هو العلَّامةُ العِزُّ مجد الدين عبد السلام بن أحمد بن عبد المنعم بن أحمد بن محمد بن كيدوم بن عمر بن أبي الخير سعيد الحسيني القيلوي البغدادي ثم القاهري الحنبلي ثم الحنفي. ولدَ تقريبًا بعد سنة 770 والقيلوي نسبة لقرية بالجانب الشرقي من بغداد يقال لها قيلويه نشأ بها العز. قرأ القرآنَ لعاصم وحَفِظَ كتبًا جمة في فنون كثيرة، وبحث في غالب العلوم على مشايخ بغداد والعجم والروم، حتى إنه بحث في مذهبي الشافعي وأحمد وبرع فيهما وصار يقرأ كتبَهما ولازم الرحلةَ في العلم إلى أن صار أحدَ أركانه، وأدمن الاشتغال والأشغال بحيث بقي أوحدَ زمانه، ومن شيوخه في فقه الحنفية الضياء محمد الهروي أخذ عنه المجمع بعد أن حفظه، وسمع غالب الهداية على عبد الرحمن التشلاقي أو القشلاغي، وسمع عليه أصولَ الحنفية، وفي فقه الحنابلة محمد بن الحادي، وسمع عليه البخاري، وتزايد اشتغاله بالمذهب الحنبلي لكون والده كان حنبليًّا، وفي فقه الشافعية ناصر الدين محمد المعروف بأيادي الأبهري ولازمه مدة طويلة أخذ عنه فيها النحو والصرف، ولم يتسير له البحث في فقه المالكية، وقصد ذلك فما قدر، وأخذ أصول الدين وآداب البحث عن السراج الزنجاني، وأصول الفقه عن أحمد الدواليبي، وحضر بحث المختصر الأصلي لابن الحاجب والعضد وكثيرًا من شروح التلخيص في المعاني، وكثيرًا من الكشَّاف على ميرك الصيرامي أحد تلامذة التفتازاني، وبحث بعض الكشاف أيضًا والمعاني والبيان على عبد الرحمن ابن أخت أحمد الجندي، وجميع الشاطبية بعد حفظها على الشريف محمد القمني، والنحو عن أحمد بن المقداد وعبد القادر الواسطي، وبحث عليه الأشنهية في الفرائض بخلوة الغزالي من المدرسة النظامية ببغداد، وانتفع به في غير ذلك, وعُنِيَ بالطب والمعاني والبيان بعد حفظه للتلخيص عن المجد محمد المشيرقي السلطاني الشافعي, والمنطق بعد حفظه الشمسية عن القاضي غياث الدين محمد الخراساني الشافعي، كذا بحث عليه علم الجدل والطب عن موفق الدين الهمذاني، وسمع على موسى باش الرومي علم الموسيقى بحثًا، وارتحل إلى تبريز فأخذ بها عن الضياء التبريزي النحو وأصول الفقه، وعن الجلال محمد القلندشي فقه الشافعية وأصولهم، وحضر المعاني والبيان وبعض الكشاف عند حيدر، ثم ارتحل إلى أرزنجان من بلاد الروم فأخذ علم التصوف عن يارغلي السيواسي، ثم عاد من بلاد الروم بعد أن جال الآفاق وقاسى شدة مع تيمورلنك بحيث كانوا يقطعون الرؤوس ويحمِّلونه إياها إلى البلاد الشامية في سنة 810, ولقي بحلب مَن شاء الله من العلماء، وناظر في الشام الجمالَ الطيماني واجتمع في القدس بالشهاب بن الهائم فعظَّمه كثيرًا وارتحل إلى القاهرة بعد هذا كله, فأشير إليه في الصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق والجدل وآداب البحث والأصلين، والطب والعروض، والفقه والتفسير والقراءات، والتصوف وغيرها، فنزل بالجمالية وقرر في صوفيتها وأقبل الناس عليه فأخذوا عنه، وزوَّجه الشيخ مصطفى المقصاتي ابنته وتدرب به في عمل المقصات، وتكسب بها وقتًا مع اشتهاره بالفضيلة التامة حتى إنه لما تمت عمارة الجامع المؤيدي وحضر السلطان عند مدرسيه ومنهم البدر الأقصرائي الحنفي كان من جملة الحاضرين فلم يتكلم معه غيره، بحيث عظُمَ في عين السلطان، وأشار لما تم الدرس ورام المدرس الدعاء بنفسه مبالغة في تعظيم السلطان القيلوي أن يفعل ففعل، وأعلمه البدر بن مزهر وذلك قبل أن يلي كتابة السر بأنه رجل عالم يتكسب بعمل المقصات، فوعد ببناء مدرسة من أجله يكون هو شيخًا فما تيسر، وربما أقرأه ولده إبراهيم بل رام المؤيد الاجتماع به في محل خلوة للقراءة عليه، فما وافق العز خوفًا من إلصاق كثير مما يصدر عن السلطان به، وعُدَّ ذلك من وفور عقله، واستمر العز ملازمًا للإشغال غير مفتقر للاستفادة من أحد إلا في علم الحديث دراية ورواية؛ فإنه أخذ علوم الحديث جميعًا لابن الصلاح عن الولي العراقي بعد قراءته وسائره سماعًا، وسمع المنظومة في غريب القرآن، ومن أول السيرة الألفية إلى ذكر أزواجه والكثير من النكت على ابن الصلاح، وقرأ منها جميع الألفية الحديثية رواية، والمورد الهني، ومن غيرها الكثير من الأصول الكبار وغيرها، قال شمس الدين السخاوي: " قرأ العز عبد السلام على شيخنا الكمال الشمني صحيح البخاري والنخبة له، واختص به كثيرًا، وكان أحد الطلبة العشرة عنده بالجمالية، وحضر دروسه وأماليه، ورأيت بخط شيخنا بتصنيفه النخبة كتبها برسمه قال في آخرها ما صورته: علقها مختصرها تذكرةً للعلامة مجد الدين عبد السلام نفع الله به آمين، وتمت في صبيحة الأربعاء ثاني عشر شوال سنة أربع عشرة، وقال في أولها ما نصه: رواية صاحبها العلامة الأوحد المفنن مجد الدين عبد السلام البغدادي، وكتب له عليها أنه قرأها قراءة بحث وإتقان وتقرير وبيان، فأفاد أضعاف ما استفاد، وحقق ودقق ما أراد، وبنى بيت المجد لفكره الصحيح وأشاد، ثم قال: وأذن له أن يُقرئها لمن يرى ويرويها لمن درى، والله يسلمه حضرًا وسفرًا، ويجمع له الخيرات زُمَرًا" وأما الرواية فإنه سمع وقرأ على غير واحد وطلبها بنفسه فأكثر وكتب الطباق، وضبط الناس ورافق المتميزين، صار غالب فضلاء الديار المصرية من تلامذة العز عبد السلام، كل ذلك مع الخير والديانة والأمانة والزهد والعفة، وحب الخمول والتقشف في مسكنه وملبسه ومأكله، والانعزال عن بني الدنيا والشهامة عليهم وعدم مداهنتهم، والتواضع مع الفقراء والفتوة والإطعام وكرم النفس والرياضة الزائدة، والصبر على الاشتغال واحتمال جفاء الطلبة والتصدي لهم طول النهار، والتقنع بزراعات يزرعها في الأرياف ومقاساة أمر المزارعين، والإكثار من تأمل معاني كتاب الله عز وجل وتدبره، مع كونه لم يستظهر جميعه ويعتذر عن ذلك بكونه لا يحب قراءته بدون تأمل وتدبر، والمحاسن الجمة بحيث سمعت عن بعض علماء العصر أنه قال: لم نعلم من قَدِمَ مصر في هذه الأزمان مثل العز عبد السلام البغدادي, ولقد تجملت هي وأهلها به, وكان ربما جاءه الصغير لتصحيح لوحه ونحوه من الفقراء المبتدئين لقراءة درسه وعنده من يقرأ من الرؤساء، فيأمرهم بقطع قراءتهم حتى ينتهي تصحيح ذاك الصغير أو قراءة ذاك الفقير لدرسه، ويقول: أرجو بذلك القربة وترغيبهم وأن أندرج في الربانيين ولا يعكس، ولم يحصل له إنصاف من رؤساء الزمان في أمر الدنيا ولا أُعطي وظيفة مناسبة لمقامه، وكان فصيح اللسان مفوهًا طلْقَ العبارة قوي الحافظة سريع النظم جدًّا. مات في ليلة الاثنين الخامس العشر رمضان سنة تسع وخمسين، وصلى عليه من الغد بمصلى باب النصر، ودُفن بتربة الأمير بورى خارج باب الوزير تحت التنكزية، ولم يخلَّف بعده في مجموعِه مثله.
هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي العباسي, وأمه: سلامة البربريَّة. وُلِدَ سنة 95, وكان أسمرَ, طويلًا, نحيفًا, مَهيبًا, خفيفَ العارِضَينِ, مُعرق الوجه, رحْبَ الجبهة, كأنَّ عينيه لسانان ناطقان, تخالِطُه أبَّهة المُلك بِزِيِّ النسَّاك, تَقبَلُه القلوبُ، وتَتبَعُه العيون, وكان فحْلَ بني العباس؛ هيبةً وشجاعةً، ورأيًا وحزمًا، ودهاءً وجبروتًا، وكان جمَّاعًا للمال, حريصًا تاركا للَّهوِ واللَّعب, كامِلَ العقلِ بعيدَ الغَورِ، حسَن المشاركةِ في الفقهِ والأدب والعِلم. أباد جماعةً كبارًا حتى توطَّدَ له المُلك، ودانت له الأمَمُ على ظُلمٍ فيه، وقُوَّةِ نَفسٍ، ولكنَّه يرجِعُ إلى صِحَّة إسلامٍ وتديُّنٍ في الجُملة، وتَصَوُّنٍ وصلاةٍ وخيرٍ، مع فصاحةٍ وبلاغةٍ وجَلالةٍ، وعظَ المنصور عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة فأبكاه، وكان المنصورُ يهابُ عَمرًا ويُكرِمُه، وقد كان المنصورُ يُصغي إلى أقوال المنجِّمين، وهذا من هناتِه مع فضيلتِه. كان حاكمًا على ممالك الإسلام بأسرِها, سوى جزيرة الأندلس، وكان ينظُرُ في حقيرِ المال، ويثَمِّرُه، ويجتهد بحيث إنَّه خلَّفَ في بيوت الأموالِ مِن النقدين أربعة عشر ألف ألف دينار، وستمئة ألف ألف درهم، وكان كثيرًا ما يتشبَّه بالثلاثة في سياسته وحَزمِه، وهم: معاوية، وعبد المَلِك، وهشام. لَمَّا رأى المنصورُ ما يدلُّ على قُربِ مَوتِه سار للحَجِّ، فلمَّا وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحَرِ قبل أن يصِلَ مكة، ولم يحضُرْه عند وفاتِه إلَّا خَدَمُه، والربيعُ مولاه، فكتم الربيعُ مَوتَه، واشتغلوا بتجهيزِ المنصور، ففرغوا منه العصرَ، وكُفِّنَ، وغطِّيَ وجهُه وبدَنُه، وجُعِلَ رأسُه مكشوفًا لأجل إحرامِه، وصلَّى عليه عيسى بن موسى، وقيل: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ودُفِنَ في مقبرة المُعَلَّاة، وحَفَروا له مائة قبرٍ ليغُمُّوا على النَّاسِ، ودُفِنَ في غيرها، عاش أربعًا وستِّينَ سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلَّا أربعة وعشرين يومًا.
كان حِصنُ عرقة، وهو من أعمال طرابلس، بيد غلام للقاضي فخر الملك أبي علي بن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وهو من الحصون المنيعة، فعجز غلام ابن عمار عن حمايته، فضاق به القوت وانقطعت عنه الميرة؛ لِطولِ مُكث الفرنج في نواحيه، فأرسل إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وقال له: أرسل من يتسلمُ هذا الحصن مني؛ قد عجزت عن حفظه، ولأن يأخذَه المسلمون خيرٌ لي دنيا وآخرة من أن يأخُذَه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحبًا له اسمه إسرائيل في ثلاثمائة رجل، فتسلم الحصن، فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه إسرائيل في الأخلاط بسهمٍ فقَتَله، وكان قصده بذلك ألَّا يَطَّلِعَ أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال، وأراد طغتكين قَصْدَ الحِصنِ للاطلاع عليه، وتقويته بالعساكر والأقوات وآلات الحرب، فنزل الغيث والثلج مدة شهرين ليلًا ونهارًا فمنعه، فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس ففتح حصونًا للفرنج، منها حصن الأكمة. فلما سمع السرداني الفرنجي ابن أخت صنجيل بمجيء طغتكين، وهو على حصار طرابلس، توجَّه في ثلاثمائة فارس، فلما أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين انهزموا، وخلوا ثقلهم ورحلهم ودوابَّهم للفرنج، فغنموا وقَوُوا به، وزاد في تجمُّلِهم، ووصل المسلمون إلى حمص على أقبح حال من التقطُّع، ولم يُقتَل منهم أحد لأنه لم تجرِ حربٌ، وقصد السرداني إلى عرقة، فلما نازلها طلب من كان بها الأمان، فأمنهم على نفوسهم، وتسلم الحصن، فلما خرج من فيه قبض على إسرائيل، وقال: لا أطلقه إلا بإطلاق فلان، وهو أسير كان بدمشق من الفرنج منذ سبع سنين، ففودي به وأُطلقا معًا، ولما وصل طغتكين إلى دمشق بعد الهزيمة أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظن أنني أنقض الهدنة لِلَّذي تمَّ عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثرُ مما نالك، ثم تعود أمورُهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفًا أن يقصِدَه بعد هذه الكسرة فينالَ من بلده كلَّ ما أراد.
