بعد أن أنهى الله فتنةَ بابك الخرمي، وقضى عليه وعلى جيشِه الأفشينُ ومن معه، وقبض على بابك وحَبَسه وراسَلَ المعتَصِمَ فأمره بتسييرهم إليه, فدخل الأفشينُ وبِصُحبتِه بابك على المعتَصِم سامرَّا، ومعه أيضًا أخو بابك في تجمُّلٍ عظيم، وقد أمر المعتَصِمُ ابنَه هارونَ الواثِقَ أن يتلقَّى الأفشين، وأمَرَ بابك أن يركَبَ على فيلٍ ليُشهَرَ أمرُه ويعرفوه، وعليه قباءُ ديباج وقَلَنْسُوة سمور مدورة، وقد هيؤوا الفيل وخَضَبوا أطرافَه ولَبَّسوه من الحرير والأمتعة التي تليق به شيئًا كثيرا، ولَمَّا أُحضِرَ بين يدي المعتَصِم أمر بقطعِ يَدَيه ورجليه وجَزِّ رأسِه وشَقِّ بَطنِه، ثم أمرَ بحَملِ رأسِه إلى خراسانِ وصَلبِ جُثَّته على خشبةٍ بسامِرَّا، وكان بابك قد شَرِبَ الخمرَ ليلةَ قَتلِه. لَمَّا قتَلَ المعتَصِمُ بابك الخرميَّ توَّجَ الأفشينَ وقلَّدَه وِشاحَينِ مِن جوهرٍ، وأطلق له عشرينَ ألفَ ألف درهمٍ، وكتب له بولايةِ السِّندِ، وأمَرَ الشعراءَ أن يدخُلوا عليه فيمدحوه على ما فعلَ مِن الخيرِ إلى المسلمين، وعلى تخريبِه بلادَ بابك التي يقال لها البذُّ، وتَرْكِه إيَّاها قِيعانًا وخَرابًا.
بَلَغ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن بني المُصطَلِقِ -وهم بَطنٌ من قَبيلةِ خُزاعةَ الأزديَّةِ اليَمانيَّةِ- يَجمَعون لقِتالِه، وقائِدُهمُ الحارِثُ بن أبي ضِرارٍ؛ فلمَّا سَمِع رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهم خَرَج إليهم حتَّى لَقيَهم على ماءٍ لهم يُقال له: (المُرَيسيعُ)، ولذلك تُسَمَّى هذه الغَزوةُ أيضًا: بغَزوةِ المُرَيسيعِ. فتَزاحَفَ النَّاسُ واقتَتَلوا، فهَزَمَ اللهُ بني المُصطَلِقِ وقُتِلَ مَن قُتِلَ منهم، ونَفَلَ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبناءَهم ونِساءَهم وأموالَهم فأفاءَهم عليه، وكان فيمَن سُبي جُوَيريةُ رَضي اللهُ عنها بنتُ الحارِثِ بنِ أبي ضِرارٍ سيِّدِ بني المُصطَلِقِ، التي تزوَّجَها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين جاءَته تَستَعينُه في كِتابَتِها، وجَعَل صَداقَها رَضي اللهُ عنها أربَعينَ أسيرًا مِن قَومِها، فأعتَقَ النَّاسُ ما بأيديهِم من الأسرَى؛ لمَكانِ جُويريةَ رَضي اللهُ عنها. وأثناءَ الرُّجوعِ من هذه الغَزوةِ تكلَّم أهلُ الإفكِ بما تَكَلَّموا به في حقِّ أُمِّ المؤمنين عائِشةَ رَضي اللهُ عنها، الصِّدِّيقةِ بنتِ الصِّدِّيقِ المُبَرَّأةِ من فَوقِ سَبعِ سمواتٍ. وفيها أيضًا قال ابنُ أبيٍّ ابنُ سَلولَ قَوْلَتَه: "لَئِن رَجَعنا إلى المَدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ!"، فسَمِعَه زيدُ بن أرقَمَ، ونَزَلت سورةُ "المنافقون".
