انتهت الدولة السعوديُة الثانية عام 1308هـ واستطاع محمدُ ابنُ رشيد السيطرةَ على كل المناطق التي كانت تحت حُكمِ آل سعود في نجدٍ وما حولها، وبقِيَ الأمرُ على ذلك إلى عام 1319هـ، وكان كُلَّ هذه الفترة عبدُالرحمن بن فيصل مع أسرتِه في الكويت، ثمَّ إن أمير حائل عبد العزيز بن متعب استعَدَّ لقتال الشيخ مبارك أميرِ الكويت، فاقترح عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل على الشيخِ مبارك أن يسيرَ بقوَّةٍ إلى الرياضِ فيأخُذَها من آلِ رشيدٍ، فتَضعُف قوَّتُهم عن محاربةِ الشيخ مبارك، فلاقى ذلك قبولًا عنده، فلمَّا اتجَه الشيخُ مبارك بقواتِه إلى جهة القصيم واشتَبَك مع ابن رشيد في معركةٍ حامية بالقُربِ مِن مكانٍ يُسمَّى بالصريف على مقربةٍ مِن الطرفية في القصيم، كان عبد العزيز قد سار بقوةٍ إلى الرياض ـ وحاصَرَها ولم يستَطِعْ دُخولَها، فاضطر للانسحابِ منها، ثمَّ عاد إلى الكويت بعد أن بلَغَه هزيمة الشيخ مبارك أمامَ ابن رشيد في معركةِ الصريفِ.
دخل أحمدُ العجيفي طرسوسَ، وغزا مع بازمان الصائفةَ، فبلغوا شكند، فأصابت بازمان شظيةٌ من حجرِ مَنجَنيقٍ في أضلاعه، فارتحَلَ عن شكند بعد أن أشرَفَ على أخذها, فتوفِّيَ في الطريق، وحُمِلَ إلى طرسوس فدُفِنَ بها. وكان بازمان قد أطاع خِمارَوَيه بن أحمد بن طولون، فلما توفِّيَ خَلَفَه ابنُ عجيف، وكتب إلى خمارَوَيه يُخبِرُه بمَوتِه، فأقَرَّه على ولاية طرسوس، وأمَدَّه بالخيل والسِّلاحِ والذخائر وغيرِها، ثم عزله خمارَوَيه، واستعمَلَ عليها ابنَ عَمِّه محمَّدَ بن موسى بن طولون.
قَدِمَ كتاب نائب حلب بأن الشهابي أحمد بن رمضان -وهو من الأمراء التركمان الأوحقية- أخذ مدينة طرسوس عَنوةً في ثالث عشر المحرم، بعد أن حاصرها سبعة أشهر، وأنه سلمها إلى ابنه إبراهيم، بعدما نهبها وسبى أهلها، وقد كانت طرسوس من نحو اثنتي عشرة سنة يخطب بها تارة لتيمورلنك، وتارة لمحمد باك بن قرمان، فيقال: السلطان الأعظم سلطان السلاطين، فأعاد ابن رمضان الخطبة فيها باسم السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودي.
هو الشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي. تولَّى السلطة على الصفويين بعد أبيه، وهو الابن الأكبر لإسماعيل شاه، ثم ثار عليه أخوه إخلاص ميرزا مدَّعيًا حقه في العرش، فتمكن من أسْرِه وقتْلِه، ثم توفِّيَ طهماسب في هذه السنة مسمومًا بعد أن دام في الملك أربعة وخمسين عامًا، فخلفه ابنُه إسماعيل الثاني الذي كان محبوسًا منذ عام 965 بسبب استقلاله العسكري؛ مما أثار شكوك أبيه وخوفه من الثوران عليه وإطاحته من المُلك، فلما مات أبوه أُخرِجَ من السجن واعتلى عرشَ إيران.
قَدِم الإمامُ الحافظ المتقِن قاضي قضاة الإسلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مِن مِصرَ على الإمام تركي بن عبد الله بعد أن بَقِيَ في مصر 9 سنوات منذ أن نفاه إليها إبراهيم باشا عام 1233، وكان معه ابنه عبد اللطيف صغيرًا, ففرح الإمامُ تركي به وأكرمه، واغتبط به المسلمون الخاصُّ والعامُّ، وبذل الشيخُ مِن نفسه للطالبين، فانتفع بعِلمِه كثيرٌ مِن المستفيدين.
بعد أن استقرَّ حُكمُ الملك عبد العزيز في الرياض والخرج والدلم وما حولها، اتجه نحو شمال الرياض وقصَدَ بلاد الوشم وسدير والمجمعة التي كانت خاضعةً لحكم ابن رشيد، فدارت اشتباكات بين حاميات ابن رشيد وسرايا الملك عبد العزيز، نتج عنهما ضمُّ الإقليمين إلى حكم الملك عبدالعزيز ما عدا بلدة المجمعة التي ظلت محافِظةً على ولائها لابن رشيد، ولم تخضع إلا بعد مقتَلِه في روضةِ مهنا سنة 1324هـ ودخول القصيم تحت حكمِ الملك عبد العزيز.
