في يومِ الجمعة ثامِنَ ذي الحجة قَدِمَ الخبر بنزول أربع قطايعَ على الإسكندرية من الفرنج، وأنهم رمَوا على المدينة بمنجنيق، فخرج تلك الليلةَ ثلاثة وعشرون أميرًا، منهم ثلاثةٌ من الألوف وعشرة من الطبلخاناه وعشرة من أمراء العشرات، فقَدِمَ الخبر في عشية السبت أنَّ المغاربة والتركمان نزلوا في المراكب، وقاتلوا الفرنج، وقتلوا منهم نحوَ المائة، وغنِموا منهم مركبًا.
سُمِّيَتْ حَجَّةَ الوَداعِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَدَّعَ النَّاسَ فيها، ولم يَحُجَّ بعدَها، وسُمِّيَتْ حَجَّةَ الإسلامِ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ لم يَحُجَّ مِنَ المدينةِ غيرَها، وسُمِّيَتْ حَجَّةَ البَلاغِ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ بلَّغَ النَّاسَ شَرْعَ الله في الحَجِّ قَولًا وفِعلًا، ولم يكنْ بَقِيَ مِن دَعائِمِ الإسلامِ وقَواعِدِهِ شيءٌ إلَّا وقد بيَّنَهُ عليه السَّلامُ، فلمَّا بيَّنَ لهم شَريعَةَ الحَجِّ ووَضَّحَهُ وشَرحَهُ أَنزلَ الله عزَّ وجلَّ عليه وهو واقِفٌ بِعَرفةَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وعندما أَعلنَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عَزمَهُ على الحَجِّ في هذا العامِ قَدِمَ المدينةَ بَشَرٌ كَثيرٌ، كُلُّهُم يَلتَمِسُ أن يَأْتَمَّ بِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ويَعملَ مِثلَ عَملِهِ. وخرَج مِنَ المدينةِ لِخمسٍ بَقِينَ مِن ذي القَعدةِ. وقد وقعَت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في مَسيرِهِ هذا ورُجوعِهِ أَحداثٌ كَثيرةٌ.
مُنِعَ أهلُ الكرخ في بغداد من النَّوحِ وفِعلِ ما جَرَت عادتُهم بفعله يومَ عاشوراء، فلم يَقبَلوا وفعلوا ذلك، فجرى بينهم وبين السُّنَّة فِتنةٌ عظيمة قُتِلَ فيها وجُرِحَ كثيرٌ من الناس، ولم ينفَصِل الشَّرُّ بينهم حتى عبَرَ الأتراك وضربوا خيامَهم عندهم، فكَفُّوا حينئذ، ثم شرع أهلُ الكرخ في بناء سورٍ على الكرخ، فلمَّا رآهم السنَّةُ من القلَّائين – صَنعَتُهم القَليُ- ومَن يجري مجراهم، شرعوا في بناءِ سُورٍ على سوق القلَّائين، وأخرج الطائِفتانِ في العمارةِ مالًا جليلًا، وجَرَت بينهما فِتَنٌ كثيرة، وبَطَلَت الأسواق، وزاد الشَّرُّ، حتى انتقل كثيرٌ من الجانب الغربي إلى الجانِبِ الشرقيِّ فأقاموا به، وتقدَّمَ الخليفة إلى أبي مُحمَّد بن النسوي بالعبور وإصلاحِ الحالِ وكفِّ الشَّرِّ، فسَمِعَ أهل الجانب الغربي ذلك، فاجتمع السُّنَّةُ والشيعة على المنعِ منه، وأَذَّنوا في القلَّائينَ وغيرِها بحيَّ على خيرِ العمل، وأَذَّنوا في الكرخ الصلاةُ خَيرٌ من النوم، وأظهروا الترَحُّمَ على الصحابةِ.
لما حلف الأمراء والأجناد واستقرت القاعدة على تملُّك شجرة الدر، نَدَب الأميرُ حسام الدين محمد بن أبي علي للكلامِ مع الملك لويس التاسع في تسليمِ دمياط، فجرى بينه وبين الملك مفاوضاتٌ ومحاورات ومراجعات، آلت إلى أن وقع الاتفاقُ على تسليمها من الفرنجِ، وأن يخلى عنه ليذهَبَ إلى بلاده، بعدما يؤدِّي نصفَ ما عليه من المالِ المقَرَّر، فبعث الملك الفرنسي إلى من بها من الفرنجِ يأمُرُهم بتسليمِها، فأبوا وعاوَدَهم مرارًا، إلى أن دخل العَلَمُ الإسلاميُّ إليها، في يوم الجمعة لثلاث مضينَ مِن صفر، ورفع على السُّورِ وأُعلِنَ بكلمة الإسلام وشهادةِ الحَقِّ، فكانت مدةُ استيلاء الفرنج عليها أحد عشر شَهرًا وتسعة أيام، وأُفرِجَ عن الملك لويس التاسع، بعدما فدى نفسَه بأربعمائة ألف دينار، وأفرج عن أخيه وزوجته ومن بقي من أصحابِه، وسائر الأسرى الذين بمصر والقاهرة، ممَّن أُسِرَ في هذه الواقعة، ومن أيام العادل والكامِلِ والصالح وكانت عِدَّتُهم اثني عشر ألف أسير ومائة أسير وعشر أسارى، وساروا إلى البر الغربي، ثم ركبوا البحرَ في يوم السبت تاليه، وأقلَعوا إلى جهة عكَّا.
