كان من قضاء الله عز وجل وما قدَّره في آخر أيام مهرجان كبير عند أهل غرناطة حيث يجتمع فيه جُل أهل غرناطة من رجال ونساء وصبيان وشيوخ وكهول وكثير من أهل القرى حول غرناطة للنزهة، فاجتمعوا في السبيكة من الحمراء وما حولها وامتلأت تلك المواضع بالخلق الكثير، وأقبلت الفرسان وصاروا يتألفون في السبيكة وذلك وقت الضحى، فبينما الناس كذلك في المهرجان إذا بسحابة عظيمة قد أنشأها الله تعالى في السماء فأرعدت وأبرقت وانتشرت من ساعتها بقدرة مكوِّن الأشياء على السبيكة وما قرب منها وعلى غرناطة وما حولها وعلى وادي هداره، وجاءت بمطر عظيم ولم يزل المطر يزداد ويعظم ويكثر حتى صار كالأنهار العظيمة وجاءت السيول من كل ناحية وعظُم أمرها وعاين الناس الهلاكَ مِن عِظَم ما رأوا من شدة المطر وكثرة السيول من كل ناحية، واحتمل السيل الطرق وما حولها وانقطع الناس وحال السيل بينهم وبينها، فكان لا يُسمع إلا بكاء الصبيان وضجيج النسوان وأصوات الرجال بالدعاء إلى الله تعالى والابتهال، إلى أن ارتفع المطر وجاء وادي هداره الذي يشق غرناطة بسيل عظيم احتمل ما على ضفتيه من الأشجار العظام من الجوز واللوز وغير ذلك من الأشجار العظام الثابتة في الأرض، ودخل البلد واحتمل ما على ضفتيه من الدور والحوانيت والمساجد والفنادق ودخل الأسواق، وهدم البناء المشيد ولم يبقَ من القناطير إلا الأقواس، وذهب بكل ما كان عليها من البنيان، ثم جاء السيل بتلك الأشجار العظام التي اقتلعت فتراكمت في البلد في آخر قنطرة منه، فسُدَّت مجاري الوادي فتراكم السيل والشجر في قلب البلد، وعاين الأهالي الهلاكَ ودخل السيل تياره والقيسارية حتى دخل بعض حوانيتها، ووصل إلى رحبة الجامع الأعظم وإلى القراقين والصاغة والحدادين وغير ذلك من الأسواق والدور، فلطف الله تعالى بعباده فنفض السيل بقوة تراكمه بالقنطرة والسور وخرج ذلك كله خارج البلد، وكان هذا اليوم من أعظم الأيام شاهد فيه كل من رآه قدرة القادر القهار الملك العلام سبحانه وتعالى، ولم يسمع المعمَّرون بمثل ذلك اليوم.
سار المعِزُّ الفاطميُّ من إفريقيَّة يريدُ الدِّيارَ المصريَّة، وكان أوَّل مسيرِه أواخِرَ شوَّال سنة 361 وكان أوَّل رحيله من المنصوريَّة، فأقام بسردانيَّة، وهي قريةٌ قريبةٌ مِن القيروان، ولحقه بها رجالُه وعُمَّالُه، وأهلُ بيته وجميعُ ما كان له في قَصرِه مِن أموال وأمتعةٍ وغير ذلك، وسار عنها واستعملَ على بلاد إفريقيَّةَ يوسُفَ بلكين بن زيري، وجعل على صقليَّةَ حسَن بنَ علي بن أبي الحُسَين، وجعل على طرابلس عبدَ الله بن يخلف الكتاميَّ، وجعل على جباية أموالِ إفريقيَّة زيادةَ الله بن القديم، وعلى الخراجِ عبد الجبَّار الخُراساني، وحُسَين بن خلف الموصدي، وأمَرَهم بالانقيادِ ليُوسُف بن زيري، فأقام بسردانيَّة أربعة أشهر حتى فرغ من جميعِ ما يريد، ثم رحل عنها، ومعه يوسُفُ بلكين وهو يوصيه بما يفعَلُه، ثم سار المعِزُّ حتى وصل إلى الإسكندريَّة أواخر شعبان من سنة 362، وأتاه أهلُ مِصرَ وأعيانُها، فلَقِيَهم وأكرَمَهم وأحسن إليهم، وسار فدخل القاهرةَ خامس شهر رمضان سنة 362، وأنزل عساكِرَه مصرَ والقاهرةَ في الديار، وبقي كثيرٌ منهم في الخِيامِ.