بعد أن أعلنت بريطانيا تنصيبَ فيصل بن الحسين في العراقِ، وعبد الله بن الحسين في شرق الأردن، زادت مخاوفُ الملك عبدالعزيز من تحالفهما مع ابن رشيد؛ فقرَّر المسارعةَ لضَمِّ حائل، فعاد لغزوها بقواتٍ كبيرة من ضِمنِها قواتُ الإخوان (إخوان من أطاع الله) بزعامة فيصل الدويش، وبعد شهرين من الحصار استسلمت المدينةُ للملك عبدالعزيز، وأسَرَ معه محمد بن طلال إلى الرياض، وتزوج الملك عبدالعزيز من ابنةِ محمد بن طلال.
لم يُبايِعْ الحُسينُ بن عَلِيٍّ رضي الله عنه لِيَزيدَ، وبَقِيَ في مكَّة هو وابنُ الزُّبيرِ؛ ولكنَّ أهلَ الكوفَة راسَلوا الحُسينَ لِيَقْدُمَ عليهم لِيُبايِعوهُ ويَنصُروهُ فتكونُ له الخِلافَة، وكان على الكوفَة عُبيدُ الله بن زيادٍ، فبعَث الحُسينُ ابنَ عَمِّهِ مُسلِم بن عَقِيلَ لِيَعلَمَ له صِدْقَ أهلِ الكوفَة، فقَبَضَ عليه ابنُ زيادٍ وقَتَلَهُ، وتَوالَت الكُتُبُ مِن أهلِ الكوفَةِ للحُسينِ لِيَحضُرَ إليهم حتَّى عزَم على ذلك، فناصَحَهُ الكثيرُ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ منهم: ابنُ عُمَر، وأخوهُ محمَّدُ بن الحَنَفِيَّةِ، وابنُ عبَّاسٍ، وأبو سَعيدٍ الخُدريُّ وعبدُ الله بن الزُّبيرِ.... ألَّا يَفْعَلَ، وأنَّهم سَيَخْذُلونَه كما خَذلوا أباهُ وأخاهُ مِن قَبلُ؛ لكنَّ قَدَرَ الله سابقٌ فأَبَى إلَّا الذِّهابَ إليهم، فخرَج مِن مكَّة في ذي الحَجَّة، ولمَّا عَلِمَ ابنُ زيادٍ بمَخْرَجِه جَهَّزَ له مَن يُقابِلهُ، فلمَّا قَدِمَ الحُسينُ وقد كان وَصَلَهُ خبرُ مَوتِ مُسلِم وأخيهِ مِن الرَّضاعِ فقال للنَّاس مَن أَحَبَّ أن يَنْصرِفَ فليَنْصَرِفْ، ليس عليه مِنَّا ذِمامٌ. فتَفَرَّقوا يَمينًا وشِمالًا حتَّى بَقِيَ في أصحابِه الذين جاؤوا معه مِن مكَّة، وقابَلَهم الحُرُّ بن يَزيدَ مِن قِبَلِ ابنِ زيادٍ لِيُحْضِرَ الحُسينَ ومَن معه إلى ابنِ زيادٍ؛ ولكنَّ الحُسينَ أَبَى عليه ذلك، فلم يَقْتُلْه الحُرُّ وظَلَّ يُسايِرُهُ حتَّى لا يَدخُلَ الكوفَة، حتَّى كانوا قريبًا مِن نِينَوَى جاء كتابُ ابنِ زيادٍ إلى الحُرِّ أن يُنْزِلَ الحُسينَ بالعَراءِ بغَيرِ ماءٍ، ثمَّ جاء جيشُ عُمَر بن سعدِ بن أبي وقَّاص كذلك للحُسينِ، إمَّا أن يُبايِع، وإمَّا أن يَرى ابنُ زيادٍ فيه رَأيَهُ، وعرَض الحُسينُ عليهم إمَّا أن يَتركوهُ فيَرجِع مِن حيث أَتَى، أو يَذهَب إلى الشَّام فيَضَعُ يَدَهُ في يَدِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، وإمَّا أن يَسيرَ إلى أيِّ ثَغْرٍ مِن ثُغورِ المسلمين فيكون واحدًا منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم. فلم يَقْبَلوا منه شيئًا مِن ذلك، وأَرسَل ابنُ زيادٍ طائفةً أُخرى معها كِتابٌ إلى عُمَر بن سعدٍ أن ائْتِ بهم أو قاتِلْهُم، ثمَّ لمَّا كان اليومُ العاشر مِن مُحرَّم الْتَقى الصَّفَّانِ، وذَكَّرَهُم الحُسينُ مَرَّةً أُخرى بكُتُبِهم له بالقُدومِ فأنكروا ذلك، ووَعَظَهُم فأَبَوْا فاقْتَتَلوا قِتالًا شديدًا، ومال الحُرُّ إلى الحُسينِ وقاتَل معه، وكان آخِرَ مَن بَقِيَ مِن أصحابِ الحُسينِ سُويدُ بن أبي المُطاعِ الخَثْعَميُّ، وكان أوَّلَ مَن قُتِلَ مِن آلِ بَنِي أبي طالِبٍ يَومئذٍ عَلِيٌّ الأكبرُ ابنُ الحُسينِ، ومكَث الحُسينُ طويلًا مِن النَّهارِ كُلمَّا انتهى إليه رجلٌ مِن النَّاسِ رجَع عنه وَكَرِهَ أن يَتَوَلَّى قَتْلَهُ وعِظَمَ إثْمِهِ عليه.
