كان سَبَب ذلك أنَّ عُمَر بن عبدِ العزيز كَتَبَ إلى الوَليد يُخْبِرُه عن أَهلِ العِراق أنَّهم في ضَيْمِ وضِيقٍ مع الحَجَّاجِ مِن ظُلْمِه وغَشْمِه، فسَمِع بذلك الحَجَّاجُ فكَتَبَ إلى الوَليد: إنَّ عُمَر ضَعيف عن إِمْرَةِ المَدينَة، وإنَّ جماعَة مِن أَهلِ الشِّقاق مِن أهلِ العِراق قد لَجَأوا إلى المَدينَة ومَكَّة، وهذا وَهْنٌ وضَعْفٌ في الوِلايَة، فاجْعَل على الحَرَمَيْنِ مَن يَضْبُط أَمْرَهُما. فكَتَبَ الوَليدُ إلى الحَجَّاج: أن أَشِرْ عَلَيَّ بِرَجُلينِ. فكَتَب إليه يُشِيرُ عليه بعُثمان بن حَيَّان، وخالِد بن عبدِ الله، فوَلَّى خالِدًا مَكَّة، وعُثمانَ المَدينَة، وعَزَل عُمَر بن عبدِ العزيز، فخَرَج عُمَرُ بن عبدِ العزيز مِن المَدينَة في شَوَّال فنَزَلَ السُّويْداء، وقَدِمَ عُثمانُ بن حَيَّان المَدينَة لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتا مِن شَوَّال مِن هذه السَّنَة.
هو المَلِكُ أزبك خان بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكز خان ملك التتار، وكان أسلَمَ وحَسُنَ إسلامُه وحَرَّض رعيَّتَه على الإسلام، فأسلم بعضهم، ولم يلبَسْ أزبك خان بعد أن أسَلَم السراقوجات- لباس الرأس عند التتار- وكان يلبس حياصةً من فولاذ ويقول: لبسُ الذَّهَبِ حرامٌ على الرجال، وكان يميلُ إلى دينٍ وخَيرٍ، ويتردَّدُ إلى الفقراء، وكان عنده عَدلٌ في رعيته، وتزوَّجَ الملك الناصِرُ محمد بابنَتِه، وكان أزبك شُجاعًا كريمًا مليحَ الصورة ذا هيبةٍ وحُرمة، ومملكتُه مُتَّسِعة، وهي من بحر قسطنطيينة إلى نهر إرتش مَسيرةَ ثمانمائة فرسخ، لكِنَّ أكثر ذلك قرًى ومراعي، ومات أزبك خان بعد أن مَلَك نحوًا من ثلاثينَ سنة، ووَلِيَ المُلكَ بعده ابنُه: جاني بك خان.
بعد أن تمَّ للمغول بقيادة تيمورلنك تدميرُ مدن الشام، أرسل تهديداتِه للسلطان فرج بن برقوق سلطان المماليك في مصر، وكان قد أسر أميرًا من المغول يدعى (أطلمس) فطالب تيمورلنك بإطلاق سراحه فورًا، وإلا فسيزحف المغول على مصر ويرفعون راياتهم على ربوعها. وقد أذعن السلطان فرج لهذه التهديدات، وأطلق سراح أطلمس وعقد صلحًا مع تيمورلنك يتعهد فيه السلطان فرج بطاعة تيمورلنك والدعوة باسمه في مساجد مصر، وقد أدى هذا الصلح المُهين إلى ذهاب حرمة دولة المماليك، واختفاء احترام الأمراء والعامة للسلطان فرج، فلم تمضِ سنوات ثلاث حتى عُزل. والواقِعُ أن هزائم دولة المماليك الثانية في عهد فرج بن برقوق تعتبر أقسى الهزائم التي تعرض لها المسلمون في تلك الفترة؛ بسبب تصارع المماليك المتعصبين لأصولهم العِرْقية.
حجَّ الإمام سعود الحجَّةَ الرابعة بجميعِ نواحي رعاياه، حَجَّ معه أكثر من 100 ألف, ودخل مكَّةَ بجميع تلك الجموع واعتَمَروا وحَجُّوا بأحسن حال, وزار الشريفُ غالب الإمامَ سعودًا مرارا وصار معه كالشقيقِ فيزورُه أحيانًا وحده ومعه رجل أو رجلين، وأحيانًا بخيله ورجالِه, وكثيرًا ما يدخل سعود الحرم ويطوف بالبيتِ ويجلس فوقَ زمزم ومعه خواصُّه، وبَثَّ في مكة الصدقات والعطاء لأهلها وضعفائها شيئًا كثيرًا، وكسا الكعبةَ كسوةً فاخرةً، وجعل إزارَها وكسوة بابها حريرًا مطرَّزًا بالذهب والفضة، وأقام فيها نحوًا من ثمانية عشر يومًا, ثم رحل منها وقصد المدينة وأقام فيها عدة أيام ورتب مرابِطةً في ثغورِها، وأخرج مَن في القلعة من أهلِها، وجعل فيها مرابِطةً مِن أهل نجدٍ.
هو أبو حُذيفَة واصِلُ بن عَطاء المَخزومي، كان تِلميذًا للحَسَن البَصري، سُمِّيَ هو وأَصحابُه بالمُعتَزِلَة لاعْتِزالِهم مَجلِس الحَسَن البَصري، وذلك بِسَببِ مَسألَة مُرتَكِب الكَبيرة، فالحَسنُ يقول بأنَّه لا يَزالُ مُؤمِنًا ولكنَّه فاسِق. فخالَفَه واصِل ومعه عَمرُو بن عُبيد فقال: فاسِق لكنَّه غيرُ مُؤمِن فهو في مَنزِلَة بين المَنزِلَتين وهو مع ذلك مُخَلَّد في النَّار إن مات على كَبيرَتِه، ثمَّ تَطَّور أَمرُ المُعتزِلَة حتَّى صار مَذهبًا مَعروفًا يَقومُ على أُسُسٍ خَمسَة هي: التَّوحيد: والمَقصودُ فيه نَفيُ الصِّفات، وبَنَو عليه بالتَّالي أن القُرآن مَخلُوق، وحُرِّيَّةُ الاخْتِيار، وأنَّ الإنسان يَخلُق أَفعالَه، والوَعْد والوَعيد، والأَمْر بالمَعروفِ والنَّهْي عن المُنكَر، والمَنْزِلَة بين المَنْزِلَتين، ثمَّ تَكوَّنَت فِرَقٌ نَشأَت عن أُصولِ المُعتَزِلَة، له مُؤَلَّفات منها: المَنزِلَة بين المَنزِلتَين والتَّوحيد. تُوفِّي في المَدينَة المُنوَّرة.
