كان سُليمان بن عبدِ الملك كُلَّما فَتَح قُتيبةُ بن مُسلِم فَتْحًا في عَهدِ الوَليد يقول لِيَزيد بن المُهَلَّب: ألا تَرَى إلى ما يَفتَح الله على قُتيبَة؟ فيقول يَزيدُ: ما فَعَلَت جُرجان التي قَطَعَت الطَّريقَ، وأَفْسَدت قُومِس ونَيْسابور. ويقول أَيضًا: هذه الفُتوح لَيسَت بِشَيءٍ، الشَّأنُ هي جُرجان. فلمَّا وَلَّاهُ سُليمانُ خُراسانَ لم يكن لِيَزيد هِمَّة غَير جُرجان، فسار إليها في مائةِ ألف مِن أَهلِ الشَّام والعِراق وخُراسان سِوَى المَوالِي والمُتَطَوِّعَة، ولم تكُن جُرجان يَومئذٍ مَدينَة إنَّما هي جِبالُ ومَخارِم وأَبواب يقوم الرَّجُلُ على بابٍ منها فلا يُقْدِم عليه أَحَدٌ. فابْتَدَأَ بقُهِسْتان فحاصَرَها، وكان ذلك، فإذا هُزِمُوا دَخَلوا الحِصْنَ. فخَرَجوا ذات يَومٍ وخَرَج إليهم النَّاسُ فاقْتَتَلوا قِتالًا شديدًا، فحَمَل محمَّدُ بن سَبْرَة على تُرْكِيٍّ قد صَدَّ النَّاسَ عنه فاخْتَلَفا ضَرْبَتينِ، فثَبُتَ سَيفُ الترُّكي في بَيْضَة ابنِ أبي سَبْرَة، وضَرَبَه ابنُ أبي سَبْرَة فقَتَلَه، ورَجَع وسَيفُه يَقطُر دَمًا وسَيفُ الترُّكي في بَيْضَتِه، فنَظَر النَّاسُ إلى أَحسَن مَنظَرٍ رَأَوْهُ. وخَرَج يَزيدُ بعدَ ذلك يَومًا يَنظُر مَكانًا يَدخُل منه عليهم، وكان في أربعمائة مِن وُجوهِ النَّاسِ وفُرسانِهم، فلم يَشعروا حتَّى هَجَم عليهم التُّركُ في نحو أربعةِ آلاف فقاتَلوهُم ساعَة، وقاتَلَ يَزيدُ قِتالًا شديدًا، فسَلِمُوا وانْصَرَفوا، وكانوا قد عَطِشُوا، فانْتَهوا إلى الماءِ فشَرِبوا، ورَجَع عنهم العَدُوُّ. ثمَّ إنَّ يَزيدَ أَلَحَّ عليهم في القِتال وقَطَع عنهم المَوادَّ حتَّى ضَعُفوا وعَجَزوا. فأَرسَل صُول دِهْقان قُهِسْتان إلى يَزيدَ يَطلُب منه أن يُصالِحَه ويُؤَمِّنَه على نَفسِه وأَهلِه ومالِه لِيَدفَع إليه المَدينَة بما فيها، فصالَحَه ووَفَّى له، ودَخَل المَدينَة فأَخَذ ما كان فيها مِن الأَموالِ والكُنوزِ والسَّبْيِ ما لا يُحصَى، وقَتَل أَربعةَ عَشر ألف تُرْكِي صَبْرًا، وكَتَب إلى سُليمان بن عبدِ الملك بذلك، ثمَّ خَرَج حتَّى أَتَى جُرجان، وكان أَهلُ جُرجان قد صالَحَهم سَعيدُ بن العاص، وكانوا يَجْبُون أَحيانًا مائة ألف، وأَحيانًا مائتي ألف، وأَحيانًا ثلاثمائة ألف، ورُبَّما أَعطوا ذلك ورُبَّما مَنَعوه، ثمَّ امْتَنَعوا وكَفَروا فلم يُعْطوا خَراجًا، ولم يَأْتِ جُرجانَ بعدَ سَعيدٍ أَحَدٌ ومَنَعوا ذلك الطَّريق، فلم يكُن يَسلُك طَريقَ خُراسان أَحَدٌ إلَّا على فارِس وكَرْمان. وبَقِيَ أَمرُ جُرجان كذلك حتَّى وَلِيَ يَزيدُ خُراسان وأَتاهُم فاسْتَقبَلوه بالصُّلْح وزادوه وهابوه، فأَجابَهم إلى ذلك وصالَحَهم. وقد أَصابَ يَزيدُ بجُرجان تاجًا فيه جَوْهَر، فقال: أَتَرَوْنَ أَحدًا يَزهَد في هذا؟ قالوا: لا. فدَعا محمَّد بن واسِع الأزدي فقال: خُذْ هذا التَّاجَ. قال: لا حاجَة لي فيه. قال: عَزَمْتُ عليك. فأَخَذه، فأَمَر يَزيدُ رَجُلًا يَنظُر ما يَصنَع به، فلَقِيَ سائِلًا فدَفَعَه إليه، فأَخَذ الرَّجُلَ السَّائِلَ وأَتَى به يَزيدَ وأَخبَره، فأَخَذ يَزيدُ التَّاجَ وعَوَّضَ السَّائِلَ مالًا كَثيرًا.