وكان أصحابُ الحُسينِ يُدافِعون عنه، ولمَّا قُتِلَ أصحابُه لم يَجْرُؤْ أَحَدٌ على قَتْلِه، وكان جيشُ عُمَر بن سعدٍ يَتَدافعون، ويخشى كُلُّ فَردٍ أن يَبُوءَ بِقَتْلِه، وتَمَنَّوْا أن يَسْتَسْلِمَ؛ لكنَّ شِمْرَ بن ذي الجَوْشَنِ صاح في الجُنْدِ: وَيْحَكُم، ماذا تَنتَظِرون بالرَّجُلِ! اقْتُلوهُ، ثَكَلَتْكُم أُمَّهاتُكم. وأَمَرَهُم بِقَتْلِه, فحَمَلوا عليه مِن كُلِّ جانِبٍ، وضَرَبهُ زُرْعَةُ بن شَريكٍ التَّميميُّ, ثمَّ طَعَنَهُ سِنانُ بن أَنَسٍ النَّخَعيُّ واحْتَزَّ رَأسَهُ. ويُقالُ: إنَّ الذي قَتَلَهُ عُروةُ بن بَطَّار التَّغْلِبيُّ وزيدُ بن رُقادٍ الجَنْبِيُّ. ويُقالُ: إنَّ المُتَوَلِّي الإجهازَ عليه شِمْرُ بن ذي الجَوْشَن الضَّبِّيُّ، وحمَل رَأسَهُ إلى ابنِ زيادٍ خَوْلِيُّ بن يَزيدَ الأَصْبَحيُّ. ودُفِنَ الحُسينُ رضي الله عنه وأصحابُه أهلُ الغاضِريَّة مِن بَنِي أَسَدٍ بعدَ قَتلِهم بيَومٍ. قال شيخُ الإسلامِ في قَتلِه رضي الله عنه: قُتِلَ الحُسينُ بن عَلِيٍّ رضِي الله عنهما يومَ عاشوراءَ، قَتَلَتْهُ الطَّائفةُ الظَّالمةُ الباغيةُ، وأَكرَم الله الحُسينَ بالشَّهادةِ، كما أَكرَم بها مَن أَكرَم مِن أهلِ بَيتِه، أَكرَم بها حَمزةَ وجَعفَرًا، وأباه عَلِيًّا، وغَيرَهُم، وكانت شَهادتُه ممَّا رفَع الله بها مَنزِلَتَه، وأَعْلَى دَرَجتَهُ، والمَنازِلُ العاليةُ لا تُنالُ إلَّا بالبَلاءِ، قَتلوهُ مَظلومًا شَهيدًا شَهادةً أَكرَمَهُ الله بها، وأَلْحَقَهُ بأهلِ بَيتِه الطَّيِّبين الطَّاهِرين، وأَهانَ بها مَن ظَلمَهُ واعْتَدى عليه، وأَوْجَبَ ذلك شَرًّا بين النَّاسِ، فصارَت طائِفَة جاهِلَة ظالِمَة: إمَّا مُلْحِدة مُنافِقَة، وإمَّا ضَالَّة غاوِيَة، تُظْهِر مُوالاتِه ومُوالاةِ أهلِ بَيتِه، تَتَّخِذُ يومَ عاشوراء يومَ مَأْتَم وحُزْن ونِياحَة، وتُظْهِر فيه شِعارَ الجاهليَّة مِن لَطْمِ الخُدودِ، وشَقِّ الجُيوبِ، والتَّعَزِّي بِعَزاءِ الجاهليَّة. ومِن كَرامَةِ الله للمؤمنين أنَّ مُصيبةَ الحُسينِ وغَيرِه إذا ذُكِرَت بعدَ طولِ العَهْدِ يُسْتَرْجَعُ فيها، كما أمَرَ الله ورسولُه؛ لِيُعْطَى مِن الأجرِ مِثلُ أَجْرِ المُصابِ يومَ أُصِيبَ بها. وإذا كان الله تعالى قد أَمَرَ بالصَّبْرِ والاحْتِسابِ عند حَدَثان العَهْدِ بالمُصيبَةِ فكيف مع طولِ الزَّمانِ, فكان ما زَيَّنَهُ الشَّيطانُ لأهلِ الضَّلالِ والغِيِّ مِن اتِّخاذِ يومِ عاشوراء مَأتمًا، وما يَصنعون فيه مِن النَّدْبِ والنِّياحَةِ، وإنشادِ قَصائدِ الحُزنِ، ورِوايةِ الأخبارِ التي فيها كَذِبٌ كثيرٌ -والصِّدقُ فيها ليس فيه إلَّا تَجديدُ الحُزنِ- والتَّعَصُّبِ، وإثارةِ الشَّحناءِ والحَرْبِ، وإلقاءِ الفِتَنِ بين أهلِ الإسلامِ؛ والتَّوسُّلِ بذلك إلى سَبِّ السَّابِقين الأوَّلين، وكَثْرَةِ الكَذِبِ والفِتَنِ في الدُّنيا، ولم يَعرِفْ طوائفُ الإسلامِ أكثرَ كَذِبًا وفِتَنًا ومُعاونةً للكُفَّارِ على أهلِ الإسلامِ مِن هذه الطَّائفَةِ الضَّالَّةِ الغاويَةِ، فإنَّهم شَرٌ مِن الخَوارِج المارِقين.
