سيَّرَ الملكُ العادل أبو بكر بن أيوب، صاحِبُ دمشق ومصر، عسكرًا مع وَلَدِه الملك الأشرف موسى إلى ماردين، فحصروها، وشَحَنوا على أعمالها، وانضاف إليه عسكَرُ المَوصِل وسنجار وغيرهما، ونزلوا بخرزم تحت ماردين، ونزل عسكَرٌ من قلعة البارعية، وهي لصاحب ماردين، يقطعون الميرةَ عن عسكر العادل، فسار إليهم طائفةٌ من عسكر العادل، فاقتتلوا، فانهزم عسكَرُ البارعية، وثار التركمانُ وقطعوا الطريقَ في تلك الناحية، وأكثروا الفساد، فتعذَّرَ سُلوكُ الطريق إلى الجماعةِ مِن أرباب السلاح، فسار طائفةٌ مِن عسكر العادل إلى رأسِ عين لإصلاح الطرق، وكفِّ عادية الفساد، وأقام ولَدُ العادل، ولم يحصُلْ له غرض، فدخل المَلِكُ الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف، صاحِبُ حلب، في الصلح بينهم، وأرسل إلى عَمِّه العادل في ذلك، فأجاب إليه على قاعدةِ أن يحمِلَ أهل ماردين مائة وخمسين ألف دينار، فجاء صرفُ الدينار أحد عشر قيراطًا من أميري، ويُخطَب له ببلاده، ويُضرَبُ اسمه على السكة، ويكون عسكَرُه في خدمته أيَّ وَقتٍ طلبه، وأخذ الظاهِرُ عشرين ألف دينار من النقد المذكور، وقرية القرادي من أعمال شيختان، فرحل ولد العادل عن ماردين.
هو السُّلطانُ المَلِك الأفضل عباسُ ابن الملك المجاهد علي ابن الملك المؤيد داود ابن الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول التركماني الأصل، اليمني صاحب اليمن وابنُ صاحِبِها، ولي الأفضَلُ السلطنة بعد موت أبيه المجاهد في شهر جمادى الأولى سنة 764، ولما ولي اليمَنَ خرج في أيامِه ابنُ ميكائيل فوقع له معه وقائِعُ، حتى أباده الأفضَلُ وزالت دولةُ ابن ميكائيل في أيامه، وكان الأفضَلُ شجاعًا مهابًا كريمًا، وله إلمامٌ بالعلوم والفضائل، ومشاركةٌ جيدة في عِدَّة علوم وتصانيف منها: كتاب العطايا السَّنِية في ذكر أعيان اليمنية، وكتاب نزهة العيون في تاريخ طوائف القرون، ومختصر تاريخ ابن خَلِّكان، وكتاب بغية ذوي الهمم في أنساب العرب والعجم، وكتاب آخر في الألغاز الفقهية، وغير ذلك، وكان بنى مدرسةً عظيمة بتعز، وله أيضًا بمكة مدرسة معروفة به بالصفا، وقيل: إن هذه التصانيف المذكورة إنما هي لقاضي تعز رضي الدين أبي بكر بن محمد بن يوسف الجرائي الصبري الناشري، عَمِلَها على لسان الأفضَلِ. توفي في شعبان، وتسَلْطَنَ بعده ولَدُه السلطان الملك الأشرفُ إسماعيل.
كان العثمانيون وقائِدُهم خير الدين بربروسا وحسن الطوشي قد انشغلوا بمحاربة الأسبان في الجزائر والمغرب فترةً طويلةً من الوقت، جَعَلت فرسان القديس يوحنا (وهم بقايا الإسبتارية الصليبيين المطرودين من فلسطين ثم من قبرص ورودس سنة 928) يسيطرون على طرابلس سنة 942 بعد خروجهم من رودس بأمر البابا, واستمرَّ الحالُ حتى وفاة خير الدين بربروسا، وتمَّ تعيينُ طرغود أو «طرغوت، أو طرغول» باشا في منصب قبطان الأساطيل العثمانية. وبعد الاستغاثات التي وجَّهها سكَّان ليبيا إلى السلطان العثماني باعتباره خليفةً للمسلمين، وَضَع سنان باشا وطرغوت باشا خطةً مُحكَمةً لتحرير طرابلس من فرسان القديس يوحنا، وذلك بالهجوم البري من ناحية الشرق يقودُه والي مصر سنان باشا،وهجوم بحري يقوم به طرغود باشا بالأساطيل العثمانية من ناحية الشمال، ففرضا عليها حصارًا دام أسبوعًا واحدًا، وبحركة الكمَّاشة المحكمة استطاع العثمانيون بدعمٍ من المجاهدين الليبيين تحريرَ طرابلس في 12 شعبان سنة 958هـ، الموافق 15 أغسطس 1551م. دخلت ليبيا منذ 1551م عهدًا جديدًا، اتفق المؤرخون على تسميته بالعهد العثماني الأول، والذي انتهى سنة 1711م، عندما استقلَّ أحمد باشا القره مانلي بزمام ولاية ليبيا.
