لمَّا فتَح أبو عُبيدةَ الجابِيَةَ مِن أعمالِ دِمشقَ وقِنَّسرينَ وحاصَر أهلَ مَسجدِ إيليا -أي بيت المَقدِس- فأَبَوْا أن يَفتَحوا له، وسَألوه أن يُرْسِلَ إلى صاحِبِه عُمَرَ لِيَقْدُمَ فيكون هو الذي يَتوَلَّى مُصالحَتَهُم، فكتَب بذلك إلى عُمَرَ فاسْتخلفَ علِيَّ بن أبي طالبٍ على المدينةِ, ثمَّ قَدِمَ للشَّامِ, وكتَب إلى أُمراءِ الأجنادِ أن يُوافُوه بالجابِيَةِ ليومٍ سَمَّاهُ لهم في المُجَرَّدَةِ، ويَستخلِفوا على أعمالِهم، وكان أوَّلَ مَن لَقِيَهُ فيها أبو عُبيدةَ, فلمَّا دخَل الجابِيَةَ قال له رجلٌ مِن اليَهودِ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك لا تَرجِع إلى بِلادِك حتَّى يفتحَ الله عليك إيلياء. فبينما عُمَر مُعسكرٌ بالجابِيَةِ فزَع النَّاسُ إلى السِّلاحِ، فقال: ما شَأنُكم؟ فقالوا: ألا ترى إلى الخيلِ والسُّيوفِ؟ فنظَر فإذا جَمْعٌ يلمعون بالسُّيوفِ. فقال عُمَرُ: مُسْتَأْمِنَةً فلا تُراعُوا، فأَمِّنُوهُم. وإذا أهلُ إيلياء، فصالَحهُم على الجِزيةِ, وعلى أن لا يَهْدِمَ كَنائِسَها، ولا يُجْلِيَ رُهْبانَها، ففَتَحوها له، وبَنَى بها مَسجِدًا، وأقام أيَّامًا ثمَّ رجَع إلى المدينةِ.
هو السُّلطانُ الكبيرُ، المَلِكُ النَّاصِرُ: صلاح الدين، أبو المظفر يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الكردي الدُوِيني، ثم التِكريتي المولد. صاحِبُ الدِّيارِ المصريَّة والبلادِ الشاميَّة والفُراتيَّة واليمنيَّة، واسطة عقدِ آل أيوب، وشُهرتُه أكبَرُ مِن أن تحتاج إلى التنبيهِ عليه. اتَّفَق أهل التاريخ على أن أباه وأهلَه من دُوِين؛ بلدةٍ في آخِرِ عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج، وأنهم أكرادٌ رَواديِّة، والرَوَاديَّة: بطن من الهَذَبانِيَّة، وهي قبيلةٌ كبيرة من الأكراد. قال ابنُ خَلِّكان: "قال لي رجلٌ فقيه عارِفٌ بما يقول، وهو من أهل دُوِين: إنَّ على باب دوين قريةً يقال لها أجدانقان، وجميع أهلها أكراد رَوَاديَّة، ومولد أيوب بن شاذي والد صلاح الدين وعمه شيركوه بها، ثم أخذ شاذي ولَدَيه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخَرَجَ بهما إلى بغداد، ومِن هناك نزلوا تكريت، ومات شاذي بها، ولقد تتبعت نِسبَتَهم كثيرًا فلم أجِدْ أحدًا ذَكَرَ بعد شاذي أبًا آخر، حتى إنِّي وقفتُ على كتب كثيرة بأوقافٍ وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم أرَ فيها سوى شيركوه بن شاذي، وأيوب بن شاذي، لا غير" ثم خَدَم أيوب وشيركوه مجاهِدَ الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنةً بالعراق- الشحنة: القَيِّم لضَبطِ أمن البلد- فلما رأى مجاهِدُ الدين في نجم الدين أيوب عقلًا ورأيًا حسنًا وحُسنَ سيرة، جعله دُزدَار تكريت، أي: حافظ القلعة، وواليها, ثم انتقل أيوب وشيركوه لخدمة عماد الدين زنكي بالموصل، فأحسن إليهما وأقطعهما إقطاعًا حسنًا وصارا من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين أيوب واليًا عليها. قال ابن خلكان: " اتفق أربابُ التواريخ أنَّ صلاح الدين وُلِدَ سنة 532 بقلعة تكريت لَمَّا كان أبوه بها، ولم يَزَل صلاح الدين تحت كَنَف أبيه حتى ترعرع, ولما مَلَك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشقَ لازم نجم الدين أيوب خِدمَتَه، وكذلك وَلَدُه صلاح الدين، وكانت مخايلُ السعادة عليه لائحةً، والنجابةُ تُقَدِّمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويُؤثِرُه، ومنه تعلَّم صلاح الدين طرائِقَ الخيرِ وفِعلَ المعروف والاجتهادِ في أمور الجهاد، حتى تجهَّزَ للمَسيرِ مع عمه شيركوه إلى الديار المِصريَّة" قال الذهبي: "سَمِعَ صلاح الدين من أبي طاهر السِّلَفي، والفقيه علي بن بنت أبي سعد، وأبي الطاهر بن عوف، والقطب النيسابوري، وحدَّث". أمَّر نورُ الدين صلاحَ الدين، وبَعَثَه في عسكره مع عَمِّه أسد الدين شيركوه، فحَكَم شيركوه على مصر، فما