هو سعيدُ بنُ حُسين بن أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن عَمْرِو بن ميمون القدَّاح بن دَيصان الأهوازي. قال القاضي عبد الجَبَّار بن أحمد بن عبد الجبار البصري: "اسمُ جَدِّ الخلفاء المصريِّين سعيدٌ، ويلقَّبُ بالمهديِّ". المعروف بالمهديِّ أبو محمَّد عبيدالله، مؤسِّسُ الدولة الفاطمية العُبيدية الباطنيَّة في إفريقيا، كان أبوه يهوديًّا حدَّادًا بسَلَمية. زعم سعيدٌ هذا أنَّه ابنُ الحُسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القدَّاح. وقال بعض دُعاة العُبَيديين: "إنَّ سعيدًا إنما هو ابنُ امرأة الحُسين بن محمد. وإنَّ الحُسين ربَّاه وعلَّمه أسرار الدَّعوة، وزوَّجه ببنت أبي الشَّلَغْلَغ فجاءه ابن سمَّاه عبد الرحمن، فلمَّا دخل المغرب وأخذ سِجِلماسة تسمَّى بعُبَيد الله وتكنى بأبي محمد، وسمَّى ابنَه الحسن". كانت طائفةٌ من أتباعه تزعُمُ أنَّه الخالق الرَّازق، وطائفةٌ تزعم أنَّه نبيٌّ، وطائفة تزعم أنَّه المهدي حقيقة. قال القاضي أبو بكر ابن الباقلَّانيِّ: "إنَّ القدَّاح جدُّ عُبَيد الله كان مجوسيًّا, ودخل عُبَيد الله المغرب، وادَّعى أنَّه علويٌّ، ولم يعرفْه أحد من علماء النَّسَب، وكان باطنيًّا خبيثًا، حريصًا على إزالة مِلَّة الإسلام. أعدَمَ العُلَماء والفقهاء ليتمكَّنَ مِن إغواء الخلْق. وجاء أولادُه على أُسلوبه. أباحوا الخُمور والفُرُوج، وأشاعوا الرَّفْضَ، وبثُّوا دُعاةً فأفسدوا عقائِدَ خلقٍ من جبالِ الشَّام كالنُّصَيْريَّة والدَّرزيَّة. وكان القدَّاح كاذبًا مُمَخْرقًا. وهو أصلُ دُعاة القرامطة. وجدُّ القدَّاح هو دَيصَان أحدُ الثَّنَويَّة. وعُبَيد الله المهدي صاحب القيروان، وجدُّ بني عُبَيدٍ الذينَ تُسَمِّيهم جَهَلَةُ النَّاسِ الخُلَفاء الفاطميِّين". قال الذهبي: "وأهلُ العلم بالأنسابِ المحقِّقينَ يُنكِرونَ دعواه في النَّسبِ لفاطمةَ رضي الله عنها، ويقولون: اسمُه سعيدٌ، ولَقَبه عُبَيدُ الله، وزوج أمِّه الحُسين بنُ أحمد القدّاح. وكان كحَّالًا يقدحُ العينَ". لَمَّا مات عُبيد الله بالمهديَّة أخفى ولدُه أبو القاسم القائِمُ مَوتَه سنةً؛ لتدبيرٍ كان له، وكان يخافُ أن يختَلِفَ النَّاسُ عليه إذا عَلِموا بموته، وكان عمرُ المهديِّ لمَّا توفِّيَ ثلاثًا وستِّينَ سنة، وكانت ولايتُه منذ دخل رقاده ودُعِيَ له بالإمامة إلى أن توفِّيَ أربعًا وعشرينَ سنة وشهرًا وعشرين يومًا، ولمَّا توفِّيَ مَلَك بعدَه ابنُه أبو القاسم محمَّد القائم، وكان أبوه قد عَهِدَ إليه، ولَمَّا أظهرَ وفاة والده كان قد تمكَّنَ وفرغ من جميعِ ما أراده، واتَّبَع سُنَّة أبيه، وثار عليه جماعةٌ، فتمكَّنَ منهم. وكان من أشدِّهم رجلٌ يقال له ابنُ طالوت القرشيُّ، في ناحية طرابلس، ويزعُمُ أنَّه ولد المهديِّ، وزحف بمن معه على مدينة طرابلس، فقاتَلَه أهلها، ثم تبيَّنَ للبربر كَذِبُه، فقتلوه وحملوا رأسَه إلى القائمِ.
