في الوقت الذي كان الشريف حسين بن علي أميرُ مكة ما زال يتفاوضُ مع السير هنري مكماهون لإعلان الثورة العربية، كانت إنجلترا تعقِدُ صفقةً جديدة مع فرنسا لتحديدِ مناطق النفوذ بينهما في البلاد العربية، منعًا لأي خلاف قد يحدثُ في المستقبل، وهذه الاتفاقية -التي عُرِفَت باسم واضعيها السير مارك سايكس الإنجليزي، والدبلوماسي جورج بيكو الفرنسي- هي جزء من اتفاقية واسعة عقدتها دول روسيا وبريطانيا وفرنسا بين بعضها لاقتسام أجزاءٍ كبيرة من أراضي الدولة العثمانية، وقد تمَّ التصديقُ عليها في شهر نيسان سنة 1916م والحرب دائرةٌ تراقُ فيها دماء العرب والمسلمين لتحقيقِ مطامِعِ الحلفاء؛ فقد عيَّنت الحكومة البريطانية مارك سايكس، وعَيَّنت فرنسا جورج بيكو قُنصُلَها في بيروت مندوبَينِ عن الدولتين ليقوما بمباحثات غايتُها الاتفاق على نصيبِ كلٍّ منهما ضِمنَ نطاق الاتفاقية الثلاثية الكبرى، وتوصَّل المندوبان إلى اتفاقٍ صادقت عليه حكومتهما في أيار 1916م واحتفظت فرنسا في هذه الاتفاقية بمساحة كبيرة من أراضي الأناضول الجنوبية وشمالي سوريا والموصل، وأما بريطانيا فاحتفظت بولايتي البصرة وبغداد ولواء كركوك إضافةً إلى القسم الجنوبي من سوريا الطبيعية (أي: فلسطين) واتفقت الدولتان على جعل فلسطين باستثناءِ منطقة النقب منطقةً تخضع لحكمٍ دولي خاص، وقضت الاتفاقيةُ كذلك على إنشاء حُكمٍ مباشر لفرنسا في الساحل السوري، وعُرِفَت بالمنطقة الزرقاء، ويصارُ إلى الاعتراف بدولة عربية مستقلَّة تحت الانتداب الفرنسي، أي: سوريا الداخلية، ومثلها في منطقة النفوذ البريطاني، أي: شرق الأردن، فحَدَّدت الدولتان مصيرَ العرب وحدهما، وحتى الشريف حسين لم تطلعه بريطانيا على اتفاقها مع فرنسا ولم تكشف هذه الاتفاقية إلا بعد الثورة الشيوعية سنة 1917م، وكانت هذه الاتفاقيةُ مقدِّمةً لإعطاء فلسطين إلى اليهود، ومن ثم تحقيق حلمِهم الصهيوني!!!
هو مبارك بن صباح بن جابر بن عبد الله بن صباح، من عنزة، أمير الكويت، مِن الشُّجعان الدُّهاة، ولِدَ سنة 1252هـ في الكويت ونشأ فيها. كان نفوذ الكلمة فيها لأخويه (محمد، وجراح) فقتلهما سنة 1313هـ واستقام له أمر الكويت، وصار حاكِمَها المُطلَق. وهو سابع من وَلِيَها من آل الصباح. وكان للعثمانيين (الترك) شيءٌ من السلطان في الكويت، فحرَّضوا ابن الرشيد على مبارك، فظَفِرَ مبارك. فحاولوا نفيَه سنة 1315هـ بحيلة، فأرسلوا إحدى السفن لنقله، ليكونَ من أعضاء مجلس الشورى بالأستانة، فلجأ إلى الإنجليز، فأنقذوه من الأتراك، وأعلنوا حمايتَهم للكويت. وظَلَّ حاكِمًا للكويت تحت حماية الإنجليز إلى أن مات فيها بقَصرِه. كان مبارك عاليَ الهمة، طموحًا جبَّارًا مَهِيبًا، فيه حِلمٌ وكرم. لجأ آلُ سعود إليه بعد سقوطِ دولتهم الثانية، وعاش عبد العزيز بدايةَ شبابه في الكويت وتحت رعاية ابن الصباح، ساد الأمن في عهده فازدهرت الكويت تجاريًّا، وشيَّد فيها أوَّلَ مدرسة نظاميَّة، هي المدرسة المباركية، كما شُيِّد في عهده أوَّلُ المستشفيات الطبية. عانى مبارك في آخر أيامه من مرض الملاريا وتصَلُّب الشرايين، خرج من بيته إلى مجلسه في يوم وفاته بعد أن غاب عنه لعدة أيام، وقد كان يريد سماع آخر الأخبار بشأن المعارِكِ التي تحدث في العراق زمَنَ الحرب العالمية الأولى، وبعد سماعه الأخبار تناول العشاءَ وأسند رأسَه على الأريكة وغَطَّ في نوم عميق، ثم أراد حارِسُه أن يوقِظَه كي يذهب إلى البيت، فوجده قد توفِّيَ، وتولى حكمَ الكويت بعده ابنُه جابر.
