هو السلطان العثماني مصطفى الثاني ابن السلطان محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان. وُلِدَ عام 1074هـ وتولى الخلافة عام 1106هـ/1694م وفي عهده بدأ تراجع المد الإسلامي عن ديار أوروبا الشرقية؛ بسبب ضعف روحِ الجهاد، وتسرُّب أسباب الهزيمة في كيان الأمة، وقسوة الهجمات الصليبية على الدولة العثمانية، وفي عهده تم توقيع معاهدة كار لوفتس مع روسيا وطبقًا لهذه المعاهدة انسحب العثمانيون من بلاد المجر، وإقليم ترانسلفانيا، وأصبحت كلُّ الدول التي كانت تدفع الجزية ممتنعةً من دفعها وتقِفُ في وجه المد العثمانيين. وبدأت الدولة العثمانية في الانتقال الى عصر التفكُّك والاضمحلال السريع, وعلى إثر تدخل الانكشارية صاروا يطالبون بعزل الصدورِ كما يحلو لهم، ثم قرَّروا عزل السلطان نفسه ونصبوا أخاه أحمد الثالث, ثم توفي السلطان مصطفى بعد عزله بأربعة أشهر، وكان عند وفاته في التاسعة والثلاثين من عُمره.
كان الشعبُ المغربي قد ثار على السلطان عبد العزيز بن الحسن العلوي وخلَعَه عام 1908م بعد أن أطلق يدَ فرنسا وإسبانيا في المغرب، وبايع الشعبُ أخاه عبد الحفيظ بشَرطِ العمل على استرداد الجهاتِ المقتطعة على الحدودِ، ولكِنَّ عبد الحفيظ صانَعَ فرنسا التي اتَّفَقت سنة 1911 مع إسبانيا على إعطائِها الريفَ مقابِلَ السكوت على الاحتلال الفرنسي، وثار الشعبُ مرة أخرى، ففُرِضَت الحماية الفرنسية، وعَمَّت الثورةُ أرجاء المغرب وقامت الحربُ العالمية الأولى، والشعبُ المغربي يقاوِمُ الفرنسيين في الأطلس الأوسط والأطلس الكبير، وفي تافيلالت وآية عطا، وتسلَّم تطبيقَ المخطَّطات الاستعمارية في مراكش قائِدٌ فرنسيٌّ مِن زبانية الاستعماريين، هو المارشال ليوتي، الذي عقَدَ معاهدةَ الحماية، وحكَمَ المغربَ كمُقيمٍ عام، وأخمد ثوراته، ووجه الاستثماراتِ الفرنسيةَ لنَهبِ ثروات المغرب، وقد ثار الريفُ الذي احتلَّته إسبانيا سنة 1922م، وتزعم الثورةَ الأمير عبد الكريم الخطابي واستطاع النجاحَ في حصار طنجة، وامتدت الثورةُ إلى المناطق التي تحتلُّها فرنسا، فاتفق ليوتي مع الإسبان على قتال الثائرين، وخُنِقَت الثورة سنة 1925م، واستسلم الأمير عبد الكريم للفرنسيين الذين نفوه إلى مدغشقر في جُزُر ريئونيون.
هو الحسَنُ بن هانئ بن صباح بن عبد الله، اشتهر بالشِّعرِ، ولكنَّه أدخل فيه ما يُستقذَرُ، حتى اتُّهِم، ذكروا له أمورًا كثيرة، ومُجونًا وأشعارًا مُنكَرة، وله في الخَمريَّات والقاذورات والتشبُّب بالمُردان والنِّسوان أشياءُ بِشَعةٌ شَنيعةٌ؛ فمِن النَّاسِ من يفَسِّقُه ويرميه بالفاحشةِ، ومنهم من يرميه بالزَّندقة، كان أبو نواس شاعِرَ الأمينِ بن الرشيد وأحدَ نُدَمائه، وقد قال في الأمين مدائِحَ حِسانًا، وقد وجده مسجونًا في حبسِ الرَّشيدِ مع الزَّنادقةِ، فأحضره وأطلقه وأطلق له مالًا، فجعله مِن نُدَمائه، ثمَّ حَبَسه مرَّةً أخرى في شُربِ الخَمرِ، وأطال حبسَه ثمَّ أطلَقَه وأخذ عليه العهدَ ألَّا يشرَبَ الخمرَ ولا يأتي الذُّكورَ من المردان، فامتثل ذلك، وكان لا يفعَلُ شيئًا من ذلك بعد ما استتابه الأمينُ، وتأدَّبَ على الكسائيِّ وقرأ عليه القرآنَ. كانت وفاته ببغداد، ودُفِنَ في مقابر الشونيزى في تل اليهود.
هو القاضي الإمامُ العالم شمسُ الدين محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي الصالحي الراميني الأصل, وُلِدَ ونشأ في بيت المقدس. وكان بارعًا فاضلًا مُتفَنِّنًا في علوم كثيرة، ولاسيما علم الفروع، وكان نائبًا لمشيخة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن محمد المقدسي الحنبلي، وزَوجَ ابنته، وهو أعلَمُ أهل عصره بمذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ لذا كان غايةً في نقل مذهب الإمام أحمد، وجمَعَ مصنفات كثيرة منها: كتاب المقنع، وعلق على محفوظة أحكام الشيخ مجد الدين بن تيمية مجلدين، وله الآداب الشرعية، وأصول الفقه، وله غير ذلك من الفوائد والتعليقات رحمه الله، توفي بصالحيةِ دِمشقَ في ثاني رجب عن نحو خمسين سنة، وصُلِّيَ عليه بعد الظهرِ مِن يوم الخميس ثاني الشهر بالجامع المظفري، ودُفِنَ بمقبرة الشيخ الموفق، وكانت له جنازةٌ حافلة حضرها القضاةُ كُلُّهم، وخَلقٌ من الأعيان.