هو شَرَفُ الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله المعروف بالنشو القبطي ناظِرُ الخاص للسلطان، كان أبوه يكتُبُ عند الأمير بكتمر الحاحب وهو ينوب عنه، ثم انتقل إلى مباشرةِ ديوان الأمير أركتمر الجمدار، وعندما جمَعَ السلطان الناصر كتَّاب الأمراء, فرآه وهو واقِفٌ وراء الجميعِ وهو شابٌّ طويل نصراني حلوُ الوجه فاستدعاه وقال: أيش اسمك؟ قال: النشو، فقال: أنا أجعلك نشوي، ثمَّ إنه رتَّبَه مستوفيًا في الجيزية، وأقبلت سعادته، فأرضاه فيما يندبه إليه وملأ عينيه, ثم نقله إلى استيفاء الدولة فباشر ذلك مدة، ثم نقل إلى نظر الخاص مع كتابة ابن السلطان، وحَجَّ مع السلطان في تلك السنة وهي سنة 732 ولما كان في الاستيفاء وهو نصراني, وكانت أخلاقُه حسنة وفيه بِشرٌ وطلاقة وجه وتسَرُّع إلى قضاء حوائج الناس، وكان الناس يحبونه، فلما تولى الخاص وكثُرَ الطلب عليه من السلطان, و أُكرِهَ حتى أظهَرَ الإسلام, فبلغ ما لم يبلُغْه أحَدٌ من الأقباط في دولة الترك- المماليك- وتقَدَّمَ عند السلطان على كل أحد، وخَدَمه جميع أرباب الأقلام، وزاد السلطانُ في الإنعامات والعمائر عليه, وزَوَّج بناته واحتاجَ إلى الكُلَف العظيمة المُفرِطة الخارجة عن الحَدِّ، فساءت أخلاقُه وأنكر مَن يَعرِفُه، وفُتِحَت أبواب المصادرات للكتَّاب ولِمَن معه مال, وكان محضرَ سوءٍ لم يشتَهِرْ عنه بعدها شيءٌ من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمَعْه وزير للدولة التركية، وكان مُظَفَّرًا، ما ضرب على أحدٍ إلا ونال غَرَضَه منه بالإيقاع به وتخريبِ دياره، وقُتِلَ على يديه عِدَّةٌ من الولاة والكتَّاب، واجتهد غايةَ جُهدِه في قتل موسى بن التاج إسحاق، وعاقبه ستَّة أشهر بأنواع العقوبات، من الضَّربِ بالمقارع والعَصرِ في كعابه وتسعيطِه - الاستنشاق بالأنف- بالماء والملح وبالخل والجير وغير ذلك، مع نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى، فلم يَمُت، وعاش التاج موسى هذا ثلاثين سنة بعد هلاك النشو، وكان النشوُ هذا بلغ منه في أذيَّة الناس بالمُصادَرات والضرائب الشيء الكثير الكثير، مِمَّا كاد أن يخرب الديارَ كُلَّها، فشكا منه كُلُّ أحد: الفقير والغني، والأمير والحقير، فلم يسلَمْ مِن ظُلمِه وأخْذِ المال منه أحدٌ، وكل ذلك يدَّعي الفَقرَ وقِلَّة المال وأنه لا يأخُذُ لِنَفسِه شيئًا، ولما مات بعد أن اعتُقِلَ لكثرة الشكاوى والتحريضات حُصِّلَت أمواله فكانت خارجةً عن الحصر، ولو كتبت لخرجت عن الحد المعهودِ، فهي تحتاج إلى عِدَّة صفحات مِمَّا كان له من مالٍ عَينٍ وبضائِعَ وإقطاعاتٍ وحواصِلَ وحيواناتٍ وغَيرِها من الجوهر واللؤلؤ ما يفوق الحَصرَ، توفي في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، ثم إنَّه بعد موته وُجِدَ أنه ما يزال غير مختونٍ، فدُفِنَ بمقابر اليهودِ.
بَعثَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رسولَه عبدَ الله بنَ جَحشٍ الأسَديَّ إلى نَخلةَ في رَجبٍ على رأسِ سَبعةَ عَشَرَ شَهرًا من الهِجرةِ في اثنَيْ عَشَرَ رَجلًا من المُهاجِرين، كلُّ اثنَينِ يَعتَقِبان على بَعيرٍ، فوَصَلوا إلى بَطنِ نَخلةَ يَرصُدون عيرًا لقُريشٍ، وفي هذه السَّريَّةِ سُمِّيَ عبدُ الله بنُ جَحشٍ أميرَ المؤمنين، وكان رسولُ الله كَتَب له كِتابًا، وأمرَه ألَّا يَنظُرَ فيه حتى يَسيرَ يَومَين ثم يَنظُرَ فيه، ولمَّا فَتَح الكِتابَ وَجَد فيه: "إذا نَظَرْتَ في كِتابي هذا، فامْضِ حتى تَنزِلَ نَخلةَ بينَ مكَّةَ والطَّائِفِ فتَرصُدَ بها قُريشًا، وتَعلَمَ لنا من أخبارِهِم"، فقال: سَمعًا وطاعةً، وأخبَرَ أصحابَه بذلك، وبأنَّه لا يَستَكرِهُهم، فمَن أحبَّ الشَّهادةَ فليَنهَض، ومَن كَرِهَ الموتَ فليَرجِع، وأمَّا أنا فناهِضٌ. فمَضَوا كلُّهم.