مارست الدولةُ العثمانية سيادتَها على مضيقي البوسفور والدردنيل، وبحر مرمرة، وكانت هذه المضايقُ تصِلُ بين البحر الأسود وبحر إيجة الذي هو جزءٌ من البحر المتوسط، ولم يكن للبحر الأسود مخرجٌ يتَّصِلُ عن طريقه بالبحار العامة إلا عبر هذه المضايق. وقد نجحت الدولةُ العثمانية في فرض سيادتها على هذه المضايق. وبلغ من هيبة الدولةِ العثمانية في فترة قوَّتِها أنَّ الرعايا الروس إذا أرادوا ممارسةَ التجارة بين موانئ البحر الأسود كان عليهم أن ينقلوا بضائِعَهم على سفُنٍ عثمانية تحمِلُ العلم العثماني. ولم يكن لروسيا طريقٌ إلى المياه الدافئة إلا عبر المضايق التي تسيطر الدولةُ العثمانية عليها، وظَلَّ حُلمُ السيطرة على هذه المضايق يراوِدُ روسيا زمنًا طويلًا. وقبل اشتعال الحرب العالمية الأولى ببضعة أشهر حاولت روسيا أن تحتلَّ البوسفور والدردنيل، ولم يكن أمامها سوى افتعالِ أزمة سياسيةٍ مع الدولة العثمانية، ثم تصعيدِها حتى تنقَلِبَ إلى حرب أوروبية تتَّخِذُها روسيا ذريعةً لإرسال قوَّاتِها المسلحة لاحتلال البوسفور والدردنيل في وقتٍ مبكر، ولوضع العثمانيين والأوربيين أمام الأمرِ الواقع، لكِنَّ هذا المخطَّط لم يُكتبْ له التنفيذ؛ لمعارضة بريطانيا له ورغبتِها آنذاك في حلِّ المشكلات الأوربية بالدبلوماسية لا بالحروب. ولَمَّا نشبت الحرب العالمية الأولى انضمَّت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا والنمسا والمجر في مواجهة إنجلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا. وترتَّب على دخول الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا أن قامت بريطانيا وحلفاؤها بهجومٍ على الدردنيل والبوسفور. وكان موقِفُ روسيا في بدايات الحرب حرجًا للغاية بعد الهزائم المنكَرة التي أنزلتها بها القواتُ الألمانية، وأرادت بريطانيا أن تفتحَ الطريق أمام الأساطيل البريطانية والفرنسية إلى البحر الأسود، وكانت منطقةُ المضايق هي التي تفصل بريطانيا وفرنسا عن روسيا وتحولُ دون إمدادِها بالذخائر والأسلحة التي كانت روسيا في أشَدِّ الحاجة إليها بعد أن استنفدت احتياطيَّها من الذخائر، وانعدمت قدرةُ مصانِعِها على تلبية أكثر من ثُلثِ حاجتها من الذخائر. وكانت بريطانيا غيرَ راغبة في خروجِ روسيا من الحرب وتخشى ذلك، ولم يكن أمامها هي وحلفائها سوى بسط السيطرة العسكرية على منطقة المضايق؛ ضمانًا لإرسال الذخائر والأسلحة إلى روسيا وحثِّها على مواصلة الحرب. وفي الوقت نفسِه كان الاستيلاء على