كان صالحُ بنُ النضر الكناني من أهلِ بُست، قد ظهر بتلك الناحية يقاتِلُ الخوارج، وسمَّى أصحابَه المتطوِّعةَ، حتى قيل له: صالح المطوِّعي وصَحِبَه جماعةٌ؛ منهم: درهم بن الحسن، ويعقوب بن الليث, وغَلَبوا على سجستان، ثم أخرَجَهم عنها طاهرُ بن عبد الله أميرُ خراسان. وهلك صالح إثر ذلك، وقام بأمر المتطوِّعةِ دِرهمُ بن الحسن، فكَثُرَ أتباعه. وكان يعقوبُ بن الليث شهمًا، وكان دِرهَم مُضعفًا، واحتال صاحِبُ خراسان حتى ظَفِرَ بدرهم وحَبَسه ببغداد، فاجتمعت المتطوِّعةُ على يعقوب بن الليث، وملَّكوه أمْرَهم؛ لِمَا رأَوا من تدبيرِه، وحُسنِ سياستِه، وقيامِه بأمورهم، وقام بقتال الخوارجِ الشراةِ، وأتيح له الظَّفَرُ عليهم، وأثخن فيهم وخرَّبَ قُراهم، وكانت له شريةٌ في أصحابه لم تكن لأحدٍ قَبله، فحَسُنَت طاعتُهم له وعَظُمَ أمرُه، ومَلَك سجستانَ مُظهِرًا طاعةَ الخليفةِ وكاتِبِه، وقلَّدَه حرب الشراة، فأحسن الغَناءَ فيه وتجاوَزَه إلى سائر أبوابِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر, فاستبَدَّ يعقوبُ بالأمر، وضَبَط البلاد، وقَوِيَت شوكتُه وقصَدتْه العساكِرُ من كلِّ ناحية.
هو أميرُ المؤمنينَ الخليفةُ المستنصِرُ بالله أبو القاسِمِ أحمد بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بالله الهاشمي العباسي، البغدادي، الأسود. ولي الخلافةَ بعد قتل ابن أخيه المستعصِم بالله بن المستنصر بالله منصور بثلاثِ سنينَ، في وقتٍ خلا فيه من خليفة للمسلمين. وكان شديدَ السُّمرة، جَسيمًا، عاليَ الهمة، شجاعًا، قال الإمام أبو شامة: في رجب قُرئ بالعادلية كتابُ السلطان الظاهِر بيبرس إلى قاضي القضاة نجمِ الدين بن سني الدولة بأنَّه قَدِمَ عليهم بمصر أبو القاسم أحمد بن الظاهر بن الناصر، وهو أخو المستنصر بالله، وأنه جمَعَ له الناسَ مِن الأمراء والعلماء والتجَّار، وأثبت نَسَبَه عند قاضي القضاة في ذلك المجلس، فلما ثبت بايعَه الناس، وبدأ بالبيعة القاضي تاج الدين، ثمَّ السلطان الملك الظاهر، ثم الكبار على مراتبهم، ونُقِشَ اسمُه على السكة، وخَطَب له ولُقِّبَ بلَقَب أخيه، وفَرِحَ النَّاسُ, ثم رتَّبَ له السلطان أتابكًا، وأستاذ دار، وشرابيًّا، وخزندارًا- ممسك خزانة المال-، وحاجِبًا، وكاتبًا، وعَيَّنَ له خزانةً وجُملةَ مماليك، ومائة فرس، وثلاثين بغلًا، وعشرة قطارات جمال، إلى أمثال ذلك, ثم عزم الخليفةُ على التوجه إلى العراق, فحَسَّن له السلطان ذلك وأعانه, وسار من مصر هو والسلطانُ في تاسع عشر رمضان فدخلوا دمشق في سابع ذي القعدة، ثم جهَّزَ السلطان الخليفةَ وأولاد صاحِبِ الموصل، وغَرِمَ عليه وعليهم من الذهب فوق الألف ألف دينار، فسار الخليفةُ ومعه ملوك الشرق: صاحِبُ الموصل، وصاحِبُ سنجار والجزيرة من دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة، ثم نزل الخليفةُ بمن معه مشهدَ عليٍّ رضي الله عنه، ولما وصلوا إلى عانة وجدوا بها الحاكِمَ بأمر الله أحمد، ومعه نحوٌ من سبعمائة نفس فاستمالهم الخليفةُ المستنصر، وأنزل الحاكِمَ معه في دهليزه، وتسلَّم الخليفةُ عانة، فلما بلغ المغولَ وصولُ الخليفة المستنصر بالله العراق. خرج قرابغا مُقَدَّم التتار من بغداد- وكان قد استخلفه هولاكو عليها عند عودِه إلى بلاد الشرق- يريد لقاء الخليفة المستنصِر بالله ومحاربته، فنهب الأنبارَ وقَتَل جميعَ من فيها، وتلاحقت به بقيَّةُ التتار من بغداد، ولَقِيَهم الخليفة وقد رتَّب عسكره، فجعل التركمانَ والعرب جناحَي العسكر، واختص جماعةً جَعَلَهم في القلب، وحمَلَ بنفسه على التتار فكسَرَ مُقَدِّمَتَهم، وخذله العربُ والتركمان فلم يقاتِلوا، وخرج كمينٌ للتتار ففَرَّ العرب والتركمان، وأحاط التتار بمن بقي معه فلم يُفلِتْ منهم سوى الأميرِ أبي العباس أحمد الذي قَدِمَ إلى مصر بعد ذلك وتلَقَّب بالحاكم بالله، والأميرُ ناصر الدين بن مهنا، والأميرُ ناصر الدين بن صيرم، والأميرُ سابق الدين بوزبا الصيرفي، والأمير أسد الدين محمود، في نحو خمسينَ من الأجناد، ولم يُعرَف للخليفةِ خبَرٌ، فيقال قُتِلَ بالمعركة في ثالث المحرم، ويقال بل نجا مجروحًا في طائفةٍ مِن العرب فمات عندهم، وكانت هذه الواقعةُ في العشر الأول من المحرم، فكانت خلافتُه دون السَّنة، وبلغت نفقةُ الملك الظاهر على الخليفةِ والملوك المواصلة ألف ألف دينار وستين ألف دينار عينًا.
