عَزَل يَزيدُ بن عبدِ الملك عبدَ الرَّحمن بن الضَّحَّاك عن المَدينَة ومَكَّة، وكان عامِلَهُ عليهما ثلاثَ سِنين، ووَلَّى عبدَ الواحِد النَّضْري، وكان السَّبَب في عَزْلِه أنَّه خَطَب فاطِمَة بِنتَ الحُسين بن عَلِيٍّ فقالت: ما أُريدُ النِّكاحَ، ولقد قَعَدتُ على بَنِيِّ هؤلاء. فأَلَحَّ عليها وقال: لئن لم تَفعَلي لأَجْلِدَنَّ أَكبرَ بَنِيك في الخَمْرِ. فبَعَثَتْ كِتابًا إلى الخَليفَة تُخبِرُه بِخَبرِه. فأَخَذ الكِتابَ فَقَرأهُ وجَعَل يَضرِب بِخَيْزران في يَدهِ ويَقولُ: لقد اجْتَرأ ابنُ الضَّحَّاك، هل مِن رَجُلٍ يُسْمعني صَوتَه في العَذابِ؟ قِيلَ له: عبدُ الواحِد بن عبدِ الله النَّضْرِي. فكَتَب بِيَدِه إلى عبدِ الواحد: قد وَلَّيْتُكَ المَدينَة فاهْبِط إليها واعْزِل عنها ابنَ الضَّحَّاك، وأَغْرِمْهُ أَربعين ألفَ دِينارٍ، وعَذِّبْهُ حتَّى أَسمعَ صَوتَه وأنا على فِراشي. وكان ابنُ الضَّحَّاك قد آذَى الأَنْصارَ طُرًّا، فهَجاهُ الشُّعَراءُ وذَمَّهُ الصَّالِحون، ولمَّا وَلِيَهم النَّضْرِيُّ أَحسَن السِّيرةَ فأَحَبُّوه، وكان خَيِّرًا يَسْتَشيرُ فيما يُريدُ فِعلَه القاسِمَ بن محمَّد وسالِمَ بن عبدِ الله بن عُمَر.
لَمَّا فرغ محمَّدُ بن حميد الطوسي مِن أمْرِ المتغَلِّبينَ على طريقِه إلى بابك الخُرمي سار نحوه وقد جمع العساكر، والآلاتِ والميرة، فاجتمع معه عالمٌ كثير من المتطوِّعةِ مِن سائر الأمصار، فسلك المضايقَ إلى بابك، وكان كلَّما جاوز مضيقًا أو عقبةً ترك عليه من يحفَظُه من أصحابِه إلى أن نزل بهشتادسر (جبل في إيران)، وحفَر خندقًا وشاور في دخولِ بلد بابك، فأشاروا عليه بدخولِه مِن وجهٍ ذكروه له، فقَبِلَ رأيهم، وعبَّأ أصحابه، فكان بابك يُشرِفُ عليهم من الجبل، وقد كمَنَ لهم الرجالُ تحت كلِّ صخرةٍ، فلما تقدَّمَ أصحابُ محمد، وصَعِدوا في الجبل خرج عليهم الكُمَناء وانحدر بابك إليهم فيمن معه، وانهزم الناسُ، وصبَرَ محمَّد بن حميد مكانَه، وفرَّ من كان معه غيرَ رجلٍ واحد، وسارا يطلبانِ الخلاص، فرأى جماعةً وقِتالًا فقَصَدهم، فرأى الخرميَّة يقاتلونَ طائفةً مِن أصحابه، فحين رآه الخرميَّة قصدوه؛ لِما رأَوا من حسن هيئتِه، فقاتَلَهم، وقاتلوه، وضربوا فَرَسه بزراق، فسقط إلى الأرضِ، وأكبُّوا على محمد بن حميد فقتلوه.
