كان أوَّلُ عمل رسميٍّ قام به جمال عبد الناصر بعد فوزِه برئاسة الجمهورية المصرية هو تأميم قناة السويس (أي نقل ملكيتها للحكومة من القطاع الخاص للعام)؛ ففي يوم 18 ذي الحجة /26 تموز 1956م وكان هذا الفعل منه ردًّا على وزير خارجية أمريكا جون فوستر دلاس في قولِه: إنَّ الاقتصاد المصري منهارٌ، ثم وضعت مصرُ يَدَها على أموال الشركة في البنك العثماني وقيمتها خمسة ملايين جنيه، وجمَّدت إنجلترا الحسابَ الجاري لمصر، وفرضت الحماية على أموال الشركة في لندن، وجمَّدَت فرنسا أرصدةَ مصر في البنوك الفرنسية، وكذلك جمَّدت أمريكا أرصدةَ مصر في بنوكها، كما رفضت فرنسا وإنجلترا دفعَ رسوم على سفُنِها التي تمرُّ في القناة وكانت من قَبلُ تدفع الرسوم للشركة القديمة في لندن وباريس.
ارتكب الرُّوسُ فظائعَ وجرائمَ في حقِّ الشعب الأفغاني المسلم، أدَّت إلى مقتل أكثَرَ من مِليون مُسلِمٍ، وتشريدِ حوالي خمسة ملايين آخرين، واستخدم الرُّوسُ أحدث ما في ترسانتِهم العسكريَّةِ من أسلحةٍ فتَّاكة ومُحرَّمة دوليًّا، غير أنها لم توفِّر لهم البقاء الآمن في أفغانستان، حيث شنَّ المجاهدون الأفغانُ حربًا شرسةً ضد الروس، أدَّت إلى استنزافٍ دائمٍ لقُوَّاتهم، وخسر الروس حوالي أكثر من (13) ألفَ قتيلٍ و(35) ألف جريحٍ في حربهم التي استمرَّت أكثر من ثماني سنواتٍ في أفغانستان حتى انسحبوا منها في 26 جمادى الآخرة 1408هـ = 15 فبراير 1988م، غير أن "نجيب الله محمد" رئيسَ الاستخبارات الأفغانية، والموالي للسوفييت، سيطَرَ على الحُكم في البلاد، وهو ما دفع المجاهدينَ إلى الاستمرار في الحرب حتى استطاعوا تقويض أركانِ حُكمِهِ، ثم قَتلِهِ عَلَنًا أمام كاميراتِ التِّلفاز.
بدأت القواتُ الصِّرْبيةُ تَعيثُ فَسادًا في البلاد طولًا وعَرضًا، وقالوا للعالم: إنَّ بلادَ البوسنةِ لن تصمُدَ سِوى أربع أو خمس ساعاتٍ، وتكون كلُّها بقبضةِ الصِّربِ، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، فزحفَت القوات الصربيَّة على سراييفو التي ظلَّت تقاوِمُ، وسقَطَت مدنُ بريدور، وبانيالوكا، وبالي، ومدن كثيرة بقبضة الصِّربِ، والمدنُ الأُخرى محاصَرة، وقطعوا أوصالَ البوسنة، وخرج رئيس البوسنة والهرسك علي عزت بيجوفيتش بالتلفاز والراديو يُعلن للشعب البوسني بدايةَ حرب العصابات، وأنه لا جيش بالبوسنة، وكل أهل شارع، أو منطقة، أو قرية يُدافِعون عن أنفسهم، حتى يستعيد المسلمون صفوفَهم، فكانت المجازِرُ الجماعيَّةُ، والاغتصابُ، والتشريدُ، والتنكيلُ، وانتشرت أخبار المذابحِ والجرائمِ الصربيَّة على الشعب المسلِم.
اقتَسَم أصحابُ الأطرافِ والرُّؤَساءُ حُكمَ بلادِ الأندلُسِ، وصاروا طوائِفَ مُتناحِرةً، فقُرطبةُ استولى عليها أبو الحَسَنِ بنُ جهور، وكان مِن وزراء الدَّولة العامريَّة، وبقِيَ كذلك إلى أن مات سنةَ خمسٍ وثلاثين وأربعِمِئَة، وقام بأمِرِ قُرطبةَ بَعدَه ابنُه أبو الوليد مُحمَّدُ بنُ جهور، وأمَّا إشبيليَّةُ فاستولى عليها قاضيها أبو القاسمِ مُحمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ عَبَّاد اللخمي. لَمَّا انقَسَمَت مملكةُ الأندلُسِ، شاع أنَّ المؤيَّدَ هشامَ بنَ الحَكَمِ الذي اختفى خبَرُه قد ظهر وسار إلى قلعةِ رباح، وأطاعه أهلُها، فاستدعاه ابنُ عَبَّاد إلى إشبيليَّة، فسار إليه وقام بنَصرِه، وأمَّا بطليوس فقام بها سابورُ الفتى العامريُّ، وتلقَّبَ سابور بالمنصورِ، ثم انتَقَلت من بعدِه إلى أبي بكر مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مَسلَمةَ، المعروفِ بابنِ الأفطس، وتلَقَّبَ بالمظَفَّر، وأصلُ ابنِ الأفطَسِ مِن بربر مِكناسة، وأمَّا طُلَيطِلةُ فقام بأمْرِها ابنُ يعيشَ، ثمَّ صارت إلى إسماعيلَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عامر بنِ ذي النون، وتلَقَّب بالظَّافِرِ بحَولِ الله، وأصلُه من البربَرِ، ثمَّ ملَكَ بعدَه ولَدُه يحيى بنُ إسماعيلَ، ثُمَّ أخَذَت الفِرنجُ منه طُلَيطِلةَ في سنة 477، وصار هو ببلنسيَّة، وأقام