كان ابتداءُ أمر السلطان محمد بن ملكشاه، وهو أخو السلطان سنجر لأبيه وأمه، واستفحل إلى أن خُطِب له ببغداد في ذي الحجة من هذه السنة، ثمَّ في صفر من السنة التالية دخل السلطان بركيارق بن ملكشاه أخو السلطان محمد إلى بغداد، ونزل بدار الملك، وأعيدت له الخُطبة، وقُطِعت خُطبة أخيه محمد، ثم سار فالتقى هو وأخوه محمد بمكانٍ قريب من همدان، فهزمه أخوه محمد ونجا هو بنفسِه في خمسين فارسًا، ولَمَّا جرى ما جرى في هذه الوقعة ضَعُف أمر السلطان بركيارق، ثم تراجع إليه جيشُه وانضاف إليه الأميرُ داود في عشرين ألفًا، فالتقى هو وأخوه مع أخيه سنجر فهزمهم سنجر أيضًا، وهرب بركيارق في شرذمةٍ قليلة، وأُسِر الأمير داود فقتله الأميرُ برغش أحد أمراء سنجر، فضَعُف بركيارق وتفرَّقت عنه رجاله، وقُطِعَت خطبته من بغداد في رابع عشر رجب وأعيدت الخُطبة للسلطان محمد، ثم اصطلح الأخوان على أن يحتَفِظَ بركيارق بأصبهان وفارس وعراق العجم، ويكون لأخيه محمد أذربيجان وأرمينية وديار بكر.
أرسل صلاح الدين إلى نور الدين يطلُبُ أن يرسِلَ إليه والِدَه نجم الدين أيوب، فجَهَّزه نور الدين وسَيَّرَه، وسيَّرَ معه عسكرًا، واجتمع معه من التجار خلق كثير، وانضاف إليهم من كان له مع صلاح الدين أُنس وصحبة، فخاف نور الدين عليهم من الفرنجِ، فسار في عساكره إلى الكرك، فحصَرَه وضيَّقَ عليه ونصب عليه المجانيق، فأتاه الخبَرُ أن الفرنج قد جمعوا له، وساروا إليه، وقد جعلوا في مقدمتهم إليه ابن هنفري وقريب بن الرقيق، وهما فارسا الفرنج في وقتهما، فرحل نور الدين نحو هذين المقَدَّمين ليلقاهما ومن معهما قبل أن يلتَحِقَ بهما باقي الفرنج، فلما قاربَهما رجعا واجتمعا بباقي الفرنج, وسلك نور الدين وسطَ بلادهم يسلُبُ ويَحرِق ما على طريقه من القرى إلى أن وصل إلى بلاد الإسلام، فنزل على عشترا، وأقام ينتظِرُ حركة الفرنج ليلقاهم، فلم يَبرَحوا من مكانهم، فأقام هو حتى أتاه خبر الزلزلة الحادثة فرحل, وأما نجمُ الدين أيوب فإنَّه وصل إلى مصر سالِمًا هو ومن معه وخرج العاضِدُ الحاكم الفاطمي فالتقاه؛ إكرامًا له.
لمَّا بلغ الإمامَ عبد العزيز غزوُ الشريف غالب رنية وبيشة، وعدوانُه على قحطان ونزولُه بلد الخرمة (من محافظات منطقة مكة المكرمة) القريبة من تربة. أرسل إلى هادي بن قرملة ومَن لديه من قبائل قحطان، وربيع بن زيد أميرِ الوادي ومن معه من الدواسرِ، وإلى قبائل من أخلاطِ القبائل البوادي، وجيشٍ مِن الحضَرِ، وأمرهم أن يجتمعوا ويكونوا في وجهِ الشريف غالب، فدهموه في منزلِه على الخرمة فانهزم عسكرُه لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، وتركوا خيامَهم ومحَلَّهم وجميع أموالهم، وتَبِعَهم العربان في ساقتِهم يقتلون ويغنمون، ومن نجا من القتل هلك ظمأً وضياعًا، فكانت وقعةً عظيمة ومقتلةً كبيرة في عسكر الشريف من العُربان والقبائل والمصريين والمغاربة, وقيل بلغ عددُ القتلى منهم 2400 قتيل, وأُخذ جميعُ ما معهم من الخيام والذخائر والمتاع, والأثاث والأمتعة التي أخذوها من قحطان قبل هذه الوقعةِ, وغَنِموا من خزائن الشريف غالب 18 ألف مشخصٍ (عملة ذهبية تُستخدم في حينها) وانصرف الشريفُ غالب وشريدُ قَومِه مكسورين، ولم تقُمْ له بعدَ هذه الوقعة العظيمةِ قائمةٌ.