هو الخليفةُ، المستنجد بالله، أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي العباسي. أمُّه كرجية اسمُها طاووس. عقد له أبوه بولاية العهد في سنة سبع وأربعين، وعمره يومئذ تسع وعشرون سنة. فلما احتُضِر المقتفي، رام طائفة عزل المستنجد، وبعثت حَظِيَّة المقتفي أم علي إلى الأمراء تعدهم وتمنيهم؛ ليبايعوا ابنَها علي بن المقتفي. قالوا: كيف هذا مع وجود ولي العهدِ يوسف؟ فقالت أنا أكفيكموه، فدبرت مؤامرة للتخلص من يوسف الذي اكتشف الأمر فاعتقلها وابنها علي، وثَبَت الأمرُ له، وتلقب بالمستنجد بالله. كان يقولُ الشعر، ونقش على خاتمه: من أحَبَّ نفسه عَمِلَ لها. كانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهرًا وستة أيام، وصُلِّي عليه يوم الأحد قبل الظهر، ودُفن بدار الخلافة، ثمَّ نُقِل إلى التربة من الرصافة، وكان سببُ موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قايماز المقتفوي، وهو حينئذ أكبَرُ أمير ببغداد، فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا، ووضعا الطبيبَ على أن يصِفَ له ما يؤذيه، فوصف له دخولَ الحمام، فامتنع لضَعفِه، ثم إنه دخل وأغلق الباب عليه فمات، وقيل إنَّ الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمُرُه بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصَلْبِهما، فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار، وأعطاه خط الخليفة، فقال له: تعود وتقول إنني أوصلت الخطَّ إلى الوزير، ففعل ذلك، وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش، وعرض الخط عليهم، فاتفقوا على قتل الخليفة، فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه، وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات، ثم بعد وفاة المستنجد، أحضرَ هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن، وبايعاه بالخلافة، ولقباه المستضيء بأمر الله، وشرطا عليه شروطًا: أن يكون عضدُ الدين وزيرًا، وابنُه كمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، ولم يتول الخلافة من اسمُه الحسنُ إلَّا الحسن بن علي بن أبي طالب، والمستضيء بأمر الله، فبايعه أهلُ بيته البيعةَ الخاصة يوم توفي أبوه، وبايعه الناسُ في الغد في التاج بيعةً عامة، ويُذكَرُ أن الخليفة المستنجد بالله كان من أحسن الخلفاء سيرةً مع الرعية، عادلًا فيهم، كثير الرفق بهم، وأطلق كثيرًا من المكوس، ولم يترك بالعراق منها شيئًا، وكان شديدًا على أهل العيثِ والفسادِ والسعاية بالناس.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةَ غالبِ بنِ عبدِ الله اللَّيثيِّ، إلى بني عُوَالٍ وبني عبدِ بنِ ثَعلبةَ بالمَيْفَعَةِ، وقِيلَ إلى الحُرَقَاتِ مِن جُهَيْنَةَ في مائةٍ وثلاثين رجلًا؛ فهجَموا عليهم جميعًا، وقتَلوا مَن أَشرفَ لهم، واسْتاقوا نَعَمًا وشَاءً، وفي هذه السَّرِيَّةِ قَتَلَ أُسامةُ بنُ زيدٍ نَهِيكَ بن مِرْدَاسٍ بعدَ أن قال: لا إلَه إلَّا الله. فلمَّا قَدِموا وأُخْبِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، كَبُرَ عليه وقال: (أَقَتلتَهُ بعدَ ما قال: لا إلَه إلَّا الله؟!). فقال: إنَّما قالها مُتَعَوِّذًا قال: (فَهَلَّا شَققتَ عن قَلبِه فتَعلمُ أَصادِقٌ هو أم كاذبٌ؟).