المضايق يشدُّ من أزر الروس ويرفَعُ من معنوياتهم التي انهارت أمام القوَّاتِ الألمانية. وفوق ذلك وعدت بريطانيا روسيا في حالة سيطرتها على منطقة المضايق بأنها ستهدي إليها مدينة استانبول؛ لحثِّها على الثبات والصمود، ولم تكن هناك هديةٌ أعظم من أن تكون المدينة التاريخية بين أنياب الروس. وفي (نوفمبر 1914م) اقترب الأسطول البريطاني من مياه الدردنيل، وهو يمنِّي نفسَه بانتصار حاسم وسريع، وقبل أن تتوغَّل بعضُ السفن البريطانية في مياه مضيق الدردنيل، ألقت بعضُ المدمِّرات قنابِلَها على الاستحكامات العسكرية العثمانية، ولم تتحرَّك هذه القوات للردِّ على هذا الهجوم ووقفت دون مقاومةٍ، الأمرُ الذي بثَّ الثقةَ في رجال الأسطول البريطاني، وأيقنوا بضَعفِ القواتِ العثمانية وعَجزِها عن التصدي لهم، وتهيَّؤوا لاستكمال حملتهم البحرية. وبعد مضي شهرين أو أكثر من هذه العملية توجَّهت قِطَعٌ عظيمة من الأسطول البريطاني إلى الدردنيل، وهي لا تشك لحظةً في سهولة مهمَّتِها، واستأنفت ضربَ الاستحكامات العسكرية الأمامية مرةً أخرى، ثم اقتحم الأسطولُ البريطاني المضيقَ لكنه اصطدم بحقلٍ خفيٍّ من الألغام في مياه الدردنيل، وأصيب الأسطول البريطاني بأضرارٍ بالغة بسبب ذلك، وكان لهذا الإخفاق دويٌّ هائل وصدًى واسع في جميع أنحاء العالم، ولم تحاوِلْ بريطانيا اقتحام الدردنيل بحريًّا مرةً ثانية. فعزَّزت بريطانيا الهجومَ البحري على الدردنيل بهجومٍ بري، على أن يكون دورُ القوات البرية هو الدورَ الأساسي، في حين يقتصر دورُ القوات البحرية على إمداد القوات البرية بما تحتاج إليه من أسلحةٍ وذخائرَ وموادَّ تموينية، ومساعدتها على النزول إلى البر، وحماية المواقع البرية التي تنزل بها. لكنَّ القوات العثمانية نجحت في صَدِّ المهاجمين، واسترداد ما تحت أيدي الإنجليز وتكبيدِهم خسائِرَ فادحة. وانتهت الحرب العالمية الأولى دون أن تنجَحَ القوات البريطانية والفرنسية أو غيرهما في اقتحام المضايق.
كان للإنجليزِ في العراق نفوذٌ واسعٌ لا سيما في مناطق حقول النفط هناك، وفي المناطق الجنوبية الشرقية من إيران؛ لذا فقد أنزلوا سنة 1914 قوةً من الجيش البريطاني الذي رابط في الهند، فاحتلت البصرة وتوجَّهت صوب بغداد لاحتلالها، ولكنها اصطدمت بالجيش التركي بقيادة الجنرال الألماني فون دير غلوتز، فأوقع بالجيشِ البريطاني خسائِرَ فادحة وكارثة عظيمة؛ إذ استسلم له عند "كوت العمارة" جيشٌ قوامه 13 ألف جندي وضابط بكامل معدَّاتهم، وبعد حصار دام خمسةَ أشهر.