فلمَّا كان في أثناء الطَّريقِ أضلَّ سعدُ بن أبي وقَّاصٍ وعُتبةُ بن غَزوانَ بعيرًا لهما كانا يَعتَقِبانِه، فتَخَلَّفا في طَلَبِه، وبَعُدَ عبدُ الله بنُ جَحشٍ حتَّى نزل بنخلةَ، فمَرَّت به عيرٌ لقُرَيشٍ تَحمِلُ زَبيبًا وأُدمًا وتجارةً فيها عَمرُو بنُ الحَضرَميِّ، وعُثمانُ ونَوفَلُ بنُ عبدِ الله بن المُغيرةَ، والحَكَمُ بنُ كَيسانَ مَولَى بني المُغيرةِ فتَشاوَرَ المسلمون، وقالوا: نحنُ في آخِرِ يَومٍ من رَجَبٍ الشَّهرِ الحَرامِ، فإنْ قاتلناهم، انتَهَكْنا الشَّهرَ الحرامَ، وإن تَرَكناهمُ اللَّيلةَ دَخَلوا الحرمَ، ثمَّ أجمَعوا على مُلاقاتِهم فرَمَى أحدُهم عمرَو بنَ الحَضرَميِّ فقَتَلَه، وأسَروا عُثمانَ والحَكَمَ، وأفلتَ نَوفَلٌ، ثم قَدِموا بالعيرِ والأسيرَينِ، وقد عَزَلوا من ذلك الخُمُسَ، وهو أوَّلُ خُمُسٍ كان في الإسلامِ، وأوَّلُ قتيلٍ في الإسلامِ وأوَّلُ أسيرَينِ في الإسلامِ، وأنكرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم ما فعلوه، واشتَدَّ تَعنُّتُ قُريشٍ وإنكارُهم ذلك، وزَعَموا أنَّهم قد وَجَدوا مَقالًا، فقَالوا: قد أحلَّ مُحمَّدٌ الشَّهرَ الحرامَ، واشتدَّ على المسلمين ذلك، حتى أنزلَ اللهُ تعالى: {يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ قُلْ قِتَالٌ فيهِ كَبيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنةُ أكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
هو السلطانُ المَلِكُ المعَظَّم: مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين بن محمد التركماني، صاحب إربل، وابنُ صاحبها, وقد مصرَها الملك زين الدين علي كوجك. ثمَّ وهبها لأولاد مظفر الدين صاحب الموصل، وكان يوصَفُ بقوةٍ مُفرِطة، وطال عمره، وله أوقافٌ وبر ومدرسة بالموصل. ولد مظفر الدين في المحرم، 549، بإربل. تولى مظفَّرُ الدين إربل بعد وفاةِ أبيه وأقام بها مدَّةً وانتقل إلى الموصِلِ، ثمَّ دخل الشام واتصل بالملك الناصرِ صلاحِ الدين فأكرمه كثيرًا، وكانت له آثارٌ حسنة، وقد عمر الجامِعَ المظفري بسفحِ قاسيون، وكان قد هَمَّ بسياقة الماء إليه من ماء بذيرة، فمنعه المعظم من ذلك، واعتَلَّ بأنه قد يمُرُّ على مقابر المسلمين بالسفوح، وكان يهتَمُّ بعمل المولد الشريف اهتمامًا زائدًا حتى إنه كان يرقُصُ بنفسِه ويمارس هذه البدعةَ بنَفسِه، وقد صنَّف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدًا في المولد النبوي سماه " التنوير في مولد البشير النذير "، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية، وقد كان محاصِرًا عكا، وإلى هذه السنة محمود السيرة والسريرة، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمينِ وغيرهما. بنى أربع خوانك للزمنى- ذوو الأمراض المزمنة- والأضراء، وكان يأتيهم كل اثنين وخميس، ويسألُ كل واحد عن حاله، ويتفقده، ويباسطه ويمزح معه, وبنى دارًا للنساء، ودارًا للأيتام، ودارًا للُّقَطاء، ورتَّب بها المراضع, وكان يدورُ على مرضى البيمارستان, وله دار مضيف ينزلها كل وارد، ويعطى كل ما ينبغي له, وبنى مدرسة للشافعية والحنفية، وكان يمدُّ بها السماط، ويحضر السماعَ كثيرًا، لم يكن له لذَّةٌ في شيء غيره. وكان يمنع من دخول منكَر بلدَه، وبنى للصوفية رباطين، وكان ينزل إليهم لأجل السَّماعات, ويفتَكُّ من الفرنجِ في كلِّ سنةٍ خَلقًا من الأُسارى، حتى قيل: إن جملة من استفَكَّه من أيديهم ستون ألف أسير، مات ليلة الجمعة، رابع عشر رمضان, وكانت وفاته بقلعة إربل، وأوصى أن يُحمَل إلى مكة فلم يتَّفِقْ، فدفن بمشهد علي, وقد عاش اثنتين وثمانين سنة.
مُحمَّد نجيب يوسف نجيب قُطب القشلانُ سياسيٌّ وعَسكريٌّ مِصريٌّ، وُلد بالخُرطوم، والتحَقَ بالكُليَّة الحربيَّةِ في مِصرَ في إبريل عام 1917م وتخرَّج فيها في 23 يناير 1918م، ثم سافَرَ إلى السُّودان في 19 فبراير 1918م، والتحَقَ بذات الكَتيبةِ المِصريَّةِ التي كان يعملُ بها والدُهُ؛ ليبدأ حياتَهُ كضابطٍ في الجيش المِصريِّ، حصل على شَهادةِ الكفاءةِ، ودخَلَ مدرسةَ البوليسِ لمُدَّةِ شهرَينِ، واحتكَّ بمُختلِف فِئات الشَّعبِ المِصري، وتخرَّج وخدَمَ في مِصرَ القديمةِ، وعاد مرَّة أخرى إلى السودان عام 1922م.