هو العلَّامةُ فيلسوف الوقت، أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن شيخ المالكيَّة أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي. حفيدُ العلَّامة ابن رشد الفقيه المتوفى سنة 520، وُلِدَ سنة عشرين قبل وفاة جده العلامة بشهر واحد. درس الفقه والأصول حتى برَعَ فيه وأقبل على عِلمِ الكلام والفلسفة وعلوم الأوائل، حتى صار يُضرَبُ به المثَلُ فيها. واشتغل بالطبِّ والرياضيات. كان ذكيًّا رَثَّ البَزَّة، قَوِيَّ النفس، أوحَدَ زمانه في علم الفقه والخلاف. نُفِيَ إلى بلاد المغرب بسبب اشتغالِه بالفلسفة، وله كُتُب في الفقه والأصول واللغة، كان شديدَ الإعجاب بأرسطو. ألفَّ ابن رشد كتابًا رَدَّ فيه على كتابِ الغزالي (تهافُت الفلاسفة) مدافعًا فيه عن آراء الفلاسفة، وله كتابُ جوامع كتب أرسطوطاليس، وله في الطب كتاب الكليَّات في وظائف الجسم ومنافعها، وكتاب شرح أرجوزة ابن سينا في الطب، وله كتب أخرى في الفقه، مثل التحصيل، وله الكتاب المشهور بداية المجتهد ونهاية المقتصد، قال عنه الذهبي: "كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، عَلَّلَ فيه ووَجَّه، ولا نعلَمُ في فنه أنفَعَ منه، ولا أحسَنَ مَساقًا"، وله كتابُ الكشف عن الأدلة في عقائد الملة، الذي رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية. نقل الذهبي عن ابن الأبار الأندلسي أنه قال: "لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعِلمًا وفَضلًا. قال: وكان متواضِعًا، منخفِضَ الجناح، عُنِيَ بالعلم حتى حُكِيَ عنه أنه لم يترك النظَرَ والقراءة مذ عَقِلَ إلَّا ليلة وفاة أبيه وليلة عُرسِه، وأنه سوَّدَ فيما صَنَّف وقَيَّد, واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الأوائل، فكانت له فيها الإمامةُ دون أهل عصره. وكان يُفزَعُ إلى فُتياه في الطب كما يُفزَعُ إلى فتياه في الفقه، مع الحظِّ الوافِرِ مِن العربية, وقيل: كان يحفَظُ ديوان حبيب والمتنبي". قال الذهبي: قال ابن بشكوال: "كان ابن رشد فقيهًا عالِمًا، حافِظًا للفقهِ، مُقَدَّمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرًا بأقوالهم، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسةِ في العلم والبراعة والفهم، مع الدِّينِ والفضل والوَقار والحلم، والسَّمت الحَسَن والهَدْي الصالح" وليَ قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث، فحُمِدَت سيرته وعَظُم قَدْرُه. قال شيخ الشيوخ تاج الدين: "لَمَّا دخلتُ إلى البلاد سألتُ عنه، فقيل: إنه مهجورٌ في داره من جهةِ المنصور يعقوب الموحدي، ولا يدخُلُ أحَدٌ عليه، ولا يخرج هو إلى أحَدٍ. فقيل: لم ؟ قالوا: رُفِعَت عنه أقوالٌ رَدِيَّة، ونُسِبَ إليه كثرةُ الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل. ومات وهو محبوسٌ بداره بمراكش ". اعتقله السلطانُ المنصور يعقوب وأهانه، ثم أعاده إلى الكرامةِ، استدعاه واحتَرَمه وقَرَّبَه، حتى تعدى به الموضِعَ الذي كان يجلِسُ فيه الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي، ثم بعد ذلك نَقِمَ عليه لأجل الحِكمة واشتغالِه بالفلسفة, ومات محبوسًا بداره بمراكش، ومات السلطان المنصورُ بعده بشهر.
في يوم الاثنين التاسع والعشرين صفر من هذه السنة استقرَّ شمس الدين نصر الله بن النجار ناظر الدولة وزيرًا عِوَضًا عن سعد الدين فرج بن النحال بحكم عزلِه، وكان قد طرأ على أمر الوزارة من الضعفِ ما جعل ابن تغري بردي يقول عنها: "لم تَرَ عيني فيما رأيتُ ممن لبس خِلَعَ الوزارة أقبح زيًّا من ابن النجار، حتى إنَّه أذهب رونقَ الخِلعة مع حسن زيِّ خِلعةِ الوزارة وأبَّهة صفتها، ولو منَّ الله سبحانه وتعالى بأن يُبطِلَ اسمَ الوزير من الديار المصرية في هذا الزمانِ كما أبطلَ أشياء كثيرة منها، لكان ذلك أجودَ وأجمل بالدولة، ويصير الذي يلى هذه الوظيفة يسمَّى ناظر الدولة؛ لأنَّ اسم الوزارة عظيمٌ، وقد سمِّيَ به جماعةٌ كبيرة من أعيان الدنيا قديمًا وحديثًا في سائر الممالك والأقطار، مثل الصاحب إسماعيل بن عبَّاد، وهلَّم جرًّا، إلى القاضي الفاضل عبد الرحيم، ثم بني حنَّاء وغيرهم من العلماء والأعيان، إلى أن تنازلت ملوكُ مصر في أواخر القرن الثامن حتى ولِيَها في أيامهم أوباش النَّاسِ وأسافِلُ الكَتَبة الأقباط، وتغيَّرَ رسومها، وذهب بهم أبَّهة هذه الوظيفة الجليلة التي لم يكن في الإسلامِ بعد الخلافة أجَلُّ منها ولا