هو خالدُ بن الوَليد بن المُغيرةِ بن عبدِ الله بن عَمرِو بن مَحْزومٍ القُرشيُّ المَخْزوميُّ، سَيْفُ الله، أبو سُليمانَ، كان أحدَ أَشرافِ قُريشٍ في الجاهِليَّة، وكان إليه أَعِنَّةُ الخَيلِ في الجاهِليَّة، وشَهِدَ مع كُفَّارِ قُريشٍ الحُروبَ إلى عُمرَةِ الحُديبيةِ، كما ثبَت في الصَّحيحِ: أنَّه كان على خَيلِ قُريشٍ طَلِيعَةً، ثمَّ أَسلَم في سَنةِ سبعٍ بعدَ خَيبرَ، وقِيلَ قَبلَها، أَرسَلهُ أبو بكرٍ إلى قِتالِ أهلِ الرِّدَّةِ فأَبْلَى في قِتالِهم بَلاءً عظيمًا، ثمَّ وَلَّاهُ حَربَ فارِسَ والرُّومِ، فأَثَّرَ فيهم تَأثيرًا شديدًا، وفتَح دِمشقَ، واسْتخلَفهُ أبو بكرٍ على الشَّامِ إلى أن عَزَلَهُ عُمَرُ، وقد قال عنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (نِعْمَ عبدُ الله وأخو العَشيرَةِ خالدُ بن الوَليدِ، سَيْفٌ مِن سُيوفِ الله سَلَّهُ الله على الكُفَّارِ). وقال خالدٌ عند مَوتِه: ما كان في الأرضِ مِن ليلةٍ أَحَبَّ إليَّ مِن ليلةٍ شَديدةِ الجَليدِ في سَرِيَّةٍ مِن المُهاجرين أُصَبِّحُ بهم العَدُوَّ فعَليكُم بالجِهادِ. مات خالدُ بن الوَليد بمدينةِ حِمْصَ وقِيلَ: تُوفِّيَ بالمدينةِ. فلمَّا تُوفِّيَ خرَج عُمَرُ إلى جِنازَتِه فقال: ما على نِساءِ آلِ الوَليدِ أن يَسْفَحْنَ على خالدٍ دُموعَهُنَّ ما لم يكُن نَقْعًا أو لَقْلَقَةً. قال ابنُ حَجَرٍ وهذا يَدُلُّ أنَّه مات في المدينةِ.
اسْتَعمَل هِشامُ بن عبدِ الملك مَرْوانَ بن محمَّد بن مَرْوان -وهو ابنُ عَمِّه- على الجَزيرَة الفراتية وأذربيجان وأرمينية، وكان سَبَبُ ذلك أن مَرْوان بن محمَّد قال لهِشام: قد كان مِن دُخولِ الخَزَر إلى بِلادِ الإسلام وقَتْل الجَرَّاح وغَيرِه مِن المسلمين ما دَخَل به الوَهَنُ على المسلمين, أنَّ مَسلمَة بن عبد الملك، ما وَطِئ مِن بِلادِهم إلَّا أَدْناها، وكان قُصاراه السَّلامَة، وقد أَردتُ أن تَأذَن لي في غَزْوَةٍ أُذْهِبُ بها عَنَّا العارَ، وأَنْتَقِمُ مِن العَدُوِّ. فأَذِنَ له واسْتَعمَله على أرمينية, فسار إلى أرمينية والِيًا عليها، وسَيَّرَ هِشامٌ الجُنودَ مِن الشَّامِ والعِراقِ والجَزيرَة، فاجْتَمَع عِندَه مِن الجُنودِ والمُتَطَوِّعَة مائة وعشرون ألفًا، فأَظْهَر أنَّه يُريدُ غَزْوَ اللَّان وقَصَد بِلادَهم، وأَرسَل إلى مَلِك الخَزَر يَطلُب منه المُهادَنَة، فأَجابَه إلى ذلك، وأَرسَل إليه مَن يُقرِّرُ الصُّلْحَ، فأَمسَك الرَّسولَ عنده إلى أن فَرَغ مِن جِهازِه وما يُريدُ، ثمَّ أَغْلَظ لهم القَوْلَ وآذَنَهم بالحَرْبِ، وسَيَّرَ الرَّسولَ إلى صاحِبِه بذلك، فما وَصَل الرَّسولُ إلى صاحِبِه إلَّا ومَرْوان قد وافاهُم، فأَعْلَم صاحِبَه الخَبَرَ، وأَخبَره بما جَمَع له مَرْوان وحَشَد واسْتَعَدَّ. فاسْتَشار مَلِكُ الخَزَر أَصحابَه، فقالوا: إنَّ هذا قد اغْتَرَّكَ ودَخَل بِلادَك، فإن أَقَمْتَ إلى أن تَجْمَع لم يَجْتَمِع عندك إلى مُدَّة فيَبْلُغ مِنك ما يُريد، وإن أنت لَقِيتَه على حالِك هذه هَزَمَك وظَفَر بك، والرَّأيُ أن تَتَأَخَّر إلى أَقْصَى بِلادِك وتَدَعَه وما يُريدُ. فقَبِلَ رَأيَهم وسار حيث أَمَروه. ودَخَل مَرْوان بِلادَهم وأَوْغَل فيها وأَخْرَبَها، وغَنِمَ وسَبَى وانْتَهي إلى آخِرِها وأَقام فيها عِدَّةَ أيَّامٍ حتَّى أَذَلَّهم وانْتَقَم منهم، ودَخَل بِلادَ مَلِك السَّرير فأَوْقَع بِأَهلِه، وفَتَح قِلاعًا، ودان له