هو بها إلى أن قتَلَه القاضي ابنُ جحاف الأحنف. وأمَّا سَرقَسطة والثَّغرُ الأعلى، فصارت في يدِ مُنذِرِ بنِ يحيى، ثمَّ صارت سَرقَسطة وما معها بعدَه لوَلَدِه يحيى بنِ مُنذِر بن يحيى، ثم صارت لسُليمانَ بنِ أحمَدَ بنِ مُحمَّد بن هود الجذاميِّ، وتلقَّبَ بالمُستعين بالله، وأمَّا طرطوشة فوَلِيَها لَبيبُ بنُ الفتى العامريِّ. وأمَّا بلنسيَّة فكان بها المنصورُ أبو الحَسَنِ عبدُ العزيز المغافري، ثم انضاف إليه المريةُ، ثمَّ مَلكَ بعدَه ابنُه مُحمَّدُ بنُ عبدِ العزيز، ثم غَدَرَ به صِهرُه المأمونُ بنُ ذي النُّون، وأخَذَ المُلكَ مِن محمَّدِ بنِ عبدِ العزيز في سنة 457. وأمَّا السَّهلةُ فمَلَكَها عَبُّود بنُ رزين، وأصلُه بربري. وأمَّا دانية والجزائرُ فكانت بيَدِ المُوفَّقِ بنِ أبي الحُسَينِ مُجاهِد العامريِّ. وأمَّا مرسيَّةُ فوَلِيَها بنو طاهرٍ، واستقامت لأبي عبدِ الرَّحمنِ منهم، إلى أن أخَذَها منه المُعتَمِدُ بنُ عباد. ثمَّ عصى بها نائبُها عليه، ثمَّ صارت للمُلَثَّمين. وأمَّا المرية فمَلَكَها خيران العامريُّ، ثم ملك المريةَ بعدَه زُهَيرٌ العامريُّ، واتسَعَ مُلكُه إلى شاطبة، ثمَّ قُتِلَ وصارت مملكَتُه إلى المنصورِ عبدِ العزيز بن عبد الرَّحمنِ المنصورِ بنِ أبي عامر، ثمَّ انتقَلَت حتى صارت للمُلَثَّمينَ, وأمَّا غِرناطةُ فمَلَكَها حبوسُ بنُ ماكس الصِّنهاجيُّ, وأمَّا مالقة فمَلَكَها بنو عليِّ بنِ حَمُّود العَلَويُّ، فلم تَزَلْ في مَملكةِ العَلَويِّينَ يُخطَبُ لهم فيها بالخِلافةِ، إلى أن أخَذَها منهم باديسُ بنُ حبوس صاحِبُ غرناطة. فهذه صورةُ تَفَرُّقِ ممالكِ الأندلُسِ، بعد ما كانت مُجتَمِعةً لخُلَفاءِ بني أمَيَّةَ.
لمَّا افْتَتَح سعدُ بن أبي وَقَّاص المدائنَ بَلغَه أنَّ أهلَ المَوْصِل قد اجْتَمعوا بِتَكْريت على رَجُلٍ يُقال له: الأنطاق, فكتَب إلى عُمَر بن الخطَّاب بأَمْرِ جَلُولاء، واجْتِماع الفُرْسِ بها, وبأَمْرِ أهلِ المَوْصِل, فكتَب عُمَر في قَضِيَّةِ أهلِ المَوْصِل أن يُعَيِّنَ جيشًا لِحَرْبِهم, ويُؤَمِّرَ عليه عبدَ الله بن المُعْتَمِّ, ففَصَلَ عبدُ الله بن المُعْتَمِّ في خمسةِ آلافٍ مِن المدائنِ, فسار في أربعٍ حتَّى نزَل بِتَكْريت على الأنطاقِ، وقد اجْتَمع إليه جماعةٌ مِن الرُّومِ, ومِن نَصارى العَربِ, مِن إيادٍ, وتَغْلِبَ, والنَّمِرِ, وقد أَحْدَقوا بِتَكْريت, فحاصَرهُم عبدُ الله بن المُعْتَمِّ أربعين يومًا, وزاحَفوهُ في هذه المُدَّةِ أربعةً وعشرين مَرَّةً, ما مِن مَرَّةٍ إلَّا ويَنْتَصِرُ عليهم, وراسَل عبدُ الله بن المُعْتَمِّ مَن هنالك مِن الأَعرابِ, فدَعاهُم إلى الدُّخولِ معه في النُّصْرَةِ, وفَلَّ جُموعَهم, فضَعُفَ جانِبُهُم, وعزَمَت الرُّومُ على الذِّهابِ في السُّفُنِ بأَموالِهم إلى أهلِ البلدِ, فجاءت القُصَّادُ إليه عنهم بالإجابةِ إلى ذلك, فأرسَل إليهم: إن كنتم صادِقين فيما قُلتُم فاشْهَدوا أنَّ لا إلهَ إلَّا الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله, وأَقِرُّوا بما جاء مِن عند الله. فرجعت القُصَّادُ إليه بأَنَّهم قد أسلموا, فبعَث إليهم: إن كنتم صادِقين، فإذا كَبَّرْنا وحَمَلْنا على البلدِ اللَّيلةَ فأَمْسِكوا علينا أبوابَ السُّفُنِ, وامْنَعوهُم أن يَركَبوا فيها, واقْتُلوا منهم مَن قَدَرْتُم على قَتلِه, ثمَّ شَدَّ عبدُ الله وأصحابُه, وكَبَّروا تَكبيرةَ رَجُلٍ واحدٍ, وحَمَلوا على البلدِ, فكَبَّرت الأعرابُ مِن النَّاحيةِ الأُخرى, فَحَارَ أهلُ البلدِ, وأخذوا في الخُروجِ مِن الأبوابِ التي تَلِي دِجْلَة, فتَلَقَّتْهُم إيادٌ والنَّمِرُ وتَغْلِبُ, فقَتَلوهُم قتلًا ذَريعًا, وجاء عبدُ الله بن المُعْتَمِّ بأصحابِه مِن الأبوابِ الأُخَرِ, فقتَل جميعَ أهلِ البلدِ عن بَكْرَةِ أَبيهِم ولم يُسْلِم إلَّا مَن أَسلَم مِن الأعرابِ مِن إيادٍ وتَغْلِبَ والنَّمِرِ, وقد كان عُمَرُ عَهِدَ في كِتابِه إذا نُصِروا على تَكْريت أن يَبعَثوا رِبْعِيَّ بن