كانت مُراسلاتُ "حسين - مكماهون" التي دارت بين شَريف مكةَ الشَّريفِ حسين، ونائبِ الملِكِ البريطاني في القاهرة هنري مكماهون، تمثِّلُ مقدِّماتِ الثورةِ العربية، ومن أبرزِ أسبابِها، والتي وعدت فيها بريطانيا الشريفَ حسينًا بالمساعدة وتنصيبِه ملكًا على العربِ، وإقامةِ خلافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ، كما أنَّ هناك أسبابًا أخرى، منها: الضَّعفُ الذي دَبَّ في أطرافِ الدولةِ العثمانية التي كانت تحكمُ المناطِقَ العربيةَ في الشامِ والحجازِ ومصر والمغرب، ومنها النعراتُ العُنصرية التي ظهرت على يدِ الاتحاديِّين القوميِّين بشكلٍ واضح، وانتشر الظلمُ في الدولةِ على نطاقٍ واسع؛ فسياسةُ الاتحاديِّينَ هي التي أيقظت الفكرةَ القوميَّةَ العثمانيةَ، بدأ بسوء الظنِّ بالعربِ، وأسهم في ذلك بعضُ الذين يريدون تخويفَ السلطانِ العثماني من العربِ، يُشيعُ أن العربَ يريدون أن يقيموا مملكةً عربية وحدهم، وكانت شكاوى العرب تنحصِرُ في إقصاء عدد كبير منهم عن وظائفهم بالأستانة، وعدمِ دعوة العربِ لأيِّ اجتماع للتأليف بين العناصِرِ العثمانية، ولا إدخالهم في الجمعياتِ الاتحادية ولا اللِّجان المركزية، ولا حتى تعيينهم على الولاياتِ والقضاءِ في البلاد العربية، ومعارضة الاتحاديين لكلِّ مشروعٍ علمي أو أدبي في البلاد العربية، ثم بدأت بعضُ الأحزاب العربية بالظهورِ كردَّةِ فِعلٍ للقومية العثمانية؛ فعُقِدَ في باريس أول مؤتمر عربي عام 1913م، ثم تفاقم أمرُ الاتحاديين وعَظُم تشدُّدهم إلى القومية التركية، وزاد الأمرُ عندما قام جمال باشا -الذي لقِّبَ بالسفاح- بقتل عددٍ مِن الذين كَشَف أنهم يتآمرون من خلال جمعياتٍ سرية على الاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان القوميُّون العربُ قد رأوا أن يتجمَّعوا حولَ زعيم واحد ويشكِّلوا قوةً كبيرة عربية، فرأوا في الشريفِ حُسين بن علي -شريفِ مكة وأميرِها- الشخصَ المناسب لهذه الزعامة، فأجابهم، وكان التفاهمُ معه سرًّا بواسطةِ من تمكَّن مِن بعض أعضاء الجمعيات العربية الذين هربوا من جمال باشا ووصلوا للحجاز وغيرها، فتمَّ بين زعماء العرب وجمعيَّاتهم وبعضِ المقامات العالية، ومنهم الشريف حسين، أن قرَّروا إعلان الثورة في الحجاز، وكان الشريف حسين قد تعاقد مع مكماهون على أن يكون العرب حلفاءَ للإنجليز والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، وطبعا ضد الأتراك؛ لأنها كانت ضِدَّ الحلفاء، ووعدوا الشريف حسين أن يُبقوه مَلِكًا على العرب وأن يعطوا العربَ استقلالهم، وإن كان القوميون العربُ بعد اطِّلاعهم على مراسلات حسين مكماهون أغضبهم كثيرًا تنازل الشريف حسين عن بعض البلاد العربية للإنجليز أو للفرنسيين. أعلن الشريفُ حسين الثورةَ على الدولة العثمانية، وأطلق بنفسِه في ذلك اليوم أولَ رصاصةٍ على قلعةِ الأتراك في مكة؛ إيذانًا بإعلانِ الثورة، وعزَّز حركتَه بإذاعة منشورٍ اتَّهم فيه الاتحاديِّين في تركيا بالخروج على الشريعةِ الإسلامية، وجاء فيه: "وانفصلت بلادُنا عن المملكةِ العثمانية انفصالًا تامًّا، وأعلنَّا استقلالًا لا تشوبُه شائبةُ مُداخَلة أجنبية ولا تحكُّم خارجي"، واستطاعت القواتُ الثائرة أن تستوليَ في أقلَّ من ثلاثة أشهرٍ على جميعِ مدن الحجاز الكبرى، باستثناء المدينة النبوية التي بقيت محاصَرةً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يلبَثْ أن بويع الشريفُ حسين ملكًا على العرب. وقد نسفت القواتُ العربية بقيادةِ الأمير الشريف فيصل سكةَ حديد الحجاز، واحتلَّت ينبع