لَبِثَ أن توفي، فقام بعدَه صلاح الدين، ودانت له العساكِرُ، وقَهَر بني عُبَيد، ومحا دولَتَهم، واستولى على قصرِ القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس، منها الجبل الياقوت, وخلا القصرُ مِن أهله وذخائره، وأقام الدعوة العباسية. وكان خليقًا للإمارة مَهيبًا، شُجاعًا حازِمًا مجاهِدًا، كثيرَ الغزو، عاليَ الهِمَّة، كانت دولتُه نيفًا وعشرين سنة. قال ابن خلكان: " قال شيخُنا ابن شداد (في سيرة صلاح الدين): "سمعتُ صلاح الدين يوسف بن أيوب يقول: لَمَّا يَسَّرَ لي الله الديارَ المصرية عَلِمتُ أنه أراد فتح الساحِلِ؛ لأنه أوقع ذلك في نفسي, ثم قال ابن شداد: ومِن حينِ استتَبَّ له الأمر ما زال يشُنُّ الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما، وغَشِيَ الناس من سحائِبِ الإفضال والإنعام ما لم يُؤَرَّخْ من غير تلك الأيام، وهذا كلُّه وهو وزيرٌ متابِعُ القوم، لكنه يقومُ بمَذهَبِ أهل السنة، غارسًا في البلاد أهلَ الفقه والعِلمِ والتصوف والدين، والناس يُهرَعون إليه من كلِّ صَوبٍ ويَفِدون عليه من كل جانب، وهو لا يخَيِّب قاصدًا ولا يعدِمُ وافدًا ". تملك بعد نور الدين، واتَّسَعَت بلاده. ومنذ تسلطَنَ طَلَّقَ الخَمرَ واللَّذَّات، وأنشأ سورًا على القاهرة ومصر، وبعث أخاه شمس الدين في سنة ثمان وستين، فافتتح برقة، ثمَّ فتح اليمن، وسار صلاح الدين، فأخذ دمشق مِن ابن نور الدين. وفي سنة إحدى وسبعين حاصر عزاز، ووثبت عليه الباطنية، فجرحوه. وفي سنة ثلاث وسبعين كسَرَته الفرنج على الرملة، وفَرَّ في جماعة ونجا, وفي سنة خمس التقاهم وكَسَرهم, وفي سنة ستٍّ أمر ببناء قلعة الجبل, وفي سنة ثمانٍ عدى الفرات، وأخذ حران، وسروج، والرقة، والرها، وسنجار، والبيرة، وآمد، ونصيبين، وحاصَرَ الموصل، ثم تمَلَّك حلب، وعَوَّضَ صاحبها زنكي بسنجار، ثم إنه حاصر الموصل ثانيًا وثالثًا، ثم صالحه صاحبها عز الدين مسعود، ثم أخذ شهرزور والبوازيج, وفي سنة ثلاث وثمانين فتح طبرية، ونازل عسقلان، ثم كانت وقعة حطين سنة 585 بينه وبين الفرنج، وكانوا أربعين ألفًا، فحال بينهم وبين الماء على تَلٍّ، وسلموا نفوسَهم وأسر ملوكهم وأمراءَهم، وبادر فأخذ عكا وبيروت وكوكب، وسار فحاصر بيت المقدس، وجَدَّ في ذلك فأخذه بالأمان، ثم إن الفرنج قامت قيامتُهم على بيت المقدس، وأقبلوا كقطيعِ اللَّيلِ المُظلِمِ بَرًّا وبحرًا وأحاطوا بعكا ليستردُّوها وطال حصارُهم لها، وبنوا على نفوسهم خندقًا، فأحاط بهم السلطانُ، ودام الحصار لهم وعليهم نيفا وعشرين شهرًا، وجرى في غضون ذلك ملاحِمُ وحروب تَشيبُ لها النواصي، وما فكُّوا حتى أخذوها، وجَرَت لهم وللسلطان حروب وسِيَر. وعندما ضرس الفريقان، وكلَّ الحِزبان، تهادن المِلَّتان في صلح الرملة سنة 588. وكانت لصلاح الدين هِمَّة في إقامة الجهاد، وإبادة الأضدادِ ما سُمِعَ بمِثلِها لأحدٍ في دهر. قال الموفق عبد اللطيف: "أتيتُ وصلاح الدين بالقُدسِ، فرأيتُ مَلِكًا يملأ العيون روعةً، والقلوبَ مَحبَّةً، قَريبًا بعيدًا، سَهلًا مُحَبَّبًا، وأصحابه يتشَبَّهون به، يتسابقونَ إلى المعروف، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} وأوَّلَ ليلة حضرتُه وجدت مجلِسَه حافِلًا بأهلِ العلم يتذاكرون، وهو يُحسِنُ الاستماع والمشاركة، ويأخُذُ في كيفيَّة بناء الأسوار، وحَفْر الخنادق، ويأتي بكلِّ معنى بديع، وكان مهتمًّا في بناء سور بيت المقدس وحَفْرِ خَندقِه، ويتولى ذلك بنَفسِه، وينقُل الحجارةَ على عاتِقِه، ويتأسى به الخَلقُ حتى القاضي الفاضِلُ، والعمادُ إلى وقت الظهر، فيمُدُّ السماط ويستريح، ويركبُ العَصرَ، ثم يرجع في ضوء المشاعِلِ، وكان يحفَظُ (الحماسة)، ويظُنُّ أنَّ كلَّ فقيه يحفَظُها، فإذا أنشَدَ وتوقَّفَ، استطعَمَ فلا يُطعَمُ، وجرى له ذلك مع القاضي الفاضل، ولم يكُن يحفَظُها، وخرج فما زال حتى حفظها، وكتب لي صلاح الدين بثلاثين دينارًا في