هو الشَّريفُ سرورُ بنُ مساعد بن سعيد بن سعد بن زيد بن محسن بن حسين بن حسن بن أبي نُمي، الذي طار صيتُه في الآفاقِ وبلغ من المجدِ والسعيِ في أعمال الخيرِ وتأمين السُّبُل ما لم يبلُغْ إليه أحدٌ من آبائه، ولقد كانت أحاديثُ الوافدين للحجِّ إلى بيت الله الحرام تخبِرُ عنه بأخبار تسُرُّ القلوبَ وتشَنِّف الأسماعَ وترَوِّح الطباعَ، وكان عظيمَ السَّطوة شديدَ الصَّولة قامعًا للفساد راعيًا لمصالح العباد، كثيرَ الغزو لمَرَدة الأعراب الذين يتخطَّفون الناس في الطرقات، وتوفي في يوم 18 ربيع الثاني، وعمره 35 سنة، ومدَّة ولايته 15 سنة وخمسة أشهر وثمانية أيَّام، وصُلِّي عليه عند الكعبة ودُفن بالمعلَّاة. وقام مقامَه بعد وفاته أخوه عبد المعين، ثمَّ رغِبَ عن الأمرِ لأخيه غالب بعد أيامٍ يسيرةٍ مِن ولايته.
هو السلطان الأعظم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بن عبد الله، البندقداري الصالحي؛ يُعد المؤسِّسَ الفعلي لدولة المماليك وأعظَمَ سلاطينها، اجتمعت فيه صفاتُ العدل والفروسية والإقدام. ولِدَ بيبرس- بيبرس كلمة تركية تعني أمير فهد- بأرض القبجاق سنة 625، تعرضت ديارهم في القبجاق لغارات فأُسِرَ جماعة منهم، وكان بيبرس فيمن أُسِرَ وحُمِلَ إلى القاهرة، فاشتراه الأميرُ علاء الدين البندقدار الصالحي فطلع بطلًا شجاعًا نجيبًا لا ينبغي أن يكونَ إلَّا عند ملك. فأخذه الملِكُ الصالح إليه وصار من جملةِ البحرية. وشَهِدَ وقعة المنصورة بدمياط وصار أميرًا في دولة المعز عز الدين أيبك. وتقلبت به الأمور وجرت له أحوال, واشتهر بالشجاعةِ والإقدام وبَعُدَ صِيتُه. ولما سارت الجيوشُ المنصورة من مصر لحرب التتار في عين جالوت كان هو طليعةَ الإسلام. وجلس على سريرِ المُلكِ بعد قتل الملكِ المظفَّر وذلك في سابع عشر ذي القعدة من سنة ثمان وخمسين بقلعة الجبل, فصار أستاذُه البندقدار بعض أمرائه وكان الظاهر غازيا، مجاهدا، مرابطا، خليقا للملك، لولا ما كان فيه من الظلم والله يرحمه ويغفر له ويسامحه، فإن له أياما بيضاء في الإسلام ومواقف مشهودة وفتوحات معدودة. وله سيرتان كبيرتان لابن عبد الظاهر ولابن شداد. كانت وفاته يوم الخميس السابِعَ عشَرَ من محرم بعد الزوال، وقد تجاوز الخمسين سنة، ومُدَّة ملكه سبعَ عشرة سنة وشهران واثنا عشر يومًا، أما عن سبب موته فقيل إنه شرب القمز، وهو نوعٌ من النبيذ فمَرِضَ بعده أيامًا ثم إنَّه أخذ دواءً فزاد مرضُه وأصيبَ بإسهالٍ حادٍّ وحاول الأطباءُ علاجه بدواء آخر فأفرط الإسهال حتى إنه رمى دمًا قيل إنه كَبِدُه، ثم لم يلبث أيامًا حتى توفي، وقيل بل إن وفاته كانت بالسُّمِّ حيث إنه وُضِعَ السم في القمز للملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن الملك المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، الذي أبلى بلاءً عظيمًا ضد المغول وكان بيبرس قد قيل له إنه يموت في دمشق مَلِكٌ بالسمِّ في هذا العام فأراد أن يكون هذا الملك هو القاهر بهاء، وخاصة أنه خاف منه لما ظهر منه أمام المغول فوضع له السمُّ فشربه القاهر ومات من فَورِه ولكِنَّ الله أنسى بيبرس أمر الكأسِ وسقاه خادِمُه من نفس الكأس ثانيةً، فكانت بقايا السم هي سبب حتفه، فالله أعلم كيف كانت وفاته، ودفن في دمشق قريبًا من المكتبة الظاهرية، فجزاه الله خيرًا على ما قام به من فتح كثير من البلاد التي كانت استعصت على من قَبلَه، وعلى العمران الذي شيَّدَه وعلى الهيبةِ التي ردها للمُسلمينَ بعد أن كانت تحطَّمَت أمام أفعال المغول، وبالجملة أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عونًا ونصرًا للإسلام وأهله، وشجًا في حلوق المارقين من الفرنج والتتار، والمشركين، وكان الملك الظاهر بيبرس قد عَهِدَ بالملك لابنه الملك السعيد بركة الذي أصبح ملكًا بعد أن أخفي موت الظاهر بيبرس أيامًا حتى استحلف الأمراء مرة أخرى على بيعته، ثم أعلنت وفاة الظاهر وبويع الملكُ السعيدُ بالمُلكِ بعده.