عندما تحقَّق للإمام سعود أنَّ آل خليفة أهل البحرين والزبارة يقع منهم بعض المخالفات, فخاف أن يقع أكبَرُ من ذلك, فأرسل إليهم جيشًا واستعمل عليه الأميرَ محمد بن معيقل, ثم أتبعه بعبد الله بن عفيصان واجتمعوا ونزلوا عند الزبارة المعروفة عند البحرين، فأقاموا فيها قريبَ أربعة أشهر حتى رجع الإمام سعود من الحجِّ، فأرسل أمراءَ جيشه إلى آل خليفة يأمرونهم أن يَفِدوا على سعود فساقوهم كرهًا، فقَدِموا عليه في الدرعية، وهم الأمير سلمان بن أحمد بن خليفة، وأخوه عبد الله، وعبد الله بن خليفة وأبناؤهم، ومعهم كليب البجادي وغيره من أعوانهم, ورؤساء رعيتهم، فلما قَدِموا قرَّرَ عليهم سعود ما حدث منهم, ثمَّ اعتقل رؤساءَهم وردَّ أبناءَهم وبقيَّةَ الرعية إلى بلادهم, وكان سعودٌ لما قبض عليهم أخذ جميعَ خيلهم ونجائبهم وغير ذلك من الشوكة لهم في البحرين، والزبارة، ثم أمر فهدَ بن سليمان بن عفيصان أن يعبر إلى البحرين ضابطًا له، وجعله في بيت المال، ثم إنَّ أبناء آل خليفة نقلوا أكثر نسائِهم وأموالهم في السُّفن، ثم هربوا من الزبارة.
دخل فصل الربيع، وقد فشا في الناس الموت بالطاعون، وأُحصيَ من ورد اسمُه الديوان ممن مات بالقاهرة في مدة شهر أوله عاشر المحرم، فكان ثلاثة آلاف إنسان، ثم تجاوز عدد من يرد اسمه الديوان من الأموات مائة نفس في اليوم، وهذا سوى من يموت بالمارستان، وفي عدة مواضع خارج المدينة، ويكون ذلك نحو الخمسين نفسًا، وكانت عدة من صُلِّي عليه من الأموات بمصلى باب النصر خاصة من أول النهار إلى آذان الظهر اثنين وتسعين ميتًا، وشنع ما يحكى من تواتر نزول الموت في الأماكن، بحيث مات في أسبوع واحد من درب واحد ثلاثون إنسانًا، وكثير من الدور يموت منها العشرة فصاعدًا، وقدم الخبر بكثرة الوباء أيضًا ببلاد الصعيد، وفي طرابلس الشام، وأُحصي من مات بها في مدة أيام، فكانت عدتهم عشرة آلاف إنسان، وكثر الوباء أيضًا بالوجه البحري من أراضي مصر، وقدم الخبر بأن معظم أهل مدينة من صعيد مصر قد ماتوا بالطاعون، وفي شهر ربيع الأول كثر الموتان بالقاهرة ومصر، وتجاوزت عدة من ورد اسمه الديوان من الموالي الثلاثمائة، وتوهم كل أحد أن الموت آتيه عن قريب؛ لسرعة موت من يُطعن، وكثرة من يموت في الدار الواحد، وتواتر انتشار الوباء في جميع أراضي مصر، وبلاد الشام، والمشرق، بحيث ذكر أنه بأصبهان مات غالب أهلها، حتى صار من يمشي بشوارعها لا يرى أحدًا يمر إلا في النادر، وأن مدينة فاس بالمغرب أحصى من مات بها في مدة ثلاثين يومًا ممن ورد الديوان فكانوا ستة وثلاثين ألفًا سوى الغرباء من المساكين، وأن المساكن عندهم صارت خالية ينزل بها من قدم إليها من الغرباء، وأن هذا عندهم في سنتي سبع عشرة وثماني عشرة، وبلغت عدة من يرد اسمه الديوان من الأموات في الثالث والعشرين ما ينيف على خمسمائة، بما فيهم من موتى المارستان والطرحاء، ومع ذلك والأخبار متواترة بأنه صلِّيَ في هذا اليوم بمصليات الجنائز على ما ينيف على ألف ميت، وأن الكُتَّاب يخفون كثيرًا ممن يرد اسمه إليهم، وانقضى هذا الشهر، وقل دار بالقاهرة ومصر وظواهرهما لم يكن بها حزن على ميت، وأقل ما قيل: إنه مات من عاشر المحرم إلى آخر هذا الشهر عشرون ألفًا، وفي شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: بلغت عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات إلى مائة وعشرين سوى المارستان والطرحاء، وقدم الخبر من دمشق بتزايد الموتان عندهم، وأنه يموت في اليوم ستون إنسانًا، وأنه ابتدأ الوباء عندهم من أثناء ربيع الأول، عندما تناقص من ديار مصر.