هو الأفضل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ لدين الله العلوي، صاحب مصر. ولد بعسقلان. كان داهيةً، تغلَّب على المُلك وحَجَر على الحافظ وردَّ على المصادِرين أموالهم، فحَمِد له المصريون ذلك. وكتَبَ اسمه على السكة، ودعا على المنابر للقائم في آخر الزمان، واستمر إلى أن قتله أحد مماليك الحافظ، بظاهر القاهرة. وسبب قتله: أنه كان قد حجر على الحافظ، ومنعه أن يحكُمَ في شيء من الأمور؛ قليل أو جليل، وأخذ ما في قصر الحافظ إلى داره، وأسقط من الدعاء ذكر إسماعيل الذي هو جدهم، وإليه تُنسَب الإسماعيلية، وأسقط من الأذان حي على خير العمل، ولم يخطب للحافظ، وأمر الخطباء أن يخطبوا له بألقاب كتبها لهم، وهي: "السيد الأفضل الأجَلُّ، سيد مماليك أرباب الدول، والمُحامي عن حوزة الدين، وناشر جناح العدل على المسلمين الأقربين والأبعدين، ناصر إمام الحق في حالتي غيبته وحضوره، والقائم بنصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره، أمين الله على عباده، وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده، ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده، مولي النعم، ورافع الجور عن الأمم، ومالك فضيلتي السيف والقلم، أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل، شاهنشاه أمير الجيوش"، وكان إماميَّ المذهب، يُكثِرُ ذم الآمر والتناقص به، فنفرت منه شيعة العلويين ومماليكهم، وكرهوه، وعزموا على قتله، فخرج في العشرين من المحرم إلى الميدان يلعب بالكرة مع أصحابه، فكمن له جماعة منهم مملوك فرنجي كان للحافظ، فخرجوا عليه، فحمل الفرنجي عليه فطعنه فقتله، وحزُّوا رأسه، وخرج الحافظ من الخزانة التي كان فيها، ونهب الناس دارَ أبي علي، وأخذوا منها ما لا يُحصى، وركب الناس والحافظ إلى داره، فأخذ ما بقي فيها وحمله إلى القصر وجُدِّدت يومئذ البيعة للحافظ بالحكم، فلما بويع استوزر أبا الفتح يانس الحافظي في ذلك اليوم بعينه، ولقب أمير الجيوش، وكانت مدة حكم أبي علي بن الأفضل سنة وشهرًا وعشرة أيام؛ ثم حُمِل بعد قتله ودُفن بتربة أمير الجيوش، ظاهر باب النصر.
هو الشَّيخُ الإمامُ الحافِظُ القدوة المحقِّق، المجَوِّد الحُجَّة، بقية السلف، أبو عبد الله ضياء الدين، محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل، السعدي المقدسي، الجماعيلي، ثم الدمشقي، الصالحي، الحنبلي، صاحبُ التصانيف والرحلة الواسعة. ولد سنة 569 بدمشق في الدير المبارك، بقاسيون، سمع الحديث الكثير وكتب كثيرًا, وطوَّفَ بالبلاد وبَقِيَ في الرحلة المشرقيَّة مدَّة سنين، وحصَّل فيها الأصولَ الكثيرة وجرَّح وعدَّل، وصحَّح وعلَّل، وقيَّد وأهمل، مع الديانة والأمانة والتقوى، والصيانة والورع والتواضُع، والصدق والإخلاص وصحَّة النقل. وجمَع وصَنَّف، وألف كتبًا مفيدةً حسنة كثيرة الفوائد، من ذلك كتابُ الأحكام ولم يتِمَّه، وكتاب المختارة وفيه علوم حسنة حديثيَّة، وهي أجودُ من مستدرك الحاكم لو كَمُل، وله فضائِلُ الأعمال, وفضائل القرآن ومناقبُ أهل الحديث، وغيرُ ذلك من الكتب الحَسَنة الدالَّة على حِفظِه واطِّلاعِه وتضلُّعِه من علوم الحديث متنًا وإسنادًا، قال الذهبي: "ولم يزَلْ ملازمًا للعلم والرواية والتأليفِ إلى أن مات، وتصانيفُه نافعة مهذبة. أنشأ مدرسةً إلى جانب الجامِعِ المظفري، وكان يبني فيها بيَدِه ويتقنَّع باليسير، ويجتهِدُ في فعل الخير ونشْرِ السنَّة، وفيه تعبٌد وانجماع عن الناس، وكان كثيرَ البر والمواساة، دائِمَ التهجد، أمَّارًا بالمعروف، بهيَّ المنظر، مليحَ الشَّيبة، محببًا إلى الموافق والمخالف، مشتغلًا بنَفسِه" قال الحافظ شرف الدين يوسف بن بدر: "رحم الله شيخَنا ابن عبد الواحد، كان عظيمَ الشأن في الحفظِ ومعرفة الرجال، هو كان المشارَ إليه في علم صحيح الحديث وسقيمه، ما رأت عيني مِثلَه". وقال عمرُ بنُ الحاجِبِ: "شيخنا الضياء شيخُ وقته، ونسيجُ وحده علمًا وحفظًا وثقةً ودينًا، من العلماء الربانيين، وهو أكبر من أن يدِلَّ عليه مثلي" وقد وقف كتبًا كثيرة عظيمةً لخزانة المدرسة الضيائيَّة التي وقفها على أصحابِهم من المحدِّثين والفقهاء. توفي بدمشق.
لما تسلَّم السلطان عبد المجيد الأول بن محمود الثاني الحُكمَ، وهو ما يزال دون الثامنةَ عشرة من عمرِه، كان صِغَرُ سِنِّه هذا فرصةً لبعض الوزراء التغريبيين لإكمال ما بدأه والِدُه الراحل من إصلاحاتٍ على الطريقة الأوروبية، والتمادي في استحداثِ الوسائل الغربية، ومن هؤلاء الوزراءِ الذين ظهروا في ثيابِ المصلحين ومُسوحِ الصادقين (مصطفى رشيد باشا) الذي كان سفيرًا للدولة في (لندن) و (باريس)، ووصل إلى منصِبِ وزير الخارجية في أواخِرِ عَهدِ السلطان محمود الثاني، وكانت باكورةُ إصلاحاته استصدارَ مرسوم من السلطان عُرِفَ بـ (خط شريف جلخانة) أي: المرسوم المتوَّج بخط السلطان، الذي صدر عن سراي الزهر عام 1839م، وبدأ عهدٌ جديد يسمَّى عهد التنظيمات الخيرية العثمانية، التي كان من بينها احترامُ الحريات العامة والممتَلَكات والأشخاص، بصرف النظَرِ عن معتقَداتِهم الدينية، ونصَّ فيه على مساواة جميع الأديانِ أمام القانون، ولم يلقَ الخط الشريف أو الدستور الذي سانده مصطفى رشيد وقِلَّةٌ من المحيطين به ترحيبًا أو تأييدًا من الرأيِ العام العثماني المُسلِم؛ فأعلن العُلَماءُ استنكارَهم وتكفيرهم لمصطفى رشيد باشا، واعتبروا الخطَّ الشريف منافيًا للقرآنِ الكريم في مُجمَلِه، وبخاصة في مساواته للنصارى بالمسلمين، ورأوا أنَّ ذلك -وبغضِّ النظر عن النواحي الدينية- سيؤدِّي إلى إثارة القلاقل بين رعايا السلطان. وكان الهدفُ بالفعل هو ما خَطَّطَت له الحركةُ الماسونية، وهو إثارةُ الشعور القومي لدى الشعوبِ النصرانية ضِدَّ الدولة العثمانية، وبهذا المرسومِ طُعنت عقيدةُ الولاء والبراء في الصَّميمِ، ونُحِّيَت جملةٌ من أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلَّقُ بأهلِ الذمَّةِ وعَلاقاتِ المسلمين مع غيرهم، وحينما رأى المسلمون أنَّ الدولة تساوي بهم النصارى واليهودَ، وتستبدل بالشريعةِ الحنيفةِ قوانينَ النصارى، وتخلَعُ الأزياء القديمة الشريفة لتتَّخِذَ زيَّ النصارى، وأحسُّوا كذلك أنَّ حكومة رشيد لا تكادُ تأتي أمرًا إلا راعت فيه خاطِرَ النصارى وحَرَصت أن لا تمسَّهم بأذًى أو تنالَهم بضَيمٍ- نفروا من ذلك نفورًا عظيمًا، ولم يجِدِ السلطان ورجالُ دولته من بدٍّ في إسقاطِه وعَزْلِه أمام مظاهِرِ السَّخَطِ الشعبي، وخَوْفهم من وثوبِ المسلمينَ وثَورتِهم.