المَلِكُ، وصالَحه على ألفِ رَأسٍ، وخمسمائة غُلام، وخمسمائة جارِيَة سُود الشُّعور، ومائة ألف مُدْيٍ تُحْمَل إلى البابِ، وصالَح مَرْوان أهلَ تومان على مائة رَأسٍ، وعشرين ألف مُدْيٍ، ثمَّ دَخَل أَرضَ زريكران، فصالَحَه مَلِكُها، ثمَّ أَتَى إلى أَرضِ حمزين، فأبى حمزين أن يُصالِحَه، فحَصَرَهُم فافْتَتَح حِصْنَهم، ثمَّ أَتَى سغدان فافْتَتَحَها صُلْحًا، ووَظَّفَ على طيرشانشاه عشرة آلاف مُدْيٍ كُلَّ سَنة تُحْمَل إلى البابِ، ثمَّ نَزَل على قَلْعَة صاحِب اللكز، وقد امْتَنَع من أَداءِ الوَظيفَة، فخَرَج مَلِكُ اللكز يُريد مَلِكَ الخَزَر، فقَتَله راعٍ بِسَهْمٍ وهو لا يَعرِفُه، فصالَح أَهلُ اللكز مَرْوانَ، واسْتَعْمَل عليهم عامِلًا، وسار إلى قَلعَة شروان، وهي على البَحرِ، فأَذْعَن بالطَّاعَة، وسار إلى الدّوداني فأَقْلَع بهم ثمَّ عاد.
أَمَر قُتيبَة بن مُسلِم أخاه عبدَ الرحمن بالسَّيْرِ إلى الصُّغْد (سَمَرْقَنْد) وكانوا قد نَكَثوا العَهْد, ثمَّ لَحِقَ قُتيبةُ بِأَخيهِ فبَلَغَها بعدَه بثلاثٍ أو أَربَع، وقَدِمَ معه أَهلُ خَوارِزْم وبُخارَى فقاتَلَه أَهلُ الصُّغْد شَهْرًا مِن وَجْهٍ واحِد وهُم مَحْصورون، وخاف أَهلُ الصُّغْد طُولَ الحِصار فكَتَبوا إلى مَلِك الشَّاش وخاقان وأَخْشاد فَرْغانَة لِيُعينوهم، فلمَّا عَلِمَ بذلك قُتيبةُ أَرسَل إليهم سِتِّمائة يُوافونَهُم في الطَّريق فقَتَلوهُم ومَنعوهُم مِن نُصْرَتِهم ولمَّا رَأَى الصُّغْد ذلك انْكَسَروا، ونَصَبَ قُتيبةُ عليهم المَجانِيقَ فَرَماهُم وثَلِمَ ثُلْمَةً، فلمَّا أَصبَح قُتيبةُ أَمَر النَّاسَ بالجِدِّ في القِتالِ، فقاتَلوهُم واشْتَدَّ القِتالُ، وأَمَرهُم قُتيبةُ أن يَبْلُغوا ثُلْمَةَ المَدينَة، فجَعَلوا التِّرَسَةَ على وُجوهِهم وحَمَلوا فبَلَغوها ووَقَفوا عليها، ورَماهُم الصُّغْد بالنِّشابِ فلم يَبْرَحوا، فأَرسَل الصُّغْد إلى قُتيبةَ فقالوا له: انْصَرِف عَنَّا اليومَ حتَّى نُصالِحَك غَدًا. فقال قُتيبةُ: لا نُصالِحُهم إلَّا ورِجالُنا على الثُّلْمَة. وقِيلَ: بل قال قُتيبةُ: جَزَعَ العَبيدُ، انْصَرِفوا على ظَفَرِكُم. فانْصَرَفوا فصالَحَهم مِن الغَدِ على ألفي ألف ومائتي ألف مِثْقال في كُلِّ عامٍ، وأن يُعْطوه تلك السَّنَة ثلاثينَ ألف فارِس، وأن يُخْلُوا المَدينَة لِقُتيبةَ فلا يكون لهم فيها مُقاتِل، فيَبْنِي فيها مَسجِدًا ويَدخُل ويُصَلِّي ويَخْطُب ويَتَغَدَّى ويَخْرُج، فلمَّا تَمَّ الصُّلْحُ وأَخْلوا المَدينةَ وبَنوا المَسجِدَ دَخَلَها قُتيبةُ في أَربعَة آلاف انْتَخَبَهم، فدَخَل المَسجِد فصَلَّى فيه وخَطَب وأَكَل طَعامًا، ثمَّ أَرسَل إلى الصُّغْد: مَن أَراد مِنكم أن يَأخُذ مَتاعَه فَلْيَأْخُذ فإنِّي لَسْتُ خارِجًا منها، ولَستُ آخُذ منكم إلَّا ما صالَحْتُكم عليه، غيرَ أنَّ الجُنْدَ يُقيمون فيها. وقِيلَ: إنَّه شَرَطَ عليهم في الصُّلْحِ مائة ألف فارِس، وبُيوت النِّيران، وحِلْيَة الأَصْنام، فقَبَضَ ذلك، وأُتِيَ بالأصنامِ فكانت كالقَصْرِ العَظيمِ وأَخَذَ ما عليها وأَمَر بها فأُحْرِقَت. فجاءه غَوْزَك فقال: إنَّ شُكْرَكَ عَلَيَّ واجِبٌ، لا تَتَعَرَّض لهذه الأَصنامِ فإنَّ منها أَصنامًا مَن أَحْرَقَها هَلَكَ. فقال قُتيبةُ: أنا أَحْرِقُها بِيَدِي، فدَعَا بالنَّارِ فكَبَّر ثمَّ أَشْعَلَها فاحْتَرَقَت، فوجدوا مِن بَقايا مَسامِير الذَّهَب خَمسين ألف مِثْقال.