هو المَلِكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود آل مقرن: مَلِكُ المملكة العربية السعودية، ومؤسِّسُ الدولة السعودية الثالثة، وأحدُ رجالاتِ العَصرِ. وُلِدَ في الرياض عام 1293هـ / 1876م، ودَولةُ آبائِه في ضَعفٍ وانحلال، وصَحِبَ أباه في رحلته إلى البادية، يطارده محمد بن عبد الله ابن رشيد، واستقَرَّ مع أبيه في "الكويت" سنة 1309ه (1891 م) وشبَّ فيها. وشنَّ الغارات على آل رشيد وأنصارهم. وفاجأ عامِلَ ابن رشيد في الرياض بوثبةٍ فاستولى عليها سنة 1319ه / 1902م، وضَمَّ إلى الرياض الخرج، والمحمل، والشعيب، والوشم، والحوطة والأفلاج ووادي الدواسر. واستولى على بلاد القصيم سنة 1324هـ, شَكَّل قواتِ الإخوان (إخوان من أطاع الله) العسكرية من خلال نظامِ الهجر التي كان لها أكبَرُ الأثر في إتمامه لتوحيد الجزيرة العربية، فأخضَعَ آل عائض أمراء عسير في الجنوب، وأزال إمارة آل رشيد في الشمال سنة 1340هـ. وكانت بينه وبين الشريف حسين بن علي أحداثٌ انتهت بالقضاء على دولة الهاشميين في الحجاز سنة 1343ه / 1925م فنودي به مَلِكًا على الحجاز وسلطانًا لنَجدٍ، وكان مِن قَبلُ يلقَّب بالأمير أو السلطان والإمام. ثار عليه بعضُ كبار قادة الإخوان فقضى على قوَّتِهم في معركة السبلة، ثم برزت فتنة "ابن رفادة" في الشمال فتمَكَّنَ مِن القضاء عليها. وفي سنة 1351ه / 1932م أعلن توحيدَ الأقطار الخاضعة له، وتسميتها "المملكة العربية السعودية"، ولم يشغَلْه خوضُ المعارك وتجهيزُ الجيوش وقمع الفتن عن تنظيم بلاده، وسنِّ ما يلائِمُها من النظم الحديثة، وإنشاء العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول العربية والأجنبية. واكتُشِف البترول في عهده، وكانت الدولة محدودةَ الموارد، فانتعَشَت واتجهت إلى العمران، وحلَّ الأمنُ محَلَّ الخوف في الصحاري والحواضر. وحوَّل كثيرًا من أهل الخيام إلى سكَّان قرى، وأوصل مملكتَه المترامية الأطراف بشبكاتٍ لاسلكيةٍ. وأتى بكثير من الطائرات التي سهَّلت على الناس التنقُّل، وأنشأ موانئَ وعبَّد طرُقًا. وأعفى الحجَّاجَ مِن الرُّسوم. واستكثَرَ من الأطباء والزراعيين والمدرسين، وأرسل بعثاتٍ من أبناء الحجاز ونجد إلى البلدان القريبة والبعيدة؛ لتلَقِّي العِلمِ في جامعاتها, ثم وافاه الأجَلُ رحمه الله بعد أن قضى في الملك قرابة 54 سنة، وكان قد عيَّنَ ابنَه الكبير سعودًا وليًّا للعهد، فتسَلَّمَ زِمامَ المُلكِ بعد وفاة أبيه.