أمَرَ الملِكُ عبد العزيز بوضعِ نظامٍ لتولية العرش مِن بعدِه، فانعقد مجلِسَا الوكلاء والشورى، وأبرمَا قرارًا في 16 محرم 1352هـ الموافق 11/ 5 / 1933م بمبايعةِ كبير أبنائه الأمير سعود وليًّا للعهد،ثم أبرق الملِكُ على الأثرِ إلى سعود برقيةً جاء فيه: " تفهَمُ أنَّنا نحن والناس جميعًا ما نُعِز أحدًا ولا نذِلُّ أحدًا، وإنما المعِزُّ والمذِلُّ اللهُ هو سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتَرَّ بغيره عياذَ اللهِ وقع وهلك، موقِفُك اليومَ غيرُ موقفك بالأمس؛ ينبغي أن تعقِدَ نيَّتَك على ثلاثةِ أمور: أولًا/ نية صالحة، وعزمٌ على أن تكونَ حياتُك وديدنك إعلاءَ كلمة التوحيد، ونصر دين الله، وينبغي أن تتَّخِذَ لنفسِك أوقاتًا خاصة لعبادة الله والتضَرُّع بين يديه في أوقات فراغك. تعبَّدْ إلى الله في الرخاء تجِدْه في الشدة، وعليك بالحرصِ على الأمر بالمعروف، والنهيِ عن المنكر، وأن يكون ذلك كلُّه على برهانٍ وبصيرة في الأمر، وصِدقٍ في العزيمة، ولا يصلُحُ مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدقُ، وإلا العَمَلُ الخفيُّ الذي بين المرء وربه. ثانيًا/ عليك أن تجِدَّ وتجتهِدَ في النظر في شؤون الذين سيولِّيك الله أمْرَهم بالنصحِ سرًّا وعلانيةً، والعدلِ في المحبِّ والمُبغَض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنًا وظاهرًا، وينبغي ألَّا تأخُذَك في الله لومة لائم. ثالثًا/ عليك أن تنظُرَ في أمر المسلمين عامةً، وفي أمر أسرتِك خاصةً، اجعل كبيرَهم والدًا، ومتوسِّطَهم أخًا، وصغيرهم ولدًا، وهنْ نفسَك لرضاهم، وامحُ زلَّتَهم، وأقِل عَثرتَهم، وانصح لهم، واقضِ لوازِمَهم بقدر إمكانك، فإذا فهمت وصيتي هذه، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل؛ فأبشر بالخير، وأوصيك بعلماء المسلمين خيرًا. احرص على توقيرِهم ومجالستِهم، وأخذِ نصيحتِهم. واحرِصْ على تعليم العِلمِ؛ لأنَّ الناس ليسوا بشيءٍ إلَّا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة. احفَظِ الله يحفظك. هذه مقدمة نصيحتي إليك، والباقي يصلك إن شاء الله في غير هذا".
لم يتجاوب الشعب الجزائري مع السياسة الفرنسية في جميع الجهاتِ بدون استثناء؛ فلم يكن هناك أثَرٌ في فَرْنَسة الشعب الجزائري المسلِم، وهو ما دفع مخطِّطي السياسة الفرنسية إلى اتهام الجزائريين بأنَّهم شَعبٌ يعيش على هامش التاريخ. حارب الجزائريون سياسةَ التفرقة الطائفية، وقد رأى المصلِحون من أبناء الجزائر في ظِلِّ فَشلِ حركات المقاومة يتقَدَّمُهم الشيخ العالِم عبد الحميد بن باديس أنَّ العمل يجب أن يقومَ في البداية على التربية الإسلامية؛ لتكوين قاعدة صلبة يمكِنُ أن يقومَ عليها الجهاد في المستقبل، مع عدم إهمال الصراع السياسي؛ فتمَّ تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1350هـ -1931م بزعامة عبد الحميد بن باديس، وعلى الصعيد السياسي بدأ الجزائريون المقاومةَ من خلال التنظيم السياسي الذي خاض هذا الميدانَ بأفكار متعددة، وظهرت عدةُ تنظيمات سياسية، ولَمَّا اشتعلت الحربُ العالمية الثانية ذهب كثيرٌ من الجزائريين إلى الحرب للدفاع عن فرنسا، فدُمِّر الإنتاج في الجزائر وزادت صعوباتُ الحياة؛ لذلك تقدَّموا ببيان إلى السلطات الفرنسية يطالبون فيه بحَقِّ تقرير المصير، تقدَّم به فرحات عباس زعيم حزب اتحاد الشعب الجزائري، ورفضت فرنسا قَبولَ البيان كأساسٍ للمحادثات، فأحدث ذلك ردَّ فِعلٍ عنيفًا عند الجزائريين الذين أصَرُّوا على تمسُّكِهم بالبيان والتزامهم به، ففرض الجنرال كاترو الحاكِمُ العام في الجزائر الإقامةَ الجبرية على فرحات عباس وغيره من الزعماء الجزائريين، فاستغلت فرنسا قيامَ بعض المظاهرات في عدد من المدن الجزائرية وإحراقها للعلم الفرنسي، فارتكبت مذبحةً رهيبة سقط فيها (45) ألف شهيد جزائري، فاتجه الجزائريون بعد تلك المذابح البَشِعة إلى العَمَل السري، وكان يتم اختيارُ أفراد هذا العمل من خيرة الشبانِ خُلقًا وأدبًا، فلم يكن يُسمَحُ بضَمِّ المُلحِدين أو الفوضويين، وبدأت خلايا المجاهِدين تنتشر في الجزائر طولًا وعرضًا، وأحيطت أساليبُ العمل بسريةٍ تامةٍ؛ مما كان له أكبر الأثر في نجاح الثورة، واستطاع هذا التنظيمُ الدعايةَ للثورة في صفوف الشعب وإعداده للمعركة القادمة.
وُلِدَ الشيخ عبد العزيز في الرياض في الثانيَ عَشَرَ من ذي الحِجة سنةَ 1330ه،ـ ونشأ في بيئة علمٍ وصلاحٍ، حفِظ القرآنَ قبل أنْ يبلُغَ سنَّ البلوغ، وكان قد بدأ يضعُفُ بصرُه إثْرَ مرضٍ أصابَه في عينَيْه حتى فقَدَ بصرَه نهائيًّا سنةَ 1350هـ، وعمرُه 20 عامًا، فزاد ذلك من هِمَّته لطلب العلمِ مُلازمًا العلماءَ بذكاءٍ مُفرطٍ، وذاكرةٍ حادَّةٍ، وسرعةِ بَديهةٍ، واستحضارٍ لمسائل العلمِ، معَ ما أُوتيَ من فِراسةٍ، وكان مُتواضِعًا زاهدًا حليمًا، واسعَ الصدرِ، كريمَ الأخلاق، وبرز -رحمه الله- في علومٍ شَتَّى في: التوحيد، والتفسير، والفقه، والأصول، والحديث، والفِرَق والمذاهب، وكان عالمًا ربَّانيًّا، تلقَّى علومَه على يد عدد من المشايخ مثلِ: الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وغيرهم، وكان قد عُيِّن قاضيًا في الخَرْج، ثم الدلم، ثم أصبحَ بعد وفاة المفتي ابن إبراهيم مفتيًا للملكة العربية السعودية، وكان قد تولَّى التدريس بعد القضاء في المعهد العلمي بالرياض سنةَ 1372هـ، ثم أصبَحَ رئيسًا للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سنةَ 1395هـ، بعد أنْ كان نائبًا لرئيسها الأسبق ابن إبراهيم، كانت حياته مليئةً بالعلم والتعليم، قدَّم للأمة الإسلامية خلالَها من علمه وفِقهِه ما نفع اللهُ به المسلمين، ممَّا جعلَه إمامَ عصره بحقٍّ، وقد تركَ تُراثًا كبيرًا في شَتَّى العلوم من فتاوى، وشروح، ودروس في الفقه والتوحيد، وغيرها من فنون الإسلام، ومؤلَّفاتُه شاهدةٌ على صفاء ذهنِه وعِلمِه، وقد جُمعت رسائلُه وفتاواه في مجلَّدات، أمَّا وفاته فقد كان يشكو من عدة أمراضٍ -رحمه الله- ثم في ليلة الخميس ضاق نَفَسُه حتى نُقِلَ إلى مُستشفى الملك فَيْصل بالطائف، حيث تُوفيَ هناك في السابع والعشرين من محرم 1420هـ، ثم صُلِّيَ عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمُعة، ودُفنَ في مَقبرةِ العدل، رحمه اللهُ تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.