الشهر، وأطلق أولادُه لي رواتِبَ، وكان أبوه ذا صلاحٍ، ولم يكن صلاحُ الدين بأكبَرِ أولاده، وكان محبَّبًا إلى نور الدين يلاعِبُه بالكُرةِ". لما قَدِمَ الحجيجُ إلى دمشق في يوم الاثنين حادي عشر صفر من هذه السنة خرج السلطانُ لتَلَقِّيهم، ثم عاد إلى القلعةِ فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخِرَ ما رَكِبَ في هذه الدنيا، ثمَّ إنه اعتراه حُمَّى صفراوية ليلةَ السبت سادس عشر صفر، فلما أصبَحَ دخل عليه القاضي الفاضِلُ وابن شداد وابنُه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرةَ قلَقِه البارحة، وطاب له الحديثُ، وطال مجلِسُهم عنده، ثم تزايدَ به المرضُ واستمَرَّ، وقَصَده الأطباءُ في اليوم الرابع، ثم اعتراه يَبسٌ وحصَلَ له عَرَقٌ شَديدٌ بحيث نَفَذ إلى الأرض، ثم قَوِيَ اليبس فأحضَرَ الأمراءَ الأكابِرَ فبُويعَ لولده الأفضَل نور الدين علي، وكان نائبًا على دمشق، وذلك عندما ظَهَرت مخايل الضَّعفِ الشديد، وغيبوبة الذِّهنِ في بعض الأوقاتِ، وكان الذين يدخُلونَ عليه في هذه الحال الفاضِلُ وابنُ شداد وقاضي البلد ابن الزكي، ثم اشتَدَّ به الحال ليلةَ الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخَ أبا جعفر إمامَ الكلاسة ليبيتَ عنده يقرأُ القرآن ويُلَقِّنَه الشهادة إذا جَدَّ به الأمرُ، فلما أُذِّنَ الصبحُ جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخِرِ رمقٍ، فلما قرأ القارئُ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فتبَسَّمَ وتهَلَّلَ وَجهُه، وأسلَمَ رُوحَه إلى ربِّه سبحانه وتعالى، ثم أخَذوا في تجهيزه، وحَضَر جميعُ أولاده وأهله، وكان الذي تولَّى غُسلَه خطيب البلد الفقيهُ الدولعي، وكان الذي أحضَرَ الكفَنَ ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل مِن صُلبِ مالِه الحلال، هذا وأولادُه الكبار والصغار يتباكَون وينادون، وأخذ الناسُ في العويل والانتحاب والدُّعاء له والابتهال، ثم أُبرِزَ جِسمُه في نعشِه في تابوتٍ بعد صلاة الظهر، وأمَّ النَّاسَ عليه القاضي ابنُ الزكي، ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شَرَع ابنُه في بناء تربةٍ له ومدرسة للشافعيَّة بالقرب من مسجدِ القدم؛ لوصيته بذلك قديمًا، فلم يكمل بناؤها، ثم اشترى له الأفضَلُ دارًا شماليَّ الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربةً، وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلَّى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي بن الزكي، عن إذنِ الأفضل، ودخل في لحْدِه ولَدُه الأفضلُ فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطانُ الشام، ويقالُ إنه دَفَن معه سَيفَه الذي كان يحضُرُ به الجهادَ، ويُذكَرُ أنَّ صَلاحَ الدين- رحمه الله تعالى- لم يخَلِّفْ في خزائِنِه غيرَ دينار واحدٍ صوري، وأربعين درهمًا ناصريَّة، ثمَّ تولى ابنُه الأفضل مُلكَ دِمشق، والساحل، وبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم، وكان وَلَدُه الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميعِ أعمالِها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك، وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصارَ معه، وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع المَلِكَ الأفضل.
كان أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ المظَفَّر بن محتاج عاملًا على خراسان مِن قِبَل الأمير السعيد نصر بن أحمد, إلَّا أنَّه مرِضَ مرضًا شديدًا طال به، فأحضر السعيدُ ابنه أبا عليٍّ من الصغانيان، واستعمله مكانَ أبيه، وسيَّرَه إلى نيسابور، وكتب إلى أبيه يستدعيه إليه، فسار عن نيسابورَ، فلَقِيَه ولَدُه على ثلاث مراحِلَ من نيسابور، فعَرَّفَه ما يحتاجُ إلى معرفتِه، وسار أبو بكرٍ إلى بخارى مريضًا، ودخل ولدُه أبو علي نيسابور أميرًا في شهرِ رمضان من هذه السنة.