بَعَث رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زيدَ بنَ حارِثةَ رَضي اللهُ عنه إلى بني سُلَيمٍ؛ فسار حتى وَرَد الجَمومَ -وهو ماءٌ على طَريقِ مكةَ- ناحيةَ بَطنِ نَخلٍ عن يَسارِها، فأصابوا عليه امرَأةً من مُزَينةَ يقال لها: حَليمةُ، فدَلَّتهم على مَحَلَّةٍ من مَحالِّ بني سُلَيمٍ؛ فأصابوا في تلك المَحَلَّةِ نَعَمًا وشاءً وأسرى، فكان فيهم زوجُ حَليمةَ المُزنيَّةِ، فلمَّا قَفَل زيدُ بنُ حارِثةَ رَضي اللهُ عنه إلى المَدينةِ بما أصاب، وَهَب رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُزَنيَّةِ نَفسَها وزَوجَها.
اشتَدَّت الوحشةُ بين مُؤنِسٍ الخادمِ والمُقتَدِر بالله، وتفاقَمَ الحالُ وآل إلى أن اجتَمَعوا على خَلعِ المُقتَدِر وتولية القاهِرِ محمَّد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافةِ وسَلَّموا عليه بها، ولقَّبوه القاهر بالله، وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقَلَّدَ عليَّ بنَ مقلة وزارته، وولى نازوك الحُجُوبة مضافًا إلى ما بيده من الشُّرطة، وألزم المقتَدِر بأن كتب على نفسِه كتابًا بالخَلعِ مِن الخلافة، وأشهد على نفسِه بذلك جماعةً من الأمراء والأعيان، وسلَّم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسُف، فقال لولده الحُسَين احتفظ بهذا الكتابِ، فلا يريَنَّه أحَدٌ مِن خَلقِ الله، ولَمَّا أعيدَ المقتَدِرُ إلى الخلافة بعد يومينِ رَدَّه إليه، فشَكَره على ذلك جدًّا وولَّاه قضاءَ القُضاةِ، فلمَّا كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهِرُ بالله في منصب الخلافة، وجلس بين يديه الوزيرُ أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العُمَّال بالآفاق يُخبِرُهم بولاية القاهِرِ بالخلافة عِوضًا عن المقتدر، فلما كان يوم الاثنين جاء الجندُ وطلبوا أرزاقَهم وشَغَّبوا، وبادروا إلى نازوك فقَتَلوه، وكان مخمورًا، ثمَّ صلبوه، وهرب الوزيرُ ابنُ مقلة، وهرب الحُجَّاب ونادوا يا مُقتَدِرْ يا منصور، ولم يكن مؤنسٌ يومئذٍ حاضِرًا، وجاء الجندُ إلى باب مؤنسٍ يُطالِبونَه بالمُقتَدِر، فأغلق بابَه دونهم، فلما رأى مؤنِسٌ أنَّه لا بُدَّ مِن تسليم المقتَدِر إليهم أمَرَه بالخروج، فخاف المقتَدِرُ أن يكون حيلةً عليه، ثم تجاسَرَ فخرج فحَمَلَه الرجالُ على أعناقهم حتى أدخلوه دارَ الخلافة، فسأل عن أخيه القاهرِ وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتُبَ لهما أمانًا، فما كان عن قريبٍ حتى جاءه خادِمٌ ومعه رأسُ أبي الهيجاء قد احتَزَّ رأسَه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلَسَه بين يديه واستدعاه إليه، وقبَّلَ بين عينيه، وقال: يا أخي أنت لا ذنبَ لك، وقد علمتُ أنَّك مُكرَهٌ مقهورٌ، والقاهرُ يقول: اللهَ اللهَ، نفسي يا أمير المؤمنين، فقال: لا جرى عليك مني سوءٌ أبدًا، وعاد ابنُ مقلة فكتب إلى الآفاقِ يُعلِمُهم بعَودِ المقتدر إلى الخلافة، ورجَعَت الأمورُ إلى حالها الأوَّل، وكان ابنُ نفيس من أشَدِّ الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافةِ خرج من بغداد متنكِّرًا فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحِقَ بالقسطنطينيَّة، فتنصر بها مع أهلِها، وقرَّرَ أبا علي بن مقلة على الوزارةِ، وولَّى محمد بن يوسف قضاءَ القضاة، وجعل محمَّدًا أخاه - وهو القاهِرُ - عند والدته بصفةِ محبوسٍ عندها، فكانت تحسِنُ إليه غايةَ الإحسان، وتشتري له السراريَّ وتُكرِمُه غايةَ الإكرامِ.
