُورُهم ونُهِبَت، فعادوا إلى بغداد، ومَنَعوا من الخُطبةِ يومَ الجمعة، وثاروا، وقَتَلوا ابنَ أبي العبَّاس العلَويِّ وقالوا: إنَّ أخاه كان في جُملةِ الفَتَكة بالكوفة، فبرَز أمرُ الخليفةِ إلى المرتضى يأمُرُه بصرفِ ابنِ أبي طالب عن نقابةِ الكُوفةِ، ورَدِّها إلى المختارِ، فأنكر الوزيرُ المغربيُّ ما يجري على صِهرِه ابنِ أبي طالبٍ مِن العزل، وكان عند قرواش صاحبِ المَوصِل, فأرسلَ الخليفةُ القاضيَ أبا جعفرٍ السمناني في رسالةٍ إلى قرواش يأمُرُه بإبعادِ المغربيِّ عنه، ففعل، فسار المغربيُّ إلى ابنِ مَروانَ بديارِ بكرٍ، وغَضِبَ الخليفةُ على النهرسابسي، وبَقِيَ تحت السَّخَط إلى سنة ثماني عشرة وأربعمِئَة، فشَفِعَ فيه الأتراكُ وغَيرُهم، فرَضِيَ عنه، وحَلَّفَه على الطاعةِ فحَلَف.
وفي شوال مِن هذه السنة شكا الصوفيَّةُ بالقاهرة على الشيخِ تقيِّ الدين ابن تيميَّةَ, وكلامه في ابنِ عربي وغيرِه إلى الدولة، فردُّوا الأمرَ في ذلك إلى القاضي الشافعيِّ ابن صصرى، فعُقِد له مجلسٌ وادعى عليه ابنُ عطاء بأشياءَ فلم يثبُتْ عليه منها شيءٌ، لكنَّه قال: لا يُستغاثُ إلَّا بالله، لا يُستغاثُ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالاستغاثةُ بمعنى العبادة، فبعضُ الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شَيءٌ, ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أنَّ هذا فيه قِلَّةُ أدَبٍ!! فحضرت رسالةٌ إلى القاضي أن يعملَ معه ما تقتضيه الشريعةُ، فقال القاضي: قد قلتُ له ما يقالُ لِمِثله، ثمَّ إنَّ الدولة خيَّروه بين أشياء إمَّا أن يسيرَ إلى دمشقَ أو الإسكندريةِ بشُروطٍ أو الحبسِ، فاختار الحبسَ فدخل عليه جماعةٌ في السَّفَرِ إلى دمشق ملتَزِمًا ما شُرِط، فأجاب أصحابَه إلى ما اختاروا جبرًا لخواطِرِهم، فركب خَيلَ البريد ليلة الثامِنَ عشر من شوال ثم أرسلوا خلفَه من الغَدِ بريدًا آخرَ، فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابنِ جماعة وعنده جماعةٌ مِن الفقهاء، فقال له بعضُهم: إن الدولةَ ما ترضى إلا بالحبسِ، فقال القاضي: وفيه مَصلحةٌ له، واستناب شمسُ الدين التونسي المالكي وأذِنَ له أن يحكُمَ عليه بالحبسِ فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيءٌ، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحَيَّرَ، فلما رأى الشيخُ توقُّفَهم في حبسه قال: أنا أمضي إلى الحبسِ وأتَّبِعُ ما تقتضيه المصلحةُ، فقال نور الدين الزواوي: يكون في موضعٍ يصلُحُ لمِثلِه، فقيل له: الدولة ما ترضى إلا بمسمَّى الحبس، فأُرسِلَ إلى حبس القضاةِ في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الأعزِّ حين سُجن، وأُذِنَ له أن يكون عنده من يخدُمُه، وكان ذلك كلُّه بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولةِ، فإنَّه كان قد استحوذ على عَقلِ بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعدُ، وغيرِه من الدولة، والسلطانُ مقهورٌ معه، واستمر الشيخُ في الحبس يُستفتى ويقصِدُه الناسُ ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المُشكِلة التي لا يستطيعُها الفُقَهاءُ من الأمراءِ وأعيانِ النَّاسِ، فيكتُب عليها بما يحيرُ العُقولَ من الكتاب والسنَّة، ثم عُقِدَ للشيخ مجلسٌ بالصالحية بعد ذلك كُلِّه، ونزل الشيخُ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكَبَّ الناس على الاجتماعِ به ليلًا ونهارًا.