الأفْكَلِ إلى الحِصْنَيْنِ، وهي المَوْصِل سريعًا, فسار إليها كما أَمَرَ عُمَرُ، ومعه سَرِيَّةٌ كثيرةٌ وجماعةٌ مِن الأبطالِ, فسار إليها حتَّى فاجَأَها قبلَ وُصولِ الأخبارِ إليها, فأجابوا إلى الصُّلْحِ, فضُرِبَت عليهم الذِّمَّةُ عن يَدٍ وهُم صاغِرون, ثمَّ قُسِّمَت الأموالُ التي تَحَصَّلت مِن تَكْريت, فبلَغ سَهمُ الفارسِ ثلاثةَ آلافٍ، وسَهمُ الرَّاجِل ألفَ دِرهَم، وبَعَثوا بالأخماسِ مع فُراتِ بن حَيَّانَ, وبالفَتحِ مع الحارِث بن حَسَّانَ, ووَلِيَ إِمْرَةَ حَربِ المَوْصِل رِبْعِيُّ بن الأَفْكَل ووَلِيَ الخَراجَ بها عَرْفَجَةُ بن هَرْثَمَةَ.
في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فمَلَكَها ومعه العساكر النورية، وسَبَبُ ذلك تمكُّن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنةً وتسَلَّموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعةً من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكَموا المسلمين حكمًا جائرًا، ورَكِبوهم بالأذى العظيم، فعَمِلوا أيضًا على تجهيز الجيوش لتمَلُّك مصر كلها، وشرعوا يتجهَّزون ويُظهِرون أنَّهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين محمود بهم شرع يجمَعُ عساكِرَه، وأمَرَهم بالقدوم عليه، وجَدَّ الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها، ونازلوا مدينة بلبيس، ومَلَكوها قهرًا مستهَلَّ صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسَبَوا، وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعَدوهم النصرة، فقَوِيَ جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا على القاهرة عاشِرَ صَفَر وحصروها، فخاف الناسُ منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحمَلَهم الخوف منهم على الامتناعِ، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونَه وبذلوا جُهدَهم في حفظه، وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلَها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن يُنهَب البلد، فانتقلوا، وبقُوا على الطرق، ونُهِبَت المدينة وافتقرَ أهلُها، وذهبت أموالُهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفًا أن يملِكَها الفرنج، فبَقِيَت النار تحرقها أربعة وخمسين يومًا، وأرسل حاكمُ مصر العاضد العبيدي إلى نور الدين يستغيثُ به، ويُعَرِّفُه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، فشرع في تسيير الجيوش، وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضَيَّقوا على أهلها، وشاوِر هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضَعُف عن ردهم، فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يَذكُرُ له مودته ومحبته القديمة له، وأنَّ هواه معه؛ لخوفه من نور الدين والعاضد، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يُعَجَّل البعض، ويُمهَل البعض فاستقرت القاعدةُ على ذلك، وجعل شاوِر يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصَّل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وهم في خلالِ هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكونَ أسدُ الدين مقيمًا عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضًا خارجًا عن الثُّلث الذي لهم، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدًّا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصرَ رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادِهم بخُفَّي حُنَين خائبين مما أمَّلوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضَربِ البشائر في البلاد، وبَثَّ رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحًا جديدًا لمصر، وحفظًا لسائر بلاد الشام وغيرها، فأمَّا أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامِه بالعاضدية، وفرح به أهلُ مصر، وأُجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة.