في هذا الشهر وقع الوباء بالطاعون ببلاد الصعيد من أرض مصر، وفي شهر رمضان كانت عدة الأموات التي رُفِعت بها أوراق مُباشِري ديوان المواريث بالقاهرة ثمانية عشر إنسانًا، وتزايدت عدتُهم في كل يوم حتى فشا في الناس الموتُ بالطاعون في القاهرة ومصر، لا سيما في الأطفال والإماء والعبيد؛ فإنهم أكثر من يموت موتًا سريعًا، ثم شنعت الأخبار بكثرة من يموت، وسرعة موتهم، وشناعة الموتان أيضًا ببلاد الواحات من أرض مصر، ووقوعه قليلًا بصعيد مصر، وقد شنع الموت بالدُّور السلطانية في أولاد السلطان الذكور والإناث، وفي حظاياه وجواريه، وجواري نسائه، وفي الخدَّام الطواشية، وشنع الموت في مماليك السلطان سكان الطباق، حتى لقد مات منهم في هذا الوباء نحو آلاف، ومات من الخُدَّام الخصيان مائة وستون طواشي، ومات من الجواري بدار السلطان زيادة على مائة وستين جارية، سوى سبع عشرة حظية وسبعة عشر ولدًا، ذكورا وإناثًا، وشنع الموت أيضًا في الناس بالقاهرة ومصر وما بينهما، وفي سكان قلعة الجبل، وفي بلاد الواحات والفيوم، وبعض بلاد الصعيد، وبعض الحوف بالشرقية، ووقع الطاعون في الغنم والدواب، ووُجِد في النيل سمك كثير طافٍ قد مات من الطاعون، وأما الطاعون فإنه ابتدأ بالقاهرة من أول شهر رمضان، وكثر في شوال حتى تجاوز عدة من يُصلَّى عليه في مصلى باب النصر كل يوم أربعمائة ميت، سوى بقية المصلَّيات وعدتها بضع عشرة مُصلًّى، ومع ذلك فلم تبلغ عدة من يُرفَع في أوراق ديوان المواريث قط أربعمائة، وسببه أن الناس أعدوا توابيتَ للسبيل، ومعظم من يموت إنما هم الأطفال والإماء والعبيد، فلا يحتاج أهلُهم إلى إطلاقهم من الديوان، وفي شهر ذي الحجة والذى قبله فشا الموت بالطاعون في الإسكندرية، ودمياط، وفوه، ودمنهور، وما حول تلك الأعمال؛ فمات بها عالم كبير، وتجاوزت عدة من يموت بالإسكندرية في كل يوم مائة إنسان.
بعد أن تمَّ للمغول بقيادة تيمورلنك تدميرُ مدن الشام، أرسل تهديداتِه للسلطان فرج بن برقوق سلطان المماليك في مصر، وكان قد أسر أميرًا من المغول يدعى (أطلمس) فطالب تيمورلنك بإطلاق سراحه فورًا، وإلا فسيزحف المغول على مصر ويرفعون راياتهم على ربوعها. وقد أذعن السلطان فرج لهذه التهديدات، وأطلق سراح أطلمس وعقد صلحًا مع تيمورلنك يتعهد فيه السلطان فرج بطاعة تيمورلنك والدعوة باسمه في مساجد مصر، وقد أدى هذا الصلح المُهين إلى ذهاب حرمة دولة المماليك، واختفاء احترام الأمراء والعامة للسلطان فرج، فلم تمضِ سنوات ثلاث حتى عُزل. والواقِعُ أن هزائم دولة المماليك الثانية في عهد فرج بن برقوق تعتبر أقسى الهزائم التي تعرض لها المسلمون في تلك الفترة؛ بسبب تصارع المماليك المتعصبين لأصولهم العِرْقية.
غَزَا قُتيبةُ بِيكَنْد وهي أَدْنَى مَدائِن بُخارَى إلى النَّهْر، فلمَّا نَزَل بهم اسْتَنْصَروا الصُّغْدَ واسْتَمَدُّوا مَن حَولهم، فأَتوهم في جَمْعٍ كَثيرٍ وأَخَذوا الطُّرُقَ على قُتيبَة، فلم يَنْفَذ لِقُتيبَة رَسولٌ ولم يَصِل إليه خَبَرٌ شَهْرَيْنِ، وأَبطأَ خَبرُه على الحَجَّاج فأَشفَق على الجُنْدِ فأَمَر النَّاس بالدُّعاء لهم في المَساجِد وهُم يَقْتَتِلُون كُلَّ يومٍ. وكان لِقُتيبةَ عَيْنٌ مِن العَجَمِ يُقالُ له: تَنْدُر، فأَعطاهُ أهلُ بُخارَى مَالًا لِيَرُدَّ عنهم قُتيبة، فأَتاه فقال له سِرًّا مِن النَّاس: إنَّ الحَجَّاج قد عُزِلَ وقد أَتَى عامِل إلى خُراسان فلو رَجَعْتَ بالنَّاس كان أَصْلَح. فأَمَر به فقُتِلَ خَوفًا مِن أن يَظهَر الخَبَرُ فيَهْلك النَّاس، ثمَّ أَمَرَ أَصحابَه بالجِدِّ في القِتال فقَاتَلهم قِتالًا شَديدًا، فانْهَزَم الكُفَّارُ يُريدون المدينةَ وتَبِعَهم المسلمون قَتْلًا وأَسْرًا كيف شَاؤُوا، وتَحَصَّنَ مَن دَخَل المدينةَ بها، فوَضَع قُتيبةُ الفَعَلَةَ لِيَهْدِمَ سُورَها، فَسَألُوه الصُّلْحَ فصَالَحَهم واسْتَعْمَل عليه عامِلًا وارْتَحَل عنهم يُريد الرُّجوعَ, فلمَّا سَارَ خَمسةَ فَراسِخ نَقَضُوا الصُّلْحَ, وقَتَلوا العامِلَ ومَن معه، فرَجَع قُتيبةُ فنَقَبَ سُورَهم فسَقَطَ فَسألوه الصُّلْحَ فلم يَقبَل، ودَخَلها عَنْوَةً وقَتَل مَن كان بها مِن المُقاتِلَة، وأصابوا فيها مِن الغَنائِم والسِّلاح وآنِيَة الذَّهَب والفِضَّة ما لا يُحْصَى، ولا أصابوا بخُراسان مِثلَه، فقَوِيَ المسلمون، ووَلِيَ قَسْمَ الغَنائِم عبدُ الله بن وَأْلَان العَدَوِيُّ أَحَدُ بَنِي نلكان، وكان قُتيبةُ يُسَمِّيه الأَمين ابن الأَمين، فإنَّه كان أَمِينًا. فلمَّا فَرَغ قُتيبةُ مِن فَتْح بِيكَنْد رَجَع إلى مَرْو.