أعظم، وصارت بهؤلاء الأصاغرِ في الوجود كلا شيء، وليت مع ذلك كان يلي هذه الوظيفةَ من هؤلاء الأسافلِ من يقوم بما هو بصَدَدِه، بل يباشر ذلك بعَجزٍ وضَعفٍ وظُلمٍ وعَسْفٍ، مع ما يمدُّه السلطانُ بالأموال من الخزانة الشريفة، فليت شعري لم لا كان ذلك مع من هو أهلٌ للوزارة وغيرِها، فلا قوة إلَّا بالله, وباشر ابن النجَّار الوزارة أشرَّ مباشرة، وأقبح طريقة، ولم تطُلْ أيَّامه، وعجز وبلغ السلطانَ عَجزُه، فلما كان يوم الخميس أول شهر ربيع الآخر طلب السلطان الوزراء الثلاثة ليختار منهم من يوليه، وهم: ابن النجَّار الذي عجز عن القيام بالكُلَف السلطانية، والصاحب أمين الدين بن الهيصم، وسعد الدين فرج بن النحَّال، فوقع في واقعة طريفةٍ، وهي أن السلطان لما أصبح وجلس على الدكَّة من الحوش استدعى أوَّلًا ابن النجَّار، فقيل له: هرب واختفى، فطلب أمينَ الدين بن الهيصم، فقيل له: مات في هذه الليلةِ، وإلى الآن لم يُدفَن، فطلب فرج بن النحَّال، فحضر، وهو الذي فَضَل من الثلاثة، فكلَّمه السلطان أن يستقرَّ وزيرًا على عادته، فامتنع واعتذر بقلَّة متحصَّل الدولة، وفي ظنِّه أن السلطان قد احتاج إليه بموتِ ابن الهيصم وتسحَّب ابن النجَّار، وشرع يكرِّرُ قوله بأنَّ لحم المماليكِ السلطانية المرتَّب لهم في كل يوم ثمانية عشر ألف رطل، خلا تفرقة الصُّرَر التي تعطى لبعض المماليك السلطانية وغيرهم، عوضًا عن مرتَّب اللحم، فلما زاد تمنُّعُه أمر به السلطان فحُطَّ إلى الأرض وتناولته رؤوسُ النوب بالضرب المبَرِّح إلى أن كاد يهلك، ثم أقيم ورُسِمَ عليه بالقلعة عند الطواشي فيروز الزمام والخازندار إلى أن عُمِلَت معه مصالحة وأعيد للوزارةِ"
سَيَّرَ عبدُ الملك بن مَرْوان الحَجَّاج بن يوسُف الثَّقفيَّ إلى عبدِ الله بن الزُّبير رضي الله عنه، وبعَث معه له أمانًا إنْ هو أطاعَ، فبَقِيَ الحَجَّاج مُدَّةً في الطَّائفِ يَبعَثُ البُعوثَ تُقاتِل ابنَ الزُّبير وتَظْفَرُ عليه. فكتَب الحَجَّاجُ إلى عبدِ الملك يُخبِرُه: بأنَّ ابنَ الزُّبير قد كَلَّ وتَفَرَّق عنه أَصحابُه, ويَسْتَأذِنُه بمُحاصَرةِ الحَرَمِ ثمَّ دُخولِ مكَّة، فأَمَدَّهُ عبدُ الملك بطارِقِ الذي كان يُحاصِر المدينةَ، ولمَّا حَصَرَ الحَجَّاجُ ابنَ الزُّبير نَصَبَ المَنْجَنيقَ على أبي قُبَيْسٍ ورَمَى به الكَعبةَ، وكان عبدُ الملك يُنْكِر ذلك أيَّامَ يَزيدَ بن مُعاوِيَة، ثمَّ أَمَرَ به، وحَجَّ ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما تلك السَّنةَ فأَرسَل إلى الحَجَّاجِ: أنِ اتَّقِ الله، واكْفُفْ هذه الحِجارةَ عن النَّاسِ؛ فإنَّك في شَهْرٍ حَرامٍ وبَلَدٍ حَرامٍ، وقد قَدِمَت وُفودُ الله مِن أَقطارِ الأرضِ لِيُؤَدُّوا فَريضةَ الله ويَزْدادوا خيرًا، وإنَّ المَنْجنيق قد منعهم عن الطَّوافِ، فاكْفُفْ عن الرَّمْيِ حتَّى يَقْضوا ما يجب عليهم بمكَّة. فبَطَّلَ الرَّمْيَ حتَّى عاد النَّاسُ مِن عَرَفات وطافوا وسَعَوْا، ولم يَمْنَعْ ابنُ الزُّبير الحاجَّ مِن الطَّوافِ والسَّعْيِ، فلمَّا فرَغوا مِن طَوافِ الزَّيارةِ نادَى مُنادِي الحَجَّاجِ: انْصَرِفوا إلى بِلادِكم، فإنَّا نَعودُ بالحِجارَةِ على ابنِ الزُّبيرِ المُلْحِدِ. فأصاب النَّاسَ بعد ذلك مَجاعةٌ شديدةٌ بسَببِ الحِصارِ، فلمَّا كان قُبَيْلَ مَقْتَلِه تَفَرَّقَ النَّاسُ عنه، وخَرجوا إلى الحَجَّاجِ بالأمانِ، خرَج مِن عنده نحو عشرةِ آلاف، وكان ممَّن فارَقَه ابْناهُ حَمزةُ وخُبيبٌ، وأَخَذا لِأَنْفُسِهما أَمانًا، فقال عبدُ الله لابْنِه الزُّبيرِ: خُذْ لِنَفسِك أمانًا كما فعل أَخَواك، فَوَالله إنِّي لأُحِبُّ بَقاءَكُم. فقال: ما كنتُ لِأَرْغَبَ بِنَفسِي عنك. فصَبَر معه فقُتِلَ وقاتَلهم قِتالًا شديدًا، فتَعاوَرُوا عليه فقَتَلوهُ يومَ الثُلاثاءِ مِن جُمادَى الآخِرة وله ثلاثٌ وسبعون سَنةً، وتَوَلَّى قَتْلَهُ رجلٌ مِن مُرادٍ، وحمَل رَأسَهُ إلى الحَجَّاج، وبعَث الحَجَّاجُ بِرَأسِه، ورَأسِ عبدِ الله بن صَفوان، ورَأسِ عُمارةَ بن عَمرِو بن حَزْمٍ إلى المدينةِ، ثمَّ ذهَب بها إلى عبدِ الملك بن مَرْوان، وأخَذ جُثَّتَهُ فصَلَبَها على الثَّنِيَّةِ اليُمْنَى بالحُجُونِ، ثمَّ بعدَ أن أَنْزَلَهُ الحَجَّاجُ عن الخَشبةِ بعَث به إلى أُمِّه، فغَسَّلَتْهُ، فلمَّا أَصابَهُ الماءَ تَقَطَّعَ، فغَسَّلَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا فاسْتَمْسَك، وصلَّى عليه أخوه عُروةُ، فَدَفَنَتْهُ.