هو الإمامُ العَلَّامة الحافِظُ الأوحَدُ، شَيخُ الإسلامِ القاضي أبو الفَضلِ عِياضُ بنُ موسى بنِ عِياضِ بنِ عَمرِو بنِ موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عِياض اليحصبي الأندلسي، ثمَّ السبتي، المالكيُّ، قاضي سبتة. أحدُ مشايخ العُلَماءِ المالكيَّة، أصلُه من الأندلُسِ انتَقَلَ جَدُّه عَمرٌو مِن الأندلُسِ إلى مدينة فاس، ثمَّ مِن فاس إلى سبتة, ووُلِدَ القاضي عياض بسبتة في النِّصفِ مِن شعبان سنة 476, لم يَحمِل القاضي العِلمَ في الحداثة، وأوَّلُ شَيءٍ أخذه عن الحافِظِ أبي علي الغساني إجازةً مُجَرَّدة، وكان يُمكِنُه السَّماعُ منه. بدأ بطلب العلمِ في الثانية والعشرين مِن عُمُرِه, ثمَّ رحل إلى الأندلس سنة 503، فاستبحَرَ مِن العُلومِ، وجمَعَ وألَّف، وسارت بتصانيفِه الرُّكبانُ، واشتُهِرَ اسمُه في الآفاقِ، حتى أصبح إمامَ وَقتِه في الحديثِ وعُلومِه، والفِقهِ واللُّغةِ والأدَبِ، وأيَّامِ الناس، وله مُصَنَّفات كثيرةٌ مُفيدةٌ شاهِدةٌ على إمامتِه، منها: الشَّفا بتعريف حقوق المصطفى، وشَرحُ مُسلِم، ومشارِقُ الأنوار، وشَرحُ حديث أم زرع، وغير ذلك، وله شِعرٌ حَسَنٌ. قال خلف بن بشكوال تلميذُه: "هو مِن أهلِ العِلمِ والتفَنُّنِ والذَّكاءِ والفَهمِ، استُقضِيَ بسبتةَ مُدَّةً طويلةً، حُمِدَت سِيرتُه فيها، ثمَّ نُقِلَ عنها إلى قضاءِ غِرناطة سنة 532، فلم يُطَوِّلْ بها، وقَدِمَ علينا قُرطُبةَ، فأخَذْنا عنه". قال الفقيهُ محمد بن حماده السبتي: "جلس القاضي للمُناظرة وله نحوٌ مِن ثمان وعشرين سنة، ووَلِيَ القضاءَ وله خمس وثلاثون سنة، كان هيِّنًا مِن غَيرِ ضَعفٍ، صُلبًا في الحَقِّ، تفَقَّه على أبي عبدِ الله التميمي، وصَحِبَ أبا إسحاق بن جعفر الفقيه، ولم يكُنْ أحَدٌ بسبتة في عَصرِه أكثَرَ تواليفَ مِن تواليفِه" ذكره الذهبي بقوله: "تواليفُه نَفيسةٌ، وأجَلُّها وأشرَفُها كِتابُ (الشَّفا) لولا ما قد حشاه بالأحاديثِ المُفتَعَلةِ عَمَلَ إمامٍ لا نَقْدَ له في فَنِّ الحديثِ ولا ذَوْقَ، واللهُ يُثيبُه على حُسنِ قَصْدِه، وينفَعُ بـ (شِفائِه) وقد فَعَل، وكذا فيه من التأويلاتِ البَعيدةِ ألوانًا، ونبيُّنا صَلَواتُ الله عليه وسلامُه غَنِيٌّ بمِدحةِ التَّنزيلِ عن الأحاديثِ، وبما تواتَرَ مِن الأخبارِ عن الآحادِ، وبالآحادِ النَّظيفةِ الأسانيدِ عن الواهياتِ، فلماذا يا قومِ نتشَبَّعُ بالموضوعاتِ؟ فيتطَرَّق إلينا مقالُ ذَوي الغِلِّ والحَسَدِ، ولكِنْ مَن لا يعلَمُ مَعذورٌ، فعليك يا أخي بكتاب (دلائل النبوة) للبَيهقيِّ؛ فإنَّه شِفاءٌ لِما في الصُّدور، وهُدًى ونُور" مات بمراكش يومَ الجُمُعةِ في جمادى الآخرةِ، وقيل في رمضانَ، بمدينة سبتة, ودُفِنَ بباب إيلان داخِلَ المَدينةِ.
هو المُعِزُّ لدين الله أبو تميمٍ مُعدُّ بن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي أبي محمد عبيد الله، العُبَيديُّ المهدويُّ صاحِبُ المغرب. بُنِيَت له القاهرة, وكان وليَّ عَهدِ أبيه. ولي سنة 341، وسار في نواحي إفريقيَّةَ يمَهِّدُ مُلكَه، فذَلَّل الخارجين عليه، واستعمل مماليكَه على المدُنِ، واستخدم الجُندَ، وأنفق الأموالَ، وجهَّز مملوكَه جوهرًا القائِدَ في الجيوشِ. فسار فافتتح سجلماسة، وسار إلى أن وصل البحرَ الأعظمَ، فلمَّا مات كافور بَعَث المعِزُّ جَيشَه لِمِصر بقيادةِ جَوهر, فأخذها له ثمَّ انتقل لها المعِزُّ ودخلها سنة 362. قال الذهبي: " كان المعِزُّ عاقِلًا لبيبًا حازمًا، ذا أدبٍ وعِلمٍ ومعرفةٍ وجَلالةٍ وكَرَمٍ، يرجِعُ في الجملةِ إلى عَدلٍ وإنصافٍ، ولولا بِدعتُه ورَفضُه، لكان من خيارِ المُلوكِ ". كان موتُه سابع عشر من شهر ربيع الآخر، وكان سبب موته الحُمَّى؛ لشدَّة ما وجد من كلامٍ على مُلكِه ومملكتِه، واتَّصَل مرضُه حتى مات، وكانت ولايتُه ثلاثًا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، منها مُقامُه بمصر سنتان وتسعة أشهر، والباقي بإفريقيَّة، وهو أوَّلُ حُكَّام العُبَيديِّين مَلَك مصر، وخرج إليها، وكان مُغرمًا بالنجوم، ويعمل بأقوالِ المنجِّمينَ، قال له منجِّمُه: إنَّ عليه قطعًا في وقتِ كذا، وأشار عليه بعمَلِ سردابٍ يختفي فيه إلى أن يجوزَ ذلك الوقت، ففعل ما أمَرَه وأحضر قوَّادَه، فقال لهم: إنَّ بيني وبين الله عهدًا أنا ماضٍ إليه، وقد استخلفتُ عليكم ابني نزارًا، يعني العزيز، فاسَمَعوا له وأطيعوا، ونزَل السردابَ، فغاب سنةً ثم ظهر، وبقِيَ مدَّةً، ومرِضَ وتوفِّيَ، فستَرَ ابنُه العزيز موتَه إلى عيد النَّحرِ مِن السنة، فصلى بالنَّاسِ وخَطَبَهم، ودعا لنفسِه، وعزَّى بأبيه، ولَمَّا استقَرَّ العزيزُ في الملك أطاعه العسكرُ، فاجتمعوا عليه، وكان هو يدبِّرُ الأمورَ منذ مات أبوه إلى أن أظهَرَه، ثم سيَّرَ إلى الغرب دنانيرَ عليها اسمُه، فُرِّقَت في النَّاسِ.