هو خارِجَة بن زَيدِ بن ثابِت، أَحَد الفُقَهاء السَّبعَة بالمَدينَة، رَوَى عن أَبيهِ وعن غيره مِن الصَّحابَة، قال مُصعَبُ بن الزُّبير: كان خارِجَة بن زَيدٍ، وطَلحَة بن عبدِ الله بن عَوْف في زَمانِهِما يُسْتَفْتَيان، ويَنتَهِي النَّاسُ إلى قَولِهِما، ويَقْسِمان المَواريثَ بين أَهلِها مِن الدُّورِ والنَّخيل والأَموال، ويَكْتُبان الوَثائِقَ للنَّاسِ.
لَمَّا تَسلطَنَ المَلِكُ المنصور أبو بكر، أصبح همُّه ملذَّات نفسِه، فأصبح هذا شيئًا شائعًا عنه يعرِفُه القاصي والداني، حتى أصبح معروفًا بالشرب وجَلْب المغنيات إلى قَصرِه، حتى قال الأميرُ قوصون الناصري: أهكذا يكون أمرُ سُلطان المسلمين؟! أهكذا كان أبوه يفعَلُ؟! وكانت هذه الكَلِمةُ منه سببًا في الوحشة التي حَصَلت بعد ذلك، ثمَّ لَمَّا استفحل هذا الأمرُ مِن السلطان، قرَّر الأمراءُ خَلْعَه وإخراجَه وإخوتِه من القلعة، فتوجَّه برسبغا في جماعةٍ إلى القلعة، وأخرج المنصورَ وإخوته، وهو سابِعُ سَبعةٍ، ومع كل منهم مملوكٌ صغيرٌ وخادِمٌ وفَرَسٌ وبقجة قماش، وأركبهم برسبغا إلى شاطئ النيل، وأنزلهم في الحراقة، وسافر بهم جركتمر بن بهادر إلى قوص، واتَّفَق الأمراء على إقامة كجك بن محمد بن قلاوون، فكانت مدةُ سلطنة المنصور أبي بكر تسعة وخمسين يومًا، ومن حين قلَّدَه الخليفةُ أربعين يومًا، ومن الاتِّفاق العجيب أنَّ المَلِكَ الناصِرَ أخرج الخليفةَ أبا الربيع سليمان وأولاده إلى قوص مُرَسَّمًا عليهم، فقُوصِصَ بمثلِ ذلك!! وأخرج الله أولادَه مُرَسَّمًا عليهم إلى قوص على يد أقرَبِ الناس إليه، وهو قوصون مملوكِه وثِقَتِه ووصِيِّه على أولاده، ثمَّ في يوم الاثنين حادي عشر صفر أقيم المَلِكُ الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر محمد بن قلاوون سُلطانًا، ولم يَكمُلْ له من العمر خمس سنين، وقيل: كان عمره دون سبع سنين، ولَمَّا تم أمرُه في السلطنة جلس الأمراء وتشاوروا فيمن يُقيموه في نيابةِ السَّلطنةِ فرُشِّحَ الأمير أيدغمش أمير آخور، فامتنعَ أيدغمش من ذلك، فوقع الاتفاقُ على الأمير قوصون الناصري، فأجاب وشَرَط على الأمراء أن يقيمَ على حاله في الأشرفيَّة من القلعة ولا يخرُج منها إلى دار النيابةِ خارِجَ باب القلة من القلعة، فأجابه الأمراءُ إلى ذلك، فاستقَرَّ من يومه في النيابة، وتصَرَّف في أمورِ الدولة.
أظهَرَ المُعِزُّ بنُ باديس صاحِبُ إفريقيَّةَ الدُّعاءَ للدَّولةِ العباسيَّة، وخطب للإمامِ القائِمِ بأمرِ الله، أميرِ المؤمنين، وورَدَت عليه الخِلَعُ والتقليدُ ببلادِ إفريقيَّةَ وجميعِ ما يفتَحُه، وأُرسِلَ إليه سيفٌ وفَرَسٌ وأعلامٌ على طريقِ القُسطَنْطينيَّة، فوصل ذلك يومَ الجمعة، فدُخِلَ به إلى الجامِعِ، والخطيبُ ابنُ الفاكاة على المنبر يخطُبُ الخُطبةَ الثانيةَ، فدخلت الأعلامُ، فقال: هذا لواءُ الحَمدِ يَجمَعُكم، وهذا مُعِزُّ الدينِ يَسمَعُكم، وأستَغفِرُ اللهَ لي ولكم، وقُطِعَت الخُطبةُ للعَلَويِّينَ من ذلك الوقتِ، وأُحرِقَت أعلامُهم.