هو مصطفى كمال أتاتورك الملقَّب بالغازي؛ رئيس الجهورية التركية، وكلمة أتاتورك، تعني: أبو الأتراك، وهو الذى أسقط الخلافةَ الإسلاميةَ سنة 1343ه / 1924م. ولِدَ مصطفى كمال عام 1296هـ في مدينة سالونيك اليونانية وكانت تابعة للدولة العثمانية، من أمٍّ تدعى زبيدة، ونُسِبَ في بداية الأمر إلى زوج أمه علي رضا الذي لم يلبث أن توفِّي، ولم يتجاوز ربيبُه مصطفى الثامنةَ من العمر، وكانت زبيدة مُستهترة، وتمكَّنَت من تأمين زوجٍ لها، فغَضِبَ ولدها مصطفى منها، وترك البيتَ وذهب إلى بيت أخت علي رضا زوج أمه السابق، ودرس في المدارس الحربية في سالونيك، ومناستر، ثم التحق بالكلية الحربية في استانبول وتخرَّج منها، ثم تخرَّج من كلية الأركان برتبة رائد عام 1333هـ، وألَّف جمعية الوطن والحرية في الشام مع بعض المنفيِّين إليها، وكان يتدرَّبُ في لواء الفرسان، وعندما تمَّ تدريبُه عُيِّنَ في يافا غيرَ أنَّه هرب إلى مصر، ومنها انتقل بحرًا إلى سالونيك، واستطاع أن يجد وسيلةً لتعيينه هناك عن طريق الارتباطات التي أصبحت له، وعَمِلَ لجمعيته التي لم تلبَثْ أن انضمَّت إلى جمعية الاتحاد والترقي، ولم يستطِع البروزَ والظهور فيها؛ لأن أعضاءها لم يحترموه؛ لاستهتاره بالقِيَمِ، وانقطاعه إلى الأماكن الموبوءة من حانات، ومحلات للفجور؛ لذا فقد حقد عليهم أيضًا، ويبدو أنه كان على صلةٍ بجهة لها إمكاناتُها ولها نفوذها توجِّهُه وتحميه وترسُم له وتمَنِّيه وتعِدُه بأعلى منصب، أرسله أنور باشا وزير الحربية إلى طرابلس للقضاءِ على ثورة هناك، لكنه هرب من ليبيا، ثم أُرسِلَ ملحَقًا إلى بلغاريا قضى أيامَه في الخمور والمجون، ولَمَّا اندلعت الحرب العالمية الأولى كان يشتركُ حسب الحاجة تحت إمرة أحد القادة الألمان. وبعد الحرب وتوقيع هدنة مودروس بدأ الإنجليزُ في تهيئة مصطفى كمال لإسقاط الخلافة العثمانية، وإقامة دولة تركيا العلمانية الحديثة، وقد نجحَت في صناعته حتى كان كمال أشَدَّ عداء للإسلام والمسلمين من اليهودِ والنصارى! وفَعَل في تركيا مالم تفعَلْه جيوشُهم مجتمعةً، فما إن تولَّى رئاسة الجمهورية التركية حتى شَنَّ حربًا لا هوادةَ فيها على الإسلام والمسلمين، وفرض إجراءاتِ عَلْمَنة تركيا وفَصْلِها عن الإسلام والمسلمين بقوَّة النظام والسلاح؛ فقد كان هذا الديكتاتور مثلًا فريدًا في القسوة والتنكيل والأنانية المدمِّرة. لقد تجلَّت سياسة أتاتورك العلمانية في برنامج حزبه (حزب الشعب الجمهوري) لعام 1349هـ مرة، وعام 1355هـ مرة ثانية، والتي نصَّ عليها الدستور التركي، وهي المبادئُ الستة التي رُسِمَت بشكل ستة أسهُمٍ على علَمِ الحِزبِ، وهي: القومية، الجمهورية، الشعبية، العَلْمانية، الثورة، سلطة الدولة. هلك مصطفى كمال في 18 رمضان 10 نوفمبر 1938م بعد أن أُصيبَ قبل وفاته بسنين بمرضٍ عضال في الكلية لم يُعرَفْ كُنهُه. وكان يتعرَّضُ لآلام مبَرِّحة مزمنة لا تطاق، كانت السببَ في إدمانه على شربِ الخمر؛ مما أدى إلى إصابته بتليف الكبد، والتهاب في أعصابه الطرفية، وتعرُّضه لحالات من الكآبة والانطواء. ولما توفي دُفِنَ بعد تسعة أيام من وفاته بعد أن أمضى أكثَرَ من خمس عشرة سنة في الحكم. ثم جرت الانتخاباتُ وانتُخِبَ عصمت إينونو رئيسًا للجمهورية؛ فهو ثاني رئيس للجمهورية التركية الحديثة.
ظهر أبو عبدِ الله محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بالكوفةِ، يدعو إلى الرِّضا من آل محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم والعمَل بالكتابِ والسُّنَّة، وهو الذي يُعرَف بابنِ طباطبا، وكان القيِّم بأمرِه في الحرب أبو السَّرايا السَّري بن منصور، وكان سببُ خروجه أنَّه شاع أنَّ الفضلَ بنَ سَهلٍ قد غلب على المأمونِ، وأنَّه يستبِدُّ بالأمر دونه، فغَضِبَ لذلك بنو هاشم ووجوهُ الناس، واجترؤوا على الحسَن بنِ سَهل، وهاجت الفِتَنُ في الأمصار، فكان أوَّلَ مَن ظهر ابنُ طباطبا بالكوفة، وقد اتَّفَق أهلُ الكوفة على موافَقتِه واجتمعوا عليه مِن كُلِّ فجٍّ عميقٍ، وكان النائِبُ عليها من جهةِ الحسَنِ بن سهل سُليمانَ بنَ أبي جعفر المنصور، فبعث الحسَنُ بن سهل لسليمانَ بنِ أبي جعفر يلومُه ويؤنِّبُه على ذلك، وأرسل إليه بعشرةِ آلاف فارسٍ بصحبة زاهرِ بن زهير بن المسيب، فتقاتلوا خارِجَ الكوفةِ، فهَزَمَ أبو السرايا زاهرًا واستباح جيشَه ونهب ما كان معه، فلمَّا كان الغد من الوقعة توفِّيَ ابنُ طباطبا أميرُ الشيعة فجأةً، ويقال: إنَّ أبا السرايا سَمَّه وأقام مكانه غلامًا أمْرَد يقال له محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وانعزل زاهِرٌ بمن بقِيَ معه من أصحابِه إلى قصر ابن هُبيرة، وأرسل الحسَنُ بن سهل مع عبدوس بن محمد أربعةَ آلافِ فارسٍ، صورة مدد لزاهر، فالتقوا هم وأبو السَّرايا، فهزمهم أبو السرايا ولم يُفلِت من أصحاب عبدوس أحدٌ، وانتشر الطالبيُّون في تلك البلاد، وضرب أبو السرايا الدَّراهمَ والدنانير في الكوفة، ونقَشَ عليه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} ثمَّ بعث أبو السرايا جيوشَه إلى البصرة وواسط والمدائن، فهزموا مَن فيها من النوَّاب ودخلوها قهرًا، وقَوِيَت شوكتهم، فأهمَّ ذلك الحسَنَ بنَ سَهلٍ، وكتب إلى هرثمةَ بنِ أعيَنَ يستدعيه لحربِ أبي السرايا، فتمَنَّعَ ثم قَدِمَ عليه فخرج إلى أبي السرايا فهزم أبا السَّرايا غيرَ مَرَّة وطرده حتى ردَّه إلى الكوفة، ووثب الطالبيون على دُورِ بني العباس بالكوفةِ فنَهَبوها وخَرَّبوا ضِياعَهم، وفعلوا أفعالًا قبيحة، وبعث أبو السَّرايا إلى المدائِنِ فاستجابوا، وبعث إلى أهلِ مكةَ حُسَين بن حسن الأفطس ليقيمَ لهم الموسِمَ، فخاف أن يدخُلَها جهرةً، ولَمَّا سمع نائِبُ مكَّةَ- وهو داود بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس- هرب من مكة طالبًا أرضَ العراق، ثم دخلها الأفطسُ وحجَّ بها من سنته.