والعَقَبة، واتخذوا من العَقَبة نُقطةَ ارتكازٍ لهم، ثم أخذ فيصل يتقدَّمُ لِيُحارِبَ الأتراكَ في منطقة شرقي الأردن، وبذلك قَدَّم للحُلفاء أكبرَ مساعدة؛ حيث استطاع اللورد اللنبي قائِدُ القوات الإنجليزية أن يدخُلَ القدسَ بمعاونة العرب، كما أنَّ احتلالَ القوات العربية لمنطقة شرقي معان قد حمى ميمنة القواتِ البريطانية في فلسطين من هَجَمات الأتراك عليها في منطقة بئر سبع والخليل، وحمى خطوطَ مواصلاتها، ولم تلبَث القواتُ العربيةُ أن تقدَّمت في (ذي الحجة 1336هـ/ سبتمبر 1918م) فاحتَلَّت دمشق واصطدمت بالأتراكِ قبل أن يدخُلَها اللنبي، ولم يمضِ أكثرُ من شهر حتى زال النفوذُ العثماني من سوريا بعد أن أمضى بها أربعة قرون. والواقع أن الكثيرين قد أُصيبوا بخيبةِ أمل كبيرة، وعلى رأسِهم الشيخ محمد رشيد رضا، وذلك عندما عَلِموا بتنازل حسين عن ولايتي إسكندرون ومرسين والمناطق الشمالية السورية، ووافق على مصالح فرنسا في ولاية بيروت لِما بعد الحرب، وعلى مصالح بريطانيا في البصرة وبغداد، وأنَّ الأسطول الإنجليزي هو الذي أسقط ثغورَ جدة ورابغ وينبع وغيرها من موانئ الحجاز، وأن ثغرَ بورسودان كان القاعدةَ التي انطلق منها الأسطول الإنجليزي لدعم ثورة الشريف حسين، وازداد شعورُهم بالخيبة عندما وجدوا ضباط إنجلترا وفرنسا مثل اللنبي وكوكس وكاترو وغورو والضابط الشهير لورانس هم الذين يقودون القبائِلَ العربية، ووصل الأمرُ ببعض هؤلاء الضبَّاط في النَّيلِ من المسلمين أنه لَمَّا دخل الجنرال اللنبي القدسَ يوم 9/12/1917م قال قولَته المشهورة: الآن انتهت الحروبُ الصَّليبية! ولَمَّا دخل الجنرال غورو دمشق يوم 21/7/1920م توجَّه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ووقف أمامَه قائلًا: ها قد عُدنا يا صلاحَ الدين! ثم تكرَّست المرارةُ والحسرة عندما ارتفعت أعلامُ بريطانيا وفرنسا على المناطق التي قاتَلَ فيها العرب، ولم يكن بينها عَلَمُ الدولة العربية المنتظَرة! وحاول الشيخ رشيد رضا أن يلفِتَ نظرَ الشريف حسين إلى خطورة ما أقدم عليه؛ لأن العدوَّ الحقيقيَّ هو الاستعمار الغربي لا الدولةُ العثمانية، إلا أنَّ بريقَ المصلحة وأحلامَ المُلك والعَرش كانا قد سيطرا على خيال الشريف حسين، فلم يستمِعْ إلى صوتِ ناصحٍ أو حكيمٍ! وإنما أمر بمنع دخول مجلة "المنار" التي يُصدِرُها الشيخ رشيد رضا من دخول مكة. ولم يعلم العربُ باتفاقِ (سايكس – بيكو) إلا عندما أعلنه البلاشفة بعد قيام ثورتهم في روسيا 1917م، وتأكَّد العربُ أنَّ الاتفاق أهمل تأسيسَ خلافة عربية، وأعطى بعضَ أجزاء من الدولة العربية المنتَظَرة لفرنسا، وأثار هذا الاتفاقُ حفيظةَ العرب، إلا أنَّهم مضوا في ثورتهم بعد طمأنةِ البريطانيين لهم، ونجح العثمانيُّون في تصوير الشريف حسين على أنَّه خائِنٌ للإسلام متحالِفٌ مع الدُّوَل النصرانية ضِدَّ دولة إسلامية، إلَّا أن الخلافاتِ الحقيقيةَ بين العرب والإنجليز تعمَّقت وظهرت مع إطلاقِ بريطانيا لوعدِ بلفور في (المحرم 1336هـ/نوفمبر 1917م) كانت غاية الإنجليز من ثورة العرب هو ضربَ الأتراك بالعرب، بدلًا أن يخوضوا هم غمار هذه الحرب، ويدلُّ على ذلك أن الإنجليز كانوا يضغطون على الشريف حسين لبدء الثورة عندما كانت جيوش الحلفاء تستسلم للأتراك عند كوت العمارة في نيسان 1916م، وكان الحلفاءُ غير قادرين على مواجهة القوات العثمانية عند قناة السويس واليمن، فكان التعجيل بالثورة ضِدَّ العثمانيين فيه تخفيف العبء عن الإنجليز، وفعلًا أدى إعلان الثورة إلى رجحان كفة الحلفاء، وبدأت الحاميات التركية في الاستسلام