هو المُعتَضِدُ بالله أبو عَمرٍو عَبَّادُ بن الظَّافرِ المُؤَيَّدِ بالله أبي القاسمِ محمد قاضي إشبيلية بن أبي الوَليدِ إسماعيلَ بن قُريشِ بن عَبَّادِ بن عَمرِو بن أَسلمَ بن عَمرِو بن عَطَّافِ بن نُعيمٍ، اللخميُّ، مِن وَلَدِ النُّعمانِ بن المُنذِر اللخميِّ، آخر مُلوكِ الحِيرَةِ, لمَّا تُوفِّي محمدٌ القاضي سَنةَ 433هـ قامَ مَقامَه وَلَدُه عَبَّادٌ، قال أبو الحسنِ عليُّ بن بَسَّامٍ في حَقِّهِ: " ثم أَفضَى الأَمرُ إلى عَبَّادٍ ابنِه سَنةَ ثلاثٍ وثلاثين, وتَسمَّى أَوَّلًا بِفَخرِ الدولةِ ثم المُعتَضِد، قُطْبُ رَحَى الفِتنَةِ، ومُنتَهى غايةِ المِحْنَةِ، مِن رَجُلٍ لم يَثبُت له قائمٌ ولا حَصيدٌ، ولا سَلَّمَ عليه قَريبٌ ولا بَعيدٌ، جَبَّارٌ، أَبرمَ الأُمورَ وهو مُتناقِض، وأسد فرس الطلى وهو رابض، مُتهَوِّرٌ تَتحاماهُ الدُّهاةُ، وجَبَّارٌ لا تَأمَنُه الكماو، مُتَعَسِّفٌ اهتدى، ومنبت قطع فما أَبقَى، ثارَ والناسُ حَرْبٌ، وكل شيءٍ عليه إلب، فكَفَى أَقرانَه وهُم غيرُ واحدٍ، وضبط شانه بين قائمٍ وقاعد، حتى طالت يَدُه، واتَّسعَ بَلدُه، وكَثُرَ عَديدُه وعَدَدُه؛ افتَتحَ أَمرَهُ بِقَتلِ وَزيرِ أَبيهِ حبيب المذكور، طَعنةً في ثَغرِ الأيامِ، مَلَكَ بها كَفَّهُ، وجَبَّارًا مِن جَبابِرَةِ الأنامِ، شُرِّدَ به مَن خَلْفَه، فاستمر يَفرِي ويُخلِق، وأَخَذَ يَجمَعُ ويُفَرِّق، له في كل ناحيةٍ مَيدان، وعلى كل رابِيَةٍ خُوان، حَرْبُه سُمٌّ لا يُبطِئ، وسَهْمٌ لا يُخطِئ، وسِلْمُه شَرٌّ غيرُ مَأمون، ومَتاعٌ إلى أدنى حين". ولم يَزل المُعتَضِدُ في عِزِّ سُلطانِه واغتِنامِ مَسارِّهِ، حتى أَصابَتهُ عِلَّةُ الذَّبْحَة، فلم تَطُل مُدَّتُها، وتُوفِّي يومَ الاثنينِ غُرَّةَ جُمادى الآخرة، ودُفِنَ ثاني يوم بمَدينةِ إشبيلية، وقام بالمَملَكةِ بَعدَه وَلَدُه المُعتَمِدُ على الله أبو القاسمِ محمدٌ.
وُلِد أبو إبراهيمَ محمَّد سعيد عبد الرحمن المولى الصلبي عام 1396هـ،وهو الخليفةُ الثَّاني لتنظيمِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ (داعش)، بويعَ بَعدَ مَقتَلِ أبي بكرٍ البغداديِّ عام 1440هـ.
كان مَقتَلُه على يدِ جُنودٍ أمريكانَ قاموا بإنزالٍ جوِّيٍّ من مَروحيَّاتٍ أمريكيَّةٍ في إدلِب بسُوريا، حاصرت المنزِلَ الذي فيه أبو إبراهيمَ ومَن معه، واشتبكت معهم، ثم غادرت قواتُ الإنزالِ بعد إتمامِ المُهِمَّةِ، ثمَّ جاءت فِرَقٌ من الدِّفاعِ المَدَنيِّ السُّوريِّ وأخلت الجُثَثَ الموجودةَ فيه، والتي بلغ عددُها 13، وأكَّد التنظيمُ مَقتَلَ زَعيمِه أبي إبراهيمَ، والمتحدِّثِ الرَّسميِّ السَّابقِ له أبي حمزة، وأعلَنَ عن تعيينِ أبي الحسَنِ خلَفًا له، وأبي عُمَر المهاجر خلفًا لأبي حمزةَ.