كان سببُ إلغاء نسَبِ آل زياد الذي كان معاويةُ قد استلحَقَه، وكان يقالُ له: زيادُ بن أبيه، هو أنَّ رجلًا من آل زياد قَدِمَ عليه يقال له الصغدي بن سلم بن حرب بن زياد، فقال له المهدي: من أنت؟ فقال: ابنُ عَمِّك. فقال: أيُّ بني عمي أنت؟ فذكر نسَبَه، فقال المهدي: يا ابنَ سُميَّة الزانية! متى كنتَ ابنَ عمِّي؟ وغَضِبَ وأمَرَ به، فوُجِئَ في عنقِه وأُخرِجَ، وسأل عن استلحاقِ زياد، ثمَّ كتب إلى العامل بالبصرة بإخراجِ آلِ زياد من ديوانِ قُرَيشٍ والعرب، ورَدَّهم إلى ثقيف، وكتَبَ في ذلك كتابًا بالغًا، يذكُرُ فيه استلحاقَ زياد، ومخالفةَ حُكمِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فيه، فأُسقِطوا من ديوانِ قُريشٍ.
هو المَلِكُ الظاهر هزبر الدين عبد الله بن الأشرف إسماعيل بن علي بن داود بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول ملك اليمن. ضعفت مملكة اليمن في أيامه؛ لقلة مجابي أموالها، واستيلاء العربان على أعمالها. مات يوم الخميس آخر شهر رجب، وله في الملك نحو اثنتي عشرة سنة، وأقيم بعده ابنه الأشرف إسماعيل، وله من العمر نحو العشرين سنة، فأكثر من سفك الدماء، وأخْذ الأموال، وغير ذلك من أنواع الفساد!
هو سلطان المغرب الملقب بأمير المؤمنين، عبد المؤمن بن علي بن علوي الكومي، القيسي، المغربي التلمساني. وُلِدَ بأعمال تلمسان، سنة 487, وكان أبوه يصنع الفخار. كان أبيضَ جميلًا، تعلوه حُمرة، أسود الشعر، معتدل القامة، جَهْوري الصوت، فصيحًا جَزلَ المَنطِق، لا يراه أحدٌ إلَّا أحَبَّه بديهةً، وكان في كِبَره شَيخًا وقورًا، أبيض الشعر، كثَّ اللحية، واضِحَ بياض الأسنان، وكان عظيمَ الهامة، طويل القعدة، غليظَ الكف، أشهلَ العين، على خَدِّه الأيمن خالٌ, وكان كامِلَ السُّؤددِ، عاليَ الهمة، خليقًا للإمارة، وكان شديدَ السطوة، كان في جُودِه بالمال كالسَّيلِ، وفي محبته لحُسنِ الثناء كالعاشق. مجلِسُه مجلس وقار وهيبةٍ، مع طلاقةِ الوجه. انعمرت البلادُ في أيامه، وما لبس قَطُّ إلا الصوفَ طُولَ عُمُرِه. وما كان في مجلسِه حُصرٌ، بل مفروش بالحَصباءِ، وله سجادة من الخوص تحته خاصة. ظهر أمر عبد المؤمن بعد أن التقى بابن تومرت مُدَّعي المهدية والانتساب لآل البيت, وهو في طريق رجعته من المشرق إلى إفريقية، حيث صادفه عبد المؤمن، فحَدَّثه ووانسه، وقال: "إلى أين تسافر؟ قال: أطلبُ العلم. قال: قد وجدتَ طَلِبَتَك. ففَقَّهه وصحبه، وأحبه، وأفضى إليه بأسرارِه لِما رأى فيه من سمات النُّبل، فوجد همَّتَه كما في النفس. قال ابنُ تومرت يوما لخواصِّه: هذا غلَّاب الدُّوَل" قال ابن خَلِّكان: "وجد ابن تومرت عبدَ المؤمن- وهو إذ ذاك غلام- فأكرمه وقدَّمَه على أصحابه، وأفضى إليه بسِرِّه، وانتهى به إلى مراكش، وصاحِبُها يومئذ علي بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين، فأخرجه منها، ثم توجه إلى الجبال وحشد واستمال المصامدة، وبالجملة فإن ابن تومرت لم يملك شيئًا من البلاد، بل عبد المؤمن ملَكَ بعد وفاته بالجيوش التي جهَّزها ابن تومرت والترتيب الذي رتبه، وكان ابن تومرت يتفَرَّس فيه النجابةَ ويُنشِدُ إذا أبصره: تكاملت فيك أوصافٌ خُصِصْتَ بها فكلُّنا بك مسرورٌ ومُغتَبِطُ السنُّ ضاحكةٌ والكَفُّ مانِحةٌ والنفسُ واسعةٌ والوجهُ مُنبَسِطُ" لما توفي ابن تومرت سنة 524، كتم أصحابُه خبر موته، وجعلوا يَخرُجون من البيت، ويقولون: قال المهدي كذا، وأمر بكذا، وبقي عبد المؤمن يُغِيرُ في عسكره على القرى، ويعيشون من النهب، وبعد خمسة أعوام أفصحوا بموت ابن تومرت، وبايعوا عبد المؤمن ولقَّبوه بأمير المؤمنين. وأوَّل ما أخَذَ عبد المؤمن من البلاد وهران، ثم تلمسان، ثم فاس، ثم سلا، ثم سبتة. ثم حاصر مراكش أحد عشر شهرًا، فأخذها في أوائل سنة اثنتين وأربعين. وامتد مُلكُه إلى أقصى المغرب وأدناه، وبلاد إفريقية، وكثير من الأندلس، وسمى نفسه: أمير المؤمنين، وقصدته الشعراء وامتدحوه, ولما قال فيه الفقيه محمد بن أبي العباس التيفاشي هذه القصيدة، وأنشده إياها: ما هَزَّ عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي فلما أنشده هذا المطلع أشار إليه أن يقتصرَ عليه، وأجازه بألف دينار". لم يزل عبد المؤمن بعد موت ابن تومرت يقوى، ويَظهَر على النواحي، ويدوخ البلاد. استولى على مراكش كرسيِّ مُلك أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. قال سبط ابن الجوزي: "لما استولى عبد المؤمن على مراكش، قطع الدعوةَ لبني العباس ثمَّ قَتَل