هو الأمير عبد الله بن علي بن رشيد، من الجعافرة (آل جعفر) من الربيعية، من عبدة، من شمر: أول حكام آل رشيدٍ في جبل شمر، ومؤسِّسُ حُكمِهم فيها. ولِدَ بحائل سنة 1202ه. كان جدُّه رشيد من سكان حائل ومات في أواخر القرن الثاني عشر للهجرة, وعُرِفَ أبناءُ رشيد وأحفاده بآل رشيد. وكانت لهم في شماليَّ جزيرة العرب إمارةٌ واسعة ظهر فيها أمراءُ وفرسان عُرِفوا في تاريخ نجد الحديث. خلَّف رشيد عليًّا. وعلي خلَّفَ عبد الله وعبيدًا، حاول عبد الله بن علي بن رشيد -وهو من أغنياء أسرة جعفر العريقة وأعيانها- سنة 1235ه أن يستوليَ على العرش في حائل وينتزِعَه من آل علي بمعاونة أقاربِه الكثيرين ذَوِي النفوذ، فنَشبت الحرب بينهم وبين آل علي ودارت الدائرةُ على عبد الله فنُفِيَ، ولكِنَّ عبد الله عاد بعد عشر سنوات إلى جبل شمر فعَيَّنَه فيصل بن تركي أميرًا على جبل شمر؛ اعترافًا بفضله في استرداد حكم الرياض، ومساعدته له في قتل مشاري بن عبد الرحمن الذي تآمرَ على قتل والدِه تركي بن عبد الله، وقتل عبدَ مشاري حمزة بن إبراهيم الذي باشر قتل تركي بن عبد الله، وبعد أن تمكَّنَ عبد الله بن رشيد في حائل طردَ بيت آل علي من جبل شمر, ثم بنى عبد الله القصر الكبير، وقد توثَّقَت العلاقةُ بين فيصل بن تركي وبين ابن رشيد بالمصاهرة بين الأسرتين، فقد تزوَّج عبد الله بن فيصل بن تركي من نورة آل عبد اللهِ الرشيد، ثم من ابنة عمها طريفة بنت عبيد ابن رشيد، ولما توفي عنها، تزوَّجها شقيقه محمد بن فيصل بن تركي, وكذلك تزوَّج عبد الله ابن رشيد بالجوهرة أخت فيصل بن تركي، وتزوَّج ابنه طلال من الجوهرة بنت فيصل. توفي عبد الله بن رشيد في حائل بعد عودته من غزوة غزا فيها عنزة، وخلَفَه في حكم الجبل ابنُه طلال, وكان ابن رشيد خلَّفَ من الأبناء متعبًا الأول-وتوفي صغيرًا- ومحمدًا، وطلالًا، ومتعبًا.
ثار على السلطان أحمد بن أويس ولدُه طاهر وحارَبَه، ففرَّ من الحلة إلى بغداد فأَخَذَ وديعة له كانت بها، فهجم عليه طاهر وأخذ منه المال، ففرَّ أحمد من ابنه، وأتاه قرا يوسف بطلبه له وأعانه على ابنه، وحاربه معه، ففرَّ طاهر فاقتحم بفرسه دجلة فغرق بها، ولحِقَ بربِّه.
تمرَّدَ متولي المغربِ محمَّد بن مقاتل العكي، وظلَم وعسَفَ واقتطَعَ مِن أرزاق الأجنادِ وآذى العامَّةَ، فخرج عليه تمامُ بنُ تميم التميمي نائبُه على تونس، فزحَفَ إليه فبَرَز لملاقاته العكي، فهَزَمه ابنُ تميمٌ، فتحَصَّنَ العكيُّ بالقيروان في القصرِ، وغلَبَ تمَّام على البلد، ثم نزل العكيُّ بأمانٍ وانسحب إلى طرابلس، فنهض لنُصرتِه إبراهيمُ بنُ الأغلب، فتقهقر تمَّام إلى تونُسَ ودخل ابنُ الأغلب القيروانَ، فصلى بالنَّاسِ وخطب وحَضَّ على الطاعةِ، ثم التقى ابنُ الأغلب وتمَّام فانهزم تمَّام، واشتَدَّ بغضُ الناسِ للعكيِّ، وكاتبوا الرشيدَ فيه، فعَزَله وأقَرَّ عليهم إبراهيمَ بن الأغلبِ.