عن مُجاهدٍ، عن مَولاهُ أنَّه حدَّثه: أنَّه كان فيمن يَبني الكعبةَ في الجاهليَّةِ... قال: فَبَنَيْنا حتَّى بلغنا موضعَ الحَجَرِ وما يَرى الحَجَرَ أحدٌ، فإذا هو وَسْطَ حِجارتِنا مِثلَ رأسِ الرَّجلِ، يَكادُ يَتراءى منه وجهُ الرَّجلِ، فقال بطنٌ من قُريشٍ: نحن نَضعهُ. وقال آخرون: نحن نَضعهُ. فقالوا: اجعلوا بينكم حَكَمًا. قالوا: أوَّلُ رجلٍ يَطلُعُ مِنَ الفَجِّ. فجاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتاكمُ الأَمينُ. فقالوا له، فوضعهُ في ثوبٍ ثمَّ دعا بُطونَهم فأخذوا بنواحيه معهُ، فوضعهُ هو صلَّى الله عَليهِ وسلَّم.
هو أبو عبدِ الرَّحمن عبدُ الله بن عُمَر بن الخَطَّاب العَدَويُّ القُرشيُّ المَكِّيُّ ثمَّ المَدنيُّ، صَحابيٌّ جَليلٌ، وابنُ ثاني خُلفاءِ المُسلمين عُمَر بن الخَطَّاب، وعالِمٌ مِن عُلماءِ الصَّحابةِ، لُقِّبَ بِشَيخِ الصَّحابةِ رضي الله عنه، أَسْلَمَ قَديمًا مع أَبيهِ ولم يَبلُغ الحُلُمَ، وهاجَرا وعُمُرُهُ عشرُ سِنين، وقد اسْتُصْغِر يومَ أُحُدٍ، فلمَّا كان يومُ الخَندقِ أَجازَهُ وهو ابنُ خمسَ عشرةَ سَنة فشَهِدَها وما بعدها، وهو شَقيقُ حَفصةَ بنتِ عُمَر أُمِّ المؤمنين، أُمُّهُما زينبُ بنتُ مَظْعون أُختُ عُثمان بن مَظْعون، وكان عبدُ الله بن عُمَر رِبْعَةً مِن الرِّجال، آدَمَ له جُمَّةٌ تَضرِب إلى مَنْكِبَيْهِ، جَسِيمًا, وهو أَحدُ المُكْثِرين في الرِّوايَةِ عن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، عُرِضَتْ عليه الخِلافَةُ بعدَ مَوتِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة فأبى ذلك حتَّى لا يُقْتَلَ بِسَبَبِه أَحدٌ تَوَجَّهَ للمَدينةِ بعدَ الحَرَّةِ وبَقِيَ فيها إلى مَقْدَمِ الحَجَّاج. كان عبدُ الله بن عُمَر حَريصًا كُلَّ الحِرْصِ على أن يَفْعَلَ ما كان الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم يَفعلُه، فيُصَلِّي في ذاتِ المكانِ، ويَدعو قائمًا كالرَّسولِ الكريمِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان صاحِبَ عِبادَةٍ منذ صِغَرِهِ، وكان ينامُ في المَسجِد. قال عنه صلَّى الله عليه وسلَّم: (نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ الله، لو كان يُصَلِّي مِن اللَّيلِ). فصار لا ينامُ مِن اللَّيلِ إلَّا قليلًا إلى أن مات، وكان إذا صلَّى مِن اللَّيلِ، قال لِمَولاهُ نافع: أَسْحَرْنا؟ -يعني: هل دَخَلْنا في وَقتِ السَّحَرِ- فيقول: لا. ثمَّ يُصلِّي، فيقولُ: أَسْحَرْنا؟ حتَّى يقولُ: نعم. فيُوتِرُ، هكذا يُصلِّي سائِرَ اللَّيلِ، وكان يُغْفِي إغْفاءةَ الطَّائرِ، ينامُ نَوْمَةً يَسيرةً. تُوفِّي بمكَّة وهو ابنُ أربعٍ وثمانين سَنَة، وكان ابنُ عُمَر يُسابِق الحَجَّاجَ في الحَجِّ إلى الأماكنِ التي يَعلَم أنَّ رسولَ الله يَسْلُكُها، فَعَزَّ ذلك على الحَجَّاجِ، وكان ابنُ عُمَر قد أَوْصى أن يُدْفَنَ في اللَّيلِ، فلم يُقدَرْ على ذلك مِن أجلِ الحَجَّاج, ودُفِنَ بذي طُوى في مَقْبَرةِ المُهاجِرين، وصلَّى عليه الحَجَّاجُ نَفسُه، فرضِي الله عن ابنِ عُمَر وأَرضاهُ وجَزاهُ عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
قِيلَ لِزيدِ بنِ أَرقمَ: " كم غَزا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن غَزوةٍ؟ قال: تِسعَ عشرةَ. قِيلَ: كم غَزوتَ أنت معه؟ قال: سبعَ عشرةَ. قِيلَ: فأَيُّهم كانت أوَّلَ؟ قال: الْعُسَيْرَةُ، أَوِ الْعُشَيْرُ.
وقعت غَزوةُ العُشَيْرَةِ قبلَ وَقعةِ بدرٍ، سَلَكَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على نَقْبِ بني دِينارٍ، ثمَّ على فَيْفاءِ الخَبارِ فنزل تحت شجرةٍ ببَطْحاءَ ابنِ أَزهرَ يُقالُ لها: ذاتُ السَّاقِ. فصَلَّى عندها... وصُنِعَ له عندها طعامٌ فأكل منه وأكل النَّاسُ معه... واسْتُقِيَ له مِن ماءٍ به يُقالُ له: المُشْتَرِبُ، ثمَّ ارْتَحل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائقَ بيَسارهِ وسلك شُعبةً يُقالُ لها: شُعبةُ عبدِ الله... ثمَّ صَبَّ لليَسارِ حتَّى هبَط يَلْيَلَ فنزل بِمُجتَمعِه ومُجتمعِ الضَّبُوعَةِ، واسْتَقى مِن بئرٍ بالضَّبُوعَةِ، ثمَّ سلك الفَرْشَ فَرْشَ مَلَلٍ حتَّى لَقِيَ الطَّريقَ بصحيرات بِصُخَيْراتِ اليَمامِ، ثمَّ اعتدل به الطَّريقُ حتَّى نزل العُشَيْرَةَ مِن بطنِ يَنْبُعَ فأقام بها جُمادى الأُولى ولياليَ مِن جُمادى الآخرةِ، وادَع فيها بني مُدْلِجٍ وحُلفاءَهُم مِن بني ضَمْرَةَ ثمَّ رجع إلى المدينةِ ولمْ يَلْقَ كَيْدًا.
سار الكرج من بلادهم إلى بلاد أران وقصدوا مدينة بيلقان، وكان التتار قد خربوها، ونهبوها فلما سار التتر إلى بلاد قفجاق عاد من سلم من أهلها إليها، وعَمَروا ما أمكنهم عمارته من سورها، فبينما هم كذلك إذ أتاهم الكرج ودخلوا البلد وملكوه، وكان المسلمون في تلك البلاد ألِفُوا من الكرج أنهم إذا ظفروا ببلد صانعوه بشيء من المال فيعودون عنهم، فكانوا أحسن الأعداء مقدرةً، فلما كانت هذه الدفعة ظن المسلمون أنهم يفعلون مثل ما تقدم، فلم يبالغوا في الامتناعِ منهم، ولا هربوا من بين أيديهم، فلمَّا ملك الكرج المدينة وضعوا السيف في أهلِها، وفعلوا من القتل والنهب أكثَرَ مما فعل بهم التتر، هذا جميعُه يجري، وصاحب بلاد أذربيجان أوزبك بن البهلوان بمدينة تبريز، ولا يتحرك في صلاح، ولا يتجه لخير، بل قد قنع بالأكل وإدمان الشرب والفساد.