عندما بدأ الاحتلالُ الإيطالي لليبيا وتخلَّت عنهم الدولة العثمانية، بقي المجاهدون وحدهم في ميدان القتال، فالتقَوا في عدة معارك مع الطليان، وكان الليبيون قد دحروا القواتِ الإيطاليةَ حتى حاولوا الهجومَ على الإنجليز بمصرَ، لكنهم فشلوا، وتنازل أحمد شريف عن زعامة الحركة السنوسية لابن عمه محمد إدريس، الذي هزم الطليان في عدة معارك، واضطروا إلى إبرام اتفاقيةٍ معه اعترفوا له فيها بنفوذه على المناطق، وتعهَّدوا بإبقاء المحاكم الشرعية والعناية بالقرآنِ، وعدم التعرض للزوايا السنوسية، والسماح بالمبادلات التجارية، ثم عُقِد مؤتمر في مدينة غريان ضمَّ ممثِّلين عن جميع أبناء البلاد عدا البربر، واتفقوا على توحيد الجهاد، فخاف الطليان من نتائج هذا المؤتمر، فاضطروا للاعتراف بمحمد إدريس السنوسي أميرًا على المناطق الداخلية؛ حرصًا منهم على كسب الوقت للاستعداد وحشد القوات، فعقد الليبيون مؤتمرًا آخر في العام التالي في سِرْت حضره ممثِّلون عن السنوسيين وعن طرابلس، وتمت البيعة فيه لمحمد إدريس السنوسي، وعاد القتال ولم يستطع المجاهدون مقاومةَ الحشود الجرَّارة، فاحتل الطليان طرابلس وقضوا على جمهورية ليبيا الأولى عام 1342هـ / 1923م أما برقة فكانت قيادتها تحت عمر المختار الذي أحرز كثيرًا من الانتصاراتِ في الجبل الأخضر الذي احتله الطليان أخيرًا.
بعد أن أخفق مؤتمر لوزان، وعاد رئيسُ الوفد التركي عصمت إينونو واختلف هو ومصطفى كمال مع رئيسِ الوزارة وبجانبه الجمعية الوطنية، فاستقال رئيس الوزارة، وبدأت الدسائِسُ، فحَلَّ مصطفى كمال الجمعيةَ الوطنية، وكثرت الفوضى وقرَّر مصطفى كمال إعلان الجمهورية، واجتمعت الجمعيةُ الوطنية، ودُعِيَ مصطفى كمال لتشكيل الوزارة فوافق، على ألا يُناقَشَ في تصرُّفاته، وشكَّل الوزارة، وأعلن الجمهورية بعد اجتماع المجلس النيابي في أنقرة بتاريخ 20 ربيع الأول 1342هـ / 30 تشرين الأول 1923م، فقَرَّر إلغاء السلطنة والخلافة، وإعلان الجمهورية التركية، وانتُخِبَ مصطفى كمال رئيسًا لها، فعَمَّت الفوضى وغادر أنقرة عددٌ مِن الزعماء، واتجهوا إلى استانبول عند الخليفة، وقامت الاحتجاجات، ولكِنْ بدأت الاغتيالاتُ ودعا المجلِسَ الوطني لعقد جلسةٍ، وقدَّم مرسومًا بإلغاء الخلافةِ، وطرَد الخليفةَ، وأعلن فَصْلَ الدين عن الدولة، وأمر عبد المجيد بالسَّفرِ إلى سويسرا، ثم أصدر مرسومًا بإلغاء الوظائف الدينية، وامتلاك الدولة للأوقاف، وأرسل وزيرَ الخارجية عصمت إينونو إلى لوزان، وأعيد المؤتمر واعترفت إنجلترا باستقلالِ تركيا، وانسحبت من المضائق واستانبول، وطُوِيَت صفحةُ الخلافة الإسلامية العثمانية التي حكمت العالم الإسلامي عدة قرون.