وصل والي قوص ممَّن معه إلى اتجاه الجزيرة التي بها عامون ملك النوبة، فرأوا بها عدة من مراكب النوبة، فبعثوا إليه في الدخولِ في الطاعةِ وأمَّنوه فلم يقبَلْ، فأقام العسكرُ تجاهه ثلاثة أيام، فخاف عامون من مجيءِ الحراريق والمراكبِ إليه، فانهزم إلى جهةِ الأبواب، وهي خارجةٌ عن مملكتِه وبينها وبين الجزيرة التي كان فيها ثلاثةُ أيام، ففارقه السواكرة وهم الأمراء وفارقه الأسقُفُ والقُسوس، ومعهم الصليبُ الفِضَّة الذي كان يُحمَلُ على رأسِ الملك، وتاجُ الملك، وسألوا الأمان فأمَّنَهم والي قوص وخلَعَ على أكابِرِهم، وعادوا إلى مدينةِ دنقلة وهم جمعٌ كبير، وعند وصولهم عبر الأمير عزُّ الدين الأفرم وقبجاق إلى البر الشرقي، وأقام العسكرُ مكانه، واجتمع الأمراءُ بدنقلة، ولبس العسكرُ آلةَ الحرب وطلبوا من الجانبينِ، وزُيِّنَت الحراريق في البحر، ولعب الزرَّاقون بالنِّفاط، ومدَّ الأمراء السماط في كنيسةِ أسوس أكبَرِ كنائس دنقلة وأكلوا، ثم ملَّكوا الرجلَ الذي بعثه السلطانُ قلاوون وألبسوه التاجَ، وحلفوا وسائِرَ الأكابرِ، وعينوا طائفةً من العسكر تقيمُ عندهم وعليها بيبرس العزي مملوكُ الأمير عزِّ الدين والي قوص، وعاد العسكرُ إلى أسوان بعدما غاب عنها ستة أشهر، وساروا إلى القاهرةِ في آخر جمادى الأولى بغنائِمَ كثيرة، وأما عامون فإنَّه عاد بعد رجوع العسكرِ إلى دنقلة مختفيًا، وصار بطريقِ باب كلِّ واحد من السواكرة ويستدعيه، فإذا خرج ورآه قَبَّلَ له الأرضَ وحلف له، فما طلع الفجرُ حتى ركِبَ معه سائرُ عَسكرِه، وزحف عامون بعسكره على دار الملك، وأخرج بيبرس العزي ومَن معه إلى قوص، وقَبَض على الذي تمَلَّك مَوضِعَه وعرَّاه من ثيابه، وألبسه جلدَ ثورٍ كما ذُبِحَ بعدما قَدَّه سيورًا ولَفَّها عليه، ثمَّ أقامه مع خشبةٍ وتركه حتى مات، وقُتِلَ جريس أيضًا، وكتب عامون إلى السلطانِ يسأله العفو، وأنَّه يقوم بالبقط المقرَّر وزيادة، وبعث رقيقًا وغيره تقدمةً فقَبِلَ منه، وأقرَّه السلطانُ بعد ذلك بالنوبةِ.
كان الملك فرديناند قد أظهر للمسلمين في الأيام الأولى من تسليم غرناطة العناية والاحترام حتى كان النصارى يَغيرون منهم ويحسدونهم ويقولون لهم أنتم الآن عند ملكنا أعز وأكرم منا، ووضع عنهم المغارم وأظهر لهم العدل حيلة منه وكيدًا؛ ليغرَّهم بذلك وليثبطهم عن الجواز، فوقع الطمع لكثير من الناس، وظنوا أن ذلك يدوم لهم فاشتروا أموالًا رخيصة وأمتعة أنيقة وعزموا على الجلوس مع النصارى، ثم إن فرديناند أمر الأمير محمد بن علي أبا عبد الله الصغير بالانصراف من غرناطة إلى قرية أندرش من قرى البشرة، فارتحل الأمير محمد بعياله وحشمه وأمواله وأتباعه، فنزل قرية أندرش وأقام بها ينتظر ما يؤمر به، ثم إن الملك فرديناند ظهر له أن يصرف الأمير أبا عبد الله الصغير إلى العدوة فأمره بالجواز وبعث للمراكب أن تأتي إلى مرسى عذرة، واجتمع معه خلق كثير ممن أراد الجواز فركب الأمير محمد ومن معه في تلك المراكب في عزة واحترام وكرامة مع النصارى، وساروا في البحر حتى نزلوا مدينة مليلة من عدوة المغرب، ثم ارتحل إلى مدينة فاس, وكان من قضاء الله وقدره أنه لما جاز أبو عبد الله الصغير وسار إلى مدينة فاس أصاب الناس شدة عظيمة وغلاء مفرِط وجوع وطاعون، واشتد الأمر بفاس حتى فر كثير من الناس من شدة الأمر، ورجع بعض الناس من الذين جازوا إلى الأندلس فأُخبروا بتلك الشدة فقصر الناس عن الجواز, فعزموا على الإقامة والدجن-المداهنة- ولم يجوز النصارى أحدًا بعد ذلك إلا بالكراء والمغرم الثقيل وعُشر المال، فلما رأى فرديناند أن الناس قد تركوا الجواز وعزموا على الدجن والاستيطان والمقام في الأوطان أخذ في نقض الشروط التي شرطوا عليه، ولم يزل ينقضها شرطًا شرطًا ويحلها فصلًا فصلًا إلى أن نقض جميعها وزالت حرمة الإسلام عن المسلمين وأدركهم الهوان والذلة، واستطال النصارى عليهم، وفُرِضت عليهم الفروضات وثَقُلت عليهم المغارم، وأمرهم بالخروج من مدينة غرناطة إلى الأرباض والقرى، فخرجوا أذلة صاغرين!
أما الأمير أبو عبد الله الصغير فبعد أن لجأ إلى مدينة فاس بالمغرب وسلطانها يومئذ محمد الشيخ الوطاسي المعروف بالبرتغالي، بقي فيها ذليلًا حقيرًا يستعطف الناس إلى أن توفي سنة 940 عن عمر 73سنة.