هو الملِكُ الظاهر سيف الدين أبو الفتح ططر بن عبد الله الظاهري الشركسي, ربَّاه بعض التجار، وعلَّمه شيئًا من القرآن وفِقهَ الحنفية، وقَدِمَ به القاهرة في سنة 801، وهو صبيٌّ، فدل عليه الأمير قانبيه العلاي لقرابته به، فسأل السلطان الملك الظاهر برقوق فيه حتى أخذه من تاجره، ونزله في جملة مماليك الطباق، فنشأ بينهم، وكان الملك الظاهر برقوق أعتقه بسفارة الأمير جرباش الشيخي. بعد وفاة الملك المؤيد شيخ بويعَ ابنُه الملك المظفر أحمد، وقام الأمير الكبير ططر بأعباء الدولة، وخلع عليه لالا -مربي- للسلطان وكافله. ثم عزل ططر المظفر أحمد؛ لصِغَر سنِّه، وأخذ البيعة بالسلطنة لنفسه, وفي أول ذي الحجة يوم الخميس زاد مرض السلطان الظاهر ططر، والإرجاف بمرضه كبير، ثم في يوم الجمعة استدعى الخليفة والقضاة إلى القلعة، وقد اجتمع الأمراء والمباشرون والمماليك، وعهد السلطان لابنه الأمير محمد، وأن يكون القائم بدولته الأمير جانبك الصوفي، والأمير برسباي الدقماقي لالا -مربي السلطان- فحلف الأمراء على ذلك، كما حلفوا لابن الملك المؤيد، فلما كانت ضحوة نهار الأحد رابعَه توفي السلطان، فاضطرب الناس ساعة، ثم غُسِّل وأخرج من باب السلسلة، وليس معه إلا نحو العشرين رجلًا، حتى دُفن بجوار الليث بن سعد من القرافة، فكانت مدة تحكمه منذ مات المؤيد أحد عشر شهرًا تنقص خمسة أيام، منها مدة سلطنته أربعة وتسعين يومًا، أما السلطان الجديد فهو محمد بن الظاهر ططر أقيم في السلطنة بعهد أبيه إليه، وعمره نحو العشر سنين، عقيب موت أبيه، وفي يوم الأحد رابع ذي الحجة من هذه السنة اجتمع الأمراء بالقلعة إلا الأمير جانبك الصوفي فإنه لم يحضر، فما زالوا به حتى حضر، وأجلسوا السلطان، ولقَّبوه بالملك الصالح ناصر الدين، وفوَّض الخليفة إلى الأمير الكبير نظام الملك برسباي أمورَ المملكة بأسرها؛ ليقوم بها إلى أن يبلغ السلطان رُشدَه، وحكم بصحة ذلك قاضي القضاة الحنفي.
كانت الحَربُ بين عَسكَرِ عبدِ المُؤمِنِ والعَرَبِ عند مدينة سطيف، وسَبَبُ ذلك أنَّ العَرَبَ- وهم بنو هلالٍ، والأبتح، وعدي، ورياح، وزغب، وغيرهم من العرب- لَمَّا مَلَك عبدُ المؤمِنِ بلادَ بني حَمَّاد اجتَمَعوا من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب، وقالوا: إنْ جاوَرَنا عبدُ المؤمِنِ أجلانا من المَغرِبِ، وليس الرأيُ إلَّا إلقاءَ الجِدِّ معه، وإخراجَه من البلاد قبل أن يتمَكَّنَ، وتحالَفوا على التعاوُنِ والتَّضافُرِ، وألَّا يَخونَ بَعضُهم بعضًا، وعَزَموا على لقائِه بالرِّجالِ والأهلِ والمالِ؛ ليُقاتِلوا قِتالَ الحريم، واتَّصَل الخبَرُ بالملك رجار الفرنجي، صاحِبِ صقَليَّة، فأرسل إلى أمراءِ العَرَبِ، وهم محرز بن زياد، وجبارة بن كامل، وحسن بن ثعلب، وعيسى بن حسن وغيرهم يَحُثُّهم على لقاءِ عبدِ المؤمنِ ويَعرِضُ عليهم أن يُرسِلَ إليهم خمسةَ آلاف فارس من الفِرنجِ يُقاتِلونَ معهم على شَرطِ أن يُرسِلوا إليه الرَّهائِنَ، فشَكَروه وقالوا: ما بنا حاجةٌ إلى نَجدَتِه ولا نَستَعينُ بغير المُسلِمينَ، وساروا في عددٍ لا يحصى، وكان عبدُ المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلادِ المغرب، فلَمَّا بلغه خبَرُهم جَهَّزَ جَيشًا من الموحِّدينَ يزيدُ على ثلاثين ألفَ فارس، واستعمل عليهم عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ الهنتاني، وسعدَ اللهِ بنَ يحيى، وكان العَرَبُ أضعافَهم، فاستجَرَّهم الموحِّدونَ وتَبِعَهم العَرَبُ إلى أن وصلوا إلى أرض سطيف بين جبال، فحَمَلَ عليهم جَيشُ عبد المؤمن فجأةً والعَرَبُ على غيرِ أُهبةٍ، والتقى الجَمعانِ، واقتتلوا أشَدَّ قتالٍ وأعظَمَه، فانجَلَتِ المعركةُ عن انهزامِ العَرَبِ ونُصرةِ المُوحِّدينَ، وتَرَك العَرَبُ جميعَ ما لهم من أهلٍ ومالٍ وأثاثٍ ونَعَمٍ، فأخذ الموحِّدونَ جميعَ ذلك، وعاد الجيشُ إلى عبدِ المُؤمِنِ بجَميعِه، فقَسَّمَ جميعَ الأموالِ على عَسكَرِه، وتَرَك النِّساءَ والأولادَ تحت الاحتياط، وكَّلَ بهم من الخَدَمِ الخِصيانِ مَن يَخدُمهم ويقومُ بحَوائِجِهم، وأمَرَ بصِيانتِهم، فلمَّا وصلوا معه إلى مراكش أنزَلَهم في المساكنِ الفَسيحةِ، وأجرى لهم النَّفَقاتِ الواسِعةَ، وأمَرَ عبدُ المؤمِنِ ابنَه مُحمَّدًا أن يكاتِبَ أُمَراءَ العَرَبِ ويُعلِمُهم أنَّ نِساءهم تحت الحِفظِ والصِّيانة، وأمَرَهم أن يَحضُروا ليُسَلِّمَ إليهم أبوه ذلك جَميعَه، وأنَّه قد بذل لهم الأمانَ والكَرامةَ، فلمَّا وَصَلَ كِتابُ مُحَمَّدٍ إلى العَرَبِ سارعوا إلى المسيرِ إلى مراكش، فلمَّا وصلوا إليها أعطاهم عبدُ المؤمِنِ نِساءَهم وأولادَهم، وأحسن إليهم وأعطاهم أموالًا جزيلةً، فاستَرَقَّ قُلوبَهم بذلك، وأقاموا عنده، وكان بهم حَفِيًّا، واستعان بهم على ولايةِ ابنِه مُحمَّدٍ للعَهدِ.