بعد إعلان انفصال باكستان عن الهند لم تكن كشمير قد حُسِم وضعُها في التقسيم بين البلدين، على الرغم من أن طبيعتها وسكَّانها وموقعها الجغرافي هي أقرب إلى باكستان من الهند، ولكن الهند بمكرٍ وخداع عرضت على باكستان أنَّ حَلَّ قضية كشمير مرهون باستفتاء السكان، ووافقت باكستان على هذا العرض، وقد أكَّد على هذا رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، لكن الهند أرادت أن تجعل من كشمير منطقةَ نزاع مع باكستان تتحرَّش بها متى ما أرادت؛ ولذلك لما أعلن حاكم كشمير الهندوسي (هري سنغ) اتفاقيةَ ضَمِّ كشمير إلى الهند- وهذا خلاف ما تم الاتفاق بين باكستان والهند عليه- أرسلت حكومة دلهي قوةً لحماية ولاية جمو الكشميرية من أي اعتداء، وأعلن وجوب خروج المسلمين إلى باكستان التي تطالِبُ بهم؛ فاجتمع المسلمون في أماكن محددة، وأُحضِرت السيارات لنقلهم، فلما وصلت بهم السيارات خارج القرى والمدن تعرضت لهم القوات الهندوسية، فأخذت الفتيات الشابات وقتلت الباقي، واستمر القتلُ والوحشية بأبشع صورة مدةً طويلة، فقُتِلَ ما يزيد عن نصف مليون كشميري، وهُجِّر نصف مليون مسلم ممن تمكن من الفرار إلى باكستان وغالبهم من الرجال دون النساء والأطفال الذين تعرضوا للقتل على يد الهندوس، أو ماتوا في الطريق إلى باكستان.
وُلِدَ محمد علي كِلاي في 17 يناير 1942م في مدينةِ لويفيل بولايةِ كنتاكي، مِن عائلةٍ أمريكيَّةٍ سوداءَ مِن الطبَقةِ المتوسِّطةِ، واعتنَقَ الإسلامَ في عامِ 1964م، وكان اسمُه قبلَ إسلامِه (كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور) فغيَّرَه إلى مُحمَّد علي، واختار الانتماءَ في بادئِ أمرِه إلى جماعةِ أمَّةِ الإسلامِ، ولم يستمرَّ انضمامُه إليهم طويلًا؛ إذ كان يختلِفُ مع الكثيرِ مِن أفكارِهم، فاعتنَقَ الإسلامَ السُّنِّيَّ، ثم أنشأ أعمالَه الخيريَّةَ والدَّعَويَّة مُحاولًا تصحيحَ الصُّورة الخاطئة التي رسَخَت في أذهانِ الغَربِ عن الإسلامِ والمُسلمين، ورفض أنْ يَخدمَ في جيشِ الولاياتِ المُتَّحِدة في حربِه على فيتنام عامَ 1966م، وعَدَّ نفسَه مُعارِضًا للحَربِ، معلِّلًا بأنَّ هذه الحربَ ضِدُّ تعاليم القرآنِ. فاز كلاي ببطولةِ العالَم للوزنِ الثقيلِ ثلاثَ مرَّاتٍ على مدى عشرينَ عامًا، وأصيبَ في عامِ 1984 بداءِ باركنسون (الشلل الرَّعاشي). وفي عامِ 1999 تُوِّجَ بلقب "رياضيِّ القَرنِ". وفي عامِ 2005 مُنِحَ وسامَ الحرِّيَّة الرئاسيَّ -وهو أرفَعُ وسامٍ مَدَنيٍّ في الولاياتِ المُتَّحِدة الأمريكية- وقد تُوفِّيَ مُحمَّد علي -رحِمَه الله- في مستشفى فينيكس بولايةِ أريزونا عن عمرٍ ناهَزَ 74 عامًا. ودُفِنَ في مَسقطِ رأسِه؛ في مدينةِ لويفيل بولايةِ كنتاكي الأمريكيَّةِ.