بعدَ مُرورِ عامينِ أو ثلاثةِ أَعوامٍ مِنَ الحِصارِ الظَّالمِ في شِعْبِ أبي طالبٍ نُقِضتْ الصَّحيفةُ وفُكَّ الحِصارُ؛ وذلك أنَّ قُريشًا كانوا بين راضٍ بهذا الميثاقِ وكارهٍ له، فسعى في نَقْضِ الصَّحيفةِ مَنْ كان كارهًا لها, وكان القائمُ بذلك هشامُ بنُ عَمرٍو مِن بني عامرِ بنِ لُؤَيٍّ, وكان يَصِلُ بني هاشمٍ في الشِّعْبِ مُستَخفِيًا باللَّيلِ بالطَّعامِ, فإنَّه ذهب إلى زُهيرِ بنِ أبي أُمَيَّةَ المخزوميِّ -وكانت أمُّه عاتِكَةَ بنتَ عبدِ المُطَّلبِ- وقال: يا زُهيرُ، أَرَضيتَ أنْ تَأكُلَ الطَّعامَ، وتَشربَ الشَّرابَ، وأَخوالُكَ بحيث تعلمُ؟ فقال: ويحكَ، فما أصنعُ وأنا رجلٌ واحدٌ؟ أما والله لو كان معي رجلٌ آخرُ لقمتُ في نَقضِها. قال: قد وجدتَ رجلًا. قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زُهيرٌ: ابْغِنا رجلًا ثالثًا. فذهب إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، فذكَّرهُ أَرحامَ بني هاشمٍ وبني المُطَّلبِ ابنيْ عبدِ مَنافٍ، ولَامَهُ على مُوافقتِهِ لِقُريشٍ على هذا الظُّلمِ، فقال المُطْعِمُ: ويحكَ، ماذا أصنعُ؟ إنَّما أنا رجلٌ واحدٌ. قال: قد وجدتَ ثانيًا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال: ابغِنا ثالثًا. قال: قد فعلتُ. قال: من هو؟ قال: زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ. قال: ابغِنا رابعًا. فذهب إلى أبي البَخْتريِّ بنِ هشامٍ، فقال له نحوًا ممَّا قال للمُطْعِمِ، فقال: وهل مِن أحدٍ يُعينُ على هذا؟ قال: نعم. قال: مَن هو؟ قال زُهيرُ بنُ أبي أُمَيَّةَ، والمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، وأنا معك. قال: ابغِنا خامسًا. فذهب إلى زَمعةَ بنِ الأسودِ بنِ المُطَّلبِ بنِ أسدٍ، فكلَّمهُ, وذكر له قرابتَهُم وحقَّهُم، فقال له: وهل على هذا الأمرِ الذي تُدعوني إليه مِن أحدٍ؟ قال: نعم. ثم سَمَّى له القومَ، فاجتمعوا عند الحَجُونِ، وتعاقدوا على القيامِ بنَقضِ الصَّحيفةِ، وقال زُهيرٌ: أنا أَبدأُكم فأكونُ أوَّلَ مَن يتكلَّمُ. فلمَّا أصبحوا غَدَوْا إلى أَنْدِيَتِهِم، وغدا زُهيرٌ عليه حُلَّةٌ، فطاف بالبيتِ سبعًا، ثمَّ أقبل على النَّاسِ، فقال: يا أهلَ مكَّة، أنأكلُ الطَّعامَ, ونَلبَسُ الثِّيابَ, وبنو هاشمٍ هَلْكى، لا يُباع ولا يُبتاعُ منهم؟ والله لا أقعدُ حتَّى تُشَقَّ هذه الصَّحيفةُ القاطعةُ الظَّالمةُ. قال أبو جهلٍ, وكان في ناحيةِ المسجدِ: كذبتَ، والله لا تُشَقُّ. فقال زَمعةُ بنُ الأسودِ: أنت والله أَكْذَبُ، ما رضينا كتابتَها حيث كُتِبتْ. قال أبو البَخْتريِّ: صدق زَمعةُ، لا نرضى ما كُتِبَ فيها، ولا نُقِرُّ به. قال المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ: صدقتُما، وكذب مَن قال غيرَ ذلك، نبرأُ إلى الله منها وممَّا كُتِبَ فيها. وقال هشامُ بنُ عَمرٍو نحوًا من ذلك. فقال أبو جهلٍ: هذا أمر قُضِيَ بليلٍ، وتُشُووِر فيه بغيرِ هذا المكانِ. وأبو طالبٍ جالسٌ في ناحيةِ المسجدِ، إنمَّا جاءهُم لأنَّ الله كان قد أَطلعَ رسولَه صلى الله عليه وسلم على أمرِ الصَّحيفةِ، وأنَّه أرسلَ عليها الأَرَضَةَ، فأكلتْ جميعَ ما فيها من جَورٍ وقَطيعةٍ وظُلمٍ إلا ذكرَ الله عزَّ وجلَّ، فأَخبر بذلك عمَّه، فخرج إلى قُريشٍ فأخبرهم أنَّ ابنَ أخيهِ قد قال كذا وكذا، فإنْ كان كاذبًا خَلَّيْنا بينكم وبينه، وإنْ كان صادقًا رجعتُم عن قطيعتِنا وظُلمِنا. قالوا: قد أنصفتَ. وبعد أنْ دار الكلامُ بين القومِ وبين أبي جهلٍ، قام المُطعمِ إلى الصَّحيفةِ لِيَشُقَّها، فوجد الأَرَضَةَ قد أكلتْها إلَّا (باسمِك اللَّهمَّ)، وما كان فيها مِن اسمِ الله فإنَّها لم تأكلْهُ. ثم نقضَ الصَّحيفةَ وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه مِنَ الشِّعبِ، وقد رأى المشركون آيةً عظيمةً مِن آياتِ نُبوَّتِه، ولكنَّهم كما أخبر الله عنهم: (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) أعرضوا عن هذه الآيةِ وازدادوا كُفرًا إلى كُفرهِم.
سار مَلِكُ الألمانِ مِن بلادِه في خَلقٍ كَثيرٍ وجَمْعٍ عَظيمٍ مِن الفرنج، عازمًا على قَصدِ بلادِ الإسلامِ، وهو لا يَشُكُّ في مِلكِها بأيسَرِ قِتالٍ؛ لكَثرةِ جُموعِه، وتوفُّرِ أموالِه وعُدَدِه، فلمَّا وَصَل إلى الشَّامِ قَصَده مَن به من الفرنجِ وخَدَموه، وامتَثَلوا أمْرَه ونَهْيَه، فأمَرَهم بالمسيرِ معهم إلى دمشقَ لِيَحصُرَها، فساروا معه ونازلوها وحَصَروها، وكان صاحِبُها مجير الدين أبق بن نوري بن طغتكين، وليس له من الأمر شيءٌ، وإنَّما الحُكمُ في البلد لِمُعين الدين أنر مملوكِ جَدِّه طغتكين، فجَمَعَ العساكِرَ وحَفِظَ البَلَدَ، وأقام الفرنجُ يُحاصِرونَهم، ثمَّ إنَّهم زَحَفوا سادِسَ ربيع الأوَّل بفارِسِهم وراجِلِهم، فخرج إليهم أهلُ البَلَدِ والعَسكَرُ فقاتَلوهم، وصَبَروا لهم، وقاتَلوا الفِرنجَ حتى قُتِلَ مُعين الدين عند النيرب نحوَ نِصفِ فرسَخٍ عن دِمشقَ وقَوِيَ الفرنجُ وضَعُفَ المُسلِمونَ، فتقَدَّمَ مَلِكُ الألمان حتى نزل بالميدانِ الأخضَرِ، فأيقَنَ النَّاسُ بأنَّه يَملِكُ البَلَدَ، وكان مُعينُ الدينِ قد أرسل إلى سيفِ الدين غازي بن أتابك صاحِبِ حَلَب يدعوه إلى نُصرةِ المُسلِمينَ وكَفِّ العدُوِّ عنهم، فجمع عساكِرَه وسار إلى الشَّامِ، واستصحَبَ معه أخاه نورَ الدين محمود من حَلَب، فنزلوا بمدينةِ حِمص، وأرسل إلى مُعين الدين يقول له: "قد حَضَرتُ ومعي كلُّ مَن يَحمِلُ السلاحَ من بلادي، فأريد أن يكونَ نُوَّابي بمدينة دمشق لأحضُرَ وألقى الفِرنجَ، فإن انهَزمتُ دخَلْتُ أنا وعسكري البَلَدَ، واحتمَينا به، وإن ظَفِرتُ فالبَلَدُ لكم لا أنازِعُكم فيه"، ثم أرسل إلى الفِرنجِ يتهَدَّدُهم إن لم يَرحَلوا عن البلَدِ، فكفَّ الفرنجُ عن القتال خوفًا من كثرةِ الجِراحِ، وربما اضطُروا إلى قتالِ سيف الدين، فأبقَوا على نُفوسِهم، فقَوِيَ أهلُ البلَدِ على حِفظِه، واستراحوا من لزومِ الحَربِ، وأرسل مُعينُ الدين إلى الفرنج الغُرَباء: "إنَّ مَلِكَ المَشرِق قد حضر، فإنْ رَحَلتُم، وإلَّا سَلَّمتُ البلدَ إليه، وحينئذٍ تَندَمونَ، وأرسل إلى فرنجِ الشام يقول لهم: بأيِّ عَقلٍ تُساعِدونَ هؤلاء علينا، وأنتم تعلمونَ أنهم إن مَلَكوا دمشقَ أخَذوا ما بأيديكم من البلادِ الساحليَّة، وأمَّا أنا فإن رأيتُ الضَّعفَ عن حِفظِ البلد سَلَّمتُه إلى سيف الدين، وأنتم تعلمونَ أنَّه إن ملك دِمشقَ لا يبقى لكم معه مُقامٌ في الشام"، فأجابوه إلى التَّخلي عن مَلِك الألمانِ، وبذل لهم تَسليمَ حِصنِ بانياس إليهم، واجتمَعَ السَّاحليَّة بمَلِك الألمان، وخَوَّفوه مِن سَيفِ الدين وكَثرةِ عَساكِرِه وتتابُعِ الأمداد إليه، وأنَّه ربما أخذ دمشقَ وتَضعُفُ عن مُقاومِته، ولم يزالوا به حتى رحَلَ عن البَلَدِ، وتسَلَّموا قلعة بانياس، وعاد