هو الإمام، الصَّادق، شيخ بني هاشم، أبو عبدالله جعفرُ بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي، الهاشمي، العلوي، النبوي، المدني، أحد الأعلام من التابعين, وكان يلقَّبُ بالصابر، والفاضِلِ، والطاهر، وأشهرُ ألقابه الصادِقُ، ولد سنة 80, وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق, وأمها: هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان يقول: ولدني أبو بكر الصديق مرتين. قال الذهبي: "كان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر ظاهرا وباطنا, ثم قال: هذا لا ريب فيه، ولكن الرافضة قوم جهلة، قد هوى بهم الهوى في الهاوية، فبعدا لهم" وقال: "أن الصادق رأى بعض الصحابة، أحسبه رأى: أنس بن مالك، وسهل بن سعد".حاول المنصورُ أن يظفَرَ به، لكنَّه لم يقدِرْ عليه وانثنى عن ذلك، كان من أجلَّاء التابعين؛ فقيهًا عالِمًا جوادًا كريمًا زاهدا عابدا، قال ابن خلكان: " أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية، وكان من سادات أهل البيت ولقب بالصادق لصدقه في مقالته وفضلُه أشهر من أن يذكر، وله كلام في صنعة الكيمياء والزجر والفأل". أورد الذهبيُّ بإسنادٍ قال إنه صحيح، عن سالم بن أبي حفصة قال: "سألتُ أبا جعفرٍ محمدَ بنَ عليٍّ وابنَه جعفرًا عن أبي بكرٍ وعمر، فقالا: يا سالمُ، تولَّهَما وابرأْ مِن عدُوِّهما؛ فإنهما كانا إمامَيْ هُدًى. وقال لي جعفرٌ: يا سالم، أيسُبُّ الرجُلُ جَدَّه؟! أبو بكرٍ جَدِّي، فلا نالَتني شفاعةُ محمَّدٍ يومَ القيامة إن لم أكنْ أتولَّاهما وأبرأُ من عدوِّهما!" توفِّي في المدينة ودُفِنَ في البقيعِ.
بعد أن افتتَحَ أميرُ المُؤمِنينَ النَّاصِرُ بطليوس في هذا العامِ عزَمَ على غزو طُلَيطلة في جيشٍ كثيرٍ وعَدَدٍ جمٍّ، فأخرج معهم أهلَ الثِّقةِ مِن خِدمتِه والأمانةِ مِن فُقَهاءِ مِصْرِه إلى أهل طُلَيطلة، مُعذِرًا إليهم، داعيًا لهم إلى الطاعة والدخولِ فيما صارت إليه الجماعةُ، إذ كانوا لا يؤدُّون جبايةً، ولا يلتَزِمون طاعةً، ولا يتناهون عن مُنكَرٍ ولا معصيةٍ، وأمَرَهم بمحاصرتها واحتلالِها، حتى يلحَقَ بهم بجيوشِه وصنوفِ حَشَمِه، فلما احتَلَّ النَّاصِرُ في طريقِه مَحلَّة الغدر، وقَرُب من حصن مورة الذي كان اتَّخذه أهلُ طُلَيطِلة شَجًا على المسلمين ومُستراحًا للمُفسدين؛ قَدِمَ إليه من أنذر صاحِبَ الحِصنِ وخَوَّفَه، وأمره بالخروجِ عن الحِصنِ وإسلامِه. فبدر إلى ذلك بدرًا لِما لم يَجِدْ منه بُدًّا، ولا في الامتناعِ طَمعًا، ونزل عن الِحصنِ، وأمر الناصِرَ بضَبطِه، ثم نهض بجيوشِه المؤيِّدة، وعزيمتِه الماضية، حتى احتَلَّ مَحلَّةَ جرنكش بقرب طليطلة، فأشرف مِن مَحلَّتِه هذه على سَهلةِ طُلَيطِلة ونَهرِها، وأجنَّتها وكُرومِها، ودَبَّرَ رأيَه في أمكَنِ المواضِعِ مِن مُحاصَرتِها، وأقرَب الجهاتِ الآخذة بمَخنق أهلِها، وأخذ في نِكايةِ العُصاةِ، بما لم يَجرِ لهم على ظَنٍّ, وأقام بهذه المَحلَّةِ سَبعةً وثلاثين يومًا، يوالي فيها بنِكايتِهم، وقَطْعِ ثَمراتِهم، وتخريبِ قُراهم، وانتسافِ نَعَمِهم، وتحطيِم زُروعِهم. ثمَّ أمر بالبُنيانِ في جبل جرنكش لمدينةٍ سَمَّاها بالفتح، وقَدِمَ على الناصرِ بمَحلَّتِه على طُلَيطِلة صاحِبُ حصن قنيلش وصاحِبُ حِصنِ الفهمين، معتصِمَينِ بطاعته، فأمر بنَقلِهما إلى قرطبة، والتوسُّع عليهما ومكافأة نُزوعِهما وقَصدِهما. ثم قفل الناصِرُ عن مدينة طُلَيطِلة يومَ الخميس لسِتٍّ بَقِينَ مِن جمادى الآخرة، ودخل القَصرَ بقُرطبةَ يومَ الاثنين لأربعٍ خَلَونَ مِن رَجبٍ، وبَقِيَ في غزاتِه هذه ستينَ يومًا.