انتقل بعد ذلك إلى الحَرَس المَلَكيِّ بالقاهرة في 28 إبريل 1923م، ثم انتقل إلى الفِرقةِ الثامنةِ بالمعادي بسبب تأييدِهِ للمُناضِلينَ السُّودانيينَ. حصَلَ على شَهادةِ البكالوريا عام 1923م، والتحَقَ بكُليَّةِ الحُقوقِ، ورُقِّيَ إلى رُتبة الملازِمِ أوَّل عام 1924م.
في عام 1927 كان مُحمَّد نجيب أوَّلَ ضابطٍ في الجيش المِصريِّ يحصُلُ على ليسانس الحُقوقِ، ودُبلوم الدراساتِ العُليا في الاقتصاد السياسيِّ عام 1929م ودُبلوم آخَرَ في الدراسات العُليا في القانون الخاصِّ عام 1931م.
رُقِّيَ إلى رُتبة اليوزباشي (نقيب) في ديسمبر 1931م، ونُقل إلى سِلاح الحُدودِ عام 1934م، ثم انتقَلَ إلى العريشِ. كان ضِمنَ اللجنة التي أشرفت على تنظيم الجيشِ المِصريِّ في الخُرطومِ بعد مُعاهدةِ 1936م، ورُقِّيَ لرُتبةِ الصاغ (رائد) في 6 مايو 1938م، ورفَضَ في ذلك العام القيام بتدريباتٍ عسكريَّةٍ مُشتركةٍ مع الإنجليز في مرسى مطروح. قاد ثَورة 23 يوليو 1952م وعرَضَ عليه المَلِك فاروق منصبَ وزير الحربيَّةِ، ومنحه رُتبة فريقٍ مع مُرتَّبِ وزيرٍ، لكنَّه تنازل عنها بعد خُروج المَلِك فاروق إلى المنفى.
وهو أوَّلُ رئيسٍ لجُمهورية مِصرَ العربيَّةِ (1953 - 1954)، لم يستمرَّ في سُدَّة الحُكم سوى فترةٍ قليلةٍ بعد إعلانِ الجُمهوريَّةِ (يونيو 1953 - نوفمبر 1954)، حيث أُقيل من جميع مناصِبِهِ في 14 نوفمبر 1954م وعزله مجلسُ قيادةِ الثَّورةِ، ووضَعَهُ تحت الإقامةِ الجَبْريَّةِ بقَصرِ زينب الوكيل حَرَمِ مُصطفى النَّحَّاس باشا بضاحية المَرْجِ شرق القاهرة. تُوُفِّيَ مُحمَّد نجيب في هُدوءٍ عن عُمر يُناهز 82 عامًا بتاريخ 28 أغسطس 1984م في مُستشفى المعادي العسكري بالقاهرة، لم يكن يعاني من أمراضٍ خطيرةٍ، لكنها كانت أمراضَ الشَّيخوخةِ.
هو علي بك الكبير مملوكي حكم القاهرة كشيخ البلد أيام الدولة العثمانية, وكغيره من المماليك، لا تُعرف أصولُهم وإنما يُشتَرَون صغارًا، ثم يُجلبون لتركيا فيعتنقون الإسلام ثم يتربَّون تربية عسكرية صارمة، ويبدؤون في الصعود إلى مناصِبَ عليا والسيطرة على مقاليد الأمور، ويقال إن علي بك ابن قسيس رومي أرثوذكسي من قرية أماسيا في الأناضول. ولد سنة1140 ثم خُطِفَ وهو في الثالثة عشرة من عمره وبيع في القاهرة، فاشتراه الأمير إبراهيم كتخدا وبدأ معه رحلة التدريب والتعلُّم، حتى ظهرت عليه علامات النجابة وقوة الشخصية، حتى فاق أقرانَه في ركوب الخيل، والضربِ بالسيف، والطعنِ بالرمح، واستخدام الأسلحة النارية، وهو ما جعل سيِّدَه يعتقه وهو لم يتجاوز العشرين، وولَّاه بعضَ المهام الإدارية، إلى أن توفي أستاذه إبراهيم كتخدا سنة 1167هـ فخلفه في مناصبه الإدارية, وهو يتطلَّع إلى منصب مشيخة البلد، فأخذ يعدُّ العدة بشراء أعداد كبيرة من المماليك ويدرِّبُهم على الفنون العسكرية إلى أن جاءت سنة 1177 حيث تبوأ منصِبَ مشيخة البلد بالقاهرة، لكنَّ خصومَه أجبروه على الفرارِ إلى الصعيدِ ثم الحجاز وتارة إلى الشام، ثم عاد لمنصب مشيخة البلد عام 1181 وهو أعظم قوةً وأكثرُ عددًا، ولما استتَبَّ له الأمر تخلَّص من خصومه، فصادر أموالهم، وقتل بعضَهم ونفى البعض الآخر، ولم يسلَمْ من هذه الإجراءات حتى من قدَّموا له العونَ والمساعدة، فبطش ببعضهم ونفاهم إلى خارج البلاد. ثم ثار عليه تلميذُه وزوجُ بنته محمد بك أبو الذهب الذي تمكن من السيطرة على مصر وحكَمَها بعد فرارِ علي بك إلى الشام, ولَمَّا عاد علي بك في مطلع عام 1187هـ سار إلى مصر ومعه أربعمائة جندي روسي، فالتقى الطرفان وانتصر أبو الذهب عليهم في معركة بالصالحية بمصر، وقتل كلَّ من كان مع علي بك، الذي توفي فيما بعد متأثرًا بجراحِه بعد أن سعى للانفصال عن الدولةِ العثمانيةِ بدعمٍ وتأييدٍ من روسيا العدو اللَّدود للدولة العثمانية, فأرسل أبو الذهب رأسَ علي بك والضباط الروس إلى الوالي العثماني خليل باشا، فقام بدوره بإيصالها إلى السلطان في إستانبول, وتولى الحكم مكانَه محمد أبو الذهب الذي لم يلبث في الحكم سوى عامين ثم توفي.