بعد أن أنهى الله فتنةَ بابك الخرمي، وقضى عليه وعلى جيشِه الأفشينُ ومن معه، وقبض على بابك وحَبَسه وراسَلَ المعتَصِمَ فأمره بتسييرهم إليه, فدخل الأفشينُ وبِصُحبتِه بابك على المعتَصِم سامرَّا، ومعه أيضًا أخو بابك في تجمُّلٍ عظيم، وقد أمر المعتَصِمُ ابنَه هارونَ الواثِقَ أن يتلقَّى الأفشين، وأمَرَ بابك أن يركَبَ على فيلٍ ليُشهَرَ أمرُه ويعرفوه، وعليه قباءُ ديباج وقَلَنْسُوة سمور مدورة، وقد هيؤوا الفيل وخَضَبوا أطرافَه ولَبَّسوه من الحرير والأمتعة التي تليق به شيئًا كثيرا، ولَمَّا أُحضِرَ بين يدي المعتَصِم أمر بقطعِ يَدَيه ورجليه وجَزِّ رأسِه وشَقِّ بَطنِه، ثم أمرَ بحَملِ رأسِه إلى خراسانِ وصَلبِ جُثَّته على خشبةٍ بسامِرَّا، وكان بابك قد شَرِبَ الخمرَ ليلةَ قَتلِه. لَمَّا قتَلَ المعتَصِمُ بابك الخرميَّ توَّجَ الأفشينَ وقلَّدَه وِشاحَينِ مِن جوهرٍ، وأطلق له عشرينَ ألفَ ألف درهمٍ، وكتب له بولايةِ السِّندِ، وأمَرَ الشعراءَ أن يدخُلوا عليه فيمدحوه على ما فعلَ مِن الخيرِ إلى المسلمين، وعلى تخريبِه بلادَ بابك التي يقال لها البذُّ، وتَرْكِه إيَّاها قِيعانًا وخَرابًا.
خرَجَ التُّركُ- وهم وثنيُّونَ- مِن الصِّينِ، وكان سبَبُ خُروجِهم أنَّ طغان خان مَلِكَ تُركستان التُّركي كان مُسلِمًا فاضِلًا يُحِبُّ أهلَ العِلمِ والدِّينِ. لَمَّا مَرِضَ مرضًا شديدًا، وطال به المَرَضُ، طَمِعوا في البلادِ لذلك، فساروا إليها ومَلَكوا بعضَها وغَنِموا وسَبَوا، وبَقِيَ بينهم وبين بلاساغون ثمانيةُ أيام، فلمَّا بلَغَه الخبَرُ كان بها مريضًا، فسألَ اللهَ تعالى أن يُعافِيَه لِينتَقِمَ مِن الكَفَرةِ، فاستجابَ اللهُ له وشفاه، فجمَعَ العساكِرَ، وكتب إلى سائِرِ بلادِ الإسلامِ يَستنفِرُ النَّاسَ، فاجتمع إليه من المتطَوِّعةِ مئةُ ألف وعِشرون ألفًا، فلمَّا بلغ التُّركَ خَبَرُ عافيتِه وجَمْعِه العساكِرَ وكَثرةُ مَن معه، عادوا إلى بلادِهم، فسار خَلْفَهم نحوَ ثلاثةِ أشهُرٍ حتى أدرَكَهم وهم آمنونَ لبُعدِ المسافةِ، فكبَسَهم وقَتَلَ منهم زيادةً على مِئَتي ألف رجلٍ، وأسَرَ نحوَ مئةِ ألف، وغَنِمَ مِن الدوابِّ وغير ذلك من الأواني الذهبيَّةِ والفضيَّة ومعمول الصينِ ما لا عهدَ لأحدٍ بمِثلِه، وعاد إلى بلاساغون، فلَمَّا بلَغَها عاوَدَه مَرَضُه فمات منه.
سار الفرنجةُ إلى أنطاكية ولم ينازلوها، وجاؤوا إلى المعرَّة فنصبوا عليها السَّلالم فنزلوا إليها فقَتَلوا من أهلها مائة ألف إنسان، وسَبَوا مثلها. ثمَّ دخلوا كفر طاب وفعلوا مثل ذلك، وعادوا إلى أنطاكية، وكان بها الأميرُ باغي سيان، وكان على الفرنج صنجيل، فحاصرها مدَّة، فنافق رجلٌ من أنطاكية يقال له فيروز,, وفتح لهم في الليل شبَّاكًا فدخلوا منه, قال أبو يعلى بن القلانسي: "في جمادى الأولى ورد الخبر بأنَّ قومًا من أهل أنطاكية عملوا عليها وواطؤوا الفرنجَ على تسليمها إليهم لإساءة تقدَّمت من حاكم البلد في حقِّهم ومصادرته لهم، ووجدوا الفرصةَ في برج من الأبراج التي للبلد مما يلى الجبل، فباعوهم إيَّاه، وأصعدوا منه في السَّحَر وصاحوا، فانهزم ياغي سيان وخرج في خلقٍ عظيمٍ، فلم يسلم منهم شخصٌ! فسقط الأمير عن فرسه عند معرَّة مصرين، فحمله بعضُ أصحابه وأركبه فلم يَثبُت على ظهر الفرس وسقط ثانيًا فمات. وأمَّا أنطاكية فقتل منها وسُبي من الرجال والنساء والأطفال ما لا يدرِكُه حصر، وهرب إلى القلعة قدر ثلاثة آلاف تحصَّنوا بها".