كان سببُ إلغاء نسَبِ آل زياد الذي كان معاويةُ قد استلحَقَه، وكان يقالُ له: زيادُ بن أبيه، هو أنَّ رجلًا من آل زياد قَدِمَ عليه يقال له الصغدي بن سلم بن حرب بن زياد، فقال له المهدي: من أنت؟ فقال: ابنُ عَمِّك. فقال: أيُّ بني عمي أنت؟ فذكر نسَبَه، فقال المهدي: يا ابنَ سُميَّة الزانية! متى كنتَ ابنَ عمِّي؟ وغَضِبَ وأمَرَ به، فوُجِئَ في عنقِه وأُخرِجَ، وسأل عن استلحاقِ زياد، ثمَّ كتب إلى العامل بالبصرة بإخراجِ آلِ زياد من ديوانِ قُرَيشٍ والعرب، ورَدَّهم إلى ثقيف، وكتَبَ في ذلك كتابًا بالغًا، يذكُرُ فيه استلحاقَ زياد، ومخالفةَ حُكمِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فيه، فأُسقِطوا من ديوانِ قُريشٍ.
كان سبَبُ الفِتنةِ أنَّ راغِبًا مولى المُوَفَّق ترك الدُّعاءَ لهارون بن خِمارَوَيه بن أحمد بن طولون، ودعا لبدر مولى المعتَضِد، واختلف هو وأحمدُ بن طوغان، فلمَّا انصرف أحمدُ بنُ طوغان من الفداء سنة 283 ركب البحرَ ومضى، ولم يدخُلْ طرسوس، وخلَّفَ دِميانةَ غلامَ بازمان بها للقيامِ بأمرها، وأمَدَّه ابن طوغان، فقَوِيَ بذلك، وأنكر ما كان يفعَلُه راغب، فوقعت الفتنةُ، فظَفِرَ بهم راغب، فحمل دميانةَ إلى بغداد، ثمَّ في هذه السنة قَدِمَ قَومٌ من أهل طرسوس على المعتَضِد يسألونه أن يولِّيَ عليهم واليًا، وكانوا قد أخرجوا عامِلَ ابنِ طولون، فسيَّرَ إليهم المعتضدُ ابنَ الإخشيدِ أميرًا.
كان الآزاذِبَةُ مَرْزُبان الحِيرَةِ أي حكام الحيرة, فلمَّا أَخرَب خالدٌ أَمْغِيشِيا عَلِم الآزاذبةُ أنَّه غيرُ مَتروكٍ، فأخذ في أَمْرهِ وتَهيَّأ لحربِ خالدٍ، لمَّا تَوجَّه خالدٌ إلى الحِيرَةِ وحمَل الرِّحالَ والأثقالَ في السُّفُنِ أَرسلَ الآزاذبةُ ابنَهُ لِيقطَعَ الماءَ عن السُّفُنِ, فتعَجَّلَ خالدٌ في خَيلٍ نحو ابنِ الأزاذبةِ فلَقِيَهُ على فُراتِ بادِقْلَى، فقتَلهُ وقتَل أصحابَهُ، وسار نحو الحِيرَةِ، فهرَب منه الآزاذبةُ، وكان قد بَلغَهُ مَوتُ أَرْدَشِير وقتلُ ابنِه، فهرَب بغيرِ قِتالٍ، فتَحصَّنَ أهلُ الحِيرَةِ فحصَرهُم في قُصورِهم. دخل خالدٌ الحِيرَةَ، وأَمَر بكلِّ قَصْرٍ رجلًا مِن قُوَّادِه يُحاصِر أهلَهُ ويُقاتِلهم، فعَهِدَ خالدٌ إلى أُمرائِهِ أن