بعد أن حوصِرَت واستعمل معها رجال الجيش حربَ العصابات، ثم بدأ القتال فعلًا بين العرب وجيوش العثمانيين في الحجاز في التاسع من شعبان 10 يونيو، وأعلنوا استقلالهم، وهاجموا الثكناتِ التركيةَ في مكة، وحمِيَ القتال خلال يومين، حتى تعطَّلت الصلاةُ والطواف في المسجد الحرام، وكذلك الأمرُ في جدَّة؛ دام القتال ستة أيام حتى سقطت بيدِ قوات الشريف، وفي التاسع من رمضان استسلم الأتراك في مكة، وفي ذي القعدة سقطت الطائفُ، ثم أعلن الحجازُ استقلاله عن الاتحاديين، فانتهز الإنجليز والفرنسيون الفرصة وبدؤوا في إرسال التهاني، وحتى الدول الأوربية الأخرى كروسيا وسائر الدول غير المنحازة، أما السوريون واللبنانيون فلم ينَلْهم من الثورة إلا الحصارُ والاضطهاد؛ حيث كانت كفاءتُهم الحربية ضعيفة مقارنة مع كفاءات العثمانيين في هذه المنطقة، وكانت جيوش الثورة عبارة عن ثلاثة جيوش كل واحد بقيادة ولد من أولاد الحسين، وهم فيصل، وعبد الله، وعلي، وكان مع جيش فيصل لورنس وكان يتلقى أوامِرَه من الجنرال اللنبي، ثم تألَّفت أول وزارة عربية في السابع من ذي الحجة 1334هـ/ 5 أكتوبر 1916م، ثم أمر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، هذا ولم تعين الحكومة العربية، ثم تمت مبايعةُ العربِ للشريف حسين بن علي ملكًا على العرب يوم الخميس السادس من محرم 1335هـ/ 6 تشرين الأول 1916م، علما أن استنكارًا إسلاميًّا قد ورد إلى الشريف حسين عن طريق شكيب أرسلان الذي قال له: أتقاتل العربَ بالعربِ أيها الأمير حتى تكون ثمرةُ دماء قاتِلِهم ومقتولِهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سوريا، واليهود على فلسطين، وهذا ما حصل بالفعل!!
وقفت الدولةُ العثمانية في الحرب إلى جانب دول المحور، بينما أعلن الشريف حسين الثورةَ على الدولة العثمانية ووقف إلى جانب دول الحلفاء، وتمكنت قواتُ الشريف حسين مدعومةً من قوات الحلفاء -وخاصة بريطانيا- من السيطرة على معظم بلاد الحجاز عدا المدينة، فحوصرت حصارًا يعدُّ واحدًا من أطول الحصارات في التاريخ؛ حيث استمَرَّ الحصار لمدة سنتين وسبعة أشهر حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكان والي المدينة هو فخري باشا أحد قادة الاتحاديين نائب جمال باشا قائد الفيلق الرابع في الشام، كان يتبَعُ فخري باشا جيشٌ مجهَّز بالأسلحة الخفيفة والمدفعيَّة التقليدية، وأثناء حصار المدينة هجر معظم أهالي المدينة المنورة، فلحق بعضُهم بالبدو حول المدينة، أو بمدن حجازية كمكة وجدة وينبع، ومنهم من ارتحل إلى حائل، بينما لحِقَ بمصر والشام والعراق وتركيا والهند واليمن، ولعب قطار الحجاز دورًا كبيرًا في نقل المدنيين إلى بلدان آمنة، وبعد هزيمة الدولة العثمانية واستسلامها للحلفاء صدرت الأوامِرُ لفخري باشا من استانبول بتسليمِ المدينة فرفض الاستسلامَ، واستمَرَّ في المقاومة نحو خمسة أشهر إلا أنه اضطر بعدها للاستسلام بعد أن سلم قيادةَ المدينة إلى قائد الفوج العثماني في المدينة، والذي استسلم بدوره لقوات الثوار العرب، ثم خرج فخري باشا بقواته البالغ عددهم 8000 جندي إلى معسكر القوات المحاصرة خارج المدينة في بير درويش بالفريش، وسلَّم نفسه لهم فاستقبله الشريف عبد الله بن الحسين فأكرمه، ثم أرسله إلى مصر حيث اعتُقِلَ فيها، وبعد استسلام الحامية العثمانية في المدينة لقوات الأشراف عاد بعضُ من تم تهجيرُهم من أهل المدينة إلى المدينة، في حين أن بعضَهم فُقد أو مات في دار هجرتِه، أو فضَّل البقاء هناك، أو عجز عن العودة إلى المدينة، وفقد كثيرٌ من الأهالي أموالهم وبيوتهم.