اجتَمعَ جَمْعٌ كَثيرٌ من الإسماعيليةِ من قهستان، بلغت عُدَّتُهم سَبعةَ آلافِ رَجلٍ ما بين فارسٍ وراجلٍ، وساروا يُريدون خُراسانَ لاشتِغالِ عَساكرِها بالأَتراكِ الغُزِّ، وقَصَدوا أَعمالَ خواف وما يُجاوِرُها، فلَقِيَهم الأَميرُ فرخشاه بن محمود الكاسانيُّ في جَماعةٍ من حَشَمِه وأَصحابِه، فعَلِمَ أنه لا طاقةَ له بهم، فتَرَكهُم وسار عنهم، وأَرسلَ إلى الأَميرِ محمدِ بن أنر، وهو مِن أَكابرِ أُمراءِ خُراسان وأَشْجَعِهِم، يُعرِّفُه الحالَ، وطلب منه المَسيرَ إليهم بعَسكَرِه ومَن قَدَرَ عليه من الأُمراءِ ليَجتَمِعوا عليه ويُقاتِلوهُم، فسار محمدُ بن أنر في جَماعةٍ من الأُمراءِ وكَثيرٍ من العَسكرِ، واجتَمَعوا هم وفرخشاه، وواقَعُوا الإسماعليةَ وقاتَلوهُم، وطالَت الحَربُ بينهم، ثم نَصَرَ الله المسلمين وانهَزَم الإسماعيليةُ، وكَثُرَ القَتلُ فيهم، وأَخَذَهُم بالسَّيفِ مِن كلِّ مَكانٍ، وهَلَكَ أَعيانُهم وسادَتُهم. بَعضُهم قُتِلَ، وبَعضُهم أُسِرَ، ولم يَسلَم منهم إلا القَليلُ الشَّريدُ، وخَلَت قِلاعُهم وحُصونُهم مِن حَامٍ ومانِعٍ، فلَولا اشتِغالُ العَساكرِ بالغُزِّ الأَتراكِ (التُّركمان) لكانوا مَلَكوها بلا تَعَبٍ ولا مَشَقَّةٍ، وأَراحُوا المسلمين منهم، ولكن لله أَمْرٌ هو بالِغُه.
خرج جَماعةٌ مِن بلاد المغرب يريدون أرضَ مِصرَ لأداء فريضة الحجِّ، وساروا في بحر الملح، فألقَتْهم الريحُ إلى جزيرة صقلية، فأخذهم النصارى وما معهم، وأتَوا بهم إلى مَلِك صقلية، فأوقَفَهم بين يديه وسألهم عن حالِهم، فأخبروه أنَّهم خرجوا يريدون الحَجَّ، فألقَتْهم الريحُ إلى هنا، فقال: أنتم غنيمةٌ قد ساقكم الله إليَّ، وأمَرَ بهم أن يُقَيَّدوا حتى يُباعُوا ويُستَخدَموا في مِهَنِهم! وكان من جُملَتِهم رجلٌ شَريفٌ، فقال له على لسانِ تَرجُمانه: أيُّها المَلِكُ، إذا قَدِمَ عليك ابنُ ملك ماذا تَصنَعُ به؟ قال: أُكرِمُه, قال: وإن كان على غيرِ دينِك؟ قال: وما كرامتُه إلَّا إذا كان على غيرِ ديني! وإلَّا فأهلُ ديني واجِبٌ كرامَتُهم، قال: فإني ابنُ أكبَرِ ملوك الأرضِ، قال: ومَن أبوك؟ قال: عليُّ بنُ أبى طالب رَضِىَ الله عنه، قال: ولم لا قُلتَ: أبي محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلم، قال: خشيتُ أن تَشتُموه، قال: لا نَشتُمُه أبدًا. قال: بيِّنْ لي صِدْقَ ما ادَّعَيْتَ به، فأخرَجَ له نِسْبَتَه وكانت معه في رَقٍّ، فأمر بتخليتِه وتخليةِ مَن معه لسَبيلِهم، وجَهَّزَهم!!