يَبدءوا بِدَعوَتِه إحدى ثلاثٍ، فإن قَبِلوا قَبِلوا منهم، وإن أَبَوْا أن يُؤَجِّلوهم يومًا، وقال: لا تُمَكِّنوا عَدُوَّكُم مِن آذانِكُم فيَتربَّصوا بِكُم الدَّوائرَ، ولكن ناجِزوهُم ولا تُرَدِّدوا المسلمين عن قِتالِ عَدُوِّهِم. فلمَّا دَعَوْهُم أَبَوْا إلَّا المُنابذَةِ, فنَشَبَ القِتالُ وأَكثرَ المسلمون القتلَ فيهم، فنادى القِسِّيسون والرُّهْبانُ: يا أهلَ القُصورِ، ما يقتلنا غيرُكم. فنادى أهلُ القُصورِ: يا مَعشرَ العربِ، قد قَبِلْنا واحدةً مِن ثلاثٍ، فادعوا بنا وكُفُّوا عَنَّا حتَّى تُبلِّغونا خالدًا. فخرَج قائدٌ مِن كلِّ قصرٍ، فأُرسلوا إلى خالدٍ، مع كلِّ رجلٍ منهم ثِقَةٌ، لِيُصالح عليه أهلَ الحِصْن، فخلا خالدٌ بأهلِ كلِّ قصرٍ منهم دون الآخرين، وقد حاوَر خالدُ بن الوَليد أحدَ رُؤسائِهم وهو عَمرُو بن عبدِ المَسيحِ ابنُ بُقَيْلَةَ، وكان مع خادمِه كِيسٌ فيه سُمٌّ، فأخَذهُ خالدٌ ونَثَرَهُ في يَدِهِ وقال: لِمَ تَستَصْحِب هذا؟ قال: خشيتُ أن تكونوا على غيرِ ما رأيتُ، فكان الموتُ أحبَّ إليَّ مِن مَكروهٍ أُدْخِلُه على قَومي.
في أواخِرِ السنةِ السَّادسةِ من النُّبوَّةِ أسلم حَمزةُ بنُ عبد المطلب رَضي اللهُ عنه. وسببُ إسلامِه: أنَّ أبا جَهلٍ مرَّ برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا عند الصَّفا، فآذاه ونال منه، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ساكِتٌ لا يُكلِّمُه، ثم ضَرَبه أبو جَهلٍ بحَجَرٍ في رأسِه فشَجَّه حتى نَزَف منه الدَّمُ، ثم انصَرَف عنه إلى نادي قُرَيشٍ عند الكعبةِ فجَلَس معهم، وكانت مولاةٌ لعَبدِ الله بنِ جُدعانَ في مَسكَنٍ لها على الصَّفا ترى ذلك، وأقبل حَمزةُ من القَنْصِ مُتَوَشِّحًا قَوسَه، فأخبَرَتْه المَولاةُ بما رأتْ من أبي جَهلٍ، فغَضِب حَمزةُ وخرَج يسعى، لم يقِفْ لأحدٍ، مُعِدًّا لأبي جهلٍ إذا لَقيَه أن يوقِعَ به، فلمَّا دَخَل المسجِدَ قام على رأسِه وقال له: "تَشتُمُ ابنَ أخي وأنا على دِينِه!"، ثم ضَرَبه بالقَوسِ فشَجَّه شجَّةً مُنكرةً، فثار رجالٌ من بني مخزومٍ -حيِّ أبي جهلٍ- وثار بنو هاشمٍ -حيِّ حمزةَ- فقال أبو جهلٍ: "دَعوا أبا عِمارةَ! فإنِّي سَبَبتُ ابنَ أخيه سبًّا قبيحًا".