كان رافِعُ بن نصرِ بنِ الليث بن سيَّار من عظماء الجندِ فيما وراء النهر، وكان يحيى بن الأشعَثِ الطائي قد تزوَّجَ ابنةَ عَمٍّ له، وكانت ذاتَ يَسارٍ ولِسانٍ وجَمالٍ, ثم ترَكَها بسمرقند فترةً وأقام ببغداد، واتَّخذَ السَّراريَّ، فلما طال ذلك عليها، أرادت أن تخلصَ مِن زواجها له, فعَلِمَ رافِعٌ بأمرِها فتزوَّجَها بعد أن قال لها أن تُظهِرَ الشِّركَ ثم تتوبَ فيَنفَسِخَ نِكاحُها, فشكاه زوجُها يحيى بن الأشعث إلى الرشيدِ، فأمر الرشيدُ عامِلَه على سمرقند عليَّ بن عيسى بن ماهان أن يَحُدَّه ويُطلقَ منها ويُطيفه على حمارٍ في سمرقند للعبرةِ، ففعل لكِنَّه لم يحدَّه وحَبَسَه فهرب من الحبسِ، فلَحِقَ ببلخ فأراد عامِلُها علي بن عيسى قَتْلَه فشَفعَ فيه عيسى بن علي بن عيسى، وأمَرَه بالانصرافِ إلى سمرقند.
بعد أن قام الظَّاهِرُ برقوق بالاستيلاء على مِصرَ وعودَتِه إليها، بقي منطاش في دمشق عاصيًا على السلطان برقوق، وأخَذَ منطاش بعلبكَّ بعد أن حاصرها محمد بن بيدمر أربعةَ أشهر، ثم إنَّ الظاهر برقوقًا جَهَّز العساكِرَ إلى دمشق لأخْذِها من منطاش، فلما بلغ منطاش قدومُ العساكر برز من دمشق، وأقام بقبَّة يلبغا، ثم رحل نصفَ ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة بخواصِّه، وهم نحو الستمائة فارس، ومعه نحو السبعينَ حملًا ما بين ذَهَبٍ ودراهم وقماش، وتوجه نحو قارا والنبك، بعد أن قَتَل المماليك الظاهرية، والأميرُ ناصر الدين محمد بن المهمندار، وإن الأمير الكبير أيتمش خرج من سجنه بقلعة دمشق وأفرجَ عَمَّن بها، ومَلَك القلعة، وبعث إلى النوابِ يُعلِمُهم، وسَيَّرَ كتابه إلى السلطان بذلك، فسار النوابُ إلى دمشق ومَلَكوها بغير حرب، ثمَّ إن منطاش توجه إلى الأمير نعير، ومعه عنقا بن شطى أمير آل مرا، ثم قدم البريدُ بأن منطاش ونعيرًا جمعَا جمعًا كبيرًا من العُربان والأشرفية والتركمان، وساروا لمحاربة النواب، فخرج الأمير يلبغا الناصري والأمير ألطبغا الجوباني بالعساكر من دمشق إلى سليمة، ثم اجتمع البَيْدَمرية والطازية والجنتمرية في طوائف من العامة بدمشق يريدون أخْذَها، فسَرَّح الأمير الكبير أيتمش الطائر من القلعةِ إلى سليمة يُعلِمُ الأمير يلبغا الناصري بذلك، فركب ليلًا في طائفةٍ مِن العسكر، وقَدِمَ دمشق وقاتَلَهم ومعه ألابغا العثماني حاجب الحجاب بدمشق، فقُتِلَ بينهما خلقٌ كثير من الأتراك والعوام وكَسَرَهم، وقَبَض على جماعة ووسَّطَهم تحت قلعة دمشق، وحَبَس جماعة، وقَطَع أيديَ سبعمائة رجل، وعاد إلى سليمة، وافترقت جمائِعُ منطاش وعساكر الشام ثلاث فرق، وتولى الأميرُ يلبغا الناصري محاربةَ الأمير نعير، فكسَرَه، وقتل جمعًا مِن عُرْبانه، وركب قفا نعيرٍ إلى مَنازِلِه، وحارب الأميرُ قرا دمرداش منطاشَ ومَن معه من التركمان، فضرَبَ كُلٌّ منهما الآخر، فوقعت الضربةُ بكَتِفِ منطاش، وقُطِعَت أصابع قرا دمرداش، وخامَرَ جماعة من الأشرفية على منطاش وصاروا في جملةِ الأمير ألطبغا الجوباني، فأحسن إليهم وقرَّبَهم، فلما وقعت الحربُ اتفق الأشرفيَّةُ مع بعض مماليكِه وقَتَلوه، وقبضوا على الأمير مأمور ووسَّطوه- قتلوه- وقتلوا الأمير أقبغا الجوهري وعِدَّةً من الأمراء، فكانت حروبًا شديدة، قُتِلَ فيها بين الفِرَق الثلاث خَلقٌ لا يُحصي عددَهم إلا خالقُهم سبحانه وتعالى, ونَهَبَت العربُ والعشير جميعَ ما كان مع العسكَرينِ، وقَدِمَ البريد بذلك، وأن منطاش انكسر، فأقام الأشرفيَّةُ بدله ألطبغا الأشرفي، فحضر منطاش من الغَدِ وأراد قتْلَه، فلم تمَكِّنْه الأشرفية من ذلك، وإنَّ الناصري لَمَّا رجع من محاربة نعير جمع العساكِرَ وعاد إلى دمشق، ثم خرج بعد يومين وأغار على آل علي، ووسَّط- قتل- منهم مائتي نفس، ونهب كثيرًا من جِمالِهم، وعاد إلى دمشق، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بأن الأمير قَشْتَمُر الأشرفي، الحاكِمَ بطرابلس من جهة منطاش، سَلَّمَها من غير قتال، وأنَّ حماة وحمص أيضًا استولت العساكرُ السلطانية عليهما، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بفرار منطاش عن أرض حَلَب، ومعه عنقاءُ بن شطي، خوفًا على نَفسِه مِن نعير، وأنَّه توجَّهَ في نحو سبعمائة فارس من العَرَبِ، أخذهم على أنَّه يكبس التركمان ويأخذ أعناقَهم، فلما قطع الدربند أخذَ خُيولَ العرب، وسار إلى مرَعش، وترك العربَ مُشا، فعادوا.