سُيِّرَت العساكِرُ مِن مِصرَ لقتالِ المفرج بن جراح، وسبَبُ ذلك أنَّ ابنَ جَرَّاح عظُمَ شَأنُه بأرض فلسطينَ، وكثُرَ جَمعُه، وقَوِيَت شوكتُه، وبالغ هو في العيثِ والفساد، وتخريبِ البلاد، فجهز العزيزُ الفاطمي العساكرَ وسَيَّرَها، وجعل عليها القائِدَ يلتكين التركي، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه من العربِ، من قيسٍ وغيرها، جمعٌ كثيرٌ، وكان مع ابنِ جَرَّاح جمعٌ يرمون بالنُّشَّاب، ويقاتلون قتالَ الترك، فالتَقَوا ونشبت الحرب بينهما، وجعل يلتكين كَمينًا، فخرج على عسكرِ ابنِ جراح من وراء ظهورهم، عند اشتداد الحرب، فانهزموا وأخذَتْهم سيوفُ المصريين، ومضى ابن جراح منهزمًا إلى أنطاكية، فاستجار بصاحبِها فأجاره، وصادف خرُوج مَلِك الروم من القسطنطينيَّة في عساكرَ عظيمةٍ يريدُ بلاد الإسلام، فخاف ابنُ جراح، وكاتَبَ بكجور بحمص والتجأ إليه، وأمَّا عسكَرُ مِصرَ فإنَّهم نازلوا دمشقَ، مخادعين لقسَّام الجبيليِّ التَّرَّاب، لم يظهروا له إلَّا أنهم جاؤوا لإصلاحِ البَلَدِ، وكفِّ الأيدي المتطَرِّقة إلى الأذى، وكان القائد أبو محمود قد مات في هذه السَّنةِ، وهو والي البلد، ولا حُكْمَ له، وإنما الحُكمُ لقَسَّام، فلما مات قام بعده في الولايةِ جَيشُ بن الصمصامة، وهو ابنُ أخت أبي محمود، فخرج إلى يلتكين وهو يظُنُّ أنه يريد إصلاحَ البلد، فأمره أن يخرجَ هو ومن معه وينزِلوا بظاهر البلد، ففَعَلوا. وحَذِرَ قَسَّام، وأمر مَن معه بمباشرةِ الحَربِ، فقاتلوا دفعاتٍ عِدَّة، فقوي عسكر يلتكين، ودخلوا أطرافَ البلد، ومَلَكوا الشاغور، وأحرقوا ونهبوا، فاجتمع مشايخُ البلَدِ عند قَسَّام، وكَلَّموه في أن يخرجوا إلى يلتكين، ويأخذوا أمانًا لهم وله، فانخذل وذَلَّ، وخضع بعد تجبُّرِه وتكبُّرِه، وقال: افعلوا ما شئتُم، وعاد أصحابُ قَسَّام إليه، فوجدوه خائفًا، مُلقِيًا بيده، فأخذ كلُّ لنَفسِه. وخرج شيوخُ البلد إلى يلتكين، فطلبوا منه الأمانَ لهم ولقسام، فأجابهم إليه، وكان مبدأُ هذه الحرب والحصر في المحرم لعشرٍ بَقِينَ منه، والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه، ولم يعرض لقسَّامٍ ولا لأحدٍ مِن أصحابه، وأقام قسَّام في البلد يومين ثم استتَرَ، فأخذ كلَّ ما في داره وما حولها من دورِ أصحابِه وغيرِهم، ثمَّ خرج إلى الخيام، فقصد حاجِبَ يلتكين وعَرَّفه نفسَه، فأخذه وحَمَله إلى يلتكين، فحمله يلتكينُ إلى مصر، فأطلقه العزيزُ، واستراح النَّاسُ من تحكُّمِه عليهم، وتغَلُّبِه بمن تبعه من الأحداثِ مِن أهلِ العيثِ والفَسادِ.