لَمَّا فرغ صلاحُ الدينِ مِن أمرِ قلعةِ صهيون، سار في ثالث جمادى الآخرة، فوصلَ إلى قلعة بكاس فرأى الفرنجَ قد أخلَوها، وتحصَّنوا بقلعة الشغر، فمَلَك قلعةَ بكاس بغيرِ قتالٍ، وتقَدَّمَ إلى قلعة الشغر وحصَرَها، وهي وبكاس على الطريقِ السَّهلِ المسلوكِ إلى اللاذقيَّة وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاحُ الدين من بلاد الشام الإسلاميَّة، فلما نازلها رآها منيعةً حصينة لا تُرام، ولا يُوصَلُ إليها بطريقٍ من الطرق، إلَّا أنَّه أمر بمزاحفتِهم ونَصْبِ منجنيقٍ عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيقِ، فلم يَصِلْ من أحجاره إلى القلعةِ شَيءٌ إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمونَ عليه أيامًا لا يَرَونَ فيه طمعًا، وأهلُه غير مهتمِّينَ بالقتال لامتناعِهم عن ضررٍ يتطَرَّقُ إليهم، وبلاءٍ ينزل عليهم، فبينما صلاحُ الدين جالِسٌ، وعنده أصحابُه إذ أشرف عليهم فرنجيٌّ ونادى بطَلَبِ الأمان لرسولٍ يحضُرُ عند صلاح الدين، فأجيبَ إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارَهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنَعُهم وإلَّا سَلَّموا القلعةَ بما فيها من ذخائِرَ ودوابَّ وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائِنَهم على الوفاءِ به، فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتَّفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالتهم أنَّهم أرسلوا إلى البيمند، صاحِبِ أنطاكيَّةَ، وكان هذا الحِصنُ له، يُعَرِّفونَه أنهم محصورون، ويَطلُبونَ منه أن يدفَعَ عنهم المسلمين، فإن فعل وإلَّا سَلَّموها، وإنما فعلوا ذلك لرعبٍ قَذَفه اللهُ تعالى في قلوبهم، وإلَّا فلو أقاموا الدهرَ الطويلَ لم يصِلْ إليهم أحد، ولا بلغ المسلمونَ منهم غَرَضًا، فلمَّا تسلم صلاح الدين الحِصنَ سَلَّمه إلى أميرٍ يقال له قلج، وأمَرَه بعمارتِه ورحَلَ عنه.