ظهر محمَّدُ بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بالطالقان من خراسان، يدعو إلى الرضا من آل محمَّد، وكان ابتداءُ أمرِه أنَّه كان ملازمًا مسجدَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حسَنَ السِّيرةِ، فأتاه إنسانٌ من خراسان كان مجاورًا، فلما رآه أعجَبَه طريقُه، فقال له: أنت أحَقُّ بالإمامةِ مِن كُلِّ أحَدٍ، وحَسَّنَ له ذلك وبايعه، وصار الخُراساني يأتيه بالنَّفَرِ بعد النفر مِن حُجَّاجِ خُراسان يبايعونه، فعل ذلك مُدَّةً. فلما رأى كثرةَ مَن بايعه من خراسانَ سارا جميعًا إلى الجوزجان، واختفى هناك، وجعل الخراساني يدعو النَّاسَ إليه، فعَظُم أصحابُه، وحمله الخراسانيُّ على إظهارِ أمْرِه، فأظهره بالطالقان، فاجتمع إليه بها ناسٌ كثير، وكانت بينه وبين قوَّادِ عبدِ الله بن طاهر وقَعاتٌ بناحيةِ الطالقان وجبالِها، فانهزم هو وأصحابه، وخرج هاربًا يريدُ بعضَ كور خراسان، وكان أهلُها كاتبوه، فلما صار بنسا، وبها والدُ بعضِ مَن معه، فلمَّا بَصُرَ به سأله عن الخبَرِ فأخبره، فمضى الأبُ إلى عامِلِ نسا فأخبَرَه بأمر محمد بن القاسم، فأعطاه العامِلُ عشرةَ آلاف درهم على دَلالَتِه، وجاء العامِلُ إلى محمد، فأخذه واستوثَقَ منه، وبعثه إلى عبدِ الله بن طاهر، فسيَّرَه إلى المعتصم، فحُبِسَ عند مسرور الخادمِ الكبير، وأجرى عليه الطَّعامَ، ووكَلَ به قومًا يحفَظونَه، فلمَّا كان ليلةُ الفطرِ اشتغلَ النَّاسُ بالعيد، فهرب من الحبسِ، دُلِّيَ إليه حبلٌ مِن كوَّة كانت في أعلى البيتِ، يدخل عليه منها الضوءُ، فلما أصبحوا أتَوْه بالطعام، فلم يَرَوه، فجعلوا لِمَن دلَّ عليه مائة ألفٍ، فلم يُعرَف له خبَرٌ.
هو السلطانُ أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي بن مخلوف بن زيدان، الملقَّب بالقائم بأمر الله، عميد الأسرة السعدية وسلطان المغرب. كان قد نشأ على عفافٍ وصلاحٍ وحجٍّ للبيت الحرام، وقيل: كان مجابَ الدعوةِ، من قرَّاءِ القرآن، ومن أهلِ العلمِ والدين، ولم يكن من بيت الرياسةِ، وكان له اطِّلاعٌ على تواريخ قُطره وعوائدِ جيله وأخلاقهم وطبائعهم، ورأى ما وصل إليه مُلكُ بني وطاس بالمغرب من الانحطاط والضعف، وتيقَّن أنَّه لا يصعب عليه تناولُه، فأعمل في ذلك فِكرَه وصار يحضُّ الناسَ على القيام بأمور دينهم والامتعاض لها، حتى ولي الأمرَ عندما بايعَتْه قبائل المغرب على حربِ البرتغال، وقدَّمت كلُّ قبيلة له عشرةَ رجال من أبنائها, فلما قضى الله ببيعته واجتماع الناس عليه، واطمأنت به في البلاد السوسية الدار وطاب له بها المقام والقرار؛ ندب الناس إلى بيعةِ أكبر ولديه، وهو الأمير أبو العباس أحمد المعروف بالأعرج، فبايعوه, ثم وفد على القائمِ بأمر الله أشياخُ حاحة والشياظمة لِما بلغهم من حسن سيرته ونصرة لوائه، فشَكَوا إليه أمر البرتغال ببلادهم, وشِدَّة شوكته واستطالته عليهم، وطلبوا منه أن ينتقل إليهم هو وولده ولي العهد، فأجابهم إلى ذلك ونهض معهم هو وابنه أبو العباس إلى الموضع المعروف بآفغال من بلاد حاحة، وترك ولده الأصغر أبا عبد الله محمد الشيخ بالسوس يرتِّب الأمور ويمهِّد المملكة ويباكر العدو بالقتال ويراوحه، واستمر الأمير أبو عبد الله القائم بمكانه من آفغال ببلاد حاحة مسموعَ الكلمة متبوعَ العقب إلى أن توفي بها وهو يجاهد النصارى الإسبان والبرتغال، ودفن بها ثم نقل إلى مراكش.