غَزَا عَنْبَسَةُ بن سُحَيْمٍ الكَلْبِي أَميرُ الأَندَلُس بَلدَ الفِرِنْج في جَمعٍ كَثيرٍ، ونازَل مَدينَة قَرْقَسُونة وحَصَر أَهلَها، فصالَحوه على نِصْف أَعمالِها، وعلى جَميعِ ما في المَدينَة من أَسرَى المسلمين وأَسلابِهم، وأن يُعطوا الجِزْيَة، ويَلتَزِموا بأَحكام الذِّمَّة مِن مُحارَبة مَن حارَبَه المسلمون، ومَسالَمة مَن سالَموه، فعاد عنهم عَنْبَسَة، ثمَّ تَوَغَّلَ داخِلَ فَرنسا وغَزَا إقليمَ الرون وبرفانس وليون وبورغونيا حتَّى وَصَل أَعالِي الرون. وتُوفِّي في شَعبان سَنة سَبعٍ ومائة عندَ انْصِرافه مِن غَزوِ الإفْرِنْج.
أبو محمَّدٍ طَلحةُ بن عُبيدِ الله بن عُثمانَ بن عَمرِو بن كعبِ بن سعدِ بن تَيْمِ بن مُرَّةَ بن كعبِ بن لُؤَيٍّ، أُمُّهُ: الصَّعْبَةُ بنتُ الحَضرميِّ، أُختُ العَلاءِ، أَسلمَت وأَسلَم طَلحةُ قديمًا، هو أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ، مِن السَّابقين الأوَّلين إلى الإسلامِ، دَعاهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ إلى الإسلامِ، آخَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين طَلحةَ وبين أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ، أَبْلَى يومَ أُحُدٍ بَلاءًا عظيمًا، ووَقَى رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِنَفْسهِ فاتَّقَى طَلحةُ بيَدِه عن وَجْهِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأصاب خِنْصَره فَشُلَّتْ، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (أَوْجَبَ طَلحةُ). وفيه قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (هذا ممَّن قَضى نَحْبَهُ). وقال أيضًا: (مَن سَرَّهُ أن يَنظُرَ إلى رجلٍ يَمشي على الأرضِ قد قَضى نَحْبَهُ فَلْيَنظُرْ إلى طَلحةَ). قُتل يوم الجمل فلمَّا وجَدَهُ عَلِيٌّ بعدَ المعركةِ في القَتْلَى أَجْلَسَهُ ومسَح التُّرابَ عن وَجهِه وقال: عَزيزٌ عَلَيَّ أن أراك مُجَدَّلًا تحت نُجومِ السَّماءِ أبا محمَّدٍ. ثمَّ بكى عَلِيٌّ وقال: وَدِدْتُ أنِّي مِتُّ قبلَ هذا بعشرين سَنةً.
هو الظاهِرُ لإعزازِ دينِ الله أبو الحَسَن عليُّ بن أبي علي المنصور الحاكم الفاطمي العُبيدي الإسماعيليُّ الباطنيُّ, أمُّه أم ولد تدعى رقية، وُلِدَ بالقاهرة سنة 395، وبويع بالحُكمِ بعد أبيه في يوم عيد الأضحى سنة 411، وله من العمرِ 16 سنة و3 أشهر، وكان له مِصرُ، والشام، والخطبة له بإفريقيَّة، وكان جميلَ السِّيرةِ، حَسَن السياسةِ، مُنصِفًا للرعية، إلَّا أنَّه مُشتَغِلٌ بلذَّاته محِبٌّ للدَّعَة والراحة، قد فوَّض الأمورَ إلى وزيره أبي القاسِمِ عليِّ بنِ أحمد الجرجرائي- وكان مقطوعَ اليدينِ مِن المِرفَقينِ- لِمَعرفته بكفايته وأمانته، في سنة ثماني عشرة، فاستمَرَّ في الوزارة مدةَ ولايةِ الظاهر، ثمَّ لوَلَده المُستنصِر، توفِّي الظاهِرُ في منتصف شعبان بمصر وكان عمُره ثلاثًا وثلاثين سنة، وكانت مُدَّة حُكمِه خَمسَ عشرة سنة وتسعةَ أشهر وسبعة عشر يومًا، ولَمَّا مات الظاهِرُ ولِيَ بعده ابنُه تميم معد، ولقب المستنصر بالله، وتكَفَّل بأعباء المملكة بين يديه الأفضَلُ أميرُ الجيوش، واسمُه بدر بن عبد الله الجمالي، وكان عمرُ المستنصرِ يومَ نُصِّبَ حاكِمًا سبعَ سنينَ وعِدَّة أشهر، وبقي حاكمًا أكثَرَ مِن ستين سنةً.