هو الإمامُ العلامة كمال الدين محمد ابن الشيخ همام الدين عبد الواحد ابن القاضي حميد الدين عبد الحميد ابن القاضي سعد الدين مسعود الحنفي السيرامي الأصل المصري المولد والدار والوفاة، المشهور بابن الهمام، ولد سنة 790 بالإسكندرية ومات أبوه وكان قاضي الإسكندرية وهو ابن عشر أو نحوها، فنشأ في كفالة جدته لأمه، وكانت مغربية خيِّرة تحفظ كثيرًا من القرآن وقدم بصحبتها القاهرة فأكمل بها القرآن عند الشهاب الهيثمي وتلاه تجويدًا على الزراتيتي، وبالإسكندرية على الزين عبد الرحمن الفكيري، وكان شيخه يصفه بالذكاء المفرط والعقل التام والسكون، وحَفِظَ مختصر القدوري والمنار والمفصَّل للزمخشري وألفية النحو، ثم عاد بصحبتها أيضًا إلى الإسكندرية فأخذ بها النحو عن قاضيها الجمال يوسف الحميدي الحنفي، وقرأ في الهداية على الزين السكندري، وفي المنطق على العز عبد السلام البغدادي والبساطي، وعنه أخذ أصول الدين وقرأ عليه شرح هداية الحكمة لملا زادة, ولم يبرح عن الاشتغال بالمعقول والمنقول حتى فاق في زمن يسير أقرانه, وأشير إليه بالفضل التام والفطرة المستقيمة، بحيث قال البرهان الأبناسي أحد رفقائه حين رام بعضهم المشي في الاستيحاش بينهما: "لو طلبت حجج الدين ما كان في بلدنا من يقوم بها غيره. ثم قال: وشيخنا البساطي وإن كان أعلم، فالكمال أحفظ منه وأطلق لسانًا، هذا مع وجود الأكابر إذ ذاك، بل أعلى من هذا أن البساطي لما رام المناظرة مع العلاء البخاري بسبب ابن الفارض ونحوه قيل له: من يحكم بينكما إذا تناظرتما، فقال: ابن الهمام لأنه يصلح أن يكون حَكَم العلماء" وقال يحيى بن العطار: "لم يزل يُضرَب به المثل في الجمال المفرد مع الصيانة وفي حسن النغمة مع الديانة، وفي الفصاحة واستقامة البحث مع الأدب" واستمر يترقى في درج الكمال حتى صار عالِمًا مفننًا علَّامة متقنًا، درَّس وأفتى وأفاد، وعكف الناس عليه، واشتهر أمره وعظُم ذِكرُه، قال شمس الدين السخاوي: "فقد كان إمامًا علامة عارفًا بأصول الديانات والتفسير والفقه وأصوله، والفرائض والحساب، والتصوف والنحو والصرف والمعاني والبيان، والبديع والمنطق والجدل والأدب والموسيقى، وجُل علم النقل والعقل، متفاوت المرتبة في ذلك, ومع قلة علمه في الحديث فهو عالم أهل الأرض ومحقِّق أولي العصر حُجة أعجوبة ذا حجج باهرة واختيارات كثيرة وترجيحات قوية, وقد تخرج به جماعة صاروا رؤساء في حياته، فمن الحنفية التقي الشمس والزين قاسم وسيف الدين، ومن الشافعية ابن خضر والمناوي. ومن المالكية عبادة وطاهر والقرافي, ومن الحنابلة الجمال بن هشام. وهو أنظَرُ من رأيناه من أهل الفنون ومن أجمعهم للعلوم وأحسنهم كلامًا في الأشياء الدقيقة وأجلدِهم على ذلك مع الغاية في الإتقان والرجوع إلى الحق في المباحث ولو على لسان آحاد الطلبة، كل ذلك مع ملاحة الترسل وحسن اللقاء والسمت والبِشر والبزَّة ونور الشيبة وكثرة الفكاهة والتودد والإنصاف وتعظيم العلماء، والإجلال لتقي الدين ابن تيمية وعدم الخوض فيما يخالف ذلك، وعلو الهمة وطيب الحديث ورقة الصوت وطراوة النغمة جدًّا, وسلامة الصدر وسرعة الانفعال والتغير والمحبة في الصالحين وكثرة الاعتقاد فيهم والتعهد لهم والانجماع عن التردد لبني الدنيا حتى الظاهر جقمق مع مزيد اختصاصه به، ولكنه كان يراسله هو ومن دونه فيما يسأل فيه" وقد حجَّ غير مرة وجاور بالحرمين مدة، وشرب ماء زمزم- كما قاله في شرحه للهداية- للاستقامة والوفاة على حقيقة الإسلام معها. ونشر في الحرمين علمًا جمًّا, وعاد في رمضان سنة ستين وهو متوعِّك فسُرَّ المسلمون بقدومِه وعكف عليه من شاء الله من طلبته وغيرهم أيامًا من الأسبوع إلى أن مات في يوم الجمعة سابع رمضان، ودفِنَ من يومه، وصُلِّيَ عليه عصرًا بمصلى المؤمني، وكانت جنازته مشهودة، شهده السلطانُ فمَن دونه، قدِمَ للصلاة عليه قاضي مذهبه ابن الديري، ودُفِنَ بالقرافة في تربة ابن عطاء الله، ولم يخلف بعده في مجموعه مثله. وله مصنفات أشهرها فتح القدير في الفقه الحنفي، وله التحرير في أصول فقه الأحناف، وغيرها من المصنفات.