هو الخَليفةُ، أَميرُ المُؤمِنين، المُقتَفِي لأَمرِ الله، أبو عبدِ الله، محمدُ بن المُستَظهِر بالله أبي العبَّاسِ أحمدَ بن المُقتَدِي بالله، بن الذَّخيرَةِ محمدِ بن القائمِ بأَمرِ الله عبدِ الله بن القادرِ بالله عبدِ الله أحمدَ بن الأَميرِ إسحاقَ بن المُقتَدِر، الهاشميُّ، العبَّاسيُّ، البغداديُّ، الحَبَشيُّ الأُمِّ. وُلِدَ في رَبيعٍ الأوَّلِ سَنةَ 489هـ. وبُويِعَ بالإمامَةِ في سادس عشر ذي القعدةِ، سَنةَ 530هـ. كان المُقتَفِي عاقِلًا لَبيبًا، عامِلًا مَهيبًا، صارِمًا، جَوادًا، أَسمَرَ، آدَمَ، مَجْدُورَ الوَجْهِ، مَليحَ الشَّيْبَةِ، مُحِبًّا للحَديثِ والعِلمِ، مُكرِمًا لأَهلِه، سَمِعَ المُقتَفِي من: أبي الحَسنِ بن العَلَّافِ، ومن مُؤَدِّبِه أبي البَركاتِ السيبي. قال السَّمعانيُّ: "وأَظُنُّهُ سَمِعَ (جُزءَ ابنِ عَرَفَة) من ابنِ بيان، كَتَبْتُ إليه قِصَّةً أَسأَلُهُ الإنعامَ بالإذِنِ في السَّماعِ منه، فأَنعَمَ، وفَتَّشَ على الجُزءِ، ونَفَذَهُ إليَّ على يَدِ إِمامِه ابنِ الجواليقي، فسَمِعتُه من ابنِ الجواليقي عنه"، وكان حَمِيدَ السِّيرَةِ، يَرجِعُ إلى تَدَيُّنٍ وحُسْنِ سِياسَةٍ، جَدَّدَ مَعالِمَ الخِلافَةِ، وباشَرَ المُهِمَّاتِ بِنَفسِه، وغَزَا في جُيوشِه. كانت أَيامُه نَضِرَةً بالعَدلِ، زَهِرَةً بالخَيرِ، وكان على قَدَمٍ مِن العِبادَةِ قبلَ الخِلافَةِ ومعها، ولم يُرَ مع لِينِه بعدَ المُعتَصِم في شَهامَتِه مع الزُّهْدِ والوَرَعِ، ولم تَزَل جُيوشُه مَنصورَةً. قال الذَّهبيُّ: "كان مِن حَسَناتِه وَزيرُه عَوْنُ الدِّينِ بن هُبيرَة، وقِيلَ: كان لا يَجرِي في دَولتِه شَيءٌ إلا بِتَوقِيعِه"، ووَزَرَ للمُقتَفِي عليُّ بنُ طرادٍ، ثم أبو نَصرِ بنُ جَهيرٍ، ثم عليُّ بن صَدقةَ، ثم ابنُ هُبيرَةَ، وحَجَبَ له أبو المعالي بنُ الصاحِبِ، ثم كامِلُ بنُ مُسافرٍ، ثم ابنُ المُعوَجِّ، ثم أبو الفَتحِ بن الصَّيْقَلِ، ثم أبو القاسمِ بن الصاحِبِ. وهو أَوَّلُ مَن استَبَدَّ بالعِراقِ مُنفَرِدًا عن سُلطانٍ يكونُ معه. مِن أَوَّلِ أَيامِ الدَّيلمِ إلى أَيامِه، وأَوَّلُ خَليفةً تَمَكَّنَ من الخِلافةِ وحَكَمَ على عَسكَرِهِ وأَصحابِه مِن حين تَحَكُّمِ المَماليكِ على الخُلفاءِ مِن عَهدِ المُستَنصِر إلى عَهدِه، إلا أن يكون المُعتَضِد، فأَقامَ المُقتَفِي حِشمةَ الخِلافَةِ، وقَطَعَ عنها أَطماعَ السَّلاطينِ السَّلجوقِيَّة وغَيرِهم، وكان من سَلاطينِ خِلافَتِه صاحِبُ خُراسان سنجر بن ملكشاه، والمَلِكُ نُورُ الدِّينِ صاحِبُ الشامِ، وأَبوهُ قَسيمُ الدَّولةِ. تُوفِّي المُقتَفِي ثانيَ رَبيعٍ الأَوَّل، بِعِلَّةِ التَّراقِي؛ وكانت خِلافَتُه أَربعًا وعِشرينَ سَنَةً وثلاثةَ أَشهُر وسِتَّةَ عشرَ يومًا، ووَافقَ أَباهُ المُستَظهِر بالله في عِلَّةِ التَّراقِي وماتَا جَميعًا في نَفسِ الشَّهرِ، ثم بُويِعَ المُستنجِدُ بالله ابنُه واسمُه يُوسفُ، وكان للمُقتَفِي حَظِيَّةٌ، وهي أُمُّ وَلَدِه أبي عليٍّ، فلمَّا اشتَدَّ مَرضُ المُقتَفِي وأَيِسَت منه أَرسَلَت إلى جَماعَةٍ من الأُمراءِ وبَذَلَت لهم الإِقطاعاتِ الكَثيرةَ والأَموالَ الجَزيلةَ لِيُساعِدوها على أن يكون وَلَدُها الأَميرُ أبو عليٍّ خَليفةً. قالوا: كيف الحِيلَةُ مع وَلِيِّ العَهدِ؟ فقالت: إذا دَخَلَ على والِدِه قَبَضتُ عليه. وكان يَدخُل على أَبيهِ كلَّ يَومٍ. فقالوا: لا بُدَّ لنا مِن أَحَدٍ مِن أَربابِ الدَّولةِ؛ فوَقَعَ اختِيارُهم على أبي المعالي ابن الكيا الهراسي، فدَعوهُ إلى ذلك، فأَجابَهم على أن يكونَ وَزيرًا، فبَذَلوا له ما طَلَبَ، فلمَّا استَقَرَّت القاعِدةُ بينهم وعَلِمَت أُمُّ أبي عليٍّ أَحضَرَت عِدَّةً من الجَواري وأَعطَتهُنَّ السَّكاكِينَ، وأَمَرَتهُنَّ بقَتلِ وَلِيِّ العَهدِ المُستَنجِد بالله. وكان له خَصِيٌّ صَغيرٌ يُرسِلُه كلَّ وَقتٍ يَتَعَرَّف أَخبارَ والِدِه، فرأى الجَوارِي بأَيدِيهِنَّ السَّكاكِينُ، ورَأى بِيَدِ أبي عليٍّ وأُمِّهِ سَيْفَينِ، فعادَ إلى المُستَنجِد فأَخبَرَهُ، وأَرسَلَت هي إلى المُستَنجِد تَقولُ له إن والِدَهُ قد حَضَرَهُ المَوتُ لِيَحضُر ويُشاهِدَه، فاستَدعَى أُستاذَ الدارِ عَضُدَ الدِّينِ وأَخَذَهُ معه وجَماعَةً من الفَرَّاشِين، ودَخَلَ الدارَ وقد