ذُكِرَ أنَّ السلطان محمد الثالث بدأ حكمَه بقتل تسعة عشر أخًا من إخوته الذكور، وأمر أن يُدفَنوا مع أبيه حتى لا ينافِسوه في الحُكم، كما أمر بقتلِ عشر نساءٍ من نساء أبيه كلُّهن حبالى، وهذا بعيد لا يقبلُه لا عقلٌ ولا شرعٌ، وترفضه الفِطَر السوية، وهو من الاتهامات التي حَرَص أعداءُ وخصوم الدولة على تشويه سير سلاطينها بمثل هذا الاتهام, وصرْف الأنظار عن بطولاتهم وإنجازاتهم التي حقَّقوها خلال حكمهم للمسلمين أكثرَ من أربعة قرون؛ فالسلطان محمد الثالث هذا كتَبَ الله على يده انتصاراتٍ عظيمةً لم يستطع تحقيقَها كثيرٌ من أسلافِه، على الرغم من قوَّتهم، كسليمان القانوني!
لمَّا مَرِض أبو بكرٍ الصِّدِّيق رضِي الله عنه وأَحَسَّ بِدُنُوِّ أَجَلِه جمَع عددًا مِن الصَّحابة الذين كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُشاوِرهُم وعرَض عليهم أن يُؤمِّروا رجلًا يَرضَوْنهُ في حَياتِه؛ ولكنَّهم لم يَستقِرُّوا على أَمْرٍ، ثمَّ بدَأ يسألُ النَّاس عن عُمَرَ بن الخطَّاب، ثمَّ استَقرَّ رَأيُه على اسْتِخلاف عُمَرَ، فكتَب بذلك كِتابًا نَصُّهُ: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، هذا ما عَهِدَ أبو بكرٍ بن أبي قُحافةَ إلى المسلمين، أمَّا بعدُ، فإنِّي قد اسْتخلَفتُ عليكم عُمَرَ بن الخطَّاب، ولم آلُكُم خيرًا منه. وقال: اللَّهمَّ إنِّي اسْتخلَفتُ على أهلِك خيرَ أهلِك. وبَلَّغَ بذلك النَّاسَ، ورَضوا به، فكانت تلك خِلافة عُمَرَ رضِي الله عنه.
هو الإمامُ الحافِظُ الجَهبَذُ، شيخُ المحَدِّثين، أبو زكريَّا يحيى بن مَعِينِ بنِ عون بن زياد بن بسطام. الغطفانيُّ, ثم المُرِّي مولاهم البغدادي. ولد سنة ثمان وخمسينَ ومائة. أحدُ أعلامِ أئمَّة الحديثِ، سيِّدُ الحفَّاظِ، إمامُ عَصرِه بالجَرح ِوالتَّعديلِ، وإليه المنتهى والمرجِعُ بذلك، وقال الإمام أحمد: "كلُّ حديثٍ لا يَعرِفُه يحيى، فليس بحديثٍ"، له كتابٌ في العِلَلِ، وكتابٌ في الجَرحِ والتعديل، توفِّيَ بالمدينةِ وغُسِّلَ على الأعوادِ التي غسِّلَ عليها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ونادى منادٍ في جنازتِه: هذا الذي كان يذُبُّ الكَذِبَ عن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ودُفِنَ في البقيعِ- رحمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلامِ والمُسلِمينَ خَيرًا.
هو عليُّ بنُ عبدالله بن جعفر المعروفُ بابنِ المديني، إمامُ عَصرِه في الجرحِ والتَّعديلِ والعِلَل، وُلِدَ سنةَ إحدى وستين ومائةٍ، أحدُ الأعلامِ، وصاحبُ التصانيفِ، روى عنه الأئمَّةُ: البُخاري، وأحمد، والنَّسائي، وغيرُهم، قال ابن عُيَينة: "لولا ابنُ المدينيِّ ما جَلَستُ"، وقال النَّسائيُّ: "كأنَّ اللهَ خلَقَ عليَّ بن المديني لهذا الشأنِ"، وقيل للبخاريِّ ما تشتهي؟ قال: "أقدَمُ العِراقَ وعَلِيُّ بنُ عبدالله حيٌّ فأجالِسُه". وقال البخاري: "ما استصغَرْتُ نفسي عند أحدٍ إلَّا عند عليِّ بنِ المَدِيني" له كتابُ العِلَل، وقَولُه في الجرحِ والتَّعديلِ مُقَدَّمٌ، توفِّيَ في سامرا، فرَحِمَه الله تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمسلمينَ خَيرًا.