الحاكِمُ بأمر الله أبو العباس أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد الهاشمي العباسي، كان بويِعَ بالخلافة بعد وفاةِ والده بقوص في العشرين من شعبان سنة 741، فلم يُمضِ له السُّلطانُ المَلِكُ الناصر محمد بن قلاوون ما عَهِدَه أبوه؛ لِما كان في نفسِه من والده المستكفي بالله مِن مَيلِه للمَلِكِ المظَفَّر بيبرس الجاشنكير، وأراد أن يولِّيَ الخلافة لبعض أقارِبِه، بل أحضَرَه وخَلَع عليه، ثمَّ مات المَلِكُ الناصر بعد ذلك بمُدَّة يسيرة، فتَمَّت بموتِه خلافةُ الحاكِمِ هذا إلى أن مات في هذه السَّنةِ بسَبَبِ الطاعونِ، والمتولِّي يومئذ لأمور الدِّيار المصرية الأميرُ شيخون والأمير طاز والأمير صرغتمش ونائب السلطنة الأمير قبلاي، والسُّلطان الملك الصالح، وكان الحاكِمُ مات ولم يَعهَدْ بالخلافة لأحد، فجَمَع الأمراءُ القُضاةَ، وطُلِب جماعةٌ من بني العباس، حتى وقع الاختيارُ على أبي بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان فبايعوه ولقَّبوه بالمُعتَضِد بالله، فكانت مُدَّةُ خلافة الحاكم بأمر الله قرابة العَشرِ سنوات ونصف.
كانت منطقةُ الأحواز تسمَّى عربستان، وهي إمارةٌ عربيةٌ تقعُ في محيطٍ فارسي، وكانت مشمولةً برعايةٍ بريطانيةٍ يحكُمُها أميرُ الشيخ حسين خزعل، وهي إمارة مستقلَّة، إلى أن جاء الجنرال رضا بهلوي، ونظرًا لتأثير الحرب العالمية الثانية على بريطانيا وسَعْيِها لكسبِ إيران وضمانِ مساندتها لبريطانيا قامت بريطانيا بإعطاءِ إمارة عربستان لإيران في هذا العام، وَعَمِلَ الجنرالُ بهلوي على إنهاءِ حُكمِ آخِرِ حکَّامِ الکعبيين -وهو خزعل جابر الکعبي- على الأحواز، ثم قام بضمِّها كجزءٍ من الدولة الفارسية، ويعَدُّ السببُ الأقوى لاحتلال إيران لهذه المنطقة كونَها غنيَّةً بالموارد الطبيعية من النفطِ والغاز، ويوجَدُ فيها أراضٍ زراعية خصبة؛ حيث يصبُّ فيها أكبر أنهار المنطقة، وهو نهر كارون؛ لذلك تعتبرُ منطقة الأحواز هي المنتِجَ الرئيسيَّ لمحاصيل السكر والذرة في إيران، وتساهم مواردُها بحوالي نصف الناتج القومي لإيران، وأكثر من 80% من قيمة الصادرات في إيران. ويعَدُّ إقليم الأحواز أقربَ المناطق العربية التي استولت عليها إيرانُ إلى العراق، بل إنَّ إيران استفادت استفادةً كبيرة منها في صراعِها مع العراقِ حول منطقةِ شَطِّ العرب.
انْتدَب ثلاثةٌ مِن الخَوارجِ، وهُم: عبدُ الرَّحمنِ بن مُلْجِمٍ المُراديُّ، والبَرْكُ بن عبدِ الله التَّميميُّ، وعَمرُو بن بكرٍ التَّميميُّ، فاجتمعوا بمكَّةَ، فتَعاهَدوا وتَعاقَدوا لَيَقْتُلَنَّ هؤلاء الثَّلاثةُ: عَلِيَّ بن أبي طالبٍ رضِي الله عنه، مُعاويةَ بن أبي سُفيانَ، وعَمرَو بن العاصِ، ويُريحوا العِبادَ منهم، فقال ابنُ مُلْجِمٍ: أنا لِعَلِيٍّ. وقال البَرْكُ: أنا لِمُعاويةَ، وقال الآخرُ: أنا أَكْفِيكُم عَمْرًا، فتَواثَقوا أن لا يَنكُصوا، واتَّعَدوا بينهم أن يَقَعَ ذلك ليلةَ سبعَ عشرةَ مِن رمضانَ، ثمَّ تَوجَّه كلُّ رجلٍ منهم إلى بلدٍ بها صاحِبُه، فقَدِمَ ابنُ مُلْجِمٍ الكوفةَ، وبَقِيَ ابنُ مُلْجِمٍ في اللَّيلةِ التي عزَم فيها على قَتْلِ عَلِيٍّ يُناجي الأشعثَ بن قيسٍ في مَسجدِه حتَّى طلَع الفجرُ، فقال له الأشعثُ: ضَحِكَ الصُّبحُ، فقام وشَبِيبٌ فأخَذا أَسْيافَهُما، ثمَّ جاءا حتَّى جلَسا مُقابِلَ السُّدَّةِ التي يَخرُج منها عَلِيٌّ، فضرَب عَلِيًّا بسَيْفِه المَسمومِ على رَأسِه، فلمَّا قُتِلَ أَخَذوا عبدَ الرَّحمنِ بن مُلْجِمٍ وعَذَّبوهُ فقَتَلوهُ. وكانت مُدَّةُ خِلافةِ عَلِيٍّ خمسَ سنين، فجَزاهُ الله عن المسلمين خيرًا، ورضِي عنه وأَرضاهُ، وهو أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ.