وقع حريق عظيم بساحل بولاق لم يُسمَعْ بمثله في سالف الأعصار إلا قليلًا، بحيث إنَّه أتى على غالب أملاك بولاق من ساحل النيل إلى خط البوصة التي هي محل دفن أموات أهل بولاق، وعجز الأمراء والحكام عن إخماده، وكان من أمر هذا الحريق أنه لما كان صبيحة يوم الجمعة سادس رجب هبت ريح عظيمة وعظمت حتى اقتلعت الأشجار وألقت بعض المباني، واستمرت في زيادة ونمو إلى وقت صلاة الجمعة، فلما كان وقت الزوال أو بعده بقليل احترق ربع الحاج عبيد البرددار بساحل البحر، وذهب الربع في الحريق عن آخره ومات فيه جماعة من الناس، كل ذلك في أقل من ساعة رمل، ثم انتقلت النار إلى ربع القاضي زين الدين أبي بكر بن مزهر وغيره، وهبت الرياح وانتشرت النيران على الأماكن يمينًا وشمالًا، وحاجب الحجَّاب وغيره من الأمراء والأعيان وكل أحد من الناس في غاية الاجتهاد في تخميد النار بالطفي والهدم، وهي لا تزداد إلا قوة وانتشارًا على الأماكن، إلى أن وصلت النار إلى ربع الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص، وإلى الحواصل التي تحته، وأحرقت أعلاه وأسفله، وذهب فيه من بضائع الناس المخزونة فيه ما لا ينحصر كثرة، وسارت النار إلى الدور والأماكن من كل جهة، هذا وقد حضر الحريق جميع أمراء الدولة بمماليكهم وحواشيهم، شيئًا بعد شيء، والأمر لا يزداد إلا شدة، إلى أن صار الذي حضر من الناس لأجل طفي النار كالمتفرِّج من عِظَم النار والعجز عن إخمادها، وصارت النار إذا وقعت بمكان لا تزال به حتى يذهب جميعه، ويضمحل عن آخره، فعند ذلك فطن كل أحد أن النار تسير من دار إلى دار إلى أن تصل إلى القاهرة؛ لعِظَم ما شاهدوا من هولها، والريح يتداول هبوبها من أول النهار إلى نصف الليل؛ ولشدة هبوب الريح صارت رياحًا؛ لأنها بقيت تهب من سائر الجهات، فيَئِس كل من كان له دار تحت الريح، وتحقق زوالها، وشرع في نقل متاعه وأثاثه، واستمر الأمراء والأعيان يشاهدون الحريق، ويطفئون ما قدروا عليه من أطراف المواضع المنفردة؛ وأما الحريق العظيم فلا يستجرئ أحد أن يقربه لعِظَمِه، بل يشاهدونه من بعيد، واستمروا على ذلك إلى بعد أذان عشاء الآخرة، ثم ذهب كل واحد إلى داره والنار عمالة إلى نصف الليل، فأخذ أمر الريح في انحطاط، فعند ذلك اجتهد كل أحد في إخمادها، وأقاموا على ذلك أيامًا كثيرة، والنار موجودة في الأماكن والجُدُر والحيطان، والناس تأتي لبولاق أفواجًا للفرجة على هذا الحريق العظيم، فكان عدة ما احترق فيه من الأرباع زيادة على ثلاثين رَبْعًا، كل رَبْع يشتمل على مائة سكن وأكثر، وما به من الحوانيت والمخازن ما خلا الدور والأماكن والأفران والحوانيت وغير ذلك، وقد اختُلِفَ في سبب هذا الحريق على أقوال كثيرة، منهم من قال: إنها صاعقة نزلت من السماء، ومنهم من قال: إن الأرض كأن النار تنبع منها، ثم بعد ذلك بأيام أشيع أن الذي كان يفعل ذلك ويلقي النار في الأماكن هم جماعة من القرمانية ممن أحرق العسكر المصري أمكنَتَهم لما توجهوا إلى تجريدة ابن قرمان، وشاع القولُ في أفواه الناس، ثم ظهر للناس بعد ذلك أن الذي صار يحرق من الأمكنة بالقاهرة وغيرها بعد حريق بولاق إنما هو مِن فِعلِ المماليك الجلبان، لينهبوا ما في بيوت الناس عندما تُحرق، فإنه تداول إحراق البيوت أشهرًا، ثم تداول الحريق بعد ذلك بخط بولاق والقاهرة، وقوي عند الناس أن الذي يفعل ذلك إنما هو من تركمان ابن قرمان، ثم وقع الحريق أيضًا في شعبان بأماكن كثيرة، وتداول الحريق بالقاهرة وظواهرها، وضرَّ ذلك كثيرًا بحال الناس، وقد قوي عندهم أن ذلك من فعل القرمانية والمماليك الأجلاب: يعنون بالقرمانية والأجلاب أن القرمانية إذا فعلوا ذلك مرةً ويقع الحريق، فتَنهَبُ المماليك الأقمشة وغيرها لِما يطلبون الدور المحروقة للطفي، فلما حسن ببال المماليك ذلك صاروا يفعلون ذلك.