سارت الكرج (وهم قوم كفار) في جموعِها إلى مدينة كنجة من بلاد أران قصدًا لحصرها، وأعتَدُوا لها بما أمكنهم من القوة؛ لأن أهل كنجة كثيرٌ عددهم، قويةٌ شوكتُهم، وعندهم شجاعةٌ كثيرة من طول ممارستهم للحرب مع الكرج، فلما وصلوا إليها ونازلوها قاتلوا أهلها عدة أيام من وراء السور، لم يظهر من أهلها أحد، ثم في بعض الأيام خرج أهل كنجة ومن عندهم من العسكر من البلد، وقاتلوا الكرج بظاهر البلد أشدَّ قتال وأعظَمَه، فلما رأى الكرج ذلك علموا أنهم لا طاقةَ لهم بالبلد، فرحلوا بعد أن أثخن أهل كنجة فيهم، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25]
اجتمعت الكرج في خلقٍ كثير يبلغون ثلاثين ألف مقاتل، ودخلوا بلاد الإسلام، وقصدوا مدينةَ دوين من أذربيجان، فملكوها ونَهَبوها، وقتلوا من أهلِها وسوادها نحوَ عشرة آلاف قتيل، وأخذوا النساءَ سبايا، وأسَرُوا كثيرًا، وأعرَوُا النساءَ وقادوهم حُفاةً عُراةً، وأحرقوا الجوامِعَ والمساجِدَ، فلما وصلوا إلى بلادهم أنكر نساءُ الكرج ما فعلوا بنساءِ المسلمين، وقُلْنَ لهم قد أحوجتُم المسلمين أن يفعلوا بنا مثلَ ما فعلتُم بنسائهم؛ وكسونَهنَّ، ولَمَّا بلغ الخبر إلى شمس الدين إيلدكز، صاحب أذربيجان والجبل وأصفهان، جمع عساكِرَه وحشَدَها، وانضاف إليه شاه أرمن بن سكمان القطبي، صاحب خلاط، وابن آقسنقر، صاحب مراغة وغيرها، فاجتمعوا في عسكر كثير يزيدون على خمسين ألف مقاتل، وساروا إلى بلاد الكرج في صَفَر سنة ثمان وخمسين ونهبوها، وسَبَوا النساءَ والصبيان، وأسَروا الرِّجالَ، ولقيهم الكرج، واقتتلوا أشدَّ قتالٍ صبَرَ فيه الفريقان، ودامت الحربُ بينهم أكثر من شهر، وكان الظَّفَرُ للمسلمين، فانهزم الكرج وقُتِلَ منهم كثيرٌ وأُسِرَ كذلك، وكان سببُ الهزيمة أن بعض الكرج حضر عند إيلدكز، فأسلم على يديه، وقال له: تعطيني عسكَرًا حتى أسيرَ بهم في طريق أعرِفُها وأجيء إلى الكرجِ مِن ورائهم وهم لا يشعرون، فاستوثق منه، وسيَّرَ معه عسكرًا وواعده يومًا يصِلُ فيه إلى الكرج، فلما كان ذلك اليومُ، قاتل المسلمون الكرج، فبينما هم في القتال وصل ذلك الكرجي الذي أسلم ومعه العسكرُ، وكبَّروا وحملوا على الكرج من ورائهم، فانهزموا، وكثُرَ القتل فيهم والأسرُ، وغنم المسلمون من أموالِهم ما لا يدخُلُ تحت الإحصاءِ لِكَثرتِه؛ فإنهم كانوا متيقِّنين النَّصرَ لكثرتهم، فخَيَّبَ الله ظنَّهم، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثةَ أيام بلياليها، وعاد المسلمون منصورين قاهرين.
حضر إلى القاهرة طائفةٌ ما بين رجال ونساء، ذكروا أنهم ارتَدُّوا عن الإسلامِ، وقد كانوا قبل ذلك على النصرانية، يريدونَ بارتدادِهم التقَرُّبَ إلى المسيح بسَفكِ دمائهم، فعُرِضَ عليهم الإسلام مرارًا فلم يقبلوا، وقالوا: "إنما جئنا لنتطَهَّر ونتقَرَّب بنفوسنا إلى السيد المسيحِ" فقُدِّمَ الرجال تحت شباك المدرسة الصالحية بين القصرين، وضُرِبَت أعناقهم، وعُرِضَ الإسلام على النساء، فأبَيْنَ أن يُسلِمْن، فأخذَهنَّ القاضي المالكي إلى تحت القلعة، وضَرَب أعناقَهنَّ، كما قَدَّمَ أيضًا راهبًا نصرانيًّا قدح في الإسلام، وأصر على قبيحِه، فضُرِبَت عنقه، وكان هناك ثلاث نسوة، فرفعن أصواتَهنَّ بلقلقة ألسِنَتِهن، كما تفعَلُ النساء عند فَرَحِهنَّ؛ استبشارا بقتل الراهب، وأظهرن شغفًا به، وهيامًا لِما جرى له، وصَنَعْنَ كصنيعه من القدح في الإسلام، وأرَدْنَ تطهيرَهنَّ بالسَّيفِ أيضًا، ثم ضُرِبَت رقبة رفيق الراهب في يوم الجمعة الثاني والعشرين منه تحت شباك الصالحية، وضُرِبَت رقاب النسوة الثلاث من الغد يوم السبت تحت القلعة بيد الأمير سودن الشيخوني الحاجب، وأُحرِقَت جُثَثُهن بحُكمِ أنَّهن ارتَدَدْن عن الإِسلامِ، وأظهَرْنَ أنهنَّ فعَلْنَ هذا لعِشقِهنَّ الراهب، وكان يُعرَفُ بأبي نفيفة، ولم يُسمَعْ في أخبار العُشَّاق خبرًا أغرب من هذا، ثم جاء بعد ذلك رجلٌ من الأجناد على فرس، وقال للقاضي: طهرني بالسيف، فإني مرتَدٌّ عن الإسلامِ، فضُرِبَ وسُجِنَ.