وقال ابنُ إسحاقَ: "ثم رَجَع حمزةُ إلى بيتِه فأتاه الشَّيطانُ فقال: أنت سيِّدُ قُريشٍ اتبعْتَ هذا الصابِئَ، وتركتَ دينَ آبائك، لَلموتُ خيرٌ لك ممَّا صنعتَ. فأقبلَ حَمزةُ على نفسِه وقال: "ما صنعتُ؟! اللَّهمَّ إن كان رُشدًا فاجعَلْ تَصديقَه في قلبي، وإلَّا فاجعَل لي ممَّا وَقعتُ فيه مَخرجًا"، فبات بلَيلةٍ لم يَبِتْ بِمِثلها مِن وَسوسةِ الشَّيطانِ، حتَّى أصبَحَ فغَدا على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: "يا بن أخي، إنِّي قد وَقعتُ في أمرٍ ولا أعرِفُ المَخرجَ منه، وإقامةُ مِثلي على ما لا أدري ما هو، أرُشْدٌ أم هو غَيٌّ شَديدٌ؟ فحدِّثني حديثًا؛ فقدِ اشتَهيتُ يا بنَ أخي أن تُحدِّثَني، فأقبل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَّره ووَعَظه، وخوَّفَه وبَشَّرَه، فألقَى اللهُ في قلبِه الإيمانَ بما قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال: "أشهَدُ أنَّك الصَّادِقُ شهادةَ الصِّدقِ، فأظهِرْ يا بن أخي دينَكَ، فواللهِ ما أُحِبُّ أنَّ لي ما أظلَّتْه السماءُ وأنِّي على ديني الأوَّلِ"؛ فكان إسلامُ حمزةَ رَضي اللهُ عنه أوَّلَ الأمرِ أنَفةَ رجلٍ أبَى أن يُهانَ مَولاهُ، ثم شَرَح اللهُ صدرَهُ، فاسْتمَسْكَ بالعُروةِ الوُثقى، واعتَزَّ به المُسلِمون أيَّما اعتِزازٍ!
أَسرَّ السلطانُ والأمراء مدَبِّرو الدولة إلى أمير الحاجِّ ومَن بصحبته من الأمراء أن يقبضوا على الشَّريفِ ثُقبة، ويقَرِّروا الشريفَ عَجلان بمُفردِه على إمارة مكَّة، فلمَّا قَدِمَ الحاج بطن مر، ومضى عجلانُ إلى لقائهم، شكا إلى الأمراءِ من أخيه ثقبة، وذكر ما فعلَه معه، وبكى، فطَمَّنوا قَلْبَه، وساروا به معهم حتى لَقِيَهم ثقبة في قوَّاده وعبيده، فألبسوه خِلعةً على العادة، ومَضَوا حافِّينَ به نحو مكَّةَ، وهم يحادثونَه في الصلح مع أخيه عجلان، ويحَسِّنونَ له ذلك، وهو يأبى موافقَتَهم حتى أيِسُوا منه، فمَدَّ الأمير كشلى يده إلى سَيفِه فقَبَض عليه، وأشار إلى من معه فألقَوه عن فرَسِه، وأخذوه ومعه ابنٌ لعُطَيفة، وآخَرُ من بني حسن، وكبَّلوهم بالحديد، ففَرَّ القوَّادُ والعبيد، وأُحضِرَ عَجلانُ، وأُلبِسَ التشريف، وعبروا به إلى مكة، فلم يختلف عليهم اثنانِ، وسُلِّمَ ثُقبةُ للأمير أحمد بن آل ملك، فسُرَّ الناس بذلك، وكَثُرَ جَلبُ الغلال وغيرها، فانحَلَّ السِّعرُ وقُبِضَ على إمام الزيدية أبي القاسم محمد بن أحمد اليمني، وكان يصَلِّي في الحرم بطائفَتِه ويتجاهَرُ، ونَصَب له منبرًا في الحَرَمِ يخطُبُ عليه يوم العيد وغيره، بمَذهبِه، فضُرِبَ بالمقارع ضربًا مبَرِّحًا ليرجِعَ عن مذهبه، فلم يرجِعْ وسُجِنَ، ففَرَّ إلى وادي نخلة، فلما انقضى موسِمُ الحاجِّ حُمِل الشريف ثقبة مُقَيَّدًا إلى مصرَ.