خُلِعَ أبو البقاء خالد بن إبراهيم بن أبي بكر متمَلِّك تونس، بعد إقامته في المُلْك سنة وتسعة أشهر تنقُصُ يومين، وهو الخامس عشر من ملوك الحفصيين بتونس، وكان صبيًّا والأمر بيد الحاجِبِ ابن المالقي، وقام بعدَه ابنُ عَمِّه أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم، وقد كان هذا أميرَ قُسنطينة وبجاية، فلما استطاع الزحفَ على تونس قَتَل الحاجي ابن المالقي وفَرَّ خالد المخلوع، لكِنَّه قبض عليه ونفِيَ إلى الغرب لكنَّه غَرِقَ في البحر، فتملك أبو العباس هذا وتلَقَّب بالمستنصر بالله في يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر.
مؤسِّسُ الدَّولةِ المرداسيَّة في حلَبٍ هو صالِحُ بنُ مرداس الذي لُقِّبَ أسدَ الدَّولة. وهو من بني كلابٍ، القبيلةِ العربيَّةِ التي كانت تَنزِلُ ضِفافَ الفُراتِ والجزيرة, وكان بالرَّحبةِ رَجلٌ مِن أهلها يُعرَفُ بابنِ محكان، فمَلَك البلدَ، واحتاجَ إلى من يجعَلُه ظَهرَه، ويستعينُ به على مَن يَطمَعُ فيه، فكاتَبَ صالِحَ بنَ مِرداس الكلابيَّ، فقَدِمَ عليه وأقام عنده مُدَّةً، ثمَّ إنَّ صالحًا عدا على ابنِ محكان فقتَلَه ومَلَك الرَّحبة, وفي سنة 399 كانت وقعةٌ بين أبي نصرِ بنِ لؤلؤٍ صاحِبِ حَلَب، وصالحِ بنِ مرِداس، وكان ابنُ لؤلؤ من موالي بنِي حمدان، فقَوِيَ على ولَدِ سَعدِ الدَّولة يخطُبُ للحاكِمِ صاحِبِ مِصرَ، ثمَّ فسد ما بينه وبين الحاكِمِ، فطَمِعَ فيه ابنُ مرداس، وبنو كلاب، وكانوا يطالِبونَه بالصِّلاتِ والخِلَع، ثمَّ إنهم اجتَمَعوا في خمسمِئَة فارس، ودخلوا مدينةَ حَلَب، فأمر ابنُ لؤلؤ بإغلاقِ الأبوابِ والقَبضِ عليهم، فقُبِضَ على مِئَة وعشرينَ رَجُلًا، منهم صالحُ بنُ مرداس، وحَبَسهم، وقتَلَ مِئَتين, وبَقِيَ صالِحُ بنُ مِرداسَ في الحَبسِ، حتى صَعِدَ مِن السور وألقى نفسَه مِن أعلى القلعةِ إلى تَلِّها, وسار بقَيدِه ولبنةِ حديدٍ في رِجلَيه، حتى وصل قريةً تُعرَفُ بالياسريَّة، فرأى ناسًا من العربِ فعَرَفوه وحَمَلوه إلى أهلِه بمرج دابق، فجمَعَ ألفَي فارسٍ وقصَدَ حَلَب وحاصَرَها اثنين وثلاثين يومًا، فخرجَ إليه ابنُ لؤلؤ، فقاتَلَه، فهَزَمَهم صالحٌ وأسَرَ ابنَ لؤلؤ، وقيَّدَه بقَيدِه الذي كان في رِجلِه ولَبِنَتِه. ثمَّ إنَّ ابنَ لؤلؤٍ بذَلَ لابنِ مرداسٍ مالًا على أن يُطلِقَه، فلمَّا استقَرَّ الحالُ بينهما أخذ رهائِنَه وأطلقَه، فلمَّا قُتِلَ الحاكِمُ العُبَيديُّ صاحِبُ مِصرَ، اجتمع حَسَّان أميرُ بني طي، وصالحُ بنُ مرداس أميرُ بني كلاب، وسِنانُ بنُ عليان، وتحالفوا، واتَّفَقوا على أن يكونَ مِن حَلَب إلى عانة لصالحٍ، ومِنَ الرَّملةِ إلى مصرَ لحَسَّان، ودمشقُ لسنان، فسار حسَّان إلى الرملةِ وأخَذَها من أنوشتكين نائِبِ الحاكِمِ، وقصَدَ صالِحٌ حَلَب، وبها إنسانٌ يُعرَفُ بابن ثعبان يتولَّى أمْرَها للمِصريِّينَ، وبالقلعةِ خادِمٌ يُعرَفُ بمَوصوفٍ، فأمَّا أهلُ البلدِ فسَلَّموه إلى صالحٍ؛ لإحسانِه إليهم، ولِسُوءِ سِيرةِ المِصريِّينَ معهم، وصَعِدَ ابنُ ثعبان إلى القلعةِ، فحَصَره صالحٌ بالقلعةِ، فغار الماءُ الذي بها، فلم يبقَ لهم ما يَشرَبونَ، فسَلَّمَ الجُندُ القلعةَ إليه، وذلك سنة 414، ومَلَك مِن بَعْلَبَكَّ إلى عانة، وأقام بحَلَب سِتَّ سنين إلى أن قُتِلَ على يدِ المِصريِّينَ سنة 420.