منذ إعلانِ قيام الكيان الصهيوني سنة 1948م مارست الحكومةُ الصهيونيةُ الضغطَ على العرب الذين بَقُوا في فلسطين واستخدمت معهم أبشَعَ الأساليب من استيلاء للأراضي والمصادرات، وإقامة المستعمرات والتهجير الإجباري للفلسطينيين، وإضافةً لهذا كله مارسوا اعتداءاتِهم على الفلسطينيين من قتل واغتيالات، وكان من أبشع تلك العمليات مجزرةُ دير ياسين التي ارتكبها اليهودُ في شهر نيسان 1948م؛ قتلوا فيها الأبرياء من السكان من أهل القرية من النساء والأطفال، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من مائتين وخمسين قتيلًا، وألقوا بهم في الآبار المهجورة، وبَقَروا بطون الحوامِلِ، ومَثَّلوا بالجُثَث، وطافوا بالنساء في سيارات مكشوفةٍ في شوارع القدس وشهروا بهنَّ! فكان لهذه المجزرة البشعة أثَرٌ كبير على نفوس الفلسطينيين الذي انتقموا من قافلة يهودية وقتلوا أفرادَها المكوَّنين من سبعة وسبعين جنديًّا.
أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ صالحِ بنِ سليمانَ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عُثمانَ (الذي كان مَعروفًا بعُثيمينٍ تَصغيرًا) التميميُّ، نزَحَ أجدادُه من الوشمِ إلى عُنيزةَ، التي وُلد فيها الشيخ محمد سنةَ 1347هـ في السابع والعشرين من شهر رمضانَ، في بيت علمٍ واستقامةٍ، وكان الشيخ قد رُزق ذكاءً وهمَّةً عاليةً، مع إعراضٍ عن الدنيا، يأمُرُ بالمعروف، ويَنْهى عن المنكرِ، صَبورًا حازمًا حريصًا على وقته، معَ زُهدٍ وورَعٍ، تتلمذَ على يد عددٍ من العلماء من أبرزهم: الشيخُ عبدُ الرحمن بنُ سِعديٍّ، والشيخُ عبدُ العزيز بنُ بازٍ، والشيخُ محمدٌ الأمينُ الشنقيطيُّ، وعلى جَدِّه الشيخِ عبدِ الرحمنِ بنِ سليمانَ آلَ دامغٍ، وغيرِهم، وكان قد تصدَّرَ للتدريس في جُمادى الآخرةِ 1376هـ، وبَقيَ إلى وفاتِه يُقدِّمُ للأمة الإسلامية عِلمًا وفِقهًا بأسلوبٍ سهلٍ يَفهَمُه العامةُ والخاصةُ، وهذا من ميزات الشيخِ رحمه اللهُ، وجمَعَ في تعليمِه بين مدرسَتَيِ الفقهاءِ والمحدِّثينَ، فغدا فقيهَ عصرِه، ولا أدلَّ على ذلك من أشرطتِه السمعيَّة التي شرحَ فيها العديدَ من المتونِ في مختلِفِ الفنون، من الحديث، والنحو، والفقه، والأصول، وأشهرُها الشرحُ الممتعُ بالإضافة للفتاوى، وكذلك مؤلَّفاتُه التي بلغت قُرابةَ المئةِ وخمسةَ عَشَرَ مؤلَّفًا بين كتابٍ وكُتيِّبٍ، منها: ((أصول التفسير))، و((الأصول من علم الأصول))، و((حكم تارك الصلاة))، و((رسالة في صفة الصلاة))، و((شرح لمعة الاعتقاد))، و((الشرح الممتع))، و((القواعد المثلى))، و((القول المفيد على كتاب التوحيد))، وغيرها كثيرٌ، أثْرى بها المكتبةَ الإسلاميةَ، فجزاه اللهُ خيرًا، أمَّا وفاتُه فكانت في عصر يوم الأربعاء، في الخامسَ عَشَرَ من شوالٍ 1421هـ / العاشر من كانون الثاني 2001م، إثْرَ مرضٍ ألمَّ به في أمعائه، وكان في المستشفى التخصصي بجُدَّةَ، وصُلِّيَ عليه في اليوم التالي بعد صلاة العصر في المسجد الحرام، ودُفِنَ بمقبرة العدل، بجوار شيخه الإمام ابن بازٍ، الذي تُوفيَ قبلَه بسنةٍ وثمانية أشهرٍ وثمانيةَ عَشَرَ يومًا. رحمهما اللهُ رحمةً واسعةً، وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خيرًا.