المُقاتِلة، ولم يتعرَّضْ للرعية، وأحضر أهلَ الذمَّة وقال: "إن المهديَّ أمرني ألَّا أُقِرَّ الناس إلا على ملَّة الإسلام، وأنا مخيِّرُكم بين ثلاث: إما أن تُسلِموا، وإما أن تلحقوا بدار الحرب، وإمَّا القتل. فأسلم طائفةٌ، ولحق بدار الحرب آخرون، وخَرَّبَ الكنائِسَ ورَدَّها مساجِدَ، وأبطل الجزيةَ، وفعل ذلك في جميع مملكته، ثم فرق في الناس بيتَ المال وكَنَسَه، وأمر الناس بالصلاةِ فيه اقتداءً بعلي رضي الله عنه، وليعلم الناسُ أنه لا يُؤثِرُ جمعَ المال, وقال: من ترك الصلاةَ ثلاثةَ أيَّامٍ فاقتلوه. وكان يصلِّي بالناس الصلوات، ويقرأ كل يومٍ سُبعًا، ويلبَسُ الصوفَ، ويصوم الاثنين والخميس، ويقسم الفيء على الوجه الشرعي، فأحبه الناس", ثم تملك بجاية وأعمالها وأما الأندلس فاختلت أحوالها اختلالًا بَيِّنًا أوجب تخاذل المرابطين وميلَهم إلى الراحة، فهانوا على الناس، واجترأ عليهم الفرنجُ، وقام بكل مدينة بالأندلس رئيس منهم فاستبَدَّ بالأمر، وأخرج مَن عنده من المرابطين. وكادت الأندلسُ تعود إلى مثل سيرتها بعد الأربعمائة عند زوال دولة بني أمية, فجهز عبد المؤمن الشيخَ أبا حفص عمر إينتي، فعدى البحر إلى الأندلس، فافتتح الجزيرةَ الخضراء، رندة، ثم افتتح إشبيليَّةَ، وغرناطة، وقرطبة. وسار عبد المؤمن في جيوشه وعبَرَ مِن زقاق سبتة، فنزل جبلَ طارق، وسماه: جبل الفتح. فأقام هناك شهرًا، وابتنى هناك قصرًا عظيمًا ومدينة، فوفد إليه رؤساء الأندلس، ومدحه شعراؤها، فمن ذلك: ما للعدى جنة أوفى من الهَرَبِ أين المفرُّ وخَيلُ الله في الطَّلَبِ فأين يذهبُ مَن في رأس شاهقةٍ وقد رمته سهامُ الله بالشُّهُبِ حدث عن الروم في أقطار أندلس والبحر قد ملأ البرين بالعرب فلما أتم القصيدةَ قال عبد المؤمن: بمثل هذا تُمدَحُ الخلفاء. عبد المؤمن هو خليفة ابن تومرت وعلى طريقته ودعوته، فكان يمتحن الناس في عصمة ابن تومرت ودعواه أنه المهدي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي يقولون: إنه معصوم، ويقولون في خطبة الجمعة: الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، ويقال: إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصومًا". كما اشتهر عن عبد المؤمن تساهلُه في استباحة دماء خصومه من المسلمين، وسَبْي نسائهم وذراريهم إذا انتصر عليهم. كما فعل في مراكش؛ قال ابن الأثير"فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عَنوةً، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقُتلوا، وجَعَل إسحاق يرتعد رغبةً في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفًا فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمِّك؟! اصبر صبْرَ الرجال؛ فهذا رجلٌ لا يخاف اللهَ ولا يدينُ بدين. فقام الموحِّدون إلى ابن الحاج بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقُدِّمَ إسحاق على صِغَرِ سِنِّه، فضُرِبَت عنقه" وأما في دكالة، فقال ابن الأثير عن عبد المؤمن "فأخذ الملثمين السيف، فدخلوا البحر، فقُتِل أكثرهم، وغُنِمَت إبلهم وأغنامهم وأموالهم، وسُبِيَت نساؤهم وذراريهم، فبيعت الجارية الحسناء بدراهم يسيرة، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش منتصرًا، وثبت ملكه، وخافه الناس في جميع المغرب، وأذعنوا له بالطاعة". وغيرهما من بلاد المسلمين في المغرب والأندلس. وفي تلمسان قال ابن الأثير: "وأما العسكر الذي كان على تلمسان، فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق، وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن، بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقُتِلَ أكثر أهله، وسُبِيت الذرية والحريم، ونُهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجواهر ما لا تحَدُّ قيمتُه، ومَن لم يُقتَلْ بِيعَ بأوكس الأثمان، وكان عِدَّةُ القتلى مائة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان" في العشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، توفي عبد المؤمن. كان قد أمر الجيش بالجهاز لجهاد الروم، واستنفر الناس عامة، ثم سار حتى نزل بسلا، فمرض، وجاءه الأجل بها، في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وارتجت المغرب لموته، وكان قد جعل ولي عهده ابنه محمدا، وكان لا يَصلُح لطَيشِه وجُذامٍ به ولِشُربه الخمر، فتملك أيامًا، ثم خلعوه، واتفقوا على تولية أخيه أبي يعقوب يوسف، فبقي في الملك اثنتين وعشرين سنة، وخلف عبد المؤمن ستة عشر ولدًا ذكرًا.