هو الفُضيلُ بنُ عِياضِ بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي الخراساني، المجاوِرُ بحرم الله، وُلِدَ بسمرقند، ونشأ بأبيورد، وارتحلَ في طلَبِ العلم؛ قال الفضل بن موسى: كان الفضيلُ بنُ عياض شاطِرًا يقطَعُ الطَّريقَ بين أبيورد وسرخس، وكان سبَبُ توبته أنَّه عَشِقَ جارية، فبينا هو يرتقي الجُدران إليها، إذ سَمِعَ تاليًا يتلو {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...} [الحديد: 16] فلمَّا سَمِعَها، قال: بلى يا رَبِّ، قد آن، فرجع، فآواه الليلُ إلى خربةٍ، فإذا فيها سابلةٌ، فقال بعضُهم: نرحَلُ، وقال بعضهم: حتى نُصبحَ؛ فإنَّ فُضَيلًا على الطريق يقطَعُ علينا، قال: ففَكَّرتُ، وقلتُ: أنا أسعى باللَّيلِ في المعاصي، وقومٌ مِن المسلمينَ هاهنا، يخافونني، وما أرى اللهُ ساقني إليهم إلَّا لأرتَدِعَ، اللهمَّ إني قد تبتُ إليك، وجعلتُ توبتي مجاورةَ البيتِ الحرامِ. وقال ابن المبارك: ما بقِيَ على ظهرِ الأرضِ عندي أفضَلُ من الفُضَيل بن عِياضٍ، وقيل: مات- رحمه الله- في ست وثمانين ومئة. قال الذهبيُّ: وله نيِّفٌ وثمانون سنة، وهو حُجَّةٌ كبيرُ القَدرِ.
كان أوَّلَ الخارِجين فَروةُ بن نَوفلٍ الأشجعيُّ، وكان ممَّن اعتزَل قِتالَ عَلِيٍّ والحسنِ وانحاز معه خمسُمائة فارسٍ مِن الخَوارِج إلى شَهْرَزُور، قائلًا: والله ما أدري على أيِّ شيءٍ نُقاتِلُ عَلِيًّا! أرى أن أَنصَرِفَ حتَّى تَتَّضِحَ لي بَصيرَتي في قِتالِه أو أُتابِعُه. فلمَّا سَلَّمَ الحسنُ الأمرَ إلى مُعاوِيَة قالوا: قد جاء الآن ما لا شَكَّ فيه، فسيروا إلى مُعاوِيَة فجاهِدوهُ. فأقبلوا وعليهم فَروةُ بن نَوفلٍ حتَّى حَلُّوا بالنُّخَيْلَةِ عند الكوفَة، فأرسل إليهم مُعاوِيَةُ جَمْعًا مِن أهلِ الشَّام فقاتَلوهُم، فانْهزَم أهلُ الشَّام، فقال مُعاوِيَةُ لأهلِ الكوفَة: والله لا أمانَ لكم عندي حتَّى تَكُفُّوهُم. فخرَج أهلُ الكوفَة فقاتَلوهُم. فقالت لهم الخَوارِج: أليس مُعاوِيَةُ عَدُوَّنا وعَدُوَّكُم؟ دَعُونا حتَّى نُقاتِلَه، فإن أَصَبْنا كُنَّا قد كَفَيْناكُم عَدُوَّكُم، وإن أَصابَنا كنتم قد كَفَيْتُمونا. فقالوا: لابُدَّ لنا مِن قِتالِكُم. فأخَذ بَنُو أَشْجَعَ صاحِبَهُم فَروةَ فحادَثوهُ ووَعَظوهُ فلم يَرْجِعْ، فأخَذوهُ قَهْرًا وأَدْخَلوهُ الكوفَةَ، فاسْتَعْمَل الخَوارِج عليهم عبدَ الله بن أبي الحَوْساءِ، رجلًا مِن طَيِّء، فقاتَلهُم أهلُ الكوفَة فقتَلوهُم, ثمَّ تَمَكَّنَ منه المُغيرةُ بن شُعبةَ والي العِراق وقتَله، وقُتِلَ عبدُ الله بن أبي الحَوْساء الطَّائيُّ الذي تَوَلَّى أمرَ الخَوارِج بعدَه، ثمَّ قُتِلَ حَوْثَرةُ بن وَداعٍ الأسديُّ الذي نَصَّبَهُ الخَوارِج أميرًا عليهم. ثمَّ خرَج أبو مَريم وهو مَوْلًى لِبَني الحارثِ بن كعبٍ، وقد أَحَبَّ أن يُشْرِكَ النِّساءَ معه في الخُروجِ؛ إذ كانت معه امرأتان: "قَطام وكُحَيْلَة" فكان يُقالُ لهم: يا أصحاب كُحَيْلَة وقَطام. تَعْيِيرًا لهم، وقد أراد بهذا أن يَسُنَّ خُروجَهُنَّ، فوَجَّهَ إليه المُغيرةُ جابرَ البَجليَّ فقاتَلهُ حتَّى قتَلهُ وانْهزَم أصحابُه. ثمَّ خرَج رجلُ يُقالُ له: أبو لَيْلى، أَسْودُ طَويلُ الجِسْم، وقبلَ أن يُعْلِنَ خُروجَه دخَل مَسجِدَ الكوفَة وأخَذ بعِضادَتَيِ البابِ، وكان في المسجدِ عِدَّةٌ مِن الأشرافِ، ثمَّ صاح بأعلى صَوتِه: لا حُكمَ إلَّا لله، فلم يَعترِضْ له أحدٌ، ثمَّ خرَج وخرَج معه ثلاثون رجلًا مِن الموالي بسَوادِ الكوفَة، فبعَث له المُغيرةُ مَعقِلَ بن قيسٍ الرِّياحيَّ فقَتلَه سنة 42هـ.