هو أميرُ المؤمنينَ الخليفةُ المستنصِرُ بالله أبو القاسِمِ أحمد بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بالله الهاشمي العباسي، البغدادي، الأسود. ولي الخلافةَ بعد قتل ابن أخيه المستعصِم بالله بن المستنصر بالله منصور بثلاثِ سنينَ، في وقتٍ خلا فيه من خليفة للمسلمين. وكان شديدَ السُّمرة، جَسيمًا، عاليَ الهمة، شجاعًا، قال الإمام أبو شامة: في رجب قُرئ بالعادلية كتابُ السلطان الظاهِر بيبرس إلى قاضي القضاة نجمِ الدين بن سني الدولة بأنَّه قَدِمَ عليهم بمصر أبو القاسم أحمد بن الظاهر بن الناصر، وهو أخو المستنصر بالله، وأنه جمَعَ له الناسَ مِن الأمراء والعلماء والتجَّار، وأثبت نَسَبَه عند قاضي القضاة في ذلك المجلس، فلما ثبت بايعَه الناس، وبدأ بالبيعة القاضي تاج الدين، ثمَّ السلطان الملك الظاهر، ثم الكبار على مراتبهم، ونُقِشَ اسمُه على السكة، وخَطَب له ولُقِّبَ بلَقَب أخيه، وفَرِحَ النَّاسُ, ثم رتَّبَ له السلطان أتابكًا، وأستاذ دار، وشرابيًّا، وخزندارًا- ممسك خزانة المال-، وحاجِبًا، وكاتبًا، وعَيَّنَ له خزانةً وجُملةَ مماليك، ومائة فرس، وثلاثين بغلًا، وعشرة قطارات جمال، إلى أمثال ذلك, ثم عزم الخليفةُ على التوجه إلى العراق, فحَسَّن له السلطان ذلك وأعانه, وسار من مصر هو والسلطانُ في تاسع عشر رمضان فدخلوا دمشق في سابع ذي القعدة، ثم جهَّزَ السلطان الخليفةَ وأولاد صاحِبِ الموصل، وغَرِمَ عليه وعليهم من الذهب فوق الألف ألف دينار، فسار الخليفةُ ومعه ملوك الشرق: صاحِبُ الموصل، وصاحِبُ سنجار والجزيرة من دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة، ثم نزل الخليفةُ بمن معه مشهدَ عليٍّ رضي الله عنه، ولما وصلوا إلى عانة وجدوا بها الحاكِمَ بأمر الله أحمد، ومعه نحوٌ من سبعمائة نفس فاستمالهم الخليفةُ المستنصر، وأنزل الحاكِمَ معه في دهليزه، وتسلَّم الخليفةُ عانة، فلما بلغ المغولَ وصولُ الخليفة المستنصر بالله العراق. خرج قرابغا مُقَدَّم التتار من بغداد- وكان قد استخلفه هولاكو عليها عند عودِه إلى بلاد الشرق- يريد لقاء الخليفة المستنصِر بالله ومحاربته، فنهب الأنبارَ وقَتَل جميعَ من فيها، وتلاحقت به بقيَّةُ التتار من بغداد، ولَقِيَهم الخليفة وقد رتَّب عسكره، فجعل التركمانَ والعرب جناحَي العسكر، واختص جماعةً جَعَلَهم في القلب، وحمَلَ بنفسه على التتار فكسَرَ مُقَدِّمَتَهم، وخذله العربُ والتركمان فلم يقاتِلوا، وخرج كمينٌ للتتار ففَرَّ العرب والتركمان، وأحاط التتار بمن بقي معه فلم يُفلِتْ منهم سوى الأميرِ أبي العباس أحمد الذي قَدِمَ إلى مصر بعد ذلك وتلَقَّب بالحاكم بالله، والأميرُ ناصر الدين بن مهنا، والأميرُ ناصر الدين بن صيرم، والأميرُ سابق الدين بوزبا الصيرفي، والأمير أسد الدين محمود، في نحو خمسينَ من الأجناد، ولم يُعرَف للخليفةِ خبَرٌ، فيقال قُتِلَ بالمعركة في ثالث المحرم، ويقال بل نجا مجروحًا في طائفةٍ مِن العرب فمات عندهم، وكانت هذه الواقعةُ في العشر الأول من المحرم، فكانت خلافتُه دون السَّنة، وبلغت نفقةُ الملك الظاهر على الخليفةِ والملوك المواصلة ألف ألف دينار وستين ألف دينار عينًا.