أمَرَ الحاكِمُ بأمْرِه العُبَيديُّ الفاطميُّ بأن يُكتَبَ على سائِرِ المساجِدِ، وعلى الجامِعِ العَتيقِ مِن ظاهِرِه وباطِنِه وفي جميعِ جوانِبِه، وعلى أبوابِ الحَوانيتِ والحَجَر والمقابِر والصَّحراءِ بسَبِّ السَّلَفِ ولَعْنِهم، ونُقِشَ ذلك ولُوِّنَ بالأصباغِ والذَّهَب، وعُمِلَ كذلك على أبوابِ القياسرِ وأبوابِ الدُّورِ، وأكْرَهَ على عمَلِ ذلك، ولَمَّا دخل الحاجُّ نالَهم من العامَّةِ سَبٌّ وبَطشٌ؛ فإنَّهم طَلَبوا منهم سَبَّ السَّلَفِ ولَعنَهم، فامتَنَعوا, ثمَّ في عام 403هـ أمَرَ الحاكِمُ النَّاسَ أن ينتَهوا عن سَبِّ السَّلَفِ، وأمَرَ بقَلعِ الألواحِ التي كان مكتوبًا فيها السَّبُّ.
لَمَّا مَلَك الأفضَلُ مِصرَ، واستَقَرَّ بها، واجتمعت الكلمةُ على الأفضَلِ بها، وصَلَ إليه رسولُ أخيه الملك الظاهر غازي، صاحِبِ حلب، ورُسُلُ ابنِ عَمِّه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحِبِ حمص، يحثَّانِه على الخروج إلى دمشق، واغتنام الفرصةِ بغَيبةِ العادل عنها، وبَذَلا له المساعدةَ بالمال والنَّفسِ والرجال، فبَرَز من مصر، فوصل إلى دمشقَ ثالث عشر شعبان، وكان العادِلُ قد أرسل إليه نوَّابُه بدمشق يعَرِّفونَه قَصْدَ الأفضل لهم، ففارق ماردين وخَلَّفَ ولده الملِكَ الكامِلَ مُحمَّدًا في جميع العساكِرِ على حصارها، فسَبَق الأفضَلَ، فدخل دمشقَ قبل الأفضَلِ بيومين، وأمَّا الأفضَلُ فإنَّه تقَدَّمَ إلى دمشقَ مِن الغد، وهو رابعَ عشر شعبان، ودخل ذلك اليومَ بعينه طائفةٌ يسيرةٌ مِن عسكَرِه من عسقلان إلى دمشقَ من باب السلامة، فلمَّا رآهم عامَّةُ البلد نادَوا بشِعارِ الأفضَلِ واستسلَمَ مَن به من الجُندِ، ونَزَلوا عن الأسوار، وبلَغَ الخَبَرُ إلى الملك العادل، فكاد يستسلِمُ، وتماسَكَ، فلما رأى عسكَرُ العادل بدمشق قِلَّةَ عدَدِهم، وانقطاعَ مَدَدِهم، وثَبُوا بهم وأخرجوهم منه، ثمَّ وصَلَ بعده المَلِكُ الظاهر، صاحِبُ حلب، ثاني عشر شهر رمضان، وأرادوا الزَّحفَ إلى دمشق، فمَنَعَهم الملك الظاهر مكرًا بأخيه وحَسَدًا له، ولم يشعُرْ أخوه الأفضَلُ بذلك، وأما الملك العادل فإنَّه لما رأى كثرةَ العساكِرِ وتتابعَ الأمدادِ إلى الأفضَلِ، عظم عليه، فأرسلَ إلى المماليكِ الناصريَّةِ ببيت المَقدِسِ يستدعيهم إليه، فساروا آخر شعبان، فوصل خبَرُهم إلى الأفضل، فسَيَّرَ أسد الدين، صاحِبَ حمص، ومعه جماعةٌ مِن الأمراء إلى طريقِهم ليمنعوهم، فسَلَكوا غيرَ طَريقِهم، فجاء أولئك ودخلوا دمشقَ خامس رمضان، فقَوِيَ العادل بهم قُوَّةً عظيمة، وأَيِسَ الأفضَلُ ومَن معه من دمشق، وخرج عسكَرُ دمشق في شوال، فكَبَسوا العسكرَ المصري، فوَجَدوهم قد حَذِروهم، فعادوا عنهم خاسرينَ، وأقام العسكَرُ على دمشق ما بين قُوَّة وضَعفٍ، وانتصارٍ وتخاذُل، حتى أرسل المَلِك العادل خلْفَ ولده الملك الكامل محمد، وكان قد رحل عن ماردين، وهو بحران، فاستدعاه إليه بعسكره، فسار على طريقِ البَرِّ، فدخل إلى دمشق ثاني عشر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة، فعند ذلك رحل العسكَرُ عن دمشق وعاد الأفضَلُ إلى مصر.