الفرنجُ الألمانيَّةُ إلى بلادهم وهي من وراء القُسطنطينيَّة، وكفى اللهُ المؤمنينَ شَرَّهم. ذكر ابنُ كثيرٍ هذا الحِصارَ لدمشق فقال: "حاصَرَ الفِرنجُ دِمشقَ وهم سبعون ألفًا، ومعهم مَلِكُ الألمانُ في خَلقٍ لا يَعلَمُهم إلَّا اللهُ عَزَّ وجل، وعليها مُجير الدين أرتق وأتابكه مُعين الدين أنر، وهو مُدَبِّرُ المملكة، وذلك يومَ السبت سادس ربيع الأول، فخرج إليهم أهلُها في مئة ألف وثلاثين ألفًا، فاقتتلوا معهم قتالًا شَديدًا، قُتِلَ مِن المُسلِمينَ في أوَّلِ يَومٍ نحوٌ مِن مِئتَي رجُلٍ، ومن الفرنجِ خَلقٌ كَثيرٌ لا يُحصَونَ، واستمَرَّت الحَربُ مُدَّةً، واجتمَعَ النَّاسُ وسطَ صحْنِ الجامِعِ يدعونَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، والنِّساء والأطفال مُكشفي الرؤوس يدعون ويتباكَون، فاستغاث أرتق بنور الدينِ محمود صاحِبِ حلب وبأخيه سيفِ الدين غازي صاحِبِ المَوصِل، فقصداه سريعًا في نحوٍ مِن سبعينَ ألفًا بمن انضاف إليهم من الملوكِ وغَيرِهم، فلمَّا سَمِعَت الفرنج بقدوم الجيشِ تحولوا عن البلد، فلَحِقَهم الجيشُ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وجَمًّا غفيرًا، وقتلوا قِسِّيسًا معهم اسمُه إلياس، وهو الذي أغراهم بدِمشقَ، وذلك أنَّه افترى منامًا عن المسيح أنَّه وعده فَتحَ دِمشقَ، فقُتِلَ- لعنه الله- وقد كادوا يأخُذونَ البَلَدَ، ولكِنَّ الله سَلَّمَ، وحماها بحَولِه وقُوَّتِه. قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] ومدينةُ دِمشقَ لا سبيلَ للأعداء من الكَفَرةِ عليها؛ لأنَّها المحَلَّةُ التي أخبَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنها أنَّها مَعقِلُ الإسلامِ عند الملاحِمِ والفِتَنِ، وبها يَنزِلُ عيسى بنُ مريم، وقد قَتَل الفرنجُ خَلقًا كَثيرًا مِن أهلِ دِمشقَ".
بَعثَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رسولَه عبدَ الله بنَ جَحشٍ الأسَديَّ إلى نَخلةَ في رَجبٍ على رأسِ سَبعةَ عَشَرَ شَهرًا من الهِجرةِ في اثنَيْ عَشَرَ رَجلًا من المُهاجِرين، كلُّ اثنَينِ يَعتَقِبان على بَعيرٍ، فوَصَلوا إلى بَطنِ نَخلةَ يَرصُدون عيرًا لقُريشٍ، وفي هذه السَّريَّةِ سُمِّيَ عبدُ الله بنُ جَحشٍ أميرَ المؤمنين، وكان رسولُ الله كَتَب له كِتابًا، وأمرَه ألَّا يَنظُرَ فيه حتى يَسيرَ يَومَين ثم يَنظُرَ فيه، ولمَّا فَتَح الكِتابَ وَجَد فيه: "إذا نَظَرْتَ في كِتابي هذا، فامْضِ حتى تَنزِلَ نَخلةَ بينَ مكَّةَ والطَّائِفِ فتَرصُدَ بها قُريشًا، وتَعلَمَ لنا من أخبارِهِم"، فقال: سَمعًا وطاعةً، وأخبَرَ أصحابَه بذلك، وبأنَّه لا يَستَكرِهُهم، فمَن أحبَّ الشَّهادةَ فليَنهَض، ومَن كَرِهَ الموتَ فليَرجِع، وأمَّا أنا فناهِضٌ. فمَضَوا كلُّهم.