لمَّا فَتَح يَزيدُ بن المُهَلَّب قُهِسْتان وجُرْجان طَمِعَ في طَبَرِسْتان أن يَفْتَحها، فَعَزَم على أن يَسيرَ إليها، فاسْتَعمَل عبدَ الله بن المُعَمَّر اليَشْكُرِيَّ على السَّاسان وقُهِسْتان، وخَلَّفَ معه أَربعةَ آلاف، ثمَّ أَقبَل إلى أَدانِي جُرجان مما يَلِي طَبَرِسْتان، فاسْتَعمَل على أَيْذُوسا راشِدَ بن عَمرٍو، وجَعَلَه في أَربعةِ آلاف، ودَخَل بِلادَ طَبَرِسْتان، فأَرسَل إليه الإِصْبَهْبَذ صاحِبُها يَسألُه الصُّلْحَ وأن يَخرُج مِن طَبَرِسْتان، فأَبَى يَزيدُ، ورَجَا أن يَفْتَتِحَها، ووَجَّه أَخاهُ أبا عُيَينَة مِن وَجْهٍ، وابنَه خالدَ بن يَزيدَ مِن وَجْهٍ، وأبا الجَهْم الكَلْبِيَّ مِن وَجْهٍ، وقال: إذا اجْتَمعتُم فأَبُو عُيينَة على النَّاس. فسار أبو عُيينَة وأقام يَزيدُ مُعَسْكِرًا, واسْتَجاش الإصْبَهْبَذ أَهلَ جِيلان والدَّيْلَم، فأَتوه فالْتَقوا في سَفْحِ جَبلٍ، فانْهَزَم المشركون في الجَبلِ، فاتَّبَعهُم المسلمون حتَّى انْتَهوا إلى فَمِ الشِّعْبِ، فدَخلَه المسلمون وصَعَد المشركون في الجَبلِ واتَّبَعَهم المسلمون يَرومُون الصُّعود، فرَماهُم العَدُوُّ بالنِّشابِ والحِجارَةِ، فانْهَزَم أبو عُيينَة والمسلمون يَركَب بَعضُهم بَعضًا، يَتَساقَطون في الجَبلِ حتَّى انْتَهوا إلى عَسْكَرِ يَزيدَ، وكَفَّ عَدُوُّهم عن اتِّباعِهم، وخافَهُم الإصْبَهْبَذ، فكان أَهلُ جُرجان ومُقَدِّمُهم المَرْزبان يَسأَلُهم أن يُبَيِّتُوا مَن عندهم مِن المسلمين، وأن يَقطَعوا عن يَزيدَ المادَّةَ والطَّريقَ فيما بينه وبين بِلادِ الإسلام، ويَعِدُهم أن يُكافِئَهم على ذلك، فثاروا بالمسلمين، فقَتَلوهُم أَجمعين وهُم غارُون في لَيلةٍ، وقُتِلَ عبدُ الله بن المُعَمَّر وجَميعُ مَن معه فلم يَنْجُ منهم أَحَدٌ، وكَتَبوا إلى الإصْبَهْبَذ بِأَخْذِ المَضايِق والطُّرُق. وبَلَغ ذلك يَزيدَ وأَصحابَه فعَظُمَ عليهم وهالَهُم، وفَزِعَ يَزيدُ إلى حَيَّان النَّبَطِي وقال له: لا يَمنَعك ما كان مِنِّي إليك مِن نَصيحَة المسلمين، وقد جاءَنا عن جُرجان ما جاءَنا، فاعْمَل في الصُّلْح. فقال: نعم. فأَتَى حَيَّانُ الإصْبَهْبَذ فقال: أنا رَجُلٌ منكم، وإن كان الدِّينُ فَرَّقَ بيني وبينكم، فأنا لكم ناصِح، فأنت أَحَبُّ إِلَيَّ مِن يَزيدَ، وقد بَعَث يَسْتَمِدُّ وأَمْدادُه منه قَريبَة، وإنَّما أصابوا منه طَرَفًا، ولست آمَن أن يأتيك مَن لا تقوم له، فأَرِحْ نَفسَك وصالِحْه، فإن صالَحتَه صَيَّرَ حَدَّهُ على أَهلِ جُرجان بِغَدْرِهِم وقَتْلِهم أَصحابَه. فصالَحَهُ على سَبعمائة ألف، وقِيلَ: خَمسمائة ألف، وأربعمائة وَقْرِ زَعْفَران، أو قِيمتِه مِن العَيْنِ، وأَربعمائة رَجُلٍ، على كُلِّ رَجُلٍ منهم تُرْسٌ وطَيْلَسان، ومع كُلِّ رَجُل جامٌ مِن فِضَّة وخِرْقَة حَرير وكُسْوَة. ثمَّ رَجَع حَيَّانُ إلى يَزيدَ، فقال: ابْعَث مَن يَحْمِل صُلْحَهُم. فقال: مِن عندهم أو مِن عندنا؟ قال: مِن عندهم. وكان يَزيد قد طابت نَفسُه أن يُعطِيَهم ما سَأَلوا ويَرجِع إلى جُرجان، فأَرسَل إلى يَزيد مَن يَقبِض ما صالَحَهم عليه حَيَّان.
اشتَدَّت الوحشةُ بين مُؤنِسٍ الخادمِ والمُقتَدِر بالله، وتفاقَمَ الحالُ وآل إلى أن اجتَمَعوا على خَلعِ المُقتَدِر وتولية القاهِرِ محمَّد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافةِ وسَلَّموا عليه بها، ولقَّبوه القاهر بالله، وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقَلَّدَ عليَّ بنَ مقلة وزارته، وولى نازوك الحُجُوبة مضافًا إلى ما بيده من الشُّرطة، وألزم المقتَدِر بأن كتب على نفسِه كتابًا بالخَلعِ مِن الخلافة، وأشهد على نفسِه بذلك جماعةً من الأمراء والأعيان، وسلَّم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسُف، فقال لولده الحُسَين احتفظ بهذا الكتابِ، فلا يريَنَّه أحَدٌ مِن خَلقِ الله، ولَمَّا أعيدَ المقتَدِرُ إلى الخلافة بعد يومينِ رَدَّه إليه، فشَكَره على ذلك جدًّا وولَّاه قضاءَ القُضاةِ، فلمَّا كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهِرُ بالله في منصب الخلافة، وجلس بين يديه الوزيرُ أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العُمَّال بالآفاق يُخبِرُهم بولاية القاهِرِ بالخلافة عِوضًا عن المقتدر، فلما كان يوم الاثنين جاء الجندُ وطلبوا أرزاقَهم وشَغَّبوا، وبادروا إلى نازوك فقَتَلوه، وكان مخمورًا، ثمَّ صلبوه، وهرب الوزيرُ ابنُ مقلة، وهرب الحُجَّاب ونادوا يا مُقتَدِرْ يا منصور، ولم يكن مؤنسٌ يومئذٍ حاضِرًا، وجاء الجندُ إلى باب مؤنسٍ يُطالِبونَه بالمُقتَدِر، فأغلق بابَه دونهم، فلما رأى مؤنِسٌ أنَّه لا بُدَّ مِن تسليم المقتَدِر إليهم أمَرَه بالخروج، فخاف المقتَدِرُ أن يكون حيلةً عليه، ثم تجاسَرَ فخرج فحَمَلَه الرجالُ على أعناقهم حتى أدخلوه دارَ الخلافة، فسأل عن أخيه القاهرِ وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتُبَ لهما أمانًا، فما كان عن قريبٍ حتى جاءه خادِمٌ ومعه رأسُ أبي الهيجاء قد احتَزَّ رأسَه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلَسَه بين يديه واستدعاه إليه، وقبَّلَ بين عينيه، وقال: يا أخي أنت لا ذنبَ لك، وقد علمتُ أنَّك مُكرَهٌ مقهورٌ، والقاهرُ يقول: اللهَ اللهَ، نفسي يا أمير المؤمنين، فقال: لا جرى عليك مني سوءٌ أبدًا، وعاد ابنُ مقلة فكتب إلى الآفاقِ يُعلِمُهم بعَودِ المقتدر إلى الخلافة، ورجَعَت الأمورُ إلى حالها الأوَّل، وكان ابنُ نفيس من أشَدِّ الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافةِ خرج من بغداد متنكِّرًا فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحِقَ بالقسطنطينيَّة، فتنصر بها مع أهلِها، وقرَّرَ أبا علي بن مقلة على الوزارةِ، وولَّى محمد بن يوسف قضاءَ القضاة، وجعل محمَّدًا أخاه - وهو القاهِرُ - عند والدته بصفةِ محبوسٍ عندها، فكانت تحسِنُ إليه غايةَ الإحسان، وتشتري له السراريَّ وتُكرِمُه غايةَ الإكرامِ.
لَمَّا مَلَك الخطا بلادَ ما وراءَ النَّهرِ، خَرَجَ منها الغُزُّ الأتراكُ وهم طائفةٌ مِن مُسلِمي التُّركِ، كانوا بما وراء النَّهرِ، فقَصَدوا خراسان وكانوا خَلقًا كثيرًا، فأقاموا بنواحي بَلخٍ يَرْعَون في مراعيها، فأراد الأميرُ قماج وهو صاحِبُ بلخ، إبعادَهم، فصانعوه بشَيءٍ مِن المال بَذَلوه له، فعاد عنهم، فأقاموا على حالةٍ حَسَنةٍ لا يؤذونَ أحدًا، يُقيمونَ الصَّلاةَ, ويُؤتُونَ الزَّكاةَ, ثمَّ إنَّ قماج عاوَدَهم وأمَرَهم بالانتِقالِ عن بلَدِه، فامتَنَعوا، وانضَمَّ بَعضُهم إلى بعضٍ، واجتَمَعَ معهم غَيرُهم من طوائِفِ التُّركِ، فسار قماج إليهم في عَشرةِ آلافِ فارِسٍ، فجاء إليه أمراؤُهم وسألوه أن يَكُفَّ عنهم، ويَترُكَهم في مَراعيهم، ويُعطونَه مِن كلِّ بَيتٍ مِئَتي دِرهمٍ فِضَّة، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، وشَدَّدَ عليهم في الانتزاحِ عن بَلَدِه، فعادوا عنه، واجتَمَعوا وقاتلوه، فانضَمَّ إليه العسكَرُ الخُراساني, فلمَّا سَمِعوا بقُربِ الغز الأتراك منهم أجفَلوا مِن بينِ يَدَيه هاربين؛ لِما دخَلَ قُلوبَهم مِن خَوفِهم والرُّعبِ منهم؛ فلَمَّا فارقها السُّلطانُ سنجر والعَسكَر، دخَلَها الغز ونَهَبوها أفحَشَ نَهبٍ وأقبَحَه، وذلك في جمادى الأولى من هذه السَّنةِ، وقُتِلَ بها كثيرٌ مِن أهلِها وأعيانِها، ولَمَّا خرج سنجر مِن مَروٍ قَصَدَ إندرابة وأخَذَه الغزُّ أسيرًا، ثم عاودوا الغارةَ على مَروٍ في رَجَب مِن هذه السَّنةِ، فمَنَعَهم أهلُها، وقاتلوهم قِتالًا بَذَلوا فيه جُهدَهم وطاقَتَهم، ثمَّ إنَّهم عَجَزوا، فاستَسلَموا إليهم، فنَهَبوها أقبَحَ مِن النَّهبِ الأوَّلِ ولم يتركوا بها شَيئًا، وكان قد فارق سنجر جميعُ أمراءِ خُراسان ووزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، ولم يَبْقَ عِندَه غيرُ نَفَرٍ يَسيرٍ مِن خواصِّه وخدَمِه، فلمَّا وصلوا إلى نيسابور أحضروا المَلِكَ سُليمان شاه بن السُّلطان محمد، فوصَلَ إلى نيسابور تاسِعَ عَشَرَ مِن جمادى الآخرة مِن هذه السَّنةِ، فاجتمعوا عليه، وخَطَبوا له بالسَّلطنةِ، وسار في هذا الشَّهرِ جَماعةٌ مِن العَسكَرِ السُّلطاني إلى طائفةٍ كَثيرةٍ مِن الغز، فأوقعوا بهم، وقَتَلوا منهم كثيرًا، وانهزم الباقونَ إلى أمرائِهم الغزيَّةِ فاجتَمَعوا معهم، ولَمَّا اجتَمَعَت العساكِرُ على المَلِك سُليمان شاه ساروا إلى مَرْوٍ يَطلُبونَ الغز، فبَرَز الغز إليهم، فساعةَ رآهم العَسكَرُ الخراساني انهزموا وولَّوا على أدبارِهم، وقَصَدوا نيسابور، وتَبِعَهم الغز، فمَرُّوا