في حوالَيْ عامِ 232هـ ومع ضَعفِ الحُكام العباسيِّينَ بدأت تظهرُ أطماعُ بعضِ الوُلاةِ المحلِّيينَ في كَوْكبانَ وعلى رأسِهم يَعفُرُ بنُ عبدِ الرحمنِ الحَوَاليُّ. ومع أواخِرِ القرنِ التاسعِ الميلاديِّ، أصبحت اليَمنُ قاعدةَ عملياتٍ لحركةِ الشِّيعةِ الفاطميِّينَ. وقد عهِدَ يَعفُرُ بالسُّلطةِ لابنِه محمدٍ الذي فضَّلَ أن تكونَ مِن صَنعاءَ، ثم عهِدَ محمدُ بنُ يَعفُرَ بالسُّلطةِ بعدَ ذلك لابنِه إبراهيمَ، الذي اختَلَف مع أبيه على أسلوبِ الحُكم، وانتهي الأمرُ بقتلِ أبيه عامَ 892م/269هـ. تَبِعَ ذلك فوضى وتمَرُّدٌ بينَ القبائلِ وأهالي القُرى بَينَ السُّنِّيِّينَ والشِّيعةِ، وعَمَّ التَّوتُّرُ شوارعَ صَنعاءَ حتى أرسلَ الخليفةُ العباسيُّ في بغدادَ آنذاكَ، علِيَّ بنَ الحُسَينِ إلى اليَمنِ لِيقضيَ على الفِتنةِ ويَضعَ نهايةً لِلتَّمرُّدِ.
بعدَ استِدعاءِ ابنِ الحُسَينِ إلى بَغدادَ عامَ 895م/282هـ. اهتزَّتِ الأمورُ في صَنعاءَ، وحينَئِذٍ ظهرَ أوَّلُ إمامٍ زَيديٍّ ليتوَلَّى زِمامَ الأمرِ، وهو الإمامُ الهادي إلى الحقِّ يحيى بنُ الحُسَينِ، ولكنَّه لم يَستطِعْ أن يحُدَّ مِنَ الصِّراعاتِ، فعادَ بنو يَعفُرَ إلى الحُكمِ، ومع وفاةِ آخِرِ حُكَّامِهم عبدِ اللهِ بنِ قَحطانَ، انتهى حُكمُهم، وظلَّتِ البِلادُ في حالةِ فوضى سياسيةٍ إلى أن جاء إلى الحُكمِ سُلالةٌ أُخرى حاكمةٌ، وهم بَنو الصُّليحيِّ عامَ 1047م/439هـ.
هو أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ داود بن عليِّ بن خلف الأصبهانيُّ المعروفُ بالظاهريِّ. ابنُ الإمامِ داودَ بنِ عليٍّ الظاهري, كان عالِمًا بارعًا, إمامًا في الحديث, أديبًا شاعِرًا ظريفًا، فقيهًا ماهرًا، اشتغل على أبيه وتَبِعَه في مذهبه ومَسلَكِه وما اختاره من الطرائِقِ وارتضاه، وكان أبوه يحبُّه ويقَرِّبُه ويُدنيه. كان أحدَ من يُضرَبُ المثَلُ بذكائه. تصَدَّرَ للفُتيا بعد والده، لَمَّا جلس للفتوى بعد والِدِه استصغروه، فدَسُّوا عليه من سأله عن حَدِّ السُّكرِ، ومتى يعَدُّ الإنسانُ سَكرانَ؟ فقال: إذا عَزَبَت- يعني: بعُدت وغابت- عنه الهُمومُ، وباح بسِرِّه المكتومِ، فاستُحسِنَ ذلك منه. كان مِن أجمل النَّاسِ وأكرَمِهم خلقًا، وأبلَغِهم لسانًا، وأنظَفِهم هيئةً، مع الدِّينِ والورَع، وكلِّ خَلَّةٍ محمودةٍ، مُحَبَّبًا إلى الناس. حَفِظَ القرآنَ وله سبعُ سنين، وذاكَرَ الرِّجالَ بالآدابِ والشِّعرِ وله عشرُ سنين، وكان يُشاهَدُ في مَجلِسِه أربعُمئة صاحبِ مِحبَرةٍ، وله من التآليفِ: كتابُ الزهرة، صنَّفه في عنفوان شبابِه، وهو مجموعٌ في الأدبِ، جمعَ فيه غرائبَ ونوادِرَ وشِعرٍ رائق، كتابُ (الإنذار والإعذار)، وكتاب (التقصِّي) في الفقه، وكتاب (الإيجاز) ولم يَتِمَّ، وكتاب (الانتصارُ من محمَّد بن جريرٍ الطَّبَري)، وكتاب (الوصولُ إلى معرفة الأصول)، وكتاب (اختلافُ مصاحف الصحابة)، وكتاب (الفرائض) وكتاب (المناسِك).