في يومِ الخميس خامِس رجب كانت الفتنةُ بالإسكندرية وملَخَّصُها أنَّ بعض تجار الفرنج فاوض رجلًا من المسلمينَ وضَرَبه بخُفٍّ على وجهه، فثار المسلمون بالإفرنجيِّ وثار الفرنجُ لتحميه، فوقع الشَّرُّ بين الفريقين، واقتتلوا بالسلاحِ، فركب ركن الدين الكركي متولِّي الثغر، فإذا النَّاسُ قد تعصبوا وأخرجوا السلاحَ، وشهدوا على الفرنجيِّ ممَّا يوجب قَتْلَه، وحملوه إلى القاضي وغُلِّقَت أسواق المدينة وأبوابها، فلما كان بعد عشاء الآخرة فُتِحَت الأبواب ليدخُلَ من كان خارِجَ البلد، فمِن شِدَّة الزحام قُتِلَ عَشرةُ أنفس، وتَلِفَت أعضاء جماعة، وذهبت عمائمُ وغيرها لكثير منهم، وتبيَّنَ للكركي تحامُلُ الناس على الفرنج، فحمَلَ بنفسه وأجنادِه عليهم ليدفَعَهم عن الفرنج، فلم يندفِعوا وقاتلوه إلى أن هَزَموه، وقصدوا إخراج الأمراء المعتَقَلين بالثغر، بعدما سُفِكَت بينهما دماءٌ كثيرة، فعند ذلك بادر الكركي بمطالعة السلطانِ بهذه الحادثة، فسَرَّح الطائر بالبطائِقِ يُعلِمُ السلطان، فاشتَدَّ غضبه، وخشي السلطانُ خُروجَ الأمراءِ مِن السجن، وأخرج السلطانُ الوزير مغلطاي الجمال وطوغان شاد الدواوين، وسيف الدين ألدمر الركني أمير جندار، في جماعةٍ مِن المماليك السلطانيَّة، ومعهم ناظر الخاص إلى الإسكندرية، ومعهم تذاكِرُ مما يُعمَلُ مِن تتَبُّع أهل الفساد وقَتْلِهم، ومُصادرة قَومٍ بأعيانهم، وتغريمِ أهل البلد المالَ، والقبض على أسلحة الغزاة، ومَسْك القاضي والشهود، وتجهيز الأمراء المسجونين إلى قلعة الجَبَل، فساروا في عاشِرِه، ودخلوا المدينة، وجلس الوزيرُ والناظر بديوان الخُمُس وفرض الوزيرُ على الناس خمسَمائة ألف دينار، وقَبَض على جماعةٍ مِن أذلهم ووسطِهم، وقطع أيديَ بَعضِهم وأرجُلَهم، وتطَلَّب ابن رواحة كبيرَ دار الطراز ووسطه، من أجلِ أنَّه وُشِيَ به أنه كان يُغري العامَّةَ بالفرنج ويَمُدُّهم بالسلاح والنفقة، فحَلَّ بالناس من المُصادرة بلاء عظيم، وكتب السلطانُ كتُبًا ترد شيئًا بعد شيءٍ تتضَمَّنُ الحثَّ على سفك دماء المفسدين وأخذ الأموال، والوزير يجيبُ بما يُصلِحُ أمْرَ الناس، ثم استدعى الوزير بالسلاح المعَدِّ للغزاة، فبلغ ستةَ آلاف عدة، وضعها كُلَّها في حاصل وخَتَم عليها، واستمَرَّ نحو العشرين يومًا في سَفكِ دماء وأخذِ أموال، حتى جمع ما يُنَيِّف على مائتين وستين ألف دينار، وقُدِّمَ الوزير عماد الدين محمد بن إسحاق بن محمد البلبيسي قاضي الإسكندرية لِيُشنَق، ثم أخره، وكاتب السلطانَ بأنه كَشَف عن أمرِه فوجد ما نُقِلَ عنه غيرُ صحيح، وبعث الوزير المسجونينَ إلى قلعة الجبل في طائفةٍ معهم لحِفظِهم، فقَدِموا في الثامن عشر، وقدم الوزيرُ من الإسكندرية بالمال، وجلس في آخر رجب بالمال بقاعةِ الوزارة المستجَدَّة بالقلعة، وقد سكنها، وحفر النظار والمستوفون من خارج الشباك، فنفذ الوزيرُ الأمور، وصرفَ أحوال الدولة، وفي أول شعبان قَدِمَت رسل بابا الفرنج من مدينةِ رومة بهديَّة، وكتاب فيه الوصيَّةُ بالنصارى وأنَّه مهما عُمِلَ بهم بمصرَ والشام عاملوا مَن عندهم من المسلمين بمِثلِه، فأجيبوا وأُعيدوا، ولم تَقدَمْ رسُلٌ من عند البابا إلى مصر منذ أيام الملك الصالحِ نجمِ الدين أيوب.
خرج المَلِكُ الظاهر برقوق مِن سجن الكرك، واستولى على مدينتِها ووافقه نائِبُها الأمير حسام الدين حسن الكجكني، وقام بخِدمتِه، وقد حضر إلى الملك الظاهر برقوق ابنُ خاطر أمير بني عقبة من عرب الكَركِ، ودخل في طاعته، وقَدِمَ هذا الخبر من ابن بأكيش نائب غزة، فلمَّا سمعه منطاش- الذي تغلب على الناصري وأصبح هو نائِبَ السلطنة- أرسل من يقتُلُ الظاهر برقوق في سجنه، واضطربت الديارُ المصرية، وكَثُرَت القالة بين الناس، واختلفت الأقاويلُ، وتشَغَّب الزعر، وكان مِن خَبَرِ الملك الظاهر برقوق أنَّ منطاش لَمَّا وثب على الأمر وقهر الأتابك يلبغا الناصري وحبسه وحَبَس عِدَّةً من أكابر الأمراء، عاجَلَ في أمر الملك الظاهر برقوق بأن بعث إليه شخصًا يُعرَفُ بالشهاب البريدي، ومعه كتُبٌ للأمير حسام الدين الكجكني نائب الكرك وغيره بقَتلِ الملك الظاهر برقوق من غير مراجَعةٍ، ووعده بأشياءَ غيرِ نيابة الكرك، وكان الشهابُ البريدي أصلُه من الكرك، فجَهَّزه منطاش لذلك سرًّا، فلما وصل الشهاب إلى الكرك أخرج الشهابُ إلى نائبها كتابَ منطاش الذي بقَتلِ برقوق، فأخذه الكجكني منه ليكونَ له حُجَّةً عند قَتْلِه السلطان برقوق، ووعَدَه بقضاء الشُّغلِ وأنزل الشهابَ بمكان قلعة الكرك قريبًا من الموضِعِ الذي فيه الملك الظاهر برقوق، بعد أن استأنَسَ به، ثم قام الكجكني من فَورِه ودخل إلى الملك الظاهر برقوق ومعه كتاب منطاش الذي بقَتلِه، فأوقفه على الكتابِ، فلمَّا سمعه الملك الظاهر كاد أن يَهلِكَ من الجزع، فحَلَف له الكجكني بكلِّ يمين أنَّه لا يُسَلِّمُه لأحد ولو مات، وأنَّه يطلِقُه ويقومُ معه، وما زال به حتى هدأ ما به، وطابت نفسُه، واطمأنَّ خاطِرُه، وقد اشتهر في مدينة الكرك مجيءُ الشهاب بقتل الملك الظاهر برقوق، وكان في خدمةِ الملك الظاهر غلامٌ مِن أهل الكرك يقال له عبد الرحمن، فنزل إلى جماعةٍ في المدينة وأعلَمَهم أن الشهابَ قد حضر لقَتلِ أستاذه الملك الظاهر، فلمَّا سمعوا ذلك اجتمعوا في الحال، وقَصَدوا القلعة وهجموها حتى دخَلوا إلى الشهاب وهو بسَكَنِه من قلعة الكرك، ووثَبوا عليه وقَتَلوه، ثم جَرُّوه برجله إلى الباب الذي فيه المَلِك الظاهر برقوق، وكان نائِبُ الكرك الكجكني عند الملك الظاهر، وقد ابتدؤوا في الإفطار بعد أذان المغرب، وهي ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة 791 فلم يشعر الملك الظاهر والكجكني إلَّا وجماعة قد هجموا عليهم، وهم يدعون للملك الظاهر بالنَّصرِ، وأخذوا الملك الظاهِرَ بيَدِه حتى أخرجوه من البرجِ الذي هو فيه، وقالوا له: دُسْ بقدمك عند رأس عدُوِّك، وأروه الشهابَ مقتولًا، ثم نزلوا به إلى المدينةِ فدُهِشَ النائب مما رأى، ولم يجِدْ بدًّا من القيامِ في خدمة الملك الظاهر وتجهيزِه، وانضَمَّ على الملك الظاهِرِ أقوام الكرك وأجنادُها، وتسامع به أهلُ البلاد، فأتَوه من كُلِّ فَجٍّ بالتقادم والخيول، كل واحدٍ بحَسَبِ حالِه، وأخذ أمرُ الملك الظاهر برقوق من يومِ ذلك في استظهارٍ، وأما أمر منطاش فإنه لما سَمِعَ هذا الخبر وتحقَّقَه، علم أنه وقع في أمرٍ عظيم، فأخذ في تدبيرِ أحوالِه، فأول ما ابتدأ به أن قَبَض على جماعةٍ كبيرة من المماليك الظاهرية، وسجنهم وقَتَل بَعْضَهم.