في يوم السبت أول شهر ربيع الآخر نودي في المماليك السلطانية المعينين إلى تجريدة البلاد الشامية لقتال ابن قرمان، ثمَّ في يوم الخميس خامس جمادى الأولى برز الأمراء والعساكر من القاهرة إلى الريدانية خارج القاهرة، وأقاموا بالريدانية إلى ليلة الاثنين تاسِعَه، فاستقلوا فيه بالمسير من الريدانية إلى جهة البلاد الشامية، ثم سافر الأمير نوكار الزردكاش، ومعه عدة من الرماة والنفطية وآلات الحصار وهو مريض، ورسم له أن يأخذ من قلعة دمشق ما يحتاج إليه من أنواع الآلات وغيرها للحصار، ويلحق العساكر المتوجِّهة لقتال ابن قرمان، وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر جمادى الأولى ورد الخبر على السلطان بوصول العساكر المتوجهة لقتال ابن قرمان إلى حلب، وأنه اجتمع رأي الجميع على السير من حلب إلى جهة ابن قرمان في يوم السبت السادس والعشرين جمادى الآخرة، ثمَّ في يوم الاثنين رابع شعبان وصل الخبر من الأمير خشقدم أمير سلاح ومن رفقته النواب بالبلاد الشامية بأنهم وصلوا إلى بلاد ابن قرمان، وملكوا قلعة دوالي، ونهبوها وأخربوها، وأنهم جهَّزوا الأمير بردبك البجمقدار رأس نوبة ومعه عدَّةٌ من المماليك السلطانية والأمراء بالبلاد الشاميَّة إلى جهةٍ من جهات بلاد ابن قرمان، فصدفوا في مسيرهم عسكرًا من أصحاب ابن قرمان فواقعوهم وهزموهم، وأنَّه قُتل من المماليك السلطانية أربعة في غير المصاف، بل من الذين صدفوهم في أثناء الطريق، ثم ورد الخبرُ بأن العساكر المتوجهة إلى بلاد ابن قرمان قصدت العودَ إلى جهة حلب بعد أن أخذوا أربع قلاع من بلاد ابن قرمان، وأخربوا غالب قرى ممالكه، وأحرقوا بلاطه وسَبَوا ونهبوا وأمعنوا في ذلك، حتى إنهم أحرقوا عدة مدارس وجوامع، وذلك من أفعال أوباش العسكر، وأنهم لم يتعرَّضوا إلى مدينة قونية ولا مدينة قيصرية لنفودِ زادهم، ولضجَر العسكر من طول مدَّتِهم بتلك البلاد، مع غلوِّ الأسعار في المأكل وغيره من سائر الأشياء، ولولا هذا لاستولوا على غالب بلاد ابن قرمان، وأنَّ ابن قرمان لم يقاتل العسكر السلطاني، بل إنه انحاز إلى جهة منيعة من جهاته وتحصَّن بها هو وأعيان دولته، وترك ما سوى ذلك من المتاع والمواشي وغيرها مأكلةً لمن يأكله، فحصل له بما أخذ له وهَنٌ عظيم في مملكته.
هو الملك نادر شاه الأفشار التركماني، ويعرف كذلك باسم "نادر قـُلي بگ" ولد نادر شاه في محرم 1100هـ/ 22 نوفمبر 1688م وجلس على العرش في شوال 1148هـ وهو مؤسِّس الأسرة الأفشارية التي حكمت إيران. كانت قبيلةُ أفشار هي إحدى القبائل التركمانية التي فرَّت من وجه المغول تاركةً تركستان، واستقرت في أذربيجان، فأرسل الشاه إسماعيل الصفوي قِسمًا من هذه القبيلة إلى الجزء الشمالي من خراسان وأسكنهم فيها بالقرب من منبع نهر كوبكان. كان أول أمر نادر شاه من قطَّاع الطرق, ثم جمع رجاله ورأى من مصلحته العمل كقائد عسكر لطهماسب الثاني آخر شاهات الدولة الصفوية, كان لنادر شاه الفضلُ في حركة المقاومة العسكرية لتحرير إيران من الاحتلال الأفغاني، وبعد نجاحه أخذ اسمُه يصعد في إيران حتى انتهى به الأمر إلى أن نصَّب نفسه شاهًا لإيران بعد أن عزل طهماسب الثاني, وأعلن نهايةَ الدولة الصفوية في إيران. عُرف نادر شاه بأنه محارب عسكري مشهور بحملاته العسكرية, ويعدُّ واحدًا من أكبر الغزاة الفاتحين في تاريخ إيران الحديث، حيث قام بعدة حملات ناجحة في الهند وأفغانستان وضِد الدولة العثمانية وآسيا الوسطى، وحَسَبت له روسيا حسابه كقوَّة فتية في المنطقة، وتحالفت معه ضد العثمانيين. فلما زادت قسوةُ نادر شاه ورأى الناس ظلمَه وتعسُّفَه، خافه الأمراء فتآمروا على قتلِه، وفي جملتهم بعضُ القواد من الأفشار، وكان منهم رئيسُ الحرس الذي أعانهم فدخلوا عليه وهو نائم فقتلوه في سريره ليلة 11 من جمادى الثانية, ثم أرسلوا وراءَ علي شاه ابن أخي نادر شاه فحكَّموه على إيران، لكنه كان ضعيفًا خاملًا، فجاء أخوه إبراهيم الذي حكم العراق باسمه وعزله، وكان علي شاه قد قَتَل كل آل نادر عدا حفيدًا له اسمه شاه رخ ميرزا، وأما إبراهيم فلم يدُم طويلًا حتى قتله حرَّاسه وولَّوا مكانه شاه رخ الصغير، لكن قائد الجيوش ميرزا محمد أسَرَه وسمل عينيه وأعيد بعد فترة، حيث جاء علي خان رئيس جيش إيران فأخرجه من سجنه وأعاده، لكنه رضي ببلاد خراسان وحسبُ, وصارت إيران في قبضة كريم خان زند، وأخذت الولايات تستقِلُّ واحدة تلو الأخرى.