زاد أمرُ العيَّارينَ (وهم طائفة من أهل الدعارة والنهب واللصوصية) وكَثُروا لأمْنِهم مِنَ الطَّلَبِ بسَبَبِ ابنِ الوزيرِ وابنِ قاروت أخي زوجةِ السُّلطان؛ لأنَّهما كان لهما نَصيبٌ في الذي يأخذُه العيَّارون، وكان النَّائِبُ في شحنكية بغدادَ يومَئذٍ مَملوكًا اسمُه إيلدكز، وكان صارِمًا مِقدامًا، ظالِمًا، فحَمَلَه الإقدامُ إلى أن حضَرَ عند السُّلطانِ، فقال له السُّلطانُ: إنَّ السِّياسةَ قاصِرةٌ، والنَّاسَ قد هَلَكوا، فقال: يا سُلطانَ العالَمِ، إذا كان عقيدُ العيَّارينَ وَلَدَ وَزيرِك وأخا امرأتِك، فأيُّ قُدرةٍ لي على المُفسِدينَ؟! وشَرَح له الحالَ، فقال له: الساعةَ تخرُجُ وتكبِسُ عليهما أين كانا، وتصلُبُهما، فإنْ فعَلْتَ وإلَّا صَلَبْتُك، فأخَذَ خاتَمَه وخرج فكَبَس على ابنِ الوزيرِ فلم يَجِدْه، فأخَذَ مَن كان عنده، وكبَسَ على ابنِ قاروت فأخَذَه وصَلَبَه، فأصبَحَ النَّاسُ وهرَبَ ابنُ الوزيرِ وشاع في النَّاسِ الأمرُ ورُئِيَ ابنُ قاروت مصلوبًا، فهَرَبَ أكثَرُ العيَّارينَ، وقَبَضَ على من أقام وكفى النَّاسَ شَرَّهم.
أراد عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَخْلَع أخاه عبدَ العزيز مِن وِلايَة العَهْد ويُبايِع لابنِه الوَليد بن عبدِ الملك، فنَهاهُ عن ذلك قَبِيصَةُ بن ذُؤَيْب وقال: لا تَفعَل؛ فإنَّك تَبْعَث على نَفْسِك صَوتَ عَارٍ، ولَعَلَّ الموتَ يأتيه فتَسْتَريح منه. فَكَفَّ عنه ونَفْسُه تُنازِعُه إلى خَلْعِه. فدَخَل عليه رَوْحُ بن زِنْباع، وكان أَجَلَّ النَّاس عند عبدِ الملك، فقال: يا أميرَ المؤمنين، لو خَلعتَه ما انْتَطَح فيه عَنْزان، وأنا أوَّلُ مَن يُجيبُك إلى ذلك. قال: نُصْبِح إن شاء الله. ونام رَوْحٌ عند عبدِ الملك، فدَخَل عليهما قَبيصةُ بن ذُؤَيب وهُما نائِمان، وكان عبدُ الملك قد تَقَدَّم إلى حُجَّابِه أن لا يَحْجِبوا قَبيصةَ عنه، وكان إليه الخاتَم والسِّكَّة، تَأتيهِ الأخبارُ والكُتُبُ قبلَ عبدِ الملك، فلمَّا دَخَل سَلَّم عليه، قال: آجَرَك الله في أَخيك عبدِ العزيز. قال: وهل تُوفِّي؟ قال: نعم. فاسْتَرْجَع عبدُ الملك، ثمَّ أقْبَل على رَوْح، فقال: كَفانا الله ما كُنَّا نُريد، وكان ذلك مُخالِفًا لك يا قَبيصة. فقال قَبيصةُ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الرَّأْي كُلَّه في الأَناةِ، فقال عبدُ الملك: ورُبَّما كان في العَجَلة خَيْرٌ كَثيرٌ، رَأيتَ أَمْرَ عَمرِو بن سَعيد، ألم تكُن العَجَلَةُ فيه خيرًا مِن الأَناةِ؟ وكانت وَفاةُ عبدِ العزيز في جُمادَى الأُولى في مِصْرَ، فضَمَّ عبدُ الملك عَمَلَه إلى ابنه عبدِ الله بن عبدِ الملك ووَلَّاه مِصْرَ. فلمَّا مات عبدُ العزيز قال أهلُ الشَّام: رُدَّ على أَميرِ المؤمنين أَمْرُهُ. فلمَّا أَتَى خَبَرُ مَوْتِه إلى عبدِ الملك أَمَر النَّاسَ بالبَيْعَة لابْنَيْهِ الوَليد وسُليمان، فبايَعوا، وكَتَبَ بالبَيْعَة لهما إلى البُلْدان.