كان مَلِكُ الرومِ قد هادنَه المُستَنصِرُ بالله الفاطميُّ صاحِبُ مصر، ثمَّ أخذ يراسِلُ ابنَ صالحِ بن مرداس ويستميلُه، وراسله قبله صالحٌ ليتقَوَّى به على الدزبري صاحب دمشق للفاطميين؛ خوفًا أن يأخُذَ منه الرقَّةَ، فبلغ ذلك الدزبري فتهَدَّد ابنَ صالح فاعتذر وجَحَد، ثمَّ إنَّ جمعًا من بني جعفرِ بنِ كلاب دخلوا ولايةَ أفامية، فعاثوا فيها، ونهَبوا عدَّةَ قُرًى، فخرج عليهم جمعٌ مِن الروم فقاتَلوهم وأوقعوا بهم، ونكَّلوا فيهم، وأزالوهم عن بلادِهم، وبلغ ذلك الناظِرَ بحَلَب، فأخرج مَن بها من تجَّار الفرنج، وأرسلَ إلى المتولِّي بأنطاكيةَ يأمُرُه بإخراجِ مَن عِندَهم مِن تجَّار المسلمين، فأغلظ للرَّسولِ، وأراد قتْلَه، ثمَّ ترَكَه، فأرسل الناظِرُ بحَلَب إلى الدزبري يعَرِّفُه الحال، وأنَّ القومَ على التجهُّزِ لقصد البلاد، فجَهَّزَ الدزبري جيشًا وسيَّرَه على مقَدِّمته، فاتَّفَق أنَّهم لقُوا جيشًا للرُّوم وقد خرجوا لِمثلِ ما خرج إليه هؤلاء، والتقى الفريقانِ بين مدينة حماة وأفامية، واشتَدَّ القتالُ بينهم، ثمَّ إنَّ الله نصرَ المسلمينَ، وأذلَّ الكافرين، فانهزموا وقُتِلَ منهم عِدَّةٌ كثيرة، وأُسِرَ ابنُ عمٍّ للمَلِك، بذلوا في فدائِه مالًا جزيلًا، وعِدَّةً وافرةً مِن أسرى المسلمين، وانكَفَّ الرومُ عن الأذى بعدها.
هو الإمامُ العَلَّامةُ، أَقضى القُضاةِ، أبو الحسنِ عَلِيُّ بن محمدِ بن حَبيبٍ، المَاوَردِي البَصري، شَيخُ الشَّافعيَّة، كان من وُجوهِ الفُقهاءِ الشَّافعيَّة ومن كِبارِهم، أَخذَ الفِقهَ عن أبي القاسم الصيمري بالبَصرةِ، ثم عن الشيخ أبي حامِد الإسفرايني ببغداد، صاحبِ التَّصانيفِ الكَثيرةِ في الأُصولِ والفُروعِ والتَّفسيرِ والأَحكامِ السُّلطانيَّة، وأَدَبِ الدُّنيا والدِّين، قال الماوردي: "بَسَطتُ الفِقهَ في أَربعةِ آلافِ وَرقةٍ وقد اختَصرتُه في أَربعينَ" قال ابنُ الجوزي: "يُريدُ بالمَبسوطِ الحاويَ، وبالمُختَصَرِ الإقناعَ" كان أَديبًا حَليمًا وَقورًا، مُتَأَدِّبًا لم يَرَ أَصحابُه ذِراعَه يومًا من الدَّهرِ مِن شِدَّةِ تَحَرُّزِهِ وأَدبِه، وكان ثِقةً صالحًا، حافظًا للمَذهَبِ وله فيه كتاب "الحاوي الكبير" الذي لم يُطالِعهُ أَحدٌ إلا وشَهِدَ له بالتَّبَحُّرِ والمَعرفةِ التَّامَّةِ بالمَذهبِ. وفُوِّضَ إليه القَضاءُ بِبُلدانٍ كَثيرةٍ، واستَوطَن بغداد في دَربِ الزَّعفراني، ورَوى عنه الخَطيبُ أبو بكرٍ صاحبُ "تاريخ بغداد" وقال: كان ثِقةً. وله من التَّصانيف غير "الحاوي" "تفسير القرآن الكريم" و"النُّكَت والعُيون" و"أدب الدِّين والدنيا" و"الأحكام السلطانية" و"قانون الوزارة" و"سياسة المُلْكِ" و"الإقناع" في المَذهَب، وهو مُختصَر، وغير ذلك، وصَنَّفَ في أُصولِ الفِقهِ والأَدبِ وانتفع النَّاسُ به. وقد وَلِيَ الحُكمَ في بلادٍ كَثيرةٍ، وكان ذا حَظوَةٍ عند الخَليفةِ وعند بني بُويه، توفِّي عن سِتٍّ وثمانين سَنةٍ، ودُفِنَ ببابِ حَربٍ.