هو الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، واسمه تمرلنك وقيل تيمور، كلاهما بمعنى واحد، والثاني أفصح، وهو باللغة التركية: الحديد. ومعنى لنك: الأعرج، ومعنى كوركان: صهر الملك، وهو ينتمي إلى قبيلة البرلاس التركية، وقد كان أحد أجداده وهو قراجا رنويان قد دعم جنكيز خان فأحبَّه وجعله وصيًّا على ابنه جغطاي، فبرز بين المغول وعرف. ولد تيمور عام 736 في كش، وقيل: إنه دخل في الإسلام على مذهب الشيعة. وكان تيمور طويل القامة، كبير الجبهة، عظيم الهامة، شديد القوَّة، أبيض اللون مشربًا بحمرة، عريض الأكتاف، غليظ الأصابع، مسترسل اللِّحية، أشلَّ اليد، أعرج اليمنى، تتوقَّد عيناه، جهير الصَّوت، لا يهاب الموت، قد بلغ الثمانين، وهو متمتِّع بحواسه وقوَّته. وكان يكره المزاَّح ويبغض الكذّاب، قليل الميل إلى اللهو، على أنّه كان يعجبه الصوت الحسن، وكان نقش خاتمه: رستى رستى، ومعناه: "صدقت نجوت" وكان له فراسات عجيبة، وسعد عظيم، وحظ زائد في رعيته، وكان له عزم ثابت، وفهم دقيق، محجاجًا سريع الإدراك، متيقِّظَا يفهم الرَّمز ويدرك اللمحة، ولا يخفى عليه تلبيس ملبِّس، وكان إذا عزم على شيء لا ينثني عنه، وكان يقال له: صاحب قران الأقاليم السبعة، وقهرمان الماء والطين، وقاهر الملوك والسَّلاطين، وكان مغرمًا بسماع التاريخ وقصص الأنبياء عليهم السَّلام ليلًا ونهارا، حتى صار-لكثرة سماعه للتاريخ- يردُّ على القارئ إذا غلط فيها، وكان يحبُّ العلم والعلماء، ويقرِّب السَّادة الأشراف، ويُدني أرباب الفنون والصَّنائع. وكان انبساطه بهيبة ووقار، وكان يباحث أهل العلم وينصف في بحثه، ويبغض الشُّعراء والمضحكين، ويعتمد على أقوال الأطبَّاء والمنجِّمين، حتى إنَّه كان لا يتحرَّك بحركة إلا باختيار فلكي, وكان يلازم لعب الشطرنج، وكان الشيخ عبد الجبَّار بن عبد الله المعتزلي الحنفي الخوارزمي عالم الدّشت، صاحب تيمورلنك وإمامه وعالمه وترجمانه. ولتيمور واقعة مع العلَّامة القاضي محب الدين أبي الوليد محمد بن محمد بن محمود الحلبي قاضيها الحنفي المعروف بابن الشحنة: لما أخذ تيمور قلعة حلب بالأمان والأيمان فاستحضر علماءها وقضاتها فحضروا إليه وطلب من معه من أهل العلم، فقال لكبيرهم عنده، وهو عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي، قُل لهم: إني سائلهم عن مسائل سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وهراة وخراسان وسائر البلاد التي افتتحتها فلم يفصحوا الجواب، فلا تكونوا مثلهم، ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم، وليعرف ما يتكلم به؛ فإني خالطت العلماء، وكان يعنت العلماء في الأسئلة ويجعل ذلك سببًا إلى قتلهم أو تعذيبهم، قال القاضي ابن الشحنة، فقال القاضي شرف الدين موسى الأنصاري الشافعي: هذا شيخنا ومدرس هذه البلاد ومفتيها مشيرًا إليَّ، سلوه. قال: فقال لي قاضيه عبد الجبار: سلطاننا يقول: إنه بالأمس قُتِل منا ومنكم، فمن الشهيد: قتيلُنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع وقلنا في أنفسنا: هذا الذي كان يبلغنا عنه من التعنت، وسكت القوم ففتح الله عليَّ بجواب سريع بديع فألقى إلي تيمور سمعه وبصره، وقال لعبد الجبار يسخر من كلامي: كيف سئل رسول الله عن هذا؟ وكيف أجاب؟ فقلت: جاء أعرابي إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إن الرجل يُقاتِلُ حميةً ويقاتل ليريَ مكانه من الشجاعة، فأينا الشهيد في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكونَ كلمة الله هي العليا، فهو الشهيد)). فقال تيمورلنك: خوب خوب! فانفتح باب المؤانسة، فكثر منه السؤال وكثر مني الجواب، وكان آخر ما سأل أن قال: ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد؟ فأسرَّ إلى القاضي شرف الدين: أن اعرِفْ كيف تجاوبُه؛ فإنه شيعي، فلم أفرغ من سماع كلامه إلا وقد قال القاضي علم الدين القفصي المالكي كلامًا معناه: إن الكل مجتهدون، فغضب لذلك غضبًا شديدًا، وقال: علي على الحق، ومعاوية ظالم، ويزيد فاسق، وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزيدون قتلوا الحسين، قال: فأخذت في ملاطفته والاعتذار عن المالكي بأنه أجاب بشيء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فعاد إليَّ دون ما كان عليه من البسط, وحضر صلاة المغرب وأقيمت الصلاة وأمَّنا عبد الجبار، وصلى تيمورلنك إلى جانبي قائمًا يركع ويسجد، ثم تفرقنا، وفي اليوم الثاني: غدر بكل من في القلعة وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة ما لا يحصى، أخبرني بعض كُتابه أنه لم يكن أخذ من مدينة قط ما أخذ من هذه القلعة، وعوقب غالب المسلمين بأنواع من العقوبة، وحبسوا بالقلعة. بعد أن عاد تيمورلنك من حربه مع العثمانيين واستقر في سمرقند استعدَّ لغزو الصين، فتوجه بجيوشه إليها، ولكن وفي الطريق هاجت العواصف الثلجية فتأثر ببردها، فكانت وفاته في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة 807 وهو نازل بالقرب من أترار، وأترار بالقرب من آهنكران، ومعنى آهنكران باللغة العربية: الحدادون، وكان سبب موته أنَّه خرج من بلاده لأخذ بلاد الصِّين، وقد انقضى فصل الصيف ودخل الخريف، وكتب إلى عساكره أن يأخذوا الأُهبة لمدة أربع سنين، فاستعدوا لذلك وأتوه من كلِّ جهة، وصُنِع له خمسمائة عجلة لحمل أثقاله. ثمَّ خرج من سمرقند في شهر رجب وقد اشتد البرد، ونزل على سيحون وهو جامد، فعبره ومرَّ سائرا، فأرسل الله عليه من عذابه جبالًا من الثلج التي لم يُعهَد بمثلها مع قوَّة البرد الشديد، فلم يبقَ أحد من عساكره حتى امتلأت آذانهم وعيونهم وخياشيمهم، وآذان دوابهم وأعينها من الثلج، إلى أن كادت أرواحهم تذهب. ثمَّ اشتدت تلك الرِّياح، وملأ الثلج جميع الأرض -مع سعتها- فهلكت بهائمهم. وجمد كثير من النّاس، وتساقطوا عن خيولهم موتًا. وجاء بعقب هذا الثَّلج والرّيح أمطار كالبحار، وتيمور مع ذلك لا يرقُّ لأحد، ولا يبالي بما نزل بالناس، بل يجدُّ في السَّير، فما أن وصل تيمور إلى مدينة أترار حتى هلك خلق كثير من قواته, ثمَّ أمر تيمور أن يستقطر له الخمر حتى يستعمله بأدوية حارَّة لدفع البرد وتقوية الحرارة، فعُمِل له ما أراد من ذلك, فشرع تيمور يستعمله ولا يسأل عن أخبار عساكره وما هم فيه، إلى أن أثَّرت حرارة ذلك وأخذت في إحراق كبده وأمعائه، فالتهب مزاجه حتى ضَعُف بدنه، وهو يتجلَّد ويسير السَّير السّريع، وأطبَّاؤه يعالجونه بتدبير مزاجه إلى أن صاروا يضعون الثلج على بطنه؛ لعِظَمِ ما به من التلهب، وهو مطروح مدة ثلاثة أيام، فتَلِفَت كَبِده، وصار يضطرب ولونه يحمرُّ، ونساؤه وخواصُّه في صراخ، إلى أن هلك إلى لعنة الله وسَخَطِه، ولما مات لبسوا عليه المسوح، ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل بن ميران شاه بن تيمور، فعاد إلى سمرقند برمَّة جده تيمور. فخرج النَّاس إلى لقائه لابسين المسوح بأسرهم، وهم يبكون ويصرخون، ودخل ورمَّةُ تيمور بين يديه في تابوت أبنوس، والملوك والأمراء وكافة النَّاس مشاة بين يديه، وقد كشفوا رؤوسهم وعليهم المسوح، إلى أن دفنوه على حفيده محمد سلطان بمدرسته، وأقيم عليه العزاء أيَّامًا، وقُرِئَت عنده الختمات، وفُرِّقت الصَّدقات، ومدَّت الحلاوات والأسمطة بتلك الهمم العظيمة، ونُشِرت أقمشته على قبره، وعلَّقوا سلاحه وأمتعته على الحيطان حوالي قبره، وكلُّها ما بين مرصع ومكلل ومزركش، في تلك القبّة العظيمة، وعُلِّقت بالقبَّة قناديل الذَّهب والفضَّة، من جملتها قنديل من ذهب زنته أربعة آلاف مثقال -وهو رطل بالسَّمرقندي، وعشرة أرطال بالدِّمشقي، وأربعون رطلًا بالمصري- وفرشت المدرسة بالبُسُط الحرير والدِّيباج. ثمَّ نُقِلت رمَّتُه إلى تابوت من فولاذ عُمِل بشيراز، وهو على قبره إلى الآن، وتحمل إليه النَّذورة من الأعمال البعيدة، ويُقصَد قبره للزِّيارة والتّبرُّك به، ويأتي قبره من له حاجة ويدعو عنده!! وإذا مرَّ على هذه المدرسة أمير أو جليل خضع ونزل عن فرسه إجلالًا لقبره؛ لِما له في صدورهم من الهيبة. فتسلطن بعده حفيده خليل بن ميران شاه فاستولى خليل على خزائن جده وبذل الأموال، وتم أمرُه إلا أن ولدَي تيمور: شاه رخ، وجلال الدين ميرانشاه، اقتسموا المملكة بينهما بخط ممتد على حدود إيران، فأخذ شاه رخ الغرب، وفيه العراق وأذربيجان وأجزاء من بلاد القفجاق القوقاز، وأخذ ميانشاه الشرق، وفيه خراسان وسجستان وأصفهان وشيراز.