هو الإمامُ تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، من أمراءِ نجد، وَلِيَها بعد مقتل ابنِ عَمِّه مشاري بن سعود. كان تركي بن عبد الله فارًّا من وجه التُّرك وعُمَّال والي مصر محمد علي، في الخَرجِ بنجد، وعلم بأنَّ مشاري بن معمر قبض على ابنِ عَمِّه مشاري وسَلَّمه إلى الترك فقَتَلوه، فخرج من مخبئه ودخل العارضَ فنازع ابن معمر برهةً مِن الزمن، ثم قتَلَه بابن عمه، وتولى الحكمَ مكانه. وبولايةِ تركي بن عبد الله انتقل الحكمُ في آل سعود من سلالةِ عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى سلالة أخيه عبد الله بن محمد بن سعود، وكان تركي شجاعًا؛ أخذ على عاتقه إخراجَ الترك ومَن معهم من المصريين عن بلادِه، فاستردَّ الأحساء والقطيف، وصالحَه أميرُ حائل، وانبسط نفوذُه في القصيم. واستمَرَّ إلى أن قام مشاري بن عبد الرحمن ابن أخت تركي بن عبد الله -وهو ابنُ عمه أيضًا- بقَتلِه غدرًا، قال ابن بشر: "عزم مشاري على إظهارِ ما أبطن وجَرَّد سيفه لإثارة الفِتَن، وذلك بمساعدة رجالٍ أسافِلَ مِن الخدمِ الأراذلِ، وقد تواعدوا عليه بعد صلاةِ الجمعة إذا خرج من المسجِدِ، فلما صلى الجمعة وخرج.. من المسجدِ، وقف له البغاة عند الدكاكين بين القصر والمسجد، وبيده مكتوبٌ يقرؤه، وفي جنبه رَجُلٌ على يساره، واعترضهم منهم عبدٌ خادم لهم يقال له إبراهيم بن حمزة، فأدخل الطبنجة مع كُمِّه وهو غافِلٌ فثورها فيه، فخَرَّ صريعًا، فلم تخط قلبه، وإذا مشاري قد خرج من المسجد فشَهَر سيفَه وتهدَّد الناس وتوعَّدَهم، وشهر أناسٌ سُيوفَهم معه فبُهِتَ الناس وعَلِموا أن الأمر تشاوروا فيه وقُضِيَ بليلٍ، فلما رأى زويد العبد المشهور مملوكُ تركي عمَّه صريعًا، شهر سيفه ولَحِقَ برجلٍ من رجاجيل مشاري فجَرَحَه.. ثم إن مشاري دخل القصرَ من ساعته وأعوانه معه.. وجلس للناسِ يدعوهم إلى البيعةِ، فلما علم آلُ الشيخِ وقوعَ هذا الأمر جلسوا في المسجد، فلم يخرجوا منه حتى أرسل إليهم مشاري يدعوهم فأبَوا أن يأتوا إلا بالأمانِ، فكتب لهم بالأمان، فأتوا إليه وطلب منهم المبايعةَ فبايعوه، ثمَّ نُقِلَ تركي من موضعه ذلك، وأدخلوه بيت زويد فجُهِّزَ وصلى عليه المسلمون بعد صلاة العصر، ودُفِنَ في مقبرة الرياض آخر ساعة من يوم الجمعة"، وكان قتلُ تركي بن عبد الله على يد ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن أوَّل جريمةٍ مِن نوعِها في آل سعود. وكان ابنُه فيصل في القطيف على رأس جيشٍ، فلما علم بمقتلِ أبيه رجع من فوره واستطاع أن يقتُلَ مشاري، ثم يتولى الإمامةَ والحُكمَ.