في شهر جمادى الآخرة، أوله الثلاثاء، وفيه مرض السلطان الملك المنصور، وفي يوم الجمعة رابعه: عادت الخيول من الربيع، وظهر بين أهل الدولة حركة، فكَثُرت القالة، وبات المماليك تسعى بعضها إلى بعض، فظهر الملك الناصر في بيت الأمير سودن الحمزاوي، وتلاحق به كثير من الأمراء والمماليك، ولم يطلع الفجر حتى ركب السلطان بآلة الحرب، وإلى جانبه ابن غراب، وعليه آلة الحرب، وسار بمن اجتمع إليه يريد القلعة، فقاتله سودن المحمدي أمير أخور، وإينال باي بن قجماس، وبيبرس الكبيري، ويشبك بن أزدمر، وسودن المارديني، قتالًا ليس بذاك، ثم انهزموا، وصعد السلطان إلى القلعة، فكانت مدة عبد العزيز سبعين يومًا، فعاد السلطان الملك الناصر زين الدين فرج ابن الملك الظاهر برقوق إلى الملك ثانيًا؛ وذلك أنه لما فُقِد من القلعة وصار إلى بيت سعد الدين بن غراب، ومعه بيغوت، قام له بما يليق به، وأعلم الأمير يشبك به، فخفي على أهل الدولة مكانه، ولم يعبؤوا به، وأخذ ابن غراب يدبر في القبض على الأمير إينال باي، فلم يتمَّ له ذلك، فلما تمادت الأيام قرر مع الطائفة التي كانت في الشام من الأمراء، وهم يشبك، وقطلو بغا الكركي، وسودن الحمزاوي في آخرين، أنه يخرج إليهم السلطان، ويعيدونه إلى المُلك؛ لينفردوا بتدبير الأمور؛ وذلك أن الأمير بيبرس الأتابك قويت شوكته على يشبك، وصار يتردد إليه، ويأكل على سماطه، فعزَّ عليه وعلى أصحابه ذلك، فما هو إلا أن أعلمهم ابن غراب بالخبر، فوافقوه على ذلك، وواعد بعضهم بعضًا، فلما استحكم أمرهم، برز الناصر نصف ليلة السبت خامس جمادى الآخرة من بيت ابن غراب، ونزل بدار الأمير سودن الحمزاوي، واستدعى الناس، فأتوه من كل جهة، وركب وعليه سلاحه، وابن غراب إلى جانبه، وقصد القلعة، فناوشه من تأخر عنه من الأمراء قليلًا، ثم فرُّوا، فملك السلطان القلعة بأيسر شيء؛ وذلك أن صوماي رأس نوبة كان قد وكل بباب القلعة، فعندما رأى السلطان فتح له، فطلع منه، وملك القصر، فلم يثبت بيبرس ومن معه، ومرُّوا منهزمين، فبعث السلطان بالأمير سودن الطيار في طلب الأمير بيبرس فأدركه خارج القاهرة، فقاتله وأخذه وأحضره إلى السلطان، فقيَّده وبعثه إلى الإسكندرية فسُجِن بها، واختفى الأمير إينال باي بن قجماس، والأمير سودن المارديني.
حدثت معركةُ بقعاء بين زعماء القصيم وجبل شمر، وملخَّصُها أن غازي ضبيان رئيسُ الدهامشة من عنزة أغار على ابن طوالة من شمر، فأخذ منهم إبلًا وأغنامًا لأهل حائل، فأغار عبد الله بن علي بن رشيد رئيس الجبل على غازي فأخذ منهم إبلًا كثيرةً، فغضب لهم أميرُ بريدة؛ لأن غازيًا من أهل القصيم، فنادى أمير بريدة في حرب ابن رشيد، وكان أهل القصيم قد اتَّفَقوا فيما بينهم لمحاربة كلِّ من يقصدهم بعداوة مهما كانوا، وأجمعوا على حرب ابن رشيد، وكان معهم حلفاءُ وأتباعٌ، فأغاروا على شمر فأخذوا منهم أموالًا كثيرة من الإبل والغنم والأثاث، فأشار يحيى بن سليم أمير عنيزة لعبد العزيز أمير بريدة: دعنا نرجع؛ فهذا العز والنصر كفاية، فأقسم ألَّا يرجِعَ، فتجهز يحيى بن سليم بجنودٍ كثيرة من أهل عنيزة وأتباعهم وتجهَّز عبد العزيز أمير بريدة بأهلِ بريدة وجميـع بلدان القصيم واجتمعوا على موضعِ ماء يسمى (بقعاء) ليقاتِلَ ابن الرشيد في بلده حائل، فساروا إلى الجبل ونزلوا بقعاء المعروفة في جبل شمر، فخرج إليهم أهلها فأمسكوهم عندهم، ونزلت عُربان عنزة على ساعد -الماء المعروف عند بقعاء- فلما علم بذلك عبد الله بن رشيد أمر أخاه عبيد العلي وفرسانًا معه أن يُغيروا على عربان عنزة، فشَنُّوا عليهم الغارة قبل الفجر فحصل قتالٌ عظيم بينهم، مرة يهزِمُهم العربان، ومرة يهزمهم عبيد وأتباعه هذا، ويحيى وعبد العزيز في شوكة أهل القصيم ينتظرون الغارةَ في بقعاء إلى طلوع الشمس، فلما لم يأتهم أحدٌ والقتال راكد على أصحابهم، فزع يحيى بن سليم بالخفيف من الرجالِ وأهل الشجاعة على أرجُلِهم، فلما وصلوا فإذا عبد الله بن رشيد ومعه باقي جنوده قد ورد عليهم مع أخيه عبيد، فانهزم عربان القصيم لا يلتَفِتُ أحد على أحد، وتبعتهم خيول شمر يأخذون من الإبل والأغنام، وتركوا يحيى بن سليم ومن معه في مكانِهم لا ماء معهم ولا رِكابَ، فلما رأى عبد العزيز ومن معه ذلك انهزموا وركبوا ركائبَ يحيى ومن معه وتركوهم، ثم وقع القتال بين يحيى وابن رشيد ثم أُسِرَ في نهايتها يحيى بن سليم وقُتِل. وقد قُتِلَ في هذه المعركة كثيرٌ من رؤساء أهل القصيم ووجهائهم وتجَّارهم، وغَنِمَ فيها ابن رشيد كثيرًا من المال والسلاح.