لَبِسَ الدِّرْعَ وأَخَذَ بِيَدِه السَّيفَ، فلمَّا دَخلَ ثارَت به الجَوارِي، فضَرَب واحِدةً منهن فجَرَحَها، وكذلك أُخرَى، فصاحَ ودَخلَ أُستاذُ الدارِ ومعه الفَرَّاشون، فهَرَبَ الجَوارِي وأَخَذَ أَخاهُ أبا عليٍّ وأُمَّهُ فسَجَنهُما، وأَخذَ الجَوارِي فقَتَلَ منهن، وغَرَّقَ منهن، ودَفَعَ الله عنه، فلمَّا تُوفِّي المُقتَفِي جَلسَ المُستَنجِد للبَيْعَةِ، فبَايَعَهُ أَهلُه وأَقارِبُه، وأَوَّلُهم عَمُّهُ أبو طالِبٍ، ثم أَخوهُ أبو جَعفرِ بن المُقتَفِي، وكان أَكبرَ من المستنجد، ثم بايعه الوزير بن هبيرة، وقاضي القضاة، وأرباب الدولة والعلماء، وخطب له يوم الجمعة، ونُثرت الدراهمُ والدنانيرُ.
هو الخليفة الصالحُ أميرُ المؤمنين أبو إسحاق، وقيل أبو عبدالله محمَّد بن هارون الثاني الواثق بالله بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد, وأمُّه أم ولدٍ اسمُها قرب, ولدَ في خلافة جدِّه الواثق سنة 219ه, وبويع بالخلافةِ في رجب سنة 255ه، وما قَبِلَ بيعةَ أحد حتى بايعه المعتز بالله، بعد أن أقرَّ بتنازله عن الخلافة له، وأشهَدَ على نفسِه بعجزه عن تولِّي مهامِّها. كان المهتدي أسمرَ رقيقًا، مليح الوجه، حسَنَ اللِّحية, مِن أحسنِ الخُلَفاء مذهبًا وأجودِهم طريقةً وأكثَرِهم ورَعًا وعبادةً وزَهادةً, وكان عادلًا، قويًّا في أمر الله، شُجاعًا، صوَّامًا قوَّامًا، لم تُعرَف له زلَّةٌ, وكان سهلَ الحِجاب كريمَ الطَّبع يخاطِبُ أصحابَ الحوائجِ بنفسِه ويجلِسُ للمظالم بنفسه, وكان يلبَسُ القميصَ الصُّوفَ الخَشِن تحت ثيابِه على جلدِه, وكان يقول: لو لم يكُن الزهد في الدنيا والإيثارُ لِما عند الله مِن طبعي لتكلَّفتُه وتصنَّعتُه؛ فإنَّ منصبي يقتضيه، فإنِّي خليفةُ الله في أرضِه والقائِمُ مقامَ رَسولِه، النائِبُ عنه في أمته، وكان له سفطٌ فيه جبَّة صوف وكساء كان يلبَسُه بالليل ويصلِّي فيه, وكان قد اطَّرَح الملاهيَ، واعتزل الغِناءَ، ومنع أصحابَ السلطان عن الظُّلم، وكان شديدَ الإشرافِ على أمر الدواوين ومحاسبةِ عُمَّاله. كان يحبُّ الاقتداءَ بما سلكه عمرُ بن عبد العزيز في خلافتِه من الورع والتقشُّف وكثرة العبادة وشدَّة الاحتياط، ولو عاش ووجَد ناصرًا لسار سِيرَتَه ما أمكَنَه، لَمَّا ذُكِّرَ بما حدث للإمامِ أحمد بن حنبل على يدِ أسلافه، قال: رحِمَ الله أحمدَ بن حنبل، واللهِ لو جاز لي أن أتبَرَّأ من أبي لتبَرَّأت منه. كان سفيان الثوريُّ يقول: "الخلفاء الراشدون خمسةٌ، ويعدُّ فيهم عمر بن عبد العزيز, ثمَّ أجمع الناسُ في أيام المهتدي مِن فَقيهٍ ومُقرئ وزاهد وصاحِبِ حديثٍ أن السادِسَ هو المهتدي باللَّه". وكان من عَزْمِه أن يُبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاءَ وأذلوهم، وانتهكوا منصِبَ الخلافة. فلما أراد أن يخالِفَ بين كلمة الأتراك ليُضعِفَ تسلُّطَهم على الخلافة، كتب إلى بايكباك أن يتسَلَّم الجيشَ من موسى بن بغا ويكون هو الأميرَ على الناس وأن يُقبِلَ بهم إلى سامرَّا، فلما وصل الكتاب بايكباك أقرأه موسى بن بغا فاشتَدَّ غَضَبُه على المهتدي واتَّفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرَّا، وتركا ما كانا فيه، فلمَّا بلغ المهتدي ذلك ركب في جيش ٍكثيفٍ واتَّجه لملاقاتِهما, فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريقِ خُراسان وأظهر بايكباك السمعَ والطاعة, فأمر المهتدي عند ذلك بضَربِ عُنُق بايكباك، ثم ألقى رأسَه إلى الأتراك، فلما رأوا ذلك أعظَموه وأصبحوا من الغدِ مجتمعين على أخي بايكباك ظغوتيا فخرج إليهم الخليفةُ فيمن معه، فلما التقوا تمالأ الأتراكُ الذين مع الخليفة إلى أصحابِهم وصاروا إلبًا واحدًا على الخليفة، فحمل الخليفةُ عليهم فقتل منهم نحوًا من أربعة آلاف، ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة فعاجله أحمد بن خاقان فرماه بسهمٍ في خاصرتِه، ثم حُمل على دابةٍ وخَلْفَه سائسٌ وعليه قميصٌ وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونَه ويبزقون في وجهِه، وسلَّموه إلى رجلٍ، فلم يزل يجأُ خصيتيه ويطأُهما حتى مات- رحمه الله- وكانت خلافتُه أقلَّ مِن سنة بخمسة أيام، وصلَّى عليه جعفر بن عبد الواحد، ودُفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل رحِمَه الله.