أثار نموُّ عبد العزيز بن سعود في نجدٍ قلقَ آل صباح؛ لذلك ساعد آل الصباح العجمانَ عندما تمرَّدوا على الملك عبدالعزيز واستقبلوهم لَمَّا هربوا منه، كما ظهرت أزمةٌ بين الملك عبدالعزيز والعوازم، وهم من أتباع آل الصباح في الكويت، لَمَّا فرض عليهم الملك عبدالعزيز الزكاةَ، وحرَّضَهم على هجر الكويت والاستقرار في نجدٍ؛ لذلك زار الكولونيل هاملتون الرياضَ لينقل إلى الملك عبدالعزيز احتجاجَ سالم الصباح على تجاوز أتباع الملك عبدالعزيز، فأظهر الملك عبدالعزيز غضَبَه من دعم آل الصباح للعجمان وإيوائِهم في الكويت وتعاونِهم مع خصومِه ابن رشيد في حائل، وأبدى رغبته في إعادة العوازم إلى الكويت إذا أعاد سالم الصباح العجمانَ إلى نجدٍ، وقَطَع علاقته مع ابن رشيد، فوافق ابن الصباح وأرسل يعتذِرُ للملك عبدالعزيز ويؤكِّدُ حِرصَه على استمرار الصداقة بين الأسرتين، فعاد العوازم إلى الكويت، وظلَّت مشكلة العجمان قائمةً، بل وحصلوا على دعمٍ وحماية من بريطانيا، ومع ذلك تمكن الملك عبدالعزيز من إخضاعِهم لسلطانِه.
دعا برسي كوكس المعتمد البريطاني إلى مؤتمرٍ عربيٍّ إعلامي لشَدِّ أزْر الشريف حسين، وإثبات تأييد العربِ له، فعقد اجتماعًا موسَّعًا في الكويت دعا إليه الشيخ جابر بن مبارك، والملك عبدالعزيز، وخزعل الكعبي أمير عربسات، ومئة شيخ من شيوخ عشائر قبيلة مطير، والظفير، والعجمان، وغيرهم من شيوخ القبائل، وأعلن في المؤتمَرِ عن نية بريطانيا الحَسَنة تجاه العرب!، وأنها ترغَبُ في استعادة مجدِهم، وتوحيدِهم وجمعِ كَلِمتِهم، ليكونوا كتلةً واحدةً!! وأكَّد على ضرورة عودة الخلافة للعرب!
هو السلطانُ علي دينار ابن السلطان زكريا بن محمد فضل الكيراوي. ولِدَ في قرية "شوية" بدارفور سنة 1856م، وهو آخر سلاطين الفور من السلالة الكيراوية في سلطنة دارفور بالسودان. أعلن توحيدَ جهود المسلمين ضِدَّ الغزو الصليبي الأوروبي في أفريقيا، ويعَدُّ السلطان علي دينار من أشهرِ السلاطين الذين حكَموا إقليم دارفور ووقفوا مع الثورة المهدية في دحر المستعمِر، كما قام السلطانُ بنشر الدعوة المهديَّة في عهد الخليفة عبد الله التعايشي خليفة مهدي السودان. أقام علي دينار في مدينة الفاشر عاصمة دارفور، وأقام مصنعًا لصناعة كسوة الكعبة، وظَلَّ طوال عشرين عامًا تقريبًا يرسِلُ كسوة الكعبة إلى مكة المكرمة، وينسب إليه حفرُ أبيار علي -ميقاتِ أهل المدينة للإحرام بالحج والعمرة- وتجديد مسجد ذي الحُليفة. اغتاله الإنجليز.
