فتَحَ نور الدين محمود بنُ الشهيد زنكي حِصنَ فاميا من الفرنجِ، وهو مُجاوِرٌ شيزر وحماة على تَلٍّ عالٍ، مِن أحصَنِ القِلاعِ وأمنَعِها، فسار إليه نورُ الدين وحَصَرَه وبه الفِرنجُ، وقاتَلَهم وضَيَّقَ على مَن به منهم، فاجتمع فِرنجُ الشَّامِ وساروا نحوَه لِيُرحِلُوه عنه فلم يَصِلوا إلَّا وقد مَلَكَه وملأَه ذخائِرَ وسِلاحًا ورِجالًا وجميعَ ما يُحتاجُ إليه، فلَمَّا بلغه مَسيرُ الفرنج إليه، رحَلَ عنه وقد فرغ مِن أمرِ الحِصنِ وسار إليهم يَطلُبُهم، فحين رأوا أنَّ الحِصنَ قد مُلِكَ، وقُوَّةَ عَزمِ نُورِ الدين على لقائِهم، عَدَلوا عن طريقِه، ودخلوا بلادَهم وراسلوه في المُهادَنةِ وعاد سالِمًا مُظَفَّرًا، ومَدَحَه الشُّعَراءُ وذَكَروا هذا الفَتحَ, ثمَّ فَتَحَ نور الدين حِصنَ إعزاز، وأسَرَ ابنَ مَلِكِها بن جوسلين، ففَرِحَ المُسلِمون بذلك، ثمَّ أسَرَ بعده والده جوسلين الفرنجي، فتزايَدَت الفَرحةُ بذلك، وفتَحَ بلادًا كَثيرةً مِن بلادِ الفِرنجِ.
هو المقرئ الفقيه المالكي الأشعري الصوفي: أبو الحسن علي بن محمد النوري الصفاقسي، صاحب كتاب "غيث النفع في القراءات السبع" ولد بصفاقس سنة 1053 ونشأ بها، ورحل إلى تونس فأخذ عن أهلها، ثم رحل إلى مصر فكمل بها علومه، ثم عاد إلى مسقط رأسه وانقطع لبثِّ العلم والإرشاد. كان يأكل من كسبه فيتَّجِر ويشتغل بالقماش يتعيش منه طلبًا للحلال وتوكُّلًا على الله، ولا يأخذ عن تعليمه شيئًا. كان الشيخ النوري يدعو إلى جهاد قراصنة مالطة -فرسان القديس يوحنا- فعندما صار الناس يشكون بصفاقس من عدوانهم على سواحلهم، ينهبون السفن الراسية ويخطفون الغافلين الآمنين من البحارة، ومن يقدرون على الوصول إليه من الناس، دعا إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، وتشاور مع أهل الفضلِ من أهل صفاقس في إنشاء سفن لهذا الغرض، فوافقه أكثرُ الناس على ذلك، وقام بجمع المال لإنشاء السفن، وأنفق هو من ماله الشيء الكثير، وأصدر فتوى بوجوب الجهاد لرد هذا العدوان، واعتبره واجبًا عينيًّا على كل مكلَّف. وقام بتنظيم شؤون المجاهدين بنفسه, وجعل لهم مقدَّمًا يأتمرون بأمره ويصلِّي بهم إمامًا, وهو تلميذه الشيخ أبو عبد الله قوبعة، فانقطع اعتداء الكفار وغنم المجاهدون منهم خيرًا كثيرًا، ويعتبر النوري هو الجد الأكبر ومؤسس عائلة النوري بصفاقس ومِن عَقِبه الشيخ محمود النوري الصفاقسي التونسي المصري.