نشبت الحربُ بين الدولة العليَّة وروسيا؛ وذلك أنه لما توفِّيَ أوغست الثالث ملك بولونيا سعت كاترين الثانية إمبراطورة روسيا في تعيين أحد أتباعها مَلِكًا على بولونيا خلافًا لِما تعهَّدت به روسيا للدولة العلية؛ ولذلك تنبهت الدولة العلية إلى نتيجةِ هذه السياسة وعَلِمَت أنها إن لم تضَعْ حدًّا لتقدم نفوذ روسيا في بولونيا، فلا تلبث بولونيا أن تُمحى من العالم السياسي بانضمامها لروسيا أو بتجزئتِها بينها وبين مجاوريها، لكن كان تنبُّه الدولة هذا بعد فوات الوقت المناسب، فإنه كان يجِبُ عليها مساعدة السويد وبذْل النفس والنفيس في حفظ ولايتها الواقعةِ على البلطيق من الوقوع في أيدي روسيا، ومع كل هذا فقد أرادت الدولة العليَّةُ استدراك ما فات وأوعزت إلى كريم كراي خان القرم أن يعلِنَ الحرب على روسيا، فأغار بخيله ورَجِلِه على إقليم سربيا الجديدة الذي عمرته روسيا، مع أن المعاهدات التي بينها وبين الدولتين تنصُّ على منع وصول المساعدة من خان القرم إلى بولونيا, وكانت نتيجةُ إغارة كريم كراي على هذه الولاية خرابًا كثيرًا من المستعمرات الروسية، وعودته بكثير من الأسرى، وتوفِّي قبل أن تنتهي الحرب التي استمرت حتى عام 1187هـ.
في السَّادِس من حُزَيران سنة 1982م اجتاحت إسرائيلُ صَيْدا بقُوَّاتها البَريَّةِ والجَويَّةِ والبَحْريَّةِ بوحشيَّةٍ وحِقدٍ، فدمَّرت بُيوتًا، وقتلت الأبرياءَ، وروَّعت السُّكَّان، وعطَّلتِ الكثيرَ من مَرافِق الحياةِ. وبعد أن سيطرت على أحياءِ صَيْدا والمِنطَقةِ الشرقيَّةِ أخذت تُمارِس الإرهابَ بقَصدِ إذْلالِ الشَّعبِ وتَطبيعِهِ. وكانت تدعو السُّكَّان بواسطة مُكبِّرات الصَّوتِ إلى التجمُّع في الساحاتِ العامَّةِ، وساحِلِ البَحْر، وتفرضُ عليهم الوُقوفَ السَّاعاتِ الطويلةَ في الشَّمس، لا فرقَ عندَهم بين صغيرٍ، أو رجُلٍ، أو مُسِنٍّ، ولا بين طفلٍ، أو وَلَدٍ، أو امرأةٍ، ثم تأمُرُهم بالمرور أمام رجالٍ مُقنَّعينَ، وعندما تصدُرُ إشارةٌ من أحدهم أثناء المرورِ، يُحتجَزُ الشابُّ، ويُساقُ إلى مُعتقَلٍ مُؤقَّت استُحدث في برَّاد الحِمضيات التابع لشَرِكة توضيبِ الحِمْضيَّاتِ، وفي السَّادِسَ عشَرَ من شُباط سنة 1985م انسحبتِ القُوَّات الإسرائيليَّةُ من صَيْدا وجِوارها، فشكَّلَ هذا الانسحابُ خُطوةً مُباركة في مسيرةِ التحريرِ والإنقاذِ، وبراءةٍ جِهاديَّةٍ استحقَّتْها المقاومةُ الإسلاميةُ والوطنيةُ لقاءَ كِفاحها وتضحيَّاتِها. وفي ذلك اليوم الفريدِ تجمَّعَ أهْلُ صَيْدا في الشَّوارِعِ والسَّاحاتِ ليَشهَدَ انسحابَ المُحتلِّ من مدينتِهِ باعتِزازٍ.
لمَّا بلغ الملك المظفَّر سيف الدين قُطز صاحِبَ مِصرَ أنَّ التتارَ قد فعلوا بالشَّامِ ما فعلوه، وقد نهَبوا البلاد كلَّها حتى وصلوا إلى غزَّة، وقد عزم كتبغانوين نائب هولاكو في الشام على الدخولِ إلى مصر، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرفَ صاحِبَ حمص والمجير بن الزكي، فأشاروا عليه بأنَّه لا قِبَل له بالمظفَّر حتى يستَمِدَّ هولاكو فأبى إلا أن يناجزه سريعًا، فبادرهم المظفَّر قطز قبل أن يبادِروه ويبرز إليهم وقد اجتمعت الكلمةُ عليه، فبعد قدومِ الصاحب كمال الدين بن العديم رسولًا من الشام يطلبُ النَّجدةَ على التتار، جمعَ قُطز الأمراءَ والأعيان، وحضر معهم الشيخُ عز الدين بن عبد السلام والقاضي بدر الدين السنجاري، وجلس المَلِكُ المنصور في دَست السلطنة، فاعتمدوا على ما يقولُه الشيخ عز الدين، فكان خلاصته: "إذا طرق العدوُّ البلادَ وجب على العالمَ كُلِّهم قتالُهم، وجاز أن يؤخَذَ مِن الرعيَّة ما يُستعانُ به على جهادِهم، بشرط ألَّا يبقى في بيتِ المال شيءٌ، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائِصِ والآلاتِ، ويَقتَصِر كل منكم على فَرَسِه وسلاحِه، ويتساووا في ذلك هم والعامَّة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاءِ ما في أيدي الجُندِ مِن الأموال والآلاتِ الفاخرةِ فلا"، ثم بعد أيامٍ يسيرةٍ قَبَضَ على المنصور علي بن المعز وقال: هذا صبيٌّ والوقت صعبٌ، ولا بد من أن يقوم رجلٌ شجاع ينتصب للجهادِ فقبض عليه، وتسلطَنَ وتلقَّبَ بالملك المظفر. ثم قَدِمَ الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري من دمشق مهاجرًا إلى مصرَ؛ لخدمة الملك المظفر سيف الدين قطز, فدخل القاهرةَ يوم السبت ثاني وعشرين ربيع الأول سنة ثمان وخمسين، فركب المظفَّر للقائه وأنزله في دارِ الوَزارة وأقطعه قَصبةَ قيلوب لخاصَّتِه، وأشار عليه بيبرس بملاقاة التتار وقَوَّى جأشَه وحَرَّك عزائمه وحرَّضَه على التوجه للقائهم, فخرج المظفَّر قطز يوم الاثنين خامس عشر شعبان بجميع عساكِرِ مِصرَ مع ما انضاف إليهم من العَرَب وغيرهم لقصدِ التتار الذين بالشَّامِ، فلما وصل إلى مرج عكا بلغ بكتبغانوين، مُقَدَّمَ عسكر التتار بالشام خروجُ الملك المظفَّر، وكان في بلد حمص فتوجَّه إلى الغور، وبعث الملك المظفر للأمير ركن الدين البندقداري في عسكرٍ ليتجَسَّس خبَرَ التتار، فلما وقعت عينُه عليهم كتب للملك المظفر يعلِمُه بوصولهم ثمَّ انتهز الفرصةَ في مناوشتهم، فلم يزل يستدرجُهم تارة بالإقبال وتارة بالإحجام حتى وافى بهم إلى المَلِك المظفَّر على عين جالوت فكانت الوقعةُ التي أيَّدَ الله بها المُسلِمينَ على التتارِ، وأخَذَ بها منهم ثأرَ أهلِ الوَبَر والمَدَر، وحاقَ بهم مَكرُ السَّيفِ، وحكَمَ فيهم الحَتفُ بالحَيفِ، وقَتَلوهم وأخذوهم ومعهم مَلِكُهم كتبغانوين، فقُتِلَ وأُخِذَ رأسُه وأُسِرَ ابنه، وكانت الوقعةُ بين المسلمين والتتار على ((عين جالوت)) يومَ الجمعة خامس وعشرين من شهر رمضان المعظَّم، ووصل الخبَرُ إلى دمشق في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فانهزم بتلك الليلة من كان بدمشقَ مِن التتار وأيل سبان نائب الملك وأتباعهم، وتبعهم النَّاسُ وأهل الضياع ينهبونهم ويقتلونَ مَن ظَفِروا به، فلله الحمدُ والشُّكر, ودخل السلطانُ الملك المظفَّر إلى دمشق يوم الأحد رابع شوال، فأقام بها إلى أن خرج منها طالبًا للدِّيار المصرية, ومن العجائِبِ أن التتار كُسِروا وأُهلِكوا بأبناء جنسِهم المماليكِ، وهم من التركِ!! وعَمِل الشيخُ شهاب الدين أبو شامة في ذلك شِعرًا:
غلبَ التَّتارُ على البلادِ فجاءهم
مِن مِصرَ تركيٌّ يجودُ بنَفسِه
بالشَّامِ بدَّدَهم وفَرَّق شَملَهم
ولكلِّ شَيءٍ آفةٌ مِن جِنسِه
وقد قاتل الملكُ المنصورُ صاحِبُ حماة مع المَلِك المظفَّر قِتالًا شَديدًا، وكذلك الأميرُ فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكَر، وقد أُسِرَ من جماعة كتبغانوين المَلِك السعيد بن العزيز بن العادل فأمَرَ المظفَّر بضَرب عُنُقِه، واستأمن الأشرفُ صاحِبُ حمص، وكان مع التَّتارِ وقد جعله هولاكو خان نائبًا على الشام كُلِّه، فأمنه الملك المظفَّر ورَدَّ إليه حمص، وكذلك ردَّ حماة إلى المنصور وزاده المَعَرَّة وغيرها، وأطلق سلمية للأميرِ شَرَف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتَّبَع الأميرُ بيبرس البندقداري وجماعةٌ من الشجعان التتارَ يقتُلونَهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفَهم إلى حَلَب، وهرب مَن بدمشقَ منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلونَ فيهم ويفتِكونَ الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارةُ، ولله الحمدُ على جبرِه إيَّاهم بلُطفِه فجاوبتها دقُّ البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحًا شديدًا، وأيَّدَ اللهُ الإسلامَ وأهله تأييدًا وكَبَت الله النصارى واليهودَ والمنافقين، وظهر دينُ الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمونَ إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصَّليبُ فانتَهَبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النَّارَ فيما حولها، فاحترق دُورٌ كثيرةٌ إلى النصارى، وملأ اللهُ بيوتَهم وقبورَهم نارًا، وأُحرِقَ بعضُ كنيسةِ اليعاقبة، وهمَّت طائفةٌ بنَهبِ اليهود، فقيل لهم إنَّه لم يكن منهم من الطغيانِ كما كان من عَبَدة الصُّلبان، وقَتَلَت العامَّة وسطَ الجامِعِ شَيخًا رافضيًّا كان مُصانِعًا للتتار على أموالِ النَّاسِ يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيثَ الطويَّة مشرقيًّا ممالئًا لهم على أموالِ المسلمين- قبَّحه الله- وقَتَلوا جماعةً مِثلَه من المنافقين، فقُطِعَ دابِرُ القَومِ الذين ظَلَموا والحمدُ لله رب العالَمينَ.
احتفَل آلافُ الفِلَسطينيين في قطاعِ غزَّةَ باتِّفاقِ وَقفِ إطلاقِ النَّار مع إسرائيلَ، وخَرَج آلافُ الفِلَسطينِيِّين في شوارعِ القِطاعِ احتفالًا بالاتِّفاق. واعتَبَرَت حركةُ حماسٍ التي تُسيطِرُ على قطاعِ غزَّةَ أنَّ الاتِّفاقَ يُعَدُّ انتصارًا للمُقاومةِ.
لمَّا وَلِيَ عُمَرُ بن عبدِ العزيز الخِلافَةَ اسْتَعمَل على الأَندَلُس السَّمْحَ بن مالِك الخَوْلاني خَلَفًا للحُرِّ بن عبدِ الرَّحمن الثَّقَفي لِمَا رَأَى مِن أَمانَتِه ودِيانَتِه, وأَمَره أن يُمَيِّز أَرضَها، ويُخرِج منها ما كان عَنْوَةً ويَأخُذ منها الخُمُسَ، ويَكتُب إليه بِصِفَة الأَندَلُس. فقَدِمَها السَّمْحُ، وفَعَل ما أَمَره عُمَرُ، وعَهِدَ إليه بإجْلاءِ المسلمين مِن الأَندَلُس خَشيَةً مِنه على أَرواحِهم، إلَّا أنَّ السَّمْح حين نَزَل الأَندَلُس واطَّلَع على أَحوالِها، طَمْأَنَ الخَليفةَ إلى قُوَّةِ حالِ المسلمين في الأَندَلُس. أَصلَح السَّمْحُ قَنْطَرَةَ قُرْطُبة على نَهرِ الوادي الكَبير, ونَظَّمَ البِلادَ ثمَّ تَوَجَّه لِفَتْحِ ما وَراءَ جِبالِ البرانس، ودَخَل فَرنسا واسْتُشْهِدَ فيها بعدَ مَعركَة تولوز عام 102هـ.