اشتَدَّ الغلاءُ بإفريقيَّةَ مِن سنة 537 إلى سنة اثنتين وأربعين حتى أكَلَ النَّاسُ بعضُهم بعضًا، وخَلَت القرى، ولحِقَ كثيرٌ مِن النَّاسِ بجزيرة صقلية، فاغتنمَ رجار مُتمَلِّكُها الفُرصةَ وبعث جرج، مُقَدَّم أسطولِه، فنزل على المهديَّة ثامِنَ صفر سنة 542، وبها الحَسَنُ بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، ففَرَّ بأخَفِّ حِملِه وتَبِعَه الناس، فدخل جرج المهديَّةَ بغيرِ مانعٍ، واستولى على قَصرِ الأمير حَسَن، وأخذ منه ذخائِرَ نَفيسةً وحظايا بديعاتٍ، وعزم حَسَن على المجيءِ إلى مصر، فقَبَضَ عليه يحيى بن العزيز، صاحِبُ بجاية، ووكَلَ به وبأولادِه، وأنزله في بعضِ الجزائر، فبَقي حتى ملك عبدُ المؤمنِ بنُ علي بجاية سنة 547، فأحسنَ إلى الأمير حسن وأقَرَّه في خدمتِه، فلَمَّا مَلَك المهديَّةَ تقَدَّمَ إلى نائبه بها أن يقتديَ برأيِ حَسَن ويَرجِعَ إلى قوله، وكان عِدَّةُ مَن ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحَسَن تسعةَ ملوك، ومُدَّةُ ولايتهم 208 سنوات، من سنة 335 إلى سنة 543, وفيها بَعَثَ رجار بن رجار مَلِكُ جزيرة صقلية إلى المهديَّة أُسطولَه، مائتين وخمسين من الشواني، مع جرجي بن ميخائيل، فجَدَّ في حِصارِها حتى أخَذَها في صفر، ومَلَك سوسة وصفاقس، وملك رجار بونة.
سار الإمامُ سعود بجيوشِه التي استنفرها من جميعِ النواحي الحاضر والبادي من وادي الدواسر إلى مكة والمدينة، إلى جبلِ طيٍّ والجوف وما بين ذلك الدرعية، وقصد نقرة الشام المعروفة؛ لأنه بلغه الخبَرُ أنَّ بوادي الشام وعربانه من عنزة وبني صخر وغيرهم فيها, فلما وصل تلك الناحية لم يجِدْ فيها أحدًا منهم؛ إذ سبقه النذيرُ إليهم فاجتمعوا على دوخي بن سمير رئيس ولد علي من عنزة، وهو من وراء الجبَلِ المعروف بطويل الثلج قربَ نابلس نازلين عين القهوة من جبل حوران, ولما بلغ ابن سمير ومن معه إقبالُ سعود إليهم انهزم بمن معه من البوادي ونزلوا الغور من حوران, فسار سعود في تلك الناحية وأقبل فيها وأدبر واجتاز بالقرى التي حول المزيريب وبصرى، وكان أهلها قد هربوا عنها لَمَّا سمعوا بمسيره, ثم نزل عين البجَّة وروى منها المسلمون وشربت خيلهم وجيوشهم، ثم أقبل على قصر المزيريب، فظهر عليهم منهم خيلٌ، فحصل طرادٌ فانهزمت الخيل إلى القصر واحتصروا فيه, ثم ارتحل سعودٌ لأجل حصانته ونزل بصرى, وبات فيها ثم رجع قافلًا إلى وطنِه ومعه غنائمُ كثيرة من الخيل والمتاع والأثاث والطعام، وقُتِل من أهل الشام عِدَّةُ قتلى، وحصل في الشام رجفةٌ ورهبة عظيمة بهذه الغزوة في دمشقَ وغيرها من بلدانه وبواديه.