عن مُجاهدٍ، عن مَولاهُ أنَّه حدَّثه: أنَّه كان فيمن يَبني الكعبةَ في الجاهليَّةِ... قال: فَبَنَيْنا حتَّى بلغنا موضعَ الحَجَرِ وما يَرى الحَجَرَ أحدٌ، فإذا هو وَسْطَ حِجارتِنا مِثلَ رأسِ الرَّجلِ، يَكادُ يَتراءى منه وجهُ الرَّجلِ، فقال بطنٌ من قُريشٍ: نحن نَضعهُ. وقال آخرون: نحن نَضعهُ. فقالوا: اجعلوا بينكم حَكَمًا. قالوا: أوَّلُ رجلٍ يَطلُعُ مِنَ الفَجِّ. فجاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتاكمُ الأَمينُ. فقالوا له، فوضعهُ في ثوبٍ ثمَّ دعا بُطونَهم فأخذوا بنواحيه معهُ، فوضعهُ هو صلَّى الله عَليهِ وسلَّم.
أُمطِرَت المدينةُ النبويَّةُ في ليلة الرابع من المحرم مطرًا عظيمًا فوكَفَت سقوفُ المسجِدِ النبوي والحُجرة الشريفة، وخَربت عدَّةُ دُورٍ وتَلِفَ نخلٌ كثيرٌ من السيولِ، ثم عقب ذلك جرادٌ عظيمٌ صار له دويٌّ كالرعد، فأتلف التَّمرَ وجريد النخلِ وغيرَه من المزارع، وكانت الأعينُ قد أتلَفَها السيلُ، وخَرَّبَ عين الأزرق حتى عادت مِلحًا أُجاجًا، فكتب بذلك إلى السُّلطانِ قلاوون، وأنَّ الحُجرةَ الشَّريفةَ عادتُها أن تُشمسَ في زَمَن الخُلَفاء إذا وَلِيَ الخليفةُ، فلا تزالُ حتى يقومَ خليفةٌ آخرُ فيُشمِسوها، وأنَّ المنبرَ والرَّوضةَ يُبعَث بكسوتِها في كلِّ سَنةٍ، وإنَّهما يحتاجانِ إلى كسوةٍ.
لَمَّا بلغ نور الدين محمودًا وفاةُ أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل، ومُلك ولده سيف الدين غازي الموصِلَ والبلاد التي كانت لأبيه، بعد وفاته، وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمرِ معه، وتحكُّمه عليه؛ أنِفَ لذلك وكَبِرَ لديه وعَظُمَ عليه، وكان يُبغِضُ فخر الدين؛ لما يبلغه عنه من خشونةِ سياسته، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي ومُلكِهم، وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر، وعبر الفرات، عند قلعة جعبر، مُستهَلَّ المحَرَّم، وقصد الرقةَ فحصَرَها وأخذها، ثم سار إلى الخابور فمَلَكَه جميعه، وملك نصيبين وأقام فيها يجمَعُ العساكر، فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحِبُ حصن كيفا، وكثُرَ جمعه، وكان قد ترك أكثر عساكره في الشام لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيقَ وملَكَها، وسَلَّمَها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين، وكان قد جاءته كتُبُ الأمراء الذين بالموصل سرًّا، يبذلون له الطاعةَ، ويَحُثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل، وكان سيفُ الدين غازي وفخر الدين قد سيَّرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز، صاحب همذان وبلد الجبل، وأذربيجان، وأصفهان، والري وتلك البلاد، يستنجده على عمه نور الدين محمود، فأرسل إيلدكز رسولًا إلى نور الدين ينهاه عن التعرُّضِ للموصل، ويقول له: إن هذه البلاد للسُّلطان، فلا تقصِدْها، فلم يلتفت إليه، فأقام نور الدين على الموصِل، فعزم مَن بها من الأمراء على مجاهرةِ فخر الدين عبد المسيح بالعِصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين، فعلم ذلك، فأرسل فخر الدين إلى نور الدين بتسليمِ البلَدِ إليه على أن يُقِرَّه بيد سيف الدين، ويطلُب لنفسه الأمان ولماله، فأجابه إلى ذلك، وشرطَ أنَّ فخر الدين يأخذُه معه إلى الشام، ويعطيه عنده إقطاعًا يُرضيه، فتسَلَّم البلد ثالث عشر جمادى الأولى، ودخل القلعةَ من باب السر؛ لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه، حلف ألَّا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها، ولَمَّا ملكها أطلقَ ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالمِ، وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، وهكذا كان جميعُ بلاده من الشام ومصر، واستناب في قلعة الموصل خصيًّا له اسمه كمشتكين، ولقَّبَه سعد الدين، وأمر سيف الدين ألَّا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير، وحَكَّمَه في البلاد وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين بن أخيه قطب الدين، وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يومًا، واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح، وغيَّرَ اسمه فسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعًا كبيرًا.