حُنينُ: وادٍ إلى جَنبِ ذي المَجازِ، قريبٌ مِنَ الطَّائفِ، وبينه وبين مكَّةَ بضعةَ عشرَ مِيلًا مِن جِهَةِ الشرائع والسيل الكبير، وقِيلَ سُمِّيَ بِحُنَيْنٍ؛ نِسبَةً إلى رَجلٍ يُدعَى: حُنينَ بنَ قابِثَةَ بنِ مَهْلائِيلَ.
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أقامَ بمكَّةَ 19 يومًا، حتَّى جاءَتْ هَوازِنُ وثَقيفٌ فنزلوا بحُنينٍ يُريدون قِتالَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمَعوا قبلَ ذلك حين سَمِعوا بمَخرجِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ المدينةِ، وهُم يَظنُّون أنَّه إنَّما يُريدُهم، فلمَّا أَتاهُم أنَّه قد نزَل مكَّةَ، أخَذوا في الاسْتِعدادِ لِمُواجهَتِه، وقد أَرادوها مَوقِعَةً حاسِمةً، فحَشدوا الأموالَ والنِّساءَ والأَبناءَ حتَّى لا يَفِرَّ أَحدُهم ويَترك أهلَهُ ومالَهُ، وكان يَقودُهم مالكُ بنُ عَوفٍ النَّضْريُّ، واسْتنفَروا معهم غَطَفانَ وغيرَها. فاسْتعَدَّ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم لِمُواجَهتِهم، فاسْتَعارَ مِن يَعْلى بنِ أُميَّةَ ثلاثين بَعيرًا وثلاثين دِرْعًا، واسْتَعارَ مِن صَفوانَ بنِ أُميَّةَ مائةَ دِرْعٍ، واسْتعمَل عَتَّابَ بنَ أَسِيدِ بنِ أبي العاصِ أَميرًا على مكَّةَ، وقد ثبَت في الصَّحيحين أنَّ الطُّلقاءَ قد خرَجوا معه إلى حُنينٍ. واسْتقبَل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بجَيشِه وادِيَ حُنينٍ في عَمايَةِ الصُّبْحِ، وانْحَدروا فيه، وعند دُخولِهم إلى الوادي حَملوا على هَوازِنَ فانْكشَفوا، فأَكَبَّ المسلمون على ما تَركوهُ مِن غَنائِمَ، وبينما هُم على هذه الحالِ اسْتقبَلَتْهُم هَوازِنُ وأَمطَرتْهُم بِوابِلٍ مِنَ السِّهامِ، ولم يكنْ المسلمون يَتوقَّعون هذا فضاقَتْ عليهم الأَرضُ بما رَحُبَتْ، فوَلَّوْا مُدْبِرين لا يَلْوِي أحدٌ على أحدٍ، وانْحازَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم ذاتَ اليَمينِ وهو يقولُ: (أين النَّاسُ؟ هَلُمُّوا إليَّ، أنا رسولُ الله، أنا رسولُ الله، أنا محمَّدُ بنُ عبدِ الله). وأمَر الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عَمَّهُ العبَّاسَ -وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوتِ- أن يُنادِيَ النَّاسَ بالثَّباتِ، وخَصَّ منهم أصحابَ بَيعةِ الرِّضوانِ، فأَسرَعوا إليه، ثمَّ خَصَّ الأَنصارَ بالنِّداءِ، ثمَّ بني الحارثِ بنِ الخَزرجِ، فطاروا إليه قائِلِين: لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ. ودارت المَعركةُ قَويَّةً ضِدَّ هَوازِنَ، وقال الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عندما رأى المَعركةَ تَشْتَدُّ: (هذا حين حَمِيَ الوَطيسُ). ثمَّ أخَذ حَصَياتٍ -أو تُرابا- فرَمى به وُجوهِ الكُفَّارِ وهو يقولُ: (شاهَتِ الوُجوهُ). فما خلَق الله تعالى منهم إنسانًا إلَّا مَلأَ عَينَيْهِ تُرابًا بتلك القَبضةِ، فوَلَّوْا مُدْبِرين، والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (انْهزَموا ورَبِّ محمَّدٍ)، وفي رِوايةٍ أُخرى: (انْهزَموا ورَبِّ الكَعبةِ, انْهزَموا ورَبِّ الكَعبةِ). وقد رُوِيَ: أنَّ قَتْلى بني مالكٍ مِن ثَقيفٍ لِوَحدِها قد بلَغ 70 قَتيلًا، وقُتِلَ بأَوْطاسٍ مِن بني مالكٍ 300، وقُتِلَ خُلَقٌ كَثيرٌ مِن بني نَصرِ بنِ مُعاوِيَةَ ثمَّ مِن بني رِئابٍ، ورُوِيَ: أنَّ سَبْيَ حُنينٍ قد بلَغ 6000 مِنَ النِّساءِ والأَبناءِ. بينما قُتِلَ مِنَ المسلمين أربعةٌ.