هو مَلِكُ فارس ناصر الدين شاه بن محمد ميرزا القاجار، الحاكِمُ الرابع في أسرة القاجار الشيعية في فارس. وُلِدَ في 6 صفر 1247 هـ/ 17 يوليو 1831 في قرية كُهنَمار بالقرب من تبريز، وكان أبوه محمد ميرزا وأمُّه ملك جهان خانم المعروفة بمهد العليا. حكَمَ فارس من 1848م، ولم يكُنْ وصولُ ناصر الدين للعرش إلَّا بمساعدة القنصل البريطاني في تبريز، وفي عهدِه تمَّ قَمعُ الحركة البابية وقتل الباب. بحَثَ ناصر الدين عن المجدِ العسكري فاستولى على هيرات، ولكِنَّ القواتِ الهنديةَ البريطانيةَ أجبَرَته على الانسحابِ، وفى الشطرِ الثاني من حُكمِه ألغى الصدارةَ العظمى (رياسة الوزراء) وتولَّاها هو بنفسِه، وبدأ حركةَ إصلاحٍ وتحديثٍ، كما قام برحلاتٍ إلى أوربا سجَّلها في يوميات تبَيِّن مدى إعجابه بالحضارة الأوربية، وأدَّى ازدياد النفوذ الأجنبي -خاصة البريطاني- في فارس إلى اضطراباتٍ شعبيَّةٍ أدَّت إلى اغتيالِه في 18 ذو القعدة 1313 هـ الموافق أول مايو 1896 داخِلَ مزار الشاه عبد العظيم. قُتِلَ ناصر الدين شاه بعد أن حكَمَ نصف قرن تقريبًا، وتولى بعده مظفر الدين شاه الذي تولى الأمورَ في الثامِنِ من حزيران سنة 1896م يعني بعد شهرٍ وعدة أيام من موتِ ناصر شاه.
في هذا العام زار الإمبراطورُ الألمانيُّ ويلهلم استانبولَ فلَحِقَه هرتزل وتمكَّن من مقابلتِه في القدس وطلَبَ مساعدتَه بشأن الهجرة إلى فلسطين، وبعد توسُّط السفارة الألمانية في استانبول تقَدَّم هرتزل وبصُحبتِه الحاخام اليهوديُّ موشيه ليفي مِن السلطان عبد الحميد الثاني قائلًا: مولانا صاحِبَ الشوكة جلالةَ السلطانِ، لقد وكَّلَنا عبيدُكم اليهودُ بتقديم أسمى آيات التبجيل والرجاءِ، عبيدُكم المخلِصون اليهودُ يقَبِّلون الترابَ الذي تدوسونه ويَستعطِفونكم للهجرةِ إلى فلسطين المقدَّسة، ولقاء أوامِرِكم العالية الجليلة نرجو التفضُّلَ بقَبولِ هديَّتِكم خمس ملايين ليرة ذهبية، فما كان من الخليفةِ إلَّا أن أمر بطردِهم، كما جاء في مذكرات هرتزل، بلِّغوا هرتزل ألا يبذُلَ بعد اليوم شيئًا من المحاولة في هذا الأمرِ؛ أمرِ دُخولِ فلسطين، والتوطُّن فيها؛ فإنِّي لست مستعدًّا لأن أتخلى عن شبرٍ واحدٍ من هذه البلاد لتذهَبَ إلى الغيرِ، فالبلاد ليست ملكي بل هي مِلكٌ لشعبي، روى ترابها بدمائِه، فلْتحتفِظ اليهودُ بملايينهم من الذهَبِ. وأصدر أمرًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين، فاتخذوا قرارًا بخَلعِه وحاولوا استخدامَ المنظَّمات السرية الأرمنية، وفوَّضوا عمانوئيل قره صو الذي يتمتَّع بجنسية عثمانية وإيطالية، والذي أصبح نائبًا عن ولاية سلانيك بتلك المهمَّة، فكان هذا اليهودي ممن اشترك مع الوافدِ الذي دخل على الخليفة ليبلِّغَه قرارَ عَزلِه.