سيَّرَ نور الدين محمود بن زنكي عسكرًا كثيرًا إلى مصر، وجعل عليهم الأميرَ أسد الدين شيركوه بن شاذي، وهو مُقَدَّم عسكره، وأكبَرُ أمراء دولته، وأشجعُهم، وكان سبب إرسال هذا الجيش أنَّ شاور السعديَّ- وزيرَ العاضد لدين الله العُبَيدي، صاحِبِ مِصرَ- نازعه في الوزارة ضرغام، وغَلَبَ عليها، فهرب شاور منه إلى الشام، ملتجئًا إلى نور الدينِ ومُستجيرًا به، فأكرَمَ مثواه، وأحسَنَ إليه، وأنعم عليه، وكان وصولُه في ربيع الأول من هذه السنة، وطلب منه إرسالَ العساكر معه إلى مصر؛ ليعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين ثلث دخل البلادِ بعد إقطاعات العسكَرِ، ويكون شيركوه مُقيمًا بعساكِرِه في مصر، ويتَصَرَّف هو بأمر نور الدين واختياره، ثمَّ قَوَّى عزمه على إرسال الجيوش، فتقدم بتجهيزِها وإزالة عِلَلِها، وكان هوى أسد الدين في ذلك، وعنده من الشجاعة وقُوَّةِ النفس ما لا يبالي بمخافة، فتجهز، وساروا جميعًا وشاوِر في صحبتهم، في جمادى الأولى، وتقدم نورُ الدين إلى شيركوه أن يعيدَ شاوِر إلى مَنصِبِه، وينتقم له ممَّن نازعه فيه، وسار نور الدين إلى طرفِ بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره؛ ليمنع الفرنج من التعرُّض لأسد الدين ومن معه، فكان قصارى الفرنج حِفظُ بلادهم من نور الدين، ووصل أسدُ الدين ومَن معه من العساكر إلى مدينة بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكَرِ المصريين ولَقِيَهم، فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزومًا، ووصل أسدُ الدين فنزل على القاهرة أواخِرَ جمادى الآخرة، فخرج ضرغام من القاهرة آخر الشهر، فقُتل عند مشهد السيدة نفيسة، وبَقِيَ يومين، ثم حُمِل ودُفِن بالقرافة، وقُتل أخوه فارس، وخُلع على شاور مُستهَلَّ رجب، وأعيد إلى الوزارة، وتمكَّن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاوِر، وعاد عمَّا كان قرَّره لنور الدين من البلاد المصرية، ولأسد الدين أيضًا، وأرسلَ إليه يأمُرُه بالعود إلى الشام، فأعاد الجوابَ بالامتناع، وطلب ما كان قد استقَرَّ بينهم، فلم يُجِبْه شاوِر إليه، فلما رأى ذلك أرسَلَ نُوَّابَه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكَمَ على البلاد الشرقية، فأرسل شاوِر إلى الفرنج يستمِدُّهم ويخوِّفُهم من نور الدينِ إن مَلَك مصر، وكان الفرنجُ قد أيقنوا بالهلاكِ إن تَمَّ مِلكُ نور الدين لمصر، فلما أرسل شاوِر يطلب منهم أن يساعِدوه على إخراجِ أسد الدين