هو الإمامُ العلَّامة المحدِّث، الحافظ الكبيرُ المفتي شيخ الإسلام، شرف المعمرين، أبو طاهرٍ أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الأصبهاني، الجرواني السِّلَفي بكسر السين وفتح اللام. يلقب جَدُّه أحمد سِلفة- أي أشرم الشفة- وأصله بالفارسية سِّلبة، وكثيرًا ما يمزجون الباء بالفاء فسَمَّته الأعاجم لذلك السِّلَفي، والسَّلَفي -بفتحتين- وهو من كان على مذهَبِ السلف، وكان يلقب بصدر الدين، وكان شافعيَّ المذهب، ولد سنة 475، أو قبلها بسنة، قال السِّلَفي: "أنا أذكُرُ قتل الوزير نظام الملك وكان عمري نحو عشر سنين، قتل سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وقد كُتِبَ عني بأصبهان أول سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وأنا ابن سبع عشرة سنة أو أكثر، أو أقل بقليل، وما في وجهي شعرة، كالبخاري- يعني لَمَّا كتبوا عنه-". ورَدَ السِّلَفي بغداد وله أقل من عشرين سنة, واشتغل بها على الكيا الهراسي، وأخذ اللغةَ عن الخطيب أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي. سمِعَ الحديث الكثير ورحل في طلبِه إلى الآفاق ثمَّ نزل ثغر الإسكندرية في سنة 511، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار وزير الظافر العبيدي مدرسةً، وفوَّضها إليه، وأما أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جدًّا، وبقي بالإسكندرية بضعًا وستين سنة, وهو ينشُرُ العلم، ويحَصِّل الكتب التي قلَّ ما اجتمع لعالمٍ مثلُها في الدنيا. ارتحل إليه خلق كثير جدًّا، ولا سيما لما زالت دولة الرَّفض العُبيدية الفاطمية عن مصر، وتملَّكَها عسكر الشام. ارتحل إلى السِّلَفي السُّلطانُ صلاح الدين وإخوته وأمراؤه، فسَمِعوا منه, وله تصانيفُ كثيرة، منها تخريج (الأربعين البلدية) التي لم يُسبَقْ إلى تخريجها، وقلَّ أن يتهيأ ذلك إلا لحافظ عُرِفَ باتساع الرحلة, وله (السفينة الأصبهانية) في جزء ضخم، و(السفينة البغدادية) في جزأين كبيرين، و(مقدمة معالم السنن)، و(الوجيز في المجاز والمجيز)، و(جزء شرط القراءة على الشيوخ)، و(مجلسان في فضل عاشوراء)، وكان يستحسن الشعر، ويَنظِمُه, وكان جيِّدَ الضبط، كثير البحث عما يُشكِلُ عليه. كان أوحد زمانه في علم الحديث، وأعرَفَهم بقوانين الرواية والتحديث، وكان عاليَ الإسناد؛ فقد روى عن الأجداد والأحفاد، وبذلك كان ينفرد عن أبناء جنسه. قال أبو سعد السمعاني: "السِّلَفي: ثقة، ورِع، متقن، متثبت، فَهِم، حافظ، له حظٌّ من العربية، كثير الحديث، حسن الفهم والبصيرة فيه". توفي في الإسكندرية عن عمر تجاوز المائة سنة.