رحَلَ صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكِرِه جميعِها إلى بلاد الفرنج يريدُ حَصرَ الكرك، والاجتماع مع نور الدين محمود والاتِّفاق على قصد بلاد الفرنج من جِهَتينِ، كل واحد منهما في جهة بعسكرِه، وسبب ذلك أنَّ نور الدين لَمَّا أنكر على صلاح الدين عَودَه من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قَصْدَ مصر وأخْذَها منه، أرسل يعتذر، ويَعِدُ من نفسه بالحركةِ على ما يقَرِّرُه نور الدين، فاستقَرَّت القاعدة بينهما أنَّ صلاح الدين يخرجُ مِن مصر ونور الدين يسيرُ من دمشق، فأيُّهما سبق صاحبَه يقيمُ إلى أن يصِلَ الآخَرُ إليه، وتواعدا على يومٍ معلومٍ يكون فيه وصولُهما، فسار صلاح الدين عن مصر؛ لأن طريقه أصعَبُ وأبعَدُ وأشَقُّ، ووصل إلى الكرك وحصره، وأمَّا نور الدين فإنه لَمَّا وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مِصرَ فَرَّقَ الأموال، وحصَّل الأزواد وما يحتاج إليه، وسار إلى الكرك فوصَلَ إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان. فلما سمع صلاحُ الدين بقُربِه خافه هو وجميعُ أهله، واتَّفَق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين؛ لأنهم علموا أنَّه إن اجتمعا كان عزلُه على نور الدين سهلًا. فلما عاد أرسل الفقيهُ عيسى إلى نور الدين يعتَذِرُ عن رحيله، بأنه كان قد استخلف أباه نجمَ الدين أيوب على ديار مصرَ، وأنَّه مريض شديد المرض، ويخاف أن يَحدُثَ عليه حادث الموت، فتخرج البلاد عن أيديهم، وأرسل معه من التُّحَف والهدايا ما يجِلُّ عن الوصف؛ فجاء الرسولُ إلى نور الدين وأعلَمَه ذلك، فعظم عليه وعَلِمَ المراد من العَود، إلَّا أنه لم يُظهِر للرسول تأثرًا، بل قال له: حِفظُ مِصرَ أهَمُّ عندنا مِن غيرنا، وسار صلاح الدين إلى مصرَ فوجد أباه قد قضى نحْبَه.
سار الإمامُ سعود بجيوشه الكثيرة من جميع نواحي نجد والجنوب وعمان والأحساء وغير ذلك من البادي والحاضر، قاصدًا الشمال, وكان قد حدَث من عربان الظفير حوادِثُ من تضييع بعض فرائض الدين وإيواء المُحدَثين وإضافتهم، وأتاهم غزوٌ من بوادي الشمال، فأغاروا على بوادي المسلمين واجتازوا بالظفير فأضافوهم، وذكروا للإمام سعود أن أناسًا منهم يغزون مع أعداء المسلمين على بواديهم، وكان قبل ذلك قد حدَث بين الظفير ومطير بعضُ القتال، فقُتِل من مطير رجلٌ من رؤسائهم الدوشان. وقُتِل من الظفير مصلط بن الشايوش بن عفنان. فأرسل إليهم سعودٌ وهو في الدرعية فأصلح بينهم وكف بعضَهم عن بعض وتوعَّدَ من اعتدى منهم على الآخر, فلما سار سعود في هذه الغزوة اجتاز بوادي الظفير وهم في الدهناء على جهة لينة الماء المعروف, فأمرهم أن ينفِروا معهم غزاة، فنفر منهم شرذمةٌ رئيسُهم الشايوش بن عفنان، فاستغل سعود غزوهم، فانتهر الشايوش وغَضِب عليه فقال: إنهم عَصَوني وهم يريدون المسير لقتال مطير، فحَرف سعود الجيوش إلى الظفيري وشَنَّ عليهم الغارات وأمر فيهم بالقَتلِ والنهب، ثم بعد ذلك أعتق غالِبَهم من القتل, وأخذ جميعَ أموالهم ولم ينجُ منهم إلا الشريد من أقاصيهم، وتفرقوا فمنهم من هرب إلى المنتفق، والبعض إلى جزيرة العراق، والبعض الآخر إلى نجد, ثم رحل سعود إلى الزلفي وقسَّم الغنائمَ، وكان عند ظفير إبل وأغنام كثيرة لأهل سدير فأمرهم سعود أن يتعرفوا أموالَهم، وكل من عرف ماله أتى بشاهدين أو شاهد ويمينه ويأخذونه.
هو الشيخُ صباحُ الأول بن جابر الصباح في الكويت، وهو من عشيرة الشملان من بني عتبة من جُميلة من عنزة من ربيعة: جد أمراء آل الصباح؛ حُكَّام الكويت، وأولُ من حكم الكويت بعد تأسيسها. يُرَجَّح أنَّ أصله من الهدار من منطقة الأفلاج في نجدٍ، وقد بُنِيت الكويت في عهده، وفي مذكرات خالد الفرج: أنَّ الكويت حديثةُ البناء، كان موضِعُها يسمى "القرين"، وكانت السلطة في القرين لبني خالد، ورئيسُهم في أواخر القرن الحادي عشر للهجرة براك بن غرير الحميدي، فبنى براك قصرًا في القرين، والقصر في اصطلاح ذلك الزمن هناك يسمى "الكوت". وقد خلَّف صباح الأول خمسةَ ذكور، هم: عبد الله (وهو الذي حكم الكويت بعده)، وسلمان، ومالج، ومحمد، ومبارك.