من البلاد جاءهم فَرَجٌ لم يحتَسِبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته ونُصرتِه، وطمعوا في ملك الديار المصرية، وكان قد بذل لهم مالًا على المَسيرِ إليه، وتجهَّزوا وساروا، فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكِرِه إلى أطراف بلادِهم ليمتنعوا عن المسيرِ، فلم يمنَعْهم ذلك؛ لعِلمِهم أن الخطرَ في مُقامِهم إذا ملك أسدُ الدين مصر، أشدُّ، فتركوا في بلادِهم من يحفَظُها، وسار مَلِكُ القدس في الباقين إلى مصر، وكان قد وصل إلى الساحل جمعٌ كثير من الفرنج في البحرِ لزيارة البيت المقدس، فاستعان بهم الفرنجُ الساحلية، فأعانوهم، فسار بعضُهم معهم، وأقام بعضُهم في البلاد لحفظها، فلما قارب الفرنجُ مصر فارقها أسد الدين، وقصد مدينة بلبيس، فأقام بها هو وعسكَرُه، وجعلها له ظهرًا يتحصَّنُ به، فاجتمعت العساكرُ المصرية والفرنج، ونازلوا أسدَ الدين شيركوه بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثةَ أشهر، وهو ممتنعٌ بها مع أنَّ سورَها قصير جدًّا، وليس لها خندق، ولا فصيل يحميها، وهو يغاديهم القتالَ ويُراوِحُهم، فلم يبلغوا منه غرضًا، ولا نالوا منه شيئًا، فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبَرُ بهزيمة الفرنج على حارم، ومِلكُ نور الدين حارم، ومسيره إلى بانياس، فحينئذ سُقِطَ في أيديهم، وأرادوا العودةَ إلى بلادهم؛ ليحفظوها، فراسلوا أسدَ الدين في الصُّلحِ والعود إلى الشام، ومفارقة مِصرَ، وتسليم ما بيده منها إلى المصريِّين، فأجابهم إلى ذلك؛ لأنه لم يعلم ما فعله نورُ الدين بالشام بالفرنج، ولأنَّ الأقوات والذخائر قَلَّت عليهم، وخرج من بلبيس في ذي الحجة.
قَدِمَ بَنو رَسولٍ اليَمنَ ضِمنَ الحَملةِ الأيُّوبيَّةِ إليها، فإنَّه لَمَّا استَوثَقَ المُلْكُ لبَني أيُّوبَ في مِصرَ لم يَزَلْ معهم عُصبةٌ مِن بَني رَسولٍ؛ لِعِلْمِهم بتَقدُّمِ مَنصِبِهم في المُلكِ وعُلوِّ هِمَمِهم وشدةِ بَسالَتِهم، فاجتَمع رأيُ بَني أيُّوبَ على تسييرِهم إلى اليَمنِ صُحبةَ المَلكِ المعظَّمِ تُورانْشاهْ بنِ أيُّوبَ، وكانَ دُخولُه اليَمنَ في سنةِ 569هـ، وتوالى مُلوكُ الأيُّوبيةِ على اليَمنِ، ولَمَّا توَلَّى المُلكُ العادِلُ أبو بَكرِ بنُ أيُّوبَ المُلكَ في مِصرَ أرسَلَ ابنَ ابنِه المَلكَ المَسعودَ صلاحَ الدِّينِ يُوسفَ إلى اليَمنِ، فاستَولى على اليَمنِ بأسْرِها، وأنِسَ ببَني رَسولٍ ووَثِقَ بهم، ووَلَّاهمُ الوِلاياتِ الجليلةَ، وتجهَّزَ المَلكُ المَسعودُ إلى مِصرَ، وتركَ في اليَمنِ نورَ الدِّينِ عُمَرَ بنَ علِيِّ بنِ رَسولٍ نائبًا نيابةً عامةً، وفي سنةِ 626هـ تُوفِّي المَلكُ المَسعودُ، وتملَّكَ اليَمنَ بعدَه نائِبُه نورُ الدِّينِ عُمَرُ بنُ علِيٍّ الرَّسوليُّ، وبعدَ أن تمكَّنَ مِنَ احتِواءِ مُناهِضيه، وبَسَط نفوذَه على مُعْظمِ بِلادِ اليَمنِ، استَقلَّ باليَمنِ عن بَني أيُّوبَ سنةَ 628هـ، ولُقِّبَ بالمَنصورِ، واتَّخَذَ مِن تَعِزَّ عاصمةً له، وأخَذَ في تَثبيتِ مُلكِه، وإخمادِ الحَركاتِ الِانفِصاليةِ، وطَرَدَ العَساكرَ المِصريةَ عن مَكةَ والحِجازِ، وراسَلَ الخَليفةَ العباسيَّ المُستَنصِرَ باللهِ سنةَ 631هـ لِيكونَ تابِعًا لِدارِ الخِلافةِ العباسيةِ، وفي سنةِ 647هـ، اغتيلَ السُّلطانُ نورُ الدِّينِ على يَدِ جَماعةٍ مِن مماليكِه، بتدبيرٍ مِنَ ابنِ أخيه أسدِ الدِّينِ محمدِ بنِ الحَسَنِ بنِ علِيِّ بنِ رَسولٍ، وكانَ الوَضعُ بعدَ مَقتَلِه يُنذِرُ بالانقِسامِ والتَّفكُّكِ، حيث بدأ الصِّراعُ في البَيتِ الرَّسوليِّ على الحُكمِ بينَ أبناءِ نورِ الدِّينِ وبَينَهم وبينَ أبناءِ عُمومَتِهم، ومِن جِهةٍ أُخرى استَغلَّ الإمامُ الزَّيديُّ أحمدُ بنُ الحُسَينِ الوَضعَ الداخليَّ المُضطرِبَ في الدَّولةِ الرَّسوليةِ، واستَولى على صَنعاءَ، فتَحرَّكَ السُّلطانُ المظَفَّرُ يُوسفُ بنُ عُمَرَ، فجَمَعَ جُندَه وأحكَمَ قَبضَتَه على السُّلطةِ في اليَمنِ بشكلٍ كاملٍ في سنةِ 648هـ، وفي عَهدِه بَسَطت الدولةُ الرَّسوليةُ نُفوذَها على إقليمِ حَضرَموتَ، وبَعضِ المَناطِقِ الواقعةِ في جَنوبِ سَلطنةِ عُمانَ في الوَقتِ الحاليِّ، مِثلَ ظَفارِ وغَيرِها، ثم تُوفِّي السُّلطانُ المظَفَّرُ سنةَ 694هـ، وقام الصِّراعُ بينَ أبنائِه، وتوالى سَلاطينُ الدولةِ الرسوليةِ، حتى جاءَ عَهدُ السُّلطانِ المُجاهِدِ سنةَ 721هـ وتَفكَّكتِ الدولةُ الرسوليةُ في أيامِه؛ نتيجةَ صِراعاتِ البَيتِ الرَّسوليِّ، واستَغلَّ الأئِمةُ الزيديةُ ذلك واستَوْلَوْا على العَديدِ مِنَ المناطقِ والمُدنِ اليَمنيةِ، كانَ مِن أبرَزِها استيلاؤُهم على صَنعاءَ سنةَ 723هـ، ثم تولَّى السُّلطانُ الأفضلُ بعدَ وفاةِ أبيه السُّلطانِ المُجاهِدِ سنةَ 764هـ، وقد وَرِثَ دولةً آيلةً لِلانهيارِ، فحاوَلَ استِعادةَ نُفوذِ الدَّولةِ الرَّسوليةِ، والقَضاءَ على الثَّوَراتِ الداخليةِ، وتَلاه على ذلك عَددٌ مِن سَلاطينِ الدولةِ الرسوليةِ، مُحاولينَ تَرتيبَ أُمورِ الدولةِ وتَوفيرَ الأمنِ والاستِقرارِ، وذلك بإخضاعِ المَناطِقِ والقَبائِلِ الثائِرةِ، حتى جاءَ عَهدُ السُّلطانِ الناصِرِ الذي استَطاعَ إقرارَ أوضاعِ البِلادِ الداخليةِ، واستَعادَ قُوَّةَ الدَّولةِ وهَيبَتَها، ورَغمَ ذلك تُعَدُّ وَفاتُه بدايةَ عهدِ المُلوكِ الضُّعفاءِ في الأُسرةِ الرسوليةِ، والانحدارِ بالنسبةِ لِلدَّولةِ الرسوليةِ، إلى أنِ استَغلَّ الطاهريُّون الخِلافاتِ بينَ الأُسرةِ الرسوليةِ الحاكِمةِ؛ لِيُسيطِروا على عَدَنٍ ولَحْجٍ، وبحُلولِ عامِ 855هـ أعلنوا أنفُسَهمُ الحُكامَ الجُددَ لِليَمنِ.
كان نَجمُ الدينِ أيوبُ نائِبَ بعلبك، وعلى قَلعَتِها رَجلٌ يُقالُ له الضَّحَّاكُ البِقاعيُّ، فكاتَبَ نَجمُ الدينِ نورَ الدينِ محمودًا، ولم يَزَل نورُ الدينِ يَتلَطَّف البِقاعيَّ حتى أَخَذَ منه القَلعةَ ثم استَدعَى نَجمَ الدينِ أيوبَ إليه بدمشق فأَقطَعَهُ إِقطاعًا حَسَنًا، وأَكرَمهُ. مِن أَجلِ أَخيهِ أَسَدِ الدينِ، فإنه كانت له اليَدُ الطُّولَى في فَتحِ دِمشقَ، وجَعلَ الأَميرَ شَمسَ الدولةِ بوران شاه بن نِجمِ الدينِ شِحْنَةَ دِمشقَ، ثم مِن بَعدِه جَعلَ أَخاهُ صَلاحَ الدينِ يُوسفَ هو الشِّحْنَةَ، وجَعلَهُ مِن خَواصِّهِ لا يُفارِقه حَضَرًا ولا سَفَرًا، لأنه كان حَسَنَ الشَّكلِ حَسَنَ اللَّعِبِ بالكُرَةِ، وكان نورُ الدينِ يُحِبُّ لَعِبَ الكُرَةِ لِتَمرينِ الخَيلِ وتَعلِيمِها الكَرَّ والفَرَّ.
ملَكَ نورُ الدين محمود بن زنكي قلعةَ جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه مِن قَبلِه من أيام السلطان ملك شاه، وهي من أمنَعِ القلاع وأحصَنِها، مطلة على الفرات من الجانب الشرقي. وأمَّا سبب ملكها فإن صاحِبَها نزل منها يتصيد، فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة 563، فاعتقله وأحسنَ إليه، ورغَّبَه في المال والإقطاع ليُسَلِّمَ إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسيَّرَ إليها نور الدين عسكرًا مُقَدَّمُه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفَرْ منها بشيء، فأمَدَّهم بعسكر آخر، فحصرها أيضًا فلم ير له فيها مطمعًا، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العِوَض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقَبِلَ قولَه وسَلَّمَها، فأخذ عِوَضًا عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار مُعَجَّلة، وهذا إقطاع عظيم جدًّا، إلا أنَّه لا حصن فيه، وهذا آخِرُ أمر بني مالك بالقلعة.