بطوس، فنَهَبوها، وسَبَوا نِساءَها، وقَتَلوا رجالَها، وخَرَّبوا مساجِدَها ومساكِنَ أهلِها، ولم يَسلَمْ مِن جَميعِ ولاية طوس إلَّا البلد الذي فيه مَشهَدُ عليِّ بنِ موسى الرضي، ومواضِعُ أُخَرُ لها أسوار، وساروا منها إلى نيسابور، فوَصَلوا إليها في شَوَّال سنة 549، ولم يَجِدوا دونها مانِعًا ولا مُدافعًا، فنهبوها نهبًا ذريعًا، وقَتَلوا أهلَها، فأكثَروا حتى ظنُّوا أنَّهم لم يُبقوا بها أحدًا، حتى إنَّه أُحصِيَ في مَحلَّتَينِ خَمسةَ عشَرَ ألفَ قَتيلٍ مِن الرجال دونَ النِّساءِ والصِّبيانِ، وسَبَوا نساءَها وأطفالها، وأخَذوا أموالهم، وبَقِيَ القتلى في الدُّروبِ كالتِّلالِ بَعضُهم فوقَ بَعضٍ، واجتَمَع أكثَرُ أهلِها بالجامِعِ المنيعي وتحصَّنوا به، فحصَرَهم الغز فعَجَزَ أهلُ نيسابور عن مَنْعِهم، فدخل الغزُّ إليهم فقَتَلوهم عن آخِرِهم، وكانوا يَطلُبونَ مِن الرَّجُلِ المال، فإذا أعطاهم الرجُلَ مالَه قَتَلوه، وقتلوا كثيرًا مِن أئمَّةِ العُلَماءِ والصَّالحينَ، وأحرقوا ما بها من خزائِنِ الكُتُبِ، ولم يَسلَمْ إلَّا بَعضُها. وحَصَروا شارستان، وهي منيعةٌ، فأحاطوا بها، وقاتَلَهم أهلُها مِن فوقِ سُورِها، وقصدوا جوين فنَهَبوها، وقاتَلَهم أهل بحراباذ من أعمالِ جوين، وبَذَلوا نفوسَهم لله تعالى، وحَمَوا بَيضَتَهم, والباقي أتى النَّهبُ والقتلُ عليه، ثمَّ قصدوا أسفرايين فنَهَبوها وخَرَّبوها، وقتلوا في أهلِها فأكثَروا، ولَمَّا فَرَغَ الغزُّ مِن جوين وأسفرايين عاودوا نيسابور، فنَهَبوا ما بَقِيَ فيها بعد النَّهبِ الأول، وكان قد لحِقَ بشَهرستان كثيرٌ مِن أهلها، فحَصَرَهم الغزُّ واستولوا عليها، ونَهَبوا ما كان فيها لأهلِها ولأهلِ نيسابور، ونهبوا الحرمَ والأطفال، وفَعَلوا ما لم يفعَلْه الكُفَّارُ مع المُسلِمينَ، وكان العَيَّارون أيضًا ينهَبونَ نيسابورَ أشَدَّ مِن نهبِ الغُز ويفعلونَ أقبَحَ مِن فِعْلِهم، ثمَّ إنَّ أمرَ الملكِ سُليمانَ شاه ضَعُفَ، وكان قبيحَ السِّيرةِ سَيِّئ التدبيرِ، وإنَّ وَزيرَه طاهِرَ بنَ فخر الملك بن نظام الملك توفِّيَ في شوال سنة 548 فضَعُفَ أمرُه، واستوزر سُلَيمان شاه بعده ابنَه نظم الملك أبا علي الحَسَن بن طاهر وانحَلَّ أمرُ دَولَتِه بالكليَّة، ففارق خراسان في صفر سنة 549 وعاد إلى جرجان، فاجتمَعَ الأُمَراءُ وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابنُ أخت السُّلطان سنجر، وخَطَبوا له على منابِرِ خُراسان، واستدعَوه إليهم، فمَلَّكوه أمورهم، وانقادوا له في شوال سنة 549، وسارُوا معه إلى الغزِّ وهم يحاصِرونَ هراة، وجرت بينهم حروبٌ، كان الظَّفَرُ في أكثَرِها للغز، ورَحَلوا في جُمادى الأولى من سنة 550 مِن على هراة إلى مَرْوٍ، وعاودوا المُصادرةَ لأهلِها.
حصلت الكارثة الذَّرِّية بتاريخ 6 آب/ أغسطس عام 1945م عندما أمرت حكومة الرئيس الأمريكي هاري ترومان بإلقاء القنبلة الذرية على اليابان. عندما رفضت اليابان الإنذارَ الأمريكي بالاستسلام غير المشروط، فأغار الطيرانُ الأمريكي على وسط مدينة هيروشيما، وألقى القنبلةَ الذرية المعبَّأة باليورانيوم والتي كانت تزِنُ أكثَرَ 4.5 أطنان من على ارتفاع 1980 قدمًا عند الساعة الثامنة والربع من صباح ذلك اليوم، عندما كان معظم سكان المدينة في الشوارع متَّجِهين لأعمالهم؛ لتتحول المدينة بعد دقائق قليلة إلى كومة من اللهب والرماد، وبمحيط انفجار بلغ 13كم2، وذلك في أكبر تفجير عالمي كان معروفًا حتى ذلك الوقت!! وأسفرت هذه الكارثة عن سقوط نحو 140 ألف قتيل؛ نحو 30 % من عدد السكان، ومثلهم من الجرحى الذين مات معظمُهم لاحقًا متأثرين بالتسمم الإشعاعي الناتج عن التفجير، فيما وصل ارتفاع سحب الدخان الناتج عن الانفجار إلى 1000 متر فوق سطح المدينة، وبعد مرور نحو ساعتين على الانفجار سقطت أمطارٌ سوداء شحمية في أماكِنَ متفرقة من المدينة كانت بفعل اختلاط أبخرة الماء مع المواد المشِعَّة! ورغم إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما رفضت حكومةُ اليابان بقيادة الإمبراطور هيرو هيتو الاستجابةَ للإنذار الذي وجَّهه لها ترومان بالاستسلامِ، فأعطى الأخيرُ أوامره بإلقاء قنبلة أخرى في 9 أغسطس على مدينة ناغازاكي اليابانية بعد ثلاثة أيام من قنبلة هيروشيما؛ حيث شملت هذه الكارثة تدميرَ مساحة 6 كم2، ومقتل نحو 40 ألف ياباني، و70 ألف جريح، وفي النهاية لم تجِدْ طوكيو خيارًا أمامها سوى الاستسلام بعد الخراب الذي لحِقَ بها!! فاستسلمت للحلفاء في 14 أغسطس 1945م، ثم وقَّعَت وثيقة الاستسلام في الثاني من شهر أيلول/ سبتمبر في نفس العام. ولم تقتصر أضرار القنبلة الذرية التي أُلقِيَت على هيروشيما وناغازاكي على وقتِ حدوث الانفجار، بل امتدت إلى سنين طويلة في مستقبل الأجيال؛ بسبب استمرار التأثيرات الضارَّة الناجمة عن التلوُّث الإشعاعي؛ فمن لم يقتل ساعة الانفجار مات بعد ذلك بسبب تأثيرات الإشعاع الضارة التي تشيرُ الدراسات إلى أن تأثيرها مستمِرٌّ حتى اليوم!! وتتسبَّبُ في الإصابة بالسرطان، وإصابة المواليد بعيوب خِلقية. وقد قامت إحدى الجامعات اليابانية بدراسةِ آثار الإشعاع الناجم عن القنبلة، فتبين للباحثين أنَّه بين كل 4 مواليد من أبناء الجيل الأوَّل لضحايا الكارثة يصابُ واحد منهم بعيوب خِلقية، ولا يستطيع أحَدٌ في الوقت الحالي أن يقرِّرَ إلى أي حدٍّ مِن الأجيال سيستمر توارثُ آثارِ الإشعاع، كما أدت الكارثة إلى أضرار كبيرة على البيئة والطبيعة!!