بعدَ مُرورِ عامينِ أو ثلاثةِ أَعوامٍ مِنَ الحِصارِ الظَّالمِ في شِعْبِ أبي طالبٍ نُقِضتْ الصَّحيفةُ وفُكَّ الحِصارُ؛ وذلك أنَّ قُريشًا كانوا بين راضٍ بهذا الميثاقِ وكارهٍ له، فسعى في نَقْضِ الصَّحيفةِ مَنْ كان كارهًا لها, وكان القائمُ بذلك هشامُ بنُ عَمرٍو مِن بني عامرِ بنِ لُؤَيٍّ, وكان يَصِلُ بني هاشمٍ في الشِّعْبِ مُستَخفِيًا باللَّيلِ بالطَّعامِ, فإنَّه ذهب إلى زُهيرِ بنِ أبي أُمَيَّةَ المخزوميِّ -وكانت أمُّه عاتِكَةَ بنتَ عبدِ المُطَّلبِ- وقال: يا زُهيرُ، أَرَضيتَ أنْ تَأكُلَ الطَّعامَ، وتَشربَ الشَّرابَ، وأَخوالُكَ بحيث تعلمُ؟ فقال: ويحكَ، فما أصنعُ وأنا رجلٌ واحدٌ؟ أما والله لو كان معي رجلٌ آخرُ لقمتُ في نَقضِها. قال: قد وجدتَ رجلًا. قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زُهيرٌ: ابْغِنا رجلًا ثالثًا. فذهب إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، فذكَّرهُ أَرحامَ بني هاشمٍ وبني المُطَّلبِ ابنيْ عبدِ مَنافٍ، ولَامَهُ على مُوافقتِهِ لِقُريشٍ على هذا الظُّلمِ، فقال المُطْعِمُ: ويحكَ، ماذا أصنعُ؟ إنَّما أنا رجلٌ واحدٌ. قال: قد وجدتَ ثانيًا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال: ابغِنا ثالثًا. قال: قد فعلتُ. قال: من هو؟ قال: زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ. قال: ابغِنا رابعًا. فذهب إلى أبي البَخْتريِّ بنِ هشامٍ، فقال له نحوًا ممَّا قال للمُطْعِمِ، فقال: وهل مِن أحدٍ يُعينُ على هذا؟ قال: نعم. قال: مَن هو؟ قال زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ، والمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، وأنا معك. قال: ابغِنا خامسًا. فذهب إلى زَمعةَ بنِ الأسودِ بنِ المُطَّلبِ بنِ أسدٍ، فكلَّمهُ, وذكر له قرابتَهُم وحقَّهُم، فقال له: وهل على هذا الأمرِ الذي تُدعوني إليه مِن أحدٍ؟ قال: نعم. ثم سَمَّى له القومَ، فاجتمعوا عند الحَجُونِ، وتعاقدوا على القيامِ بنَقضِ الصَّحيفةِ، وقال زُهيرٌ: أنا أَبدأُكم فأكونُ أوَّلَ مَن يتكلَّمُ. فلمَّا أصبحوا غَدَوْا إلى أَنْدِيَتِهِم، وغدا زُهيرٌ عليه حُلَّةٌ، فطاف بالبيتِ سبعًا، ثمَّ أقبل على النَّاسِ، فقال: يا أهلَ مكَّة، أنأكلُ الطَّعامَ, ونَلبَسُ الثِّيابَ, وبنو هاشمٍ هَلْكى، لا يُباع ولا يُبتاعُ منهم؟ والله لا أقعدُ حتَّى تُشَقَّ هذه الصَّحيفةُ القاطعةُ الظَّالمةُ. قال أبو جهلٍ, وكان في ناحيةِ المسجدِ: كذبتَ، والله لا تُشَقُّ. فقال زَمعةُ بنُ الأسودِ: أنت والله أَكْذَبُ، ما رضينا كتابتَها حيث كُتِبتْ. قال أبو البَخْتريِّ: صدق زَمعةُ، لا نرضى ما كُتِبَ فيها، ولا نُقِرُّ به. قال المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ: صدقتُما، وكذب مَن قال غيرَ ذلك، نبرأُ إلى الله منها وممَّا كُتِبَ فيها. وقال هشامُ بنُ عَمرٍو نحوًا من ذلك. فقال أبو جهلٍ: هذا أمر قُضِيَ بليلٍ، وتُشُووِر فيه بغيرِ هذا المكانِ. وأبو طالبٍ جالسٌ في ناحيةِ المسجدِ، إنمَّا جاءهُم لأنَّ الله كان قد أَطلعَ رسولَه صلى الله عليه وسلم على أمرِ الصَّحيفةِ، وأنَّه أرسلَ عليها الأَرَضَةَ، فأكلتْ جميعَ ما فيها من جَورٍ وقَطيعةٍ وظُلمٍ إلا ذكرَ الله عزَّ وجلَّ، فأَخبر بذلك عمَّه، فخرج إلى قُريشٍ فأخبرهم أنَّ ابنَ أخيهِ قد قال كذا وكذا، فإنْ كان كاذبًا خَلَّيْنا بينكم وبينه، وإنْ كان صادقًا رجعتُم عن قطيعتِنا وظُلمِنا. قالوا: قد أنصفتَ. وبعد أنْ دار الكلامُ بين القومِ وبين أبي جهلٍ، قام المُطعمِ إلى الصَّحيفةِ لِيَشُقَّها، فوجد الأَرَضَةَ قد أكلتْها إلَّا (باسمِك اللَّهمَّ)، وما كان فيها مِن اسمِ الله فإنَّها لم تأكلْهُ. ثم نقضَ الصَّحيفةَ وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه مِنَ الشِّعبِ، وقد رأى المشركون آيةً عظيمةً مِن آياتِ نُبوَّتِه، ولكنَّهم كما أخبر الله عنهم: (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) أعرضوا عن هذه الآيةِ وازدادوا كُفرًا إلى كُفرهِم.