هو الشَّيخُ العالمُ المعَمَّر، مُسنِدُ الديار المصرية، أمين الدين: أبو القاسم سيد الأهل هبة الله بن علي بن سعود بن ثابت بن هاشم بن غالب الأنصاري، الخزرجي، المنستيري الأصل، المصري المولِد والدار، المعروف بالبوصيري، الكاتب الأديب. كانت ولادته سنة 506 بمصر، وقيل: بل ولد يوم الخميس خامس ذي القعدة سنة 500, وله سماعاتٌ عاليةٌ وروايات تفَرَّد بها وألحَقَ الأصاغِرَ بالأكابرِ في علُوِّ الإسناد، ولم يكنْ في آخر عصره في درجتِه مِثلُه، وعاش اثنتين وتسعين سنة. وكان مُسنِدَ دِيارِ مِصرَ في وقتِه، سمع مع السِّلَفي، وبقراءته من أبي صادق المديني، وأبي عبد الله محمد بن بركات السعيدي، وأبي الحسن علي بن الحسين الفراء، وسلطان بن إبراهيم، والخفرة بنت مبشر بن فاتك، وغيرهم. وانفرد بالسَّماع منهم. وأجاز له أبو الحسن الفرَّاء، وابن الخطَّاب الرازي، وقد سمع منهما، وسمع من أبي طاهر السِّلَفي, وحدَّث بمصر والإسكندرية، ورحل إليه المحدِّثون، وقُصد من البلاد. فسمع عليه النَّاسُ وأكثروا، وكان جده مسعود قَدِمَ من المنستير إلى بوصير، فأقام بها إلى أن عُرِفَ فَضلُه في دولةِ المصريِّينَ، فطُلِبَ إلى مصر، وكُتِبَ في ديوان الإنشاء، ووُلِدَ له علي والد أبي القاسم بمصر، واستقَرُّوا بها وشُهِروا. وكان أبو القاسمِ يسمى سيدَ الأهل أيضًا، لكِنَّ هبة الله أشهر، وتوفِّيَ في الليلة الثانية من صفر سنة 598، ودُفِنَ بسَفحِ المقطم. وهذا البوصيري غيرُ البوصيري صاحب البردة المتوفى سنة 697.
القائدُ السوري "إبراهيم بن سليمان بن أغا هنانو" المعروف بـ"إبراهيم هنانو". قاد حركةَ الجهاد ضِدَّ المحتَلِّ الفرنسي بعد معركة "ميسلون". ولِدَ في حلب 1286هـ / 1869م، وتلقَّى تعليمَه في تركيا، وعَمِلَ في الوظائف الإدارية بسوريا. لَمَّا احتَلَّ الفرنسيون مدينةَ أنطاكية انتُدِبَ لتأليف عصابات عربية تُشاغِلُ الفرنسيين، وجعل مقَرَّه في حلب، وفوجِئَت سورية بنكبة ميسلون سنة 1338هـ، واحتلال الفرنسيين دمشق وحلب وما بينهما، فامتنع إبراهيمُ في بلاد بيلان (شمالي حلب) بقوةٍ مِن المتطوعين الوطنيين، ولَمَّا قاتله الفرنسيون ظفر بهم، وألف حكومةً وطنية، ولُقِّبَ بالمتوكل على الله، وكثُرَت جموعه واتسع نطاقُ نفوذه، خاض سبعًا وعشرين معركة لم يُصَبْ فيها بهزيمة، واستمَرَّ عامًا كاملًا ينفق مما يَجبيه عمالُه في الجهات التي انبسط فيها سلطانُه. ولما قدِمَ الشريف عبد الله بن الحسين عمان لتحرير سورية من الفرنسيين كاتَبَه إبراهيم، ثم قصده للاتفاق معه على توحيد الخطط، فاعترضته في طريقه قوةٌ كبيرة من الجيش الفرنسي يعاوِنُها بعض الإسماعيليين من سلمية، فقاتلهم، ونجا وبعضَ من كان معه، فبلغ عاصمة الأردن، فلم يجد فيها ما أمّل من الشريف عبد الله، فزار فلسطين، فاعتقله البريطانيون في القدس وسَلَّموه إلى الفرنسيين، الذين أخذوه إلى حلب، وحُكِمَ عليه فيها بالقتل، لكِنَّ القاضيَ الفرنسيَّ حَكَم ببراءته وأطلق سراحَه، وبعد محاكمته تحوَّل من العمَلِ الجهادي إلى العمل السياسي، واجتمعت على زعامته سوريةُ كلُّها, وقادها فأحسَنَ قيادَتَها. وكان منهاجُه: لا اعترافَ بالدولة المنتَدَبة فرنسة، ولا تعاونَ معها، واستمر إلى أن توفِّيَ بحلب.