استولى مُحمَّدُ بنُ رائق على بلاد الشامِ فدخل حمصَ أوَّلًا فأخذها، ثم جاء إلى دمشقَ وعليها بدر بن عبد الله الإخشيد المعروف ببدر الإخشيد وهو محمَّد بن طغج، فأخرجه ابنُ رائق من دمشق قهرًا واستولى عليها، ثم ركبَ ابن رائق في جيشٍ إلى الرملة فأخذها، ثمَّ إلى عريش مصر فأراد دخولَها فلقيه محمد بن طغج الإخشيدي فاقتتلا هناك فهَزَمه ابنُ رائق واشتغل أصحابُه بالنهبِ ونزلوا بخيام المصريين، فكَرَّ عليهم المصريونَ فقَتَلوهم قتلًا عظيما، وهرب ابنُ رائق في سبعين رجلًا من أصحابه، فدخل دمشقَ في أسوأِ حالٍ وشَرِّها، وأرسل له ابنُ ظغج أخاه أبا نصر بن طغج في جيشٍ فاقتتلوا عند اللجون في رابع ذي الحجة، فهزم ابنُ رائق المصريين وقُتِلَ أخو الإخشيد فيمن قُتل، فغَسَّلَه ابنُ رائق وكفَّنَه وبعث به إلى أخيه بمصرَ وأرسل معه ولَدَه وكتب إليه يحلِفُ أنَّه ما أراد قَتْلَه، ولقد شَقَّ عليه، وهذا ولدي فاقتَدْ منه، فأكرَمَ الإخشيدُ ولدَ مُحمَّد بن رائق، واصطلحا على أن تكونَ الرَّملةُ وما بعدها إلى ديار مصرَ للإخشيد، ويحمِلُ إليه الإخشيد في كلِّ سَنةٍ مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار، وما بعد الرملةِ إلى جهة دمشق تكونُ لابنِ رائقٍ.
سارَ السُّلطانُ ملكشاه في إثْرِ يعقوبَ لِقَتلِه مُقدِّمَ الجَكليَّة, والذي دَخلَ إلى أَخيهِ بكاشغر مُستجِيرًا به، فسَمِعَ السُّلطانُ بذلك، فأَرسلَ إلى مَلِكِ كاشغر يَتوعَّدُه، إن لم يُرسِلهُ إليه، أن يَقصِد بِلادَه، ويَصيرُ هو العَدُوَّ، فخافَ أن يَمنَع السُّلطانَ، فأَدَّاهُ اجتِهادُه إلى أن قَبَضَ على أَخيهِ يعقوبَ، وأَظهرَ أنه كان في طَلَبِه، فظَفَرَ به، وسَيَّرَهُ مع وَلَدِه، وجَماعةٍ من أَصحابِه، وكَّلَهم بيعقوب، وأَرسلَ معهم هَدايا كَثيرةً للسُّلطانِ، وأَمَرَ وَلدَه أنه إذا وَصلَ إلى قَلعةٍ بقُربِ السُّلطانِ أن يَسْمُلَ يعقوبَ ويَتركهُ، فإن رَضِيَ السُّلطانُ بذلك، وإلَّا سَلَّمَه إليه، فحَدثَ أن طغرل بن ينال استَولى على كاشغر وأَخَذَ صاحبَها أخا يعقوب, فأَطلَقوا يعقوبَ، فلمَّا رأى السُّلطانُ ذلك ورأى طَمَعَ طغرل بن ينال، ومَسيرَه إلى كاشغر، وقَبْضَ صاحِبِها، ومِلْكِه لها مع قُرْبِه منه، خاف أن يَنحَلَّ بَعضُ أَمرِه وتَزولَ هَيبتُه، وعَلِمَ أنه متى قَصدَ طغرل سار من بين يَديهِ، فإن عادَ عنه رَجعَ إلى بِلادِه، وكذلك يعقوب أخو صاحِبِ كاشغر، وأنه لا يُمكِنُه المَقامُ لِسِعَةِ البِلادِ وراءَهُ وخَوْفِ الموتِ بها، فوَضعَ تاجَ المُلْكِ على أن يَسعَى في إصلاحِ أَمرِ يعقوب معه، ففَعلَ ما أَمرَهُ به السُّلطانُ، فاتَّفَقَ هو ويعقوبُ، وعاد إلى خراسان، وجَعلَ يعقوبَ مُقابِلَ طغرل يَمنعُه من القُوَّةِ، ومِلْكِ البلادِ، وكلٌّ منهما يقوم في وَجهِ الآخرِ.