بعد أن عادت الأمور في بغداد للأمين، كان جيشُ المأمون بقيادة طاهر بن الحسين وهَرثمةَ بنِ أعيَنَ قادمًا إلى بغداد، فلمَّا اقتَرَبوا منه عادت الفوضى وخَلَعَت بعضُ الأقاليم الأمين وبايَعَت للمأمون، حتى إنَّ موسم الحج دُعِيَ فيه للمأمون، ثم حاصر الجيشُ بغداد فضَعُفَ أمر الأمين وخاصَّةً أنَّ طاهِرَ بنَ الحسين قد استولى على الضِّياعِ والإنتاجِ، وأجابه كثير من قوَّاد الأمين إلى بيعةِ المأمون، ثم دخل جيشُ المأمون إلى بغداد وحصل القتالُ فيها حتى لم يبقَ مع الأمين إلَّا القليلُ؛ ممَّا اضطَّره إلى طلب الأمانِ من هرثمة بن أعين الذي أمَّنَه وأخذه في سفينةٍ، وقد كان حصل تخريبٌ وتحريقٌ كثيرٌ في بغداد، بدُخولِ الجيشِ وحُصولِ القتالِ، وهذه عادةُ كلِّ فتنةٍ، نسألُ اللهَ السلامةَ.
خرج عَمرُو بنُ سُليم التجيبي- المعروفُ بالقويع- على محمَّدِ بنِ الأغلب أميرِ إفريقيَّة، فسيَّرَ إليه جيشًا، فحصره بمدينةِ تونس، فلم يبلُغوا منه غرضًا فعادوا عنه. فلما دخَلَت سنة خمس وثلاثين سيَّرَ إليه ابن الأغلب جيشًا، فالتَقَوا بالقرب من تونس، ففارق جيشَ ابنِ الأغلب جمعٌ كثيرٌ، وقصدوا القويعَ فصاروا معه، فانهزم جيشُ ابن الأغلب وقَوِيَ القُويع؛ فلما دخلت سنةُ ستٍّ وثلاثين سيَّرَ محمد بن الأغلب إليه جيشًا، فاقتتلوا فانهزم القويعُ، وقتلَ من أصحابِه مَقتَلة عَظيمة، وأدرك القويعَ إنسانٌ، فضرَبَ عُنُقَه، ودخل جيشُ ابن الأغلب مدينة تونس بالسَّيفِ في جمادى الأولى.
بعد أن انتظم الأمرُ في مِصرَ للفاطميِّينَ تهيَّأَ المعِزُّ الفاطميُّ العُبَيديُّ للانتقالِ إليها، فسار بخزائِنِه وتوابيتِ آبائه. وكان دخولُه إلى الإسكندريَّة في شعبان سنة 362 وتلقَّاه قاضي مصر الذهلي وأعيانُها، فأكرمهم وطال حديثُه معهم وأظهر لهم أنَّ قَصْدَه الحَقُّ والجِهادُ، وأن يختِمَ عُمُرَه بالأعمالِ الصالحة، وزعم أنَّه يُقيمُ أوامِرَ جَدِّه رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم، ووعَظَ وذَكَّرَ حتى بكى بعضُهم ثم خلَعَ عليهم. وقال للقاضي أبي الطاهر الذهلي: من رأيتَ مِن الخُلَفاء؟ فقال: واحِدًا. قال: من هو؟ قال مولانا، فأعجَبَه ذلك. ثم إنَّه سار حتى خيَّمَ بالجيزةِ فأخذ عسكرُه في التعدية إلى الفُسطاط، ثم دخل القاهرةَ وقد بُنِيَ له بها قَصرُ الإمارةِ وزُيِّنَت مصر، فاستوى على سريرِ مُلكِه.