في ثالث رجب نودي بجامِعِ دمشق بعد الصلاةِ مِن جهة نائب القلعةِ بأنَّ العساكِرَ المِصريَّة قادِمةٌ إلى الشام، وفي عشيَّة يوم السبت رحل بولاي وأصحابُه من التتر وانشمروا عن دمشق، وقد أراح الله منهم وساروا من على عقبة دمر، فعاثوا في تلك النواحي فسادًا، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحدٌ، وقد أزاح الله عز وجل شَرَّهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناسِ: قد أَمِنَت الطرقاتُ ولم يبقَ بالشَّامِ مِن التتر أحد، وصلى قبجق يومَ الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعةٌ عليهم لَأْمةُ الحرب من السيوفِ والقِسِيِّ والتراكيش فيها النشَّاب، وأَمِنَت البلاد، وخرج الناسُ للفرجة في غيضِ السفرجل على عادتهم، فعاثت عليهم طائفةٌ مِن التتر، فلمَّا رأوهم رجعوا إلى البلدِ هاربين مُسرِعينَ، ونهب بعضُ النَّاسِ بَعضًا، ومنهم من ألقى نفسَه في النَّهرِ، وإنما كانت هذه الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وتقلَّقَ قبجق من البلَدِ ثمَّ إنَّه خرج منها في جماعةٍ مِن رؤسائها وأعيانِها، منهم عز الدين بن القلانسي ليتلَقَّوا الجيش المصري، وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب وجاءت البريديَّة بذلك، وبقي البلدُ ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد: احفَظوا الأسوارَ وأخرِجوا ما كان عندكم من الأسلحةِ، ولا تهملوا الأسوارَ والأبواب، ولا يبيتَنَّ أحدٌ إلا على السور، ومن بات في داره شُنِقَ، فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخُ تقي الدين ابن تيمية يدورُ كُلَّ ليلة على الأسوارِ يُحَرِّضُ النَّاسَ على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آياتِ الجهادِ والرِّباطِ، وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبةُ بدمشق لصاحب مِصرَ، ففرح الناسُ بذلك، وكان يُخطَبُ لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائةَ يومٍ سواء، وفي بكرةِ يوم الجمعة المذكور دار الشيخُ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وأصحابُه على الخَمَّارات والحانات، فكَسَّروا آنيةَ الخُمورِ وشَقَّقوا الظروفَ وأراقوا الخمورَ، وعَزَّروا جماعةً مِن أهل الحانات المتَّخَذة لهذه الفواحِشِ، ففرح الناسُ بذلك، ونودي يوم السبتِ ثامِنَ عشر رجب بأن تُزَيَّن البلد لقدوم العساكِرِ المصرية، وفُتِحَ باب الفرج مضافًا إلى باب النصر يوم الأحد تاسع عشر رجب، ففرح النَّاسُ بذلك وانفرجوا.
أبو عبدِ الرحمنِ محمدٌ ناصرُ الدِّينِ بنُ نوح نجاتي بن آدم الألبانيُّ علَّامةُ الشامِ، وُلد عامَ 1332هـ / 1914م في أشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاكَ، نشأ في أسرة فقيرة، وكان والده مُتخرِّجًا من المعهد الشرعي في الآستانة، ثم هاجر والدُه مع أسرته إلى دِمَشقَ عندما بدأ الحاكم أحمد زوغو يَزيغُ عن الحق، ويأمُرُ بنزع الحجاب، ويَسيرُ على خُطى الطاغية أتاتورك، فدرس الشيخ محمد ناصر في دِمَشقَ المرحلة الابتدائية، ثم لم يُكمِلْ في المدارس النظامية، بل بدأ بالتعلُّم الديني على المشايخ، فتلقَّى القرآن من والدِه وتعلَّم الصرفَ، واللغةَ، والفقهَ الحنفيَّ، ثم توجَّه لدراسة علم الحديث والتحقيق حتى برَعَ فيه، هذا غير دروسِه التي كان يُلقيها في دِمَشقَ وحلَبَ، وباقي المحافظات السورية قبلَ خروجِه منها، ولمَّا بدأت المشاكل الأمنيَّة في سوريا خرج الشيخُ من سوريا، وكان قد درَّس في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سنةَ 1381هـ، لمدة ثلاث سنوات، أفاد فيها كثيرًا من الطلاب، وقد أثْنى عليه الكثيرُ من العلماء، فقال عنه الشيخُ ابنُ عُثيمين: إنه محدِّثُ العصر، وقد كان يُعَدُّ هو داعيةَ الشام إلى الدعوة الصحيحة، فقد أفاد منه الكثيرُ من الطلاب في دِمَشقَ قبل خروجِه، وفي الأُردُنِّ حيث استقرَّ فيها أخيرًا، وأشرطتُه التي سُجِّلت له تدُلُّ على فضله وعلمه، وأمَّا كتبُه فهي خيرُ شاهدٍ على علمِه، وسَعةِ اطِّلاعه، وعُلوِّ كَعبِه في فن الحديثِ، وعِلمِ الجَرحِ والتعديلِ، والتصحيحِ والتضعيفِ، بل يُعَدُّ هو رائدَ هذا العصر في علم الحديثِ، فمن كُتبه: ((السلسة الصحيحة))، و((السلسلة الضعيفة))، وكتاب ((إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل))، وتحقيقُه لكُتب السُّنَن الأربعة، ولصحيح ابن حِبَّان، وللترغيب والترهيب، ولمشكاة المصابيح، ولصحيح الجامع، وللسُّنة لابن أبي عاصم، وغيرها من التحقيقات، أما مؤلَّفاتُه فمنها كتاب: ((صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كأنَّك تراه))، و((آداب الزفاف))، و((تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد))، و((أحكام الجنائز))، و((حجة النبي صلى الله عليه وسلم))، و((التوسل))، و((حجاب المرأة المسلمة))، و((قيام رمضان))، وقد أثْرَت كُتبه المكتبةَ الإسلامية، وأمَّا وَفاتُه فكانت يومَ السبت في الثاني والعشرين من شهر جُمادى الآخرة سنةَ 1420هـ، عن عمر يُناهزُ الثامنةَ والثمانينَ، وذلك في عمَّانَ عاصمة الأُردُنِّ، وكان قد أوْصى بألَّا يؤخَّر دَفنُه أبدًا، فغُسِّلَ من فَوْره، كما أوْصى ألَّا يُحمَلَ على سيارة، فحُمل على الأكتاف إلى المقبرة، حيث صُلِّيَ عليه بعد صلاة العشاء من نفس اليوم، ودُفِنَ في مقبرة قديمة قُربَ حي هملان في عمَّانَ، رحمه اللهُ تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.