بعث شاور إلى نور الدين محمود رسالةً مع شهاب الدين محمود، خال صلاح الدين الأيوبي، تتضمن أنه يحمل إليه مالًا في كل سنة من مصر مصانعةً؛ ليصرف عنه أسد الدين شيركوه، فأجاب نور الدين إلى ذلك، وأعطى شيركوه مدينة حمص وأعمالها زيادةً على ما كان بيده، وأمره بترك ذكر مصر، فأرسل شاور إليه كتابًا يشكر صنيعَه.
احتلَّ الجيش العثماني التاسع، الذي يقوده نوري باشا، مدينةَ باكو في أذربيجان أثناء الحربِ العالمية الأولى، وأعلن نوري باشا أن تَدخُّل قواتِه حدث بطلبٍ مِن الحكومة الأذربيجانية، وتمكَّن الجيشُ من الوصول إلى حدودِ بحر الخزر -بحر قزوين-، لكِنَّ هذا الوضع لم يستمرَّ طويلًا؛ فقد اضطرت القواتُ العثمانية إلى الانسحاب بموجِبِ معاهدةِ موندروس.
جدَّد الخليفةُ مراد الثالث للدُّول الأوربية امتيازاتِها، وهي فرنسا والبندقية، وزاد عليها أن أصبح السفيرُ الفرنسي يأتي في مقدِّمة سفراء الدول الأجنبية الذين كثُروا في إستانبول، وكانت سفُنُ الدول الأوربية تدخل الموانئ العثمانية تحت ظِلِّ العلم الفرنسي باستثناء البندقية، ثم جاءت بعدئذ إنكلترا التي حصلت على امتيازات لتجَّارها أيضًا، وطِبقًا للمعاهدات السابقة فقد قامت فرنسا بإرسال البَعثات الدينية النصرانية إلى كافة أرجاء البلاد العثمانية التي يسكُنُها نصارى، وخاصةً بلاد الشام، وقامت بزرع محبَّة فرنسا في نفوس نصارى الشام؛ ممَّا كان له أثر يُذكَرُ في ضعف الدولة العثمانية؛ إذ امتدَّ النفوذ الفرنسي بين النصارى، وبالتالي ازداد العصيان وتشجَّعوا على الثورات، فكان من أهم نتائج ذلك التدخُّلِ الاحتفاظُ بجنسية ولغة الأقليات النصرانية، حتى إذا ضَعُفت الدولة العثمانية ثارت تلك الشعوب مطالِبةً بالاستقلالِ بدعم وتأييد من دول أوروبا النصرانية!
تَجَمَّعَت الفِرنجُ، وحَشَدَت الفارِسَ والرَّاشِدَ، وساروا نحوَ نُورِ الدين محمود، وهو ببلاد جوسلين، ليَمنَعوه عن مِلْكِها، فوَصَلوا إليه وهو بدلوك، فلمَّا قَرُبوا منه رجَعَ إليهم ولَقِيَهم، وجرى المصافُّ بينهم عند دلوك، واقتَتَلوا أشَدَّ قِتالٍ رآه النَّاسُ، وصَبَرَ الفريقان، ثم انهزمَ الفِرنجُ، وقُتِلَ منهم وأُسِرَ كَثيرٌ، وعاد نور الدين محمود إلى دلوك، فمَلَكَها واستولى عليها.