ظهر رجلٌ بظاهر البصرة زعمَ أنَّه عليُّ بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يكنْ صادِقًا، وإنما كان أجيرًا من عبد القيس، واسمُه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأمُّه قرَّة بنت علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة، وأصلُه من قرية من قرى الريِّ، والتَفَّ عليه خلقٌ من الزنج الذين يكسحونَ السِّباخ، فعبَرَ بهم دجلةَ فنزل الديناري، وكان يزعُمُ لبعضِ من معه أنَّه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتولُ بناحية الكوفة، وكان يدَّعي أنه يحفظُ سورًا من القرآن في ساعةٍ واحدة جرى بها لسانُه لا يحفَظُها غيره في مدَّة دهرٍ طويل، وهنَّ سبحان والكهف وص وعمَّ، وزعم أنَّه فكَّر يومًا وهو في البادية إلى أيِّ بلدٍ يسير فخوطِبَ من سحابة أن يقصِدَ البصرة فقصَدَها، فلمَّا اقترب منها وجد أهلَها متفرِّقينَ على شُعبَتين، سعدية وبلالية، فطَمِعَ أن ينضَمَّ إلى إحداهما فيستعينَ بها على الأخرى فلم يقدِرْ على ذلك، فارتحل إلى بغداد فأقام بها سنةً، وانتسب بها إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعُمُ بها أنَّه يعلم ما في ضمائِرِ أصحابه، وأنَّ الله يُعلِمُه بذلك، فتَبِعَه على ذلك جهلةٌ من الطَّغامِ، وطائفةٌ من الرَّعاعِ العوامِّ, ثم عاد إلى أرض البصرة في رمضان فاجتمع معه بشَرٌ كثيرٌ، ولكِنْ لم يكُنْ معهم عُدَدٌ يُقاتِلونَ بها فأتاهم جيشٌ من ناحية البصرة فاقتَتلوا جميعًا، ولم يكنْ في جيشه هذا الخارجي سوى ثلاثة أسياف، وأولئك الجيشُ معهم عَددٌ وعُدَدٌ ولَبُوسٌ، ومع هذا هزمَ أصحابُ الزنجي ذلك الجيشَ، وكانوا أربعةَ آلاف مقاتل، ثم مضى نحو البصرةِ بمن معه فأهدى له رجلٌ من أهل جبى فرسًا فلم يجِدْ لها سرجًا ولا لجامًا، وإنما ألقى عليها حبلًا وركِبَها، ثم صادرَ رجلًا وتهدَّده بالقتل فأخذ منه مئةً وخمسين دينارا وألف درهم، وكان هذا أوَّلَ مال نهبه من هذه البلاد، وأخَذَ من آخر ثلاثةَ براذين، ومِن موضعٍ آخرَ شيئًا من الأسلحة والأمتعة، ثم سار في جيشٍ قليل السلاح والخيول، ثم جرت بينه وبين نائبِ البصرة وقعاتٍ مُتعددةً يَهزِمُهم فيها، وفي كل مرة يقوى ويعظُم أمرُه ويزداد أصحابُه ويكثُر جيشُه، وهو مع ذلك لا يتعَرَّض لأموال الناس ولا يؤذي أحدًا، وإنما يُريدُ أخْذَ أموال السلطان. وقد انهزم أصحابُه في بعض حروبه هزيمةً عظيمة ثم تراجعوا إليه واجتَمعوا حولَه، ثمَّ كَرُّوا على أهل البصرة فهزموهم وقَتلوا منهم خلقًا وأسَروا آخرين، وكان لا يؤتى بأسيرٍ إلَّا قتله ثم قوِيَ أمرُه وخافه أهلُ البصرة، وبعث الخليفةُ إليها مددًا ليقاتلوا صاحِبَ الزنج قبَّحَه الله، ثم أشار عليه بعضُ أصحابه أن يهجُم بمن معه على البصرةِ فيَدخُلوها عَنوةً فهَجَّن آراءهم وقال: بل نكونُ منها قريبًا حتى يكونوا هم الذين يطلبونَنا إليها ويخطبونَنا عليها.
أثار فَتحُ بلادِ فارِسَ وتطهيُرها من عبادةِ غيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ حِقْدًا مجوسيًّا؛ فحَرَّكوا أصابَعهم، واستطاعوا بقَدَرٍ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ أن يَصِلوا إلى خليفةِ المسلمينَ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه وقتله، بتحريكِ ذلك العِلْجِ المجوسيِّ؛ ليَقضِيَ اللهُ أمرًا كان مفعولًا، فكان قاتله أشقى الخَلقِ بما أقدَمَ عليه، وكان قَتْلُه لعُمَرَ مؤامرةً منه مع غيرِه من المجوسِ الذين جيءَ بهم أَسرى إلى المدينة، وكان هذا المجوسي واسمُه فَيْروز أبو لُؤْلُؤَةَ المَجوسيُّ غُلامًا للمُغيرةِ، بَقِيَ فيها لِعِلْمِهِ بِكثيرٍ مِن الصِّناعاتِ النَّافعةِ للمسلمين، ولكنَّه كان صاحِبَ حِقْدٍ شَديدٍ على عُمَرَ، فهو مَجوسيٌّ خَبيثٌ ظَلَّ يَتَحَيَّنُ الفُرْصَةَ للقضاءِ على عُمَرَ، فجَهَّزَ سِكِّينًا ذا حَدَّيْنِ وطَلَاهُ بالسُّمِّ، وانْتظَر عُمَرَ بن الخطَّاب في صَلاةِ الفَجْرِ، فلمَّا دخَل عُمَرُ في الصَّلاة وكَبَّرَ طَعَنَهُ أبو لُؤلؤةَ سِتَّ طَعَناتٍ في خاصِرَتِه وهرَب بين الصُّفوفِ يَطْعُنُ المُصَلِّين أَمامَهُ حتَّى قام عبدُ الرَّحمنِ بن عَوفٍ فأَلقى عليه بُرْنُسَهُ فلمَّا أَيْقَنَ الخَبيثُ أنَّه مَقبوضٌ طَعَنَ نَفْسَهُ بسِكِّينِه ومات, ومات مِن طَعَناتِه تلك ثلاثةَ عشرَ رجلًا، وأمَّا عُمَرُ فقَدَّمَ عبدَ الرَّحمن بن عَوفٍ للصَّلاةِ بالنَّاسِ، ثمَّ نظروا أَمْرَ عُمَرَ الذي احْتُمِلَ إلى بَيتِه، وجِيءَ له بالطَّبيبِ فسَقاهُ نَبيذًا فخرَج النَّبيذُ مُشْكَلًا، قال: فاسْقُوهُ لَبَنًا. قال: فخرَج اللَّبَنُ مَحْضًا، فقِيلَ له: يا أميرَ المؤمنين، اعْهَدْ. طلَب عُمَرُ مِن ابنِه عبدِ الله أن يَنظُرَ مَن قَتلَهُ؟ فقال له: قتَلَك أبو لُؤلؤةَ غُلامُ المُغيرةِ بن شُعبةَ. قال: الحمدُ لله الذي لم يَجعلْ مَنِيَّتِي بِيَدِ رجلٍ سجَد لله سَجدةً واحِدةً. ثمَّ قال لعبدِ الله، اذْهَبْ إلى عائشةَ فَسَلْها أن تَأذنَ لي أن أُدْفَنَ مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكرٍ. بَقِيَ عُمَرُ بعدَها ثلاثةَ أيَّامٍ ثمَّ تُوفِّيَ رضِي الله عنه وأَرضاهُ، وصلَّى عليه صُهيبٌ، ثمَّ دُفِنَ بجانبِ أبي بكرٍ في حُجرَةِ عائشةَ، فكان مع صاحِبَيْهِ كما كان معهُما في الدُّنيا، وهو أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّة، وكان قد بَقِيَ خَليفةً عشرَ سنواتٍ وخمسةَ أَشهُرٍ وواحدًا وعشرين يومًا، كانت حافِلةً بالفُتوحاتِ الإسلاميَّة، وبالعَدْلِ المشهورِ، فجَزاهُ الله عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
كانت حربٌ شديدة بين سنجر وابن أخيه السلطان محمود بن محمد، وكان سنجر عزم على قصد بلد الجبال والعراق وما بيد محمود ابن أخيه، ثمَّ إن السلطان محمودًا أرسل إلى عمه سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغايرك بن اليزن، ومعهما الهدايا والتحف، وبذل له النزول عن مازندران، وحمل مائتي ألف دينار كل سنة، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة، فتجهَّز ليسير إلى الري، فأشار عليه شرف الدين أنوشروان بترك القتال والحرب، فكان جوابه في ذلك: إنَّ ولد أخي صبي، وقد تحكَّم عليه وزيره والحاجب علي، فلما سمع السلطان محمود بمسير عمه نحوه، ووصول الأمير أنر في مقدمته إلى جرجان؛ تقدم إلى الأمير علي بن عمر، وضم إليه جمعًا كثيرًا من العساكر والأمراء، فالتقيا بالقرب من ساوة ثاني جمادى الأولى من السنة، واستهان عسكر محمود بعسكر عمِّه بكثرتهم وشجاعتهم، وكثرة خيلهم، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية لما رأوا لهذا العسكر من القوة والكثرة، فانهزمت ميمنة سنجر وميسرته، واختلط أصحابُه، واضطرب أمرُهم، وساروا منهزمين، فألجأت سنجر الضرورة عند تعاظم الخطب عليه، أن يقَدِّمَ الفِيَلة للحرب، وكان من بقي معه قد أشاروا عليه بالهزيمة، فقال: إما النصر أو القتل، وأما الهزيمة فلا. فلما تقدمت الفِيَلة ورآها خيل محمود تراجعت بأصحابها على أعقابها، فأشفق سنجر على السلطان محمود في تلك الحال، وقال لأصحابه: لا تُفزِعوا الصبيَّ بحملاتِ الفِيَلة، فكفُّوها عنهم! وانهزم السلطان محمود ومن معه في القلب، ولما تم النصر والظفر للسلطان سنجر أرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه إليه، ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام، فأرسل الأمير دبيس بن صدقة إلى المسترشد بالله في الخطبة للسلطان سنجر، فخُطِب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى، وقُطِعت خطبة السلطان محمود، وحمل له السلطان محمود هدية عظيمة، فقبلها ظاهرًا، ورَدَّها باطنًا، ولم تُقبَل منه سوى خمسة أفراس عربية، وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التي بيده كخراسان وغزنة وما وراء النهر، وغيرها من الولايات، بأن يُخطَب للسلطان محمود بعده، وكتب إلى بغداد مثل ذلك، وأعاد عليه جميعَ ما أخذ من البلاد سوى الري، وقصد بأخذها أن تكون له في هذه الديار لئلا يحَدِّثَ السلطان محمود نفسَه بالخروج.
لَمَّا فرَغَ الأفشينُ مِن بابك وعاد إلى سامِرَّا استَعمَلَ على أذربيجان منكجورَ- وهو من أقارِبِه- فوجد في بعض قرى بابك مالًا عظيمًا ولم يُعلِمْ به المعتَصِم، ولا الأفشين، فكتب صاحِبُ البريد إلى المعتَصِم، وكتب منكجور يُكَذِّبه، فتناظرا، فهم منكجور ليقتُلَه، فمنعه أهلُ أردبيل، فقاتَلَهم منكجور، وبلغ ذلك المعتَصِم، فأمر الأفشينَ بعزل منكجور، فوجَّه قائدًا في عسكرٍ ضَخمٍ، فلما بلغ منكجورَ الخبَرُ خلع الطاعةَ، وجمع الصعاليكَ، وخرج من أردبيل، فواقعه القائِدُ فهَزَمه، وسار منكجورُ إلى حِصنٍ من حصون أذربيجان التي كان بابك خَرَّبها، فبناه وأصلَحَه وتحَصَّن فيه، فبَقِيَ به شهرًا، ثم وثَبَ به أصحابُه، فأسلَمَه إلى قائدِ الأفشين، فقَدِمَ به إلى سامِرَّا فحبَسَه المعتصم، واتَّهَمَ الأفشينَ في أمره، وكان قدومه سنة خمس وعشرين ومائتين، وقيل: إن ذلك القائِدَ الذي أنفذ إلى منكجور كان بغا الكبيرَ، وإن منكجور خرج إليه بأمانٍ.