فلمَّا كان في أثناء الطَّريقِ أضلَّ سعدُ بن أبي وقَّاصٍ وعُتبةُ بن غَزوانَ بعيرًا لهما كانا يَعتَقِبانِه، فتَخَلَّفا في طَلَبِه، وبَعُدَ عبدُ الله بنُ جَحشٍ حتَّى نزل بنخلةَ، فمَرَّت به عيرٌ لقُرَيشٍ تَحمِلُ زَبيبًا وأُدمًا وتجارةً فيها عَمرُو بنُ الحَضرَميِّ، وعُثمانُ ونَوفَلُ بنُ عبدِ الله بن المُغيرةَ، والحَكَمُ بنُ كَيسانَ مَولَى بني المُغيرةِ فتَشاوَرَ المسلمون، وقالوا: نحنُ في آخِرِ يَومٍ من رَجَبٍ الشَّهرِ الحَرامِ، فإنْ قاتلناهم، انتَهَكْنا الشَّهرَ الحرامَ، وإن تَرَكناهمُ اللَّيلةَ دَخَلوا الحرمَ، ثمَّ أجمَعوا على مُلاقاتِهم فرَمَى أحدُهم عمرَو بنَ الحَضرَميِّ فقَتَلَه، وأسَروا عُثمانَ والحَكَمَ، وأفلتَ نَوفَلٌ، ثم قَدِموا بالعيرِ والأسيرَينِ، وقد عَزَلوا من ذلك الخُمُسَ، وهو أوَّلُ خُمُسٍ كان في الإسلامِ، وأوَّلُ قتيلٍ في الإسلامِ وأوَّلُ أسيرَينِ في الإسلامِ، وأنكرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم ما فعلوه، واشتَدَّ تَعنُّتُ قُريشٍ وإنكارُهم ذلك، وزَعَموا أنَّهم قد وَجَدوا مَقالًا، فقَالوا: قد أحلَّ مُحمَّدٌ الشَّهرَ الحرامَ، واشتدَّ على المسلمين ذلك، حتى أنزلَ اللهُ تعالى: {يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ قُلْ قِتَالٌ فيهِ كَبيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنةُ أكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
كان من قضاء الله عز وجل وما قدَّره في آخر أيام مهرجان كبير عند أهل غرناطة حيث يجتمع فيه جُل أهل غرناطة من رجال ونساء وصبيان وشيوخ وكهول وكثير من أهل القرى حول غرناطة للنزهة، فاجتمعوا في السبيكة من الحمراء وما حولها وامتلأت تلك المواضع بالخلق الكثير، وأقبلت الفرسان وصاروا يتألفون في السبيكة وذلك وقت الضحى، فبينما الناس كذلك في المهرجان إذا بسحابة عظيمة قد أنشأها الله تعالى في السماء فأرعدت وأبرقت وانتشرت من ساعتها بقدرة مكوِّن الأشياء على السبيكة وما قرب منها وعلى غرناطة وما حولها وعلى وادي هداره، وجاءت بمطر عظيم ولم يزل المطر يزداد ويعظم ويكثر حتى صار كالأنهار العظيمة وجاءت السيول من كل ناحية وعظُم أمرها وعاين الناس الهلاكَ مِن عِظَم ما رأوا من شدة المطر وكثرة السيول من كل ناحية، واحتمل السيل الطرق وما حولها وانقطع الناس وحال السيل بينهم وبينها، فكان لا يُسمع إلا بكاء الصبيان وضجيج النسوان وأصوات الرجال بالدعاء إلى الله تعالى والابتهال، إلى أن ارتفع المطر وجاء وادي هداره الذي يشق غرناطة بسيل عظيم احتمل ما على ضفتيه من الأشجار العظام من الجوز واللوز وغير ذلك من الأشجار العظام الثابتة في الأرض، ودخل البلد واحتمل ما على ضفتيه من الدور والحوانيت والمساجد والفنادق ودخل الأسواق، وهدم البناء المشيد ولم يبقَ من القناطير إلا الأقواس، وذهب بكل ما كان عليها من البنيان، ثم جاء السيل بتلك الأشجار العظام التي اقتلعت فتراكمت في البلد في آخر قنطرة منه، فسُدَّت مجاري الوادي فتراكم السيل والشجر في قلب البلد، وعاين الأهالي الهلاكَ ودخل السيل تياره والقيسارية حتى دخل بعض حوانيتها، ووصل إلى رحبة الجامع الأعظم وإلى القراقين والصاغة والحدادين وغير ذلك من الأسواق والدور، فلطف الله تعالى بعباده فنفض السيل بقوة تراكمه بالقنطرة والسور وخرج ذلك كله خارج البلد، وكان هذا اليوم من أعظم الأيام شاهد فيه كل من رآه قدرة القادر القهار الملك العلام سبحانه وتعالى، ولم يسمع المعمَّرون بمثل ذلك اليوم.