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للمُسلمين: «إنِّي أُريتُ دارَ هِجرتِكُم ذاتَ نَخلٍ بين لابَتَيْنِ». وهُما الحَرَّتانِ، فهاجر مَن هاجر قِبَلَ المدينةِ، ورجع عامَّةُ مَن كان هاجر بأرضِ الحَبشةِ إلى المدينةِ، وتَجهَّز أبو بكرٍ قِبَلَ المدينةِ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «على رِسْلِكَ، فإنِّي أرجو أن يُؤذنَ لي». فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم». فحبَس أبو بكرٍ نَفْسَهُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيصحبَهُ، وعلَف راحِلتينِ كانتا عنده وَرَقَ السَّمُرِ -وهو الخَبَطُ- أربعةَ أَشهُرٍ. قال ابنُ شهابٍ: قال عُروةُ: قالت عائشةُ: فبينما نحن يومًا جُلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نَحْرِ الظَّهيرةِ، قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُتقنِّعًا، في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكرٍ: فِداءٌ له أبي وأمِّي، والله ما جاء به في هذه السَّاعةِ إلَّا أَمْرٌ، قالت: فجاء رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاسْتأذَن، فأُذِنَ له فدخل، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ: «أَخْرِجْ مَن عندك». فقال أبو بكرٍ: إنَّما هُم أَهلُك، بأبي أنت يا رسولَ الله. قال: «فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخُروجِ». فقال أبو بكرٍ: الصُّحبة بأبي أنت يا رسولَ الله؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». قال أبو بكرٍ: فَخُذْ -بأبي أنت يا رسولَ الله- إحدى راحِلَتي هاتينِ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بالثَّمنِ». قالت عائشةُ: فجَهَّزناهُما أَحَثَّ الجِهازِ، وصنعنا لهُما سُفْرَةً في جِرابٍ، فقطعتْ أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً مِن نِطاقِها فربطتْ به على فَمِ الجِرابِ، فبذلك سُمِّيت: ذاتَ النِّطاقينِ. قالت: ثمَّ لَحِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ بِغارٍ في جبلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فيه ثلاثَ ليالٍ، يَبيتُ عندهما عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وهو غلامُ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِن عندهِما بِسَحَرٍ، فيُصبحُ مع قُريشٍ بمكَّةَ كَبائِتٍ، فلا يسمعُ أمرًا، يُكتادانِ به إلَّا وعاهُ، حتَّى يأتيَهُما بخبرِ ذلك حين يَختلِطُ الظَّلامُ، ويَرعى عليهِما عامرُ بنُ فُهيرةَ، مولى أبي بكرٍ مِنْحَةً مِن غَنَمٍ، فيُريحُها عليهِما حين تَذهبُ ساعةٌ مِنَ العِشاءِ، فيَبيتانِ في رِسْلٍ، وهو لبنُ مِنْحَتِهِما ورَضِيفِهِما، حتَّى يَنْعِقَ بها عامرُ بنُ فُهيرةَ بِغَلَسٍ، يفعلُ ذلك في كُلِّ ليلةٍ مِن تلك اللَّيالي الثَّلاثِ، واسْتأجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ رجلًا مِن بني الدِّيلِ، وهو مِن بني عبدِ بنِ عَدِيٍّ، هادِيًا خِرِّيتًا -والخِرِّيتُ الماهرُ بالهِدايةِ- قد غَمَسَ حِلْفًا في آلِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ، وهو على دينِ كُفَّارِ قُريشٍ، فأَمِناهُ فدَفعا إليه راحِلَتَيْهِما، وواعَداهُ غارَ ثَوْرٍ بعدَ ثلاثِ ليالٍ، بِراحِلَتيهِما صُبْحَ ثلاثٍ، وانطلق معهما عامرُ بنُ فُهيرةَ والدَّليلُ، فأخذ بهم طريقَ السَّواحلِ. قال: سُراقةُ بنُ جُعْشُمٍ: جاءنا رُسُلُ كُفَّارِ قُريشٍ، يجعلون في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، دِيَةَ كُلِّ واحدٍ منهما، مَن قَتلهُ أو أَسَرهُ، فبينما أنا جالسٌ في مجلسٍ مِن مجالسِ قَومي بني مُدْلِجٍ، أقبل رجلٌ منهم حتَّى قام علينا ونحن جُلوسٌ، فقال يا سُراقةُ: إنِّي قد رأيتُ آنفًا أَسْوِدَةً بالسَّاحلِ، أُراها محمَّدًا وأصحابَه، قال سُراقةُ: فعرَفتُ أنَّهم هُم، فقلتُ له: إنَّهم لَيسوا بهِم، ولكنَّك رأيتَ فُلانًا وفُلانًا، انطلَقوا بِأَعْيُنِنا، ثمَّ لَبِثْتُ في المجلسِ ساعةً، ثمَّ قمتُ فدخلتُ فأمرتُ جاريتي أن تَخرُجَ بفَرسي، وهي مِن وراءِ أَكَمَةٍ، فتَحبِسَها عليَّ، وأخذتُ رُمحي، فخرجتُ به مِن ظَهرِ البيتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأرضَ، وخَفضتُ عالِيَهُ، حتَّى أتيتُ فَرسي فركِبتُها، فرفَعتُها تُقَرِّبُ بي، حتَّى دَنوتُ منهم، فعَثَرَتْ بي فَرسي، فخَررتُ عنها، فقمتُ فأَهويتُ يدي إلى كِنانتي، فاسْتخرجتُ منها الأَزلامَ فاسْتقسَمتُ بها: أَضرُّهُم أم لا، فخرج الذي أَكرهُ، فركِبتُ فَرسي، وعصيتُ الأَزلامَ، تُقَرِّبُ بي حتَّى إذا سمعتُ قِراءةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يَلتفتُ، وأبو بكرٍ يُكثِرُ الالتِفاتَ، ساختْ يَدا فَرسي في الأرضِ، حتَّى بَلغتا الرُّكبَتينِ، فخررتُ عنها، ثمَّ زجرتُها فنهَضتْ، فلم تكدْ تُخرِجُ يدَيها، فلمَّا استوت قائمةً إذا لِأثَرِ يدَيها عُثانٌ ساطعٌ في السَّماءِ مِثلُ الدُّخانِ، فاسْتقسَمتُ بالأَزلامِ، فخرج الذي أَكرهُ، فنادَيتُهم بالأَمانِ فوقفوا، فركِبتُ فَرسي حتَّى جِئتُهم، ووقع في نفسي حين لَقِيتُ ما لَقِيتُ مِنَ الحَبسِ عنهم أن سَيظهرُ أَمْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ له: إنَّ قومَك قد جعلوا فيك الدِّيةَ، وأخبرتُهم أخبارَ ما يُريدُ النَّاسُ بهِم، وعرضتُ عليهم الزَّادَ والمتاعَ، فلم يَرْزآني ولم يَسألاني، إلَّا أن قال: «أَخْفِ عَنَّا». فسألتُه أن يَكتُبَ لي كتابَ أَمْنٍ، فأمر عامرَ بنَ فُهيرةَ فكتب في رُقعةٍ مِن أَديمٍ، ثمَّ مَضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وعن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبيرَ في رَكْبٍ مِنَ المسلمين، كانوا تُجَّارًا قافِلين مِن الشَّأْمِ، فكَسا الزُّبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ ثِيابَ بَياضٍ، وسمِع المسلمون بالمدينةِ مَخرجَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن مكَّةَ، فكانوا يَغدون كُلَّ غَداةٍ إلى الحَرَّةِ، فيَنتظِرونَهُ حتَّى يَرُدَّهُم حَرُّ الظَّهيرةِ، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارَهُم، فلمَّا أَوَوْا إلى بُيوتِهم، أَوفى رجلٌ مِن يَهودَ على أُطُمٍ مِن آطامِهِم، لِأَمْرٍ يَنظرُ إليه، فبصر برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه مُبَيَّضِين يَزولُ بهِم السَّرابُ، فلم يملِك اليَهوديُّ أن قال بأعلى صوتِه: يا مَعاشِرَ العربِ، هذا جَدُّكُم الذي تَنتظِرون، فثار المسلمون إلى السِّلاحِ، فتَلَقَّوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بظَهْرِ الحَرَّةِ، فعَدل بهِم ذاتَ اليمينِ، حتَّى نزل بهِم في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، وذلك يومَ الاثنينِ مِن شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ، فقام أبو بكرٍ للنَّاسِ، وجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطَفِقَ مَن جاء مِنَ الأنصارِ -ممَّن لم يَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم- يُحَيِّي أبا بكرٍ، حتَّى أصابتِ الشَّمسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكرٍ حتَّى ظَلَّلَ عليه بِردائِه، فعرَف النَّاسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةَ غالبِ بنِ عبدِ الله اللَّيثيِّ، إلى بني عُوَالٍ وبني عبدِ بنِ ثَعلبةَ بالمَيْفَعَةِ، وقِيلَ إلى الحُرَقَاتِ مِن جُهَيْنَةَ في مائةٍ وثلاثين رجلًا؛ فهجَموا عليهم جميعًا، وقتَلوا مَن أَشرفَ لهم، واسْتاقوا نَعَمًا وشَاءً، وفي هذه السَّرِيَّةِ قَتَلَ أُسامةُ بنُ زيدٍ نَهِيكَ بن مِرْدَاسٍ بعدَ أن قال: لا إلَه إلَّا الله. فلمَّا قَدِموا وأُخْبِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، كَبُرَ عليه وقال: (أَقَتلتَهُ بعدَ ما قال: لا إلَه إلَّا الله؟!). فقال: إنَّما قالها مُتَعَوِّذًا قال: (فَهَلَّا شَققتَ عن قَلبِه فتَعلمُ أَصادِقٌ هو أم كاذبٌ؟).
بدأ الصدام بين آل خليفة ودولة الدرعية عام 1210هـ وعندما اشتَدَّ حصار قوات الدرعية على الزبارة ارتحل عنها أهلها جميعًا وانتقلوا إلى جزيرة أورال، حيث أقاموا في قرية الجو الواقعة على أحد المرتفعات جنوبي الجزيرة التي بدأت تُعرَف بالبحرين، ثم تعرَّضوا لهجوم سلطان مسقط الذي استطاع أخذ رهائن من البحرين، فاستعان آل خليفة بالإمام عبد العزيز عام 1218هـ حيث تمكَّنوا بمساعدتهم من استرجاع الرهائنِ واستعادة الجزيرة التي أصبحت تحت حُكم عمان، ومن وقتها توطَّدت العلاقة بينهما وخاصَّةً عندما عاد سليمان بن خليفة إلى حُكمِه بمساعدة الإمام سعود بن عبد العزيز عام 1224هـ.