تحرَّكَ الفرنج لغزو ديار مصرَ؛ خوفًا من صلاح الدين ونور الدين محمود زنكي عندما بلغهم تمكُّنُه من ديار مصر وقطعُ آثار جند المصريين. فكاتبوا فرنجَ صقلية وغيرهم واستنجدوا بهم، فأمدوهم بالمالِ والسلاح والرجال، وساروا بالدبابات والمنجنيقات إلى دمياط، فنزلوا عليها في مستهَلِّ صفر بألف ومائة مركب، ما بين شين ومسطح وشلندي وطريدة، وأحاطوا بها برًّا وبحرًا، فأسرع صلاح الدين إلى دمياط وتحصَّنَ فيها، كما قام نور الدين محمود بالإسراع بغزو البلدانِ التي يسيطرون عليها، فحاصر الكرك، وأرسل كذلك نجدةً إلى صلاح الدين وكانت القوةُ تتحرك إثر القوة، وكان على رأسِ أحدِها والد صلاح الدين نجمُ الدين أيوب، واستمرَّ حصار الصليبيين لمدينة دمياط خمسين يومًا اضطروا بعدها لرفع الحصارِ عنها نتيجةَ الإمدادات التي كانت تصِلُ إلى دمياط من نور الدين محمود وشِدَّة مقاومة صلاح الدين، بالإضافة إلى دعم العاضد حاكم مصر الفاطمي، واستيلاء نور الدين على أجزاء من مملكة الصليبيين في بيت المقدس، ولِفَناءٍ وقع فيهم؛ وغرق من مراكبهم نحو الثلاثمائة مركب، فأحرَقوا ما ثَقُل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، فغادروا دمياط, وتفرَّغَ صلاح الدين لتوطيد أقدامِه بمصر.
لَمَّا مَلَك قُطبُ الدين مودود المَوصِلَ بعد أخيه سيف الدين غازي، كان أخوه الأكبَرُ نورُ الدين محمود بالشَّامِ، وله حَلَب وحَماة، فكاتبه جماعةٌ مِن الأمراء وطَلَبوه، وفيمن كاتَبَه المُقَدَّم عبدُ الملك والد شمس الدين محمد، وكان حينئذٍ مُستَحفظًا بسنجار، فأرسَلَ إليه يستدعيه ليتسَلَّمَ سنجار، فسار نور الدين جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها- في سبعينَ فارِسًا مِن أُمَراءِ دَولتِه، فوصَلَ إلى ماكسين في نَفَرٍ يَسيرٍ قد سَبَق أصحابَه، ولحِقَ به باقي أصحابِه، ثم سار إلى سنجار، فوصَلَها وليس معه سوى ركَّابي وسلاح دار، ونزل بظاهرِ البلد وأرسل إلى المُقَدَّم يُعلِمُه بوصوله، فرآه الرسولُ وقد سار إلى الموصِلِ وتَرَك ولده شمس الدين مُحمَّدًا بالقلعة، فأعلَمَه بمسيرِ والده إلى المَوصِل، وأقام مَن لَحِقَ أباه بالطريقِ، فأعلمه بوصولِ نور الدين، فعاد إلى سنجار فسَلَّمَها إليه، فدخَلَها نور الدين، وأرسل إلى فخرِ الدِّينِ قرا أرسلان، صاحِبِ الحصن يستدعيه إليه؛ لِمَودَّةٍ كانت بينهما، فوصلَ إليه في عَسكَرِه، فلَمَّا سمع أتابك قطب الدين، وجمال الدين وزين الدين بالمَوصِلِ بذلك جَمَعوا عساكِرَهم وساروا نحو سنجار، فوصلوا إلى تل يعفر، وترَدَّدَت الرسُلُ بينهم بعد أن كانوا عازمينَ على قَصدِه بسنجار، فقال لهم جمالُ الدين: ليس مِن الرأيِ مُحاقته وقِتالُه، وأشار بالصُّلحِ، وسار هو إليه فاصطلح وسَلَّمَ سنجار إلى أخيه قُطب الدين، وسَلَّم مدينةَ حِمص والرحبة بأرضِ الشَّامِ، وبَقِيَ الشام له، وديارُ الجزيرة لأخيه، واتفقا، وعاد نور الدين إلى الشَّامِ، وأخذ معه ما كان قد ادَّخَره أبوه أتابك الشَّهيد فيها من الخزائِنِ، وكانت كثيرةً جِدًّا.