هو الفيلسوفُ المُنَجِّم مُحمَّد بنُ أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي مُؤرخٌ مُحَقِّقٌ وجغرافيٌّ مُدقِّق، وفلَكيٌّ نابِهٌ، ورياضيٌّ أصيلٌ، وفيزيائيٌّ راسخٌ، ومترجِمٌ متمَكِّنٌ، مِن بلادِ السندِ، ومن أعيان الفلاسفة. عاصر الرَّئيسَ ابن سينا وجَرَت بينهما حوارات وأسئلةٌ وجوابات، وكان عالِمًا في الهيئة والنجوم، خبيرًا بالطبِّ. وُلد في بيرون إحدى ضواحي خوارزم، وهو مجهولُ النَسَب؛ فقد قال عن نفسِه في شعر: إذ لستُ أعرِفُ جَدِّي حقَّ مَعرفةٍ
وكيف أعرِفُ جدي إذ جَهِلتُ أبي
أبي أبو لهبٍ شَيخٌ بلا أدَبِ
نَعَم ووالدتي حمَّالةُ الحَطَب
يقول ياقوت الحموي" "بيرون بالفارسية معناه برّا، وسألتُ بعض الفضلاءِ عن ذلك فزعَم أنَّ مقام البيروني بخوارزم كان قليلًا، وأهلُ خوارزم يسمُّونَ الغريبَ بهذا الاسم، كأنَّه لَمَّا طالت غربتُه عنهم صار غريبًا، وما أظنُّه يُرادُ به إلَّا أنَّه من أهل الرستاق، يعني أنَّه من برّا البلد". كتب في كلِّ ما كان معروفًا مِن علومِ عَصرِه، وهو بذلك يُعدُّ أحدَ الموسوعيِّينَ. قال ياقوت الحموي: " وأما سائِرُ كُتُبِه في علومِ النُّجومِ والهيئةِ والمَنطِقِ والحكمةِ؛ فإنَّها تفوق الحَصرَ، رأيتُ فَهرسَتَها في وقْفِ الجامع بمرو في نحوِ الستين ورقةً بخط مكتنز". لَمَّا صَنَّف القانونَ المسعودي أجازه السلطانُ مسعود بن محمود الغزنوي بحَملِ فيلٍ مِن نقدِه الفِضِّي إليه، فردَّه إلى الخزانةِ بعُذرِ الاستغناء عنه، وكان مُكِبًّا على تحصيلِ العلوم مُنصَبًّا إلى تصنيف الكتُبِ، يفتَحُ أبوابها، ويُحيطُ شواكِلَها وأقرابَها، ولا يكاد يفارِقُ يدَه القلمُ وعَينَه النَّظرُ وقَلْبَه الفِكَرُ إلَّا في يومَيِ النيروز والمهرجان من السَّنة، ثمَّ هِجِّيراه في سائر الأيَّام من السَّنَةِ عِلمٌ يُسفِرُ عن وجهه قِناعَ الأشكال ويحسِرُ عن ذراعيه كمامَ الأغلاق. وأمَّا نباهةُ قَدرِه ومكانته عند الملوك فقد بلغ من حظوتِه لديهم أنَّ شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلِصَه لصُحبتِه ويرتبِطَه في دارِه على أن تكونَ له الإمرةُ المطاعةُ في جميع ما يحويه مُلكُه، فأبى عليه ولم يطاوِعْه، ولَمَّا أسمَحَت نفسُه بمثل ذلك لخوارزم شاه آواه في داره وأنزله معه في قَصرِه، لَمَّا استولى السُّلطانُ محمود على خوارزم قَبَضَ على البيروني وعلى أستاذِه عبد الصمد أول بن عبد الصمد الحكيم واتَّهَمه بالقَرمطةِ والكُفرِ، فأذاقه الحِمامَ، وهمَّ أن يُلحِقَ به أبا الرَّيحان البيروني، فقيل له إنَّه إمامُ وَقتِه في علمِ النُّجومِ، وإنَّ الملوكَ لا يَستَغنونَ عن مِثلِه، فأخَذَه معه، ودخل إلى بلادِ الهندِ وأقام بينهم وتعلَّم لُغتَهم واقتبس علومَهم، ثمَّ أقام بغُزنة حتى مات بها, وعلى الرغمِ مِن أنَّ البيروني لم يكن عربيًّا إلَّا أنَّه كان مُقتَنِعًا بأنَّ اللغةَ العربيَّةَ هي اللُّغةُ الوحيدةُ الجديرةُ بأن تكونَ لغةَ العِلمِ، وقد نُسِبَ إليه أنَّه قال: الهجوُ بالعربيَّةِ أحَبُّ إليَّ من المدحِ بالفارسيَّة. ومن أشهر كتب البيروني: الآثارُ الباقية عن القرون الخالية، وهو من أبرَزِ كُتُبِ التقاويم، القانونُ المسعودي في علمِ الفلك والجغرافيا والهندسة، الاستيعابُ في صنعة الأسطرلاب، الصَّيدنَة في الطب, تحديدُ نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، تحقيقُ ما للهند من مقولةٍ مقبولة في العقل أو مرذولة، التفهيمُ لصناعة التنجيم. وغيرها كثير، وللبَيروني لَمَحاتٌ علميَّةٌ سبق بها عصرَه، منها قولُه بأن واديَ السِّندِ كان يومًا قاعَ بحرٍ ثم غطَّتْه الرواسِبُ الفَيضيَّة بالتدريج، والقولُ بدوران الأرضِ حول محْورِها، والقول بجاذبيَّة الأرض, وله في الرياضيَّات السبقُ الذي لم يشقَّ المُحضرون غبارَه، ولم يلحق المُضمِّرون المُجيدون مِضمارَه. توفي في غزنة (كابول الآن).
كان الحاكِمُ بأمرِ اللهِ العُبَيديُّ حالُه مُضطربةٌ في الجَورِ والعَدلِ، والإخافةِ والأمنِ، والنُّسُك والبِدعة, ومذهَبُه في الرَّفضِ مَعروفٌ. ولقد كان مضطرِبًا فيه، فكان يَأذَنُ في صلاةِ التَّراويحِ ثمَّ ينهي عنها، وكان يرى بعِلمِ النُّجومِ ويُؤثِرُه، ويُنقَلُ عنه أنَّه منع النِّساءَ مِن التصرُّفِ في الأسواقِ، ومنَعَ مِن أكلِ الملوخيَّا. ورُفِعَ إليه أنَّ جماعةً مِن الرَّوافِضِ تعرَّضوا لأهلِ السنَّةِ في التراويحِ بالرَّجمِ، وفي الجنائِزِ، فكتب في ذلك سجِلًّا قُرِئَ على المِنبَرِ بمِصرَ في رمضان، ورَدَ فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّ أميرَ المؤمنينَ يتلو عليكم آيةً مِن كِتابِ اللهِ المُبينِ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} مضى أمسُ بما فيه، وأتى اليومُ بما يَقتَضيه. معاشِرَ المُسلِمينَ نحنُ الأئِمَّة، وأنتم الأمَّة. لا يحِلُّ قَتلُ مَن شَهِدَ الشَّهادَتينِ ولا يحلُّ عروةً بين اثنين تجمَعُها هذه الأخوَّة، عصم اللهُ بها من عَصَم، وحرَّم لها ما حرَّم، مِن كُلِّ مُحرًّمٍ مِن دمٍ ومالٍ ومَنكَحٍ، الصَّلاحُ والأصلَحُ بين الناسِ أصلَحُ، والفَسادُ والإفسادُ مِن العبَّادِ يُستقبَحُ. يُطوى ما كان فيما مضى فلا يُنشَر، ويُعرَض عَمَّا انقضى فلا يُذكَر. ولا يُقبَلُ على ما مرَّ وأدبَر من إجراءِ الأمورِ على ما كانت عليه في الأيَّام الخاليةِ؛ أيَّامَ آبائِنا الأئمَّة المُهتَدين. سلامُ الله عليهم أجمعين، يصومُ الصَّائِمونَ على حِسابِهم ويُفطِرون، ولا يُعارضُ أهل الرُّؤية فيما هم عليه صائِمون ويُفطِرون، وصلاةُ الخمسين للذين بما جاءهم فيها يُصَلُّون، وصلاةُ الضحى وصلاة التراويح لا مانِعَ لهم منها ولا هم عنها يُدفَعون، ويُخَمِّسُ في التكبير على الجنائِزِ المُخَمِّسون، ولا يُمنَعُ مِن التربيع عليها المُرَبِّعون؛ يُؤذِّنُ بحيَّ على خيرِ العَمَلِ المُؤذِّنون، ولا يُؤذَى مَن بها لا يُؤَذِّنون؛ لا يُسَبُّ أحَدٌ مِن السَّلَف، ولا يُحتَسَب على الواصِفِ فيهم بما يَصِف، والحالِفُ منهم بما حلف؛ لكُلِّ مُسلمٍ مُجتَهِدٍ في دينه اجتهادٌ، وفي يوم عيد الغديرِ مُنِعَ النَّاسُ مِن عَمَلِه". ودَرَسَت كنائِسُ كانت بطريقِ المكس وكنيسة بحارة الرُّوم من القاهرةِ ونُهِبَ ما فيها، وقُتِلَ في هذه الليلة كثيرٌ مِن الخَدَم والصَّقالبة والكُتَّاب، بعد أن قُطِعَت أيديهم بالسَّاطورِ على خشبةٍ مِن وسط الذِّراعِ.