بعد اختتام مؤتمر الكويت أعمالَه زار الملك عبد العزيز البصرةَ بدعوة من برسي كوكس، وقد حَظِيَ الملك باستقبالٍ حافل من جانب سلطاتِ الاحتلال البريطاني في البصرةِ؛ إذ أقيم أمامَه استعراضٌ عسكري اشتركت فيه صنوفُ الأسلحة العسكرية، ثم قام بجولةٍ على متن القطارات والعربات، ثم اطَّلَع على المستشفيات الحديثة والقطاعات العسكرية، وسعى كوكس لعقد اجتماعٍ بين الملك عبد العزيز وفهد الهذال شيخ عنزة؛ بغرضِ منع الأخير من السماحِ بتهريب الأسلحة عن طريق العراق لتركيا، وتمَّ له ذلك.
استولى الجيشُ الإنجليزي على مدينة غزَّة الفلسطينية وانتزعها من العثمانيين، بعدما قاموا بمدِّ خَطِّ سكة حديد وخَطِّ أنابيب مياه في سيناء؛ للتغلب على صعوبة الطقس ووعورة التضاريس، وذلك بعد أن خَسِروا معركتين في غزةَ أمام العثمانيين.
أوفد برسي كوكس المعتمد البريطاني وفدا مكونا من الكولونيل هاملتون رئيسا للوفد وبرفقته جون فيلبي سكرتير كوكس والكولونيل أوين الوكيل السياسي في الكويت بغرض استنهاض الملك عبدالعزيز لحرب ابن رشيد في حائل والتوفيق بينه وبين الشريف حسين، وقد قضى هاملتون 21 يوما ثم غادر الرياض وترك فلبي يحل محله لإكمال التفاوض مع الملك عبدالعزيز، رفض الملك عبدالعزيز إعلان الحرب صراحة على تركيا لكنه طمأن الوفد عن استعداده لحرب خصمه ابن رشيد إذا تعهدت بريطانيا بتقديم التأييد له. فكتب فلبي لرؤسائه في بغداد يؤكد ضرورة تحقيق ذلك ليتمكن من التصدي لمخططات الأتراك في المنطقة من خلال قوة ابن رشيد. ثم تغيرت سياسة بريطانيا في شن حملة ضد ابن رشيد بعد تدهور الموقف العثماني في الجبهة الشرقية مع توقع انهيار الدولة العثمانية.
ما كادت الحربُ العالمية تُعلَن حتى أنزلت الجيوش البريطانية قواتِها في المحمرة -مدينة عربية في خوزستان جنوب غرب إيران- بحجة حماية امتيازات البترول في إيران، ثم نزلت في البصرة ومشت بسرعة إلى القرنة، ثم العمارة، وحسبت أن الطريق إلى بغداد بات مفتوحًا، ولكِنَّ الهجوم المعاكس الألماني التركي هزم الإنجليزَ في البداية في الكوت بعد حصار ستة أشهر، فاستنجدوا بنجداتٍ أتت من الهند ليواصِلوا الزحف إلى بغداد ودخلوها باستقبالِ اليهود والنصارى لهم بالترحيبِ والفرَحِ واضعين أنفُسَهم تحت تصرُّفِهم، وانسحب الأتراك من شمال العراق، ولم يكن احتلالُ الإنجليز للعراق إلا جزءًا من اتفاقية سايكس بيكو، مع أن الجنرال مود أعلن أنه جاء لتحرير العرب، وكان نبأُ الثورة العربية قد هدأ من نفوس العراقيين. وبقيت الحرب سجالًا بين الطرفين حتى توقيع هدنة رودس؛ لوقف الحرب عام 1337هـ / 1918م.
نشأت جمهوريةُ شمال القوقاز الجبلية الفيدرالية، وتتكوَّنُ مِن داغستان، والشيشان، وأنغوشيا، وأوسيتيا، وألانيا، وقبردينو، وأبخازيا، وبلقاريا، وأديغيا، وكانت عاصمتُها باطوم (جورجيا) واختير عبد المجيد تشيرموف أولَ رئيس لها، واعترف بهذه الدولة عددٌ من الدول الأوربية، والدولةُ العثمانية أيضًا.