هو المَلِكُ الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهو صاحِبُ مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام، وكان مرضُه إسهالًا، وكان شديد السيرة، ضابطًا لأموره كلِّها، ولَمَّا اشتدت علتُه عهد بالملك بعده لولد له صغيرٍ اسمه محمد، ولقَّبَه الملك العزيز غياث الدين، عُمُره ثلاثُ سنين، وعدَلَ عن ولد كبير لأنَّ الصغيرَ كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد، فعَهِدَ بالملك له ليبقى عمُّه البلاد عليه، ولا ينازعه فيها، ولَمَّا عهد الظاهر إلى ولده بذلك جعل أتابكه ومربِّيَه خادمًا روميًّا، اسمه طغرل، ولقَّبَه شهاب الدين، وهو من خيارِ عبادِ الله، كثيرُ الصدقة والمعروف، ولما توفي الظاهر أحسن الأتابك شهاب الدين السيرةَ في الناس، وعدل فيهم، وأزال كثيرًا من السُّنَن الجارية، وأعاد أملاكًا كانت قد أُخذَت من أربابهِا، وقام بتربية الطفلِ أحسَنَ قيامٍ، وحَفِظَ بلاده، واستقامت الأمورُ بحُسنِ سيرته وعَدلِه.
لَمَّا نزل الفرنسيون بالإسكندرية أخذوا محمد كريم الذي كان بيده أمرُ الديوان والجمارك ومصادرات التجار خصوصًا من الإفرنج في الإسكندرية، فحبسوه وطالبوه بالمال وضيَّقوا عليه في المركب، ولَما حضروا إلى مصر وطلعوا إلى قصر مراد بيك، وفيها اطَّلعوا على أخبار محمد كريم وتعَرَّفوا على اجتهاده في حربِهم وتهوين أمرِهم وتنقيصِهم، فاشتد غيظُهم عليه فأرسلوا وأحضروه إلى مصر وحبَسوه، ولم تنفع الشفاعات فيه أبدًا، ثم إنهم طالبوه بقَدرٍ معين من المال كبير يَعجِز عنه وأمهلوه اثنتي عشرة ساعة فقط لإحضاره وإلَّا كان حتفُه، فسأل الناس والمشايخ، وكان يقول: اشتروني يا مسلمين! ولكن كان كلٌّ مشغول بنفسه يترقَّبُ ما يحُلُّ به، فانقضت المهلة ولَمَّا يجمعْ ما طلب منه، فأركبوه على حمار يتقدَّمهم طبل يضربون عليه حتى وصلوا به إلى الرميلة وكتَّفوه وربطوه مشبوحًا وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم في القتل، ثم قطعوا رأسَه ورفعوه على نبوت وطافوا به يقولون: هذا جزاء من يخالف الفرنسيين، ثم إنَّ أتباعه أخذوا رأسَه ودفنوه مع جثته، وكان ذلك في يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الأول لهذا العام!!
أمر الإمام سعود عبدَ الوهاب أبا نقطة وجميعَ رعاياه من تهامة وسالم بن شكبان ورعاياه من أهل بيشة ونواحيها وعثمان المضايفي بجميع أهل الحجاز بالمسير إلى مكة، فينزلون ويضيقون على أهلِها، وأمرهم بانتظار الحاج الشاميِّ وأن يمنعوه إذا كان محاربًا، فسارت تلك الجموع إلى مكة فاشتدَّ الأمر على الشريف غالب، وبلغ منه الجَهدُ، وطلب منهم الصلحَ ومواجهة الإمام سعود ومبايعته على دين الله ورسوله والسَّمعِ والطاعة فصالحوه وأمهلوه، ومشت السوابِلُ والقوافل إلى مكة، ودخلها عبد الوهاب والمضايفي ومن معهم وحجُّوا واعتمروا، واجتمع عبد الوهاب مع الشريف غالب وفاوضه الحديثَ وتهادَوا فأجاز الشريف غالب عبد الوهاب بجوائِزَ سَنية، وأعرضوا عن الحاجِّ الشامي, وانصرف عبد الوهاب ومن معه من الأمراء والأتباع إلى أوطانهم, وأرسل الشريف إلى الإمام سعود أهلَ نجايب وطلب إتمام الصلحِ والمبايعة فأجابه إليها، وأَمِنَت السبُلُ ومَشَت السابلةُ إلى مكة من جميع النواحي، ورخصت الأسعار في الحرمين وغيرِها.