هو الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، واسمه تمرلنك وقيل تيمور، كلاهما بمعنى واحد، والثاني أفصح، وهو باللغة التركية: الحديد. ومعنى لنك: الأعرج، ومعنى كوركان: صهر الملك، وهو ينتمي إلى قبيلة البرلاس التركية، وقد كان أحد أجداده وهو قراجا رنويان قد دعم جنكيز خان فأحبَّه وجعله وصيًّا على ابنه جغطاي، فبرز بين المغول وعرف. ولد تيمور عام 736 في كش، وقيل: إنه دخل في الإسلام على مذهب الشيعة. وكان تيمور طويل القامة، كبير الجبهة، عظيم الهامة، شديد القوَّة، أبيض اللون مشربًا بحمرة، عريض الأكتاف، غليظ الأصابع، مسترسل اللِّحية، أشلَّ اليد، أعرج اليمنى، تتوقَّد عيناه، جهير الصَّوت، لا يهاب الموت، قد بلغ الثمانين، وهو متمتِّع بحواسه وقوَّته. وكان يكره المزاَّح ويبغض الكذّاب، قليل الميل إلى اللهو، على أنّه كان يعجبه الصوت الحسن، وكان نقش خاتمه: رستى رستى، ومعناه: "صدقت نجوت" وكان له فراسات عجيبة، وسعد عظيم، وحظ زائد في رعيته، وكان له عزم ثابت، وفهم دقيق، محجاجًا سريع الإدراك، متيقِّظَا يفهم الرَّمز ويدرك اللمحة، ولا يخفى عليه تلبيس ملبِّس، وكان إذا عزم على شيء لا ينثني عنه، وكان يقال له: صاحب قران الأقاليم السبعة، وقهرمان الماء والطين، وقاهر الملوك والسَّلاطين، وكان مغرمًا بسماع التاريخ وقصص الأنبياء عليهم السَّلام ليلًا ونهارا، حتى صار-لكثرة سماعه للتاريخ- يردُّ على القارئ إذا غلط فيها، وكان يحبُّ العلم والعلماء، ويقرِّب السَّادة الأشراف، ويُدني أرباب الفنون والصَّنائع. وكان انبساطه بهيبة ووقار، وكان يباحث أهل العلم وينصف في بحثه، ويبغض الشُّعراء والمضحكين، ويعتمد على أقوال الأطبَّاء والمنجِّمين، حتى إنَّه كان لا يتحرَّك بحركة إلا باختيار فلكي, وكان يلازم لعب الشطرنج، وكان الشيخ عبد الجبَّار بن عبد الله المعتزلي الحنفي الخوارزمي عالم الدّشت، صاحب تيمورلنك وإمامه وعالمه وترجمانه. ولتيمور واقعة مع العلَّامة القاضي محب الدين أبي الوليد محمد بن محمد بن محمود الحلبي قاضيها الحنفي المعروف بابن الشحنة: لما أخذ تيمور قلعة حلب بالأمان والأيمان فاستحضر علماءها وقضاتها فحضروا إليه وطلب من معه من أهل العلم، فقال لكبيرهم عنده، وهو عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي، قُل لهم: إني سائلهم عن مسائل سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وهراة وخراسان وسائر البلاد التي افتتحتها فلم يفصحوا الجواب، فلا تكونوا مثلهم، ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم، وليعرف ما يتكلم به؛ فإني خالطت العلماء، وكان يعنت العلماء في الأسئلة ويجعل ذلك سببًا إلى قتلهم أو تعذيبهم، قال القاضي ابن الشحنة، فقال القاضي شرف الدين موسى الأنصاري الشافعي: هذا شيخنا ومدرس هذه البلاد ومفتيها مشيرًا إليَّ، سلوه. قال: فقال لي قاضيه عبد الجبار: سلطاننا يقول: إنه بالأمس قُتِل منا ومنكم، فمن الشهيد: قتيلُنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع وقلنا في أنفسنا: هذا الذي كان يبلغنا عنه من التعنت، وسكت القوم ففتح الله عليَّ بجواب سريع بديع فألقى إلي تيمور سمعه وبصره، وقال لعبد الجبار يسخر من كلامي: كيف سئل رسول الله عن هذا؟ وكيف أجاب؟ فقلت: جاء أعرابي إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إن الرجل يُقاتِلُ حميةً ويقاتل ليريَ مكانه من الشجاعة، فأينا الشهيد في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكونَ كلمة الله هي العليا، فهو الشهيد)). فقال تيمورلنك: خوب خوب! فانفتح باب المؤانسة، فكثر منه السؤال وكثر مني الجواب، وكان آخر ما سأل أن قال: ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد؟ فأسرَّ إلى القاضي شرف الدين: أن اعرِفْ كيف تجاوبُه؛ فإنه شيعي، فلم أفرغ من سماع كلامه إلا وقد قال القاضي علم الدين القفصي المالكي كلامًا معناه: إن الكل مجتهدون، فغضب لذلك غضبًا شديدًا، وقال: علي على الحق، ومعاوية ظالم، ويزيد فاسق، وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزيدون قتلوا الحسين، قال: فأخذت في ملاطفته والاعتذار عن المالكي بأنه أجاب بشيء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فعاد إليَّ دون ما كان عليه من البسط, وحضر صلاة المغرب وأقيمت الصلاة وأمَّنا عبد الجبار، وصلى تيمورلنك إلى جانبي قائمًا يركع ويسجد، ثم تفرقنا، وفي اليوم الثاني: غدر بكل من في القلعة وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة ما لا يحصى، أخبرني بعض كُتابه أنه لم يكن أخذ من مدينة قط ما أخذ من هذه القلعة، وعوقب غالب المسلمين بأنواع من العقوبة، وحبسوا بالقلعة. بعد أن عاد تيمورلنك من حربه مع العثمانيين واستقر في سمرقند استعدَّ لغزو الصين، فتوجه بجيوشه إليها، ولكن وفي الطريق هاجت العواصف الثلجية فتأثر ببردها، فكانت وفاته في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة 807 وهو نازل بالقرب من أترار، وأترار بالقرب من آهنكران، ومعنى آهنكران باللغة العربية: الحدادون، وكان سبب موته أنَّه خرج من بلاده لأخذ بلاد الصِّين، وقد انقضى فصل الصيف ودخل الخريف، وكتب إلى عساكره أن يأخذوا الأُهبة لمدة أربع سنين، فاستعدوا لذلك وأتوه من كلِّ جهة، وصُنِع له خمسمائة عجلة لحمل أثقاله. ثمَّ خرج من سمرقند في شهر رجب وقد اشتد البرد، ونزل على سيحون وهو جامد، فعبره ومرَّ سائرا، فأرسل الله عليه من عذابه جبالًا من الثلج التي لم يُعهَد بمثلها مع قوَّة البرد الشديد، فلم يبقَ أحد من عساكره حتى امتلأت آذانهم وعيونهم وخياشيمهم، وآذان دوابهم وأعينها من الثلج، إلى أن كادت أرواحهم تذهب. ثمَّ اشتدت تلك الرِّياح، وملأ الثلج جميع الأرض -مع سعتها- فهلكت بهائمهم. وجمد كثير من النّاس، وتساقطوا عن خيولهم موتًا. وجاء بعقب هذا الثَّلج والرّيح أمطار كالبحار، وتيمور مع ذلك لا يرقُّ لأحد، ولا يبالي بما نزل بالناس، بل يجدُّ في السَّير، فما أن وصل تيمور إلى مدينة أترار حتى هلك خلق كثير من قواته, ثمَّ أمر تيمور أن يستقطر له الخمر حتى يستعمله بأدوية حارَّة لدفع البرد وتقوية الحرارة، فعُمِل له ما أراد من ذلك, فشرع تيمور يستعمله ولا يسأل عن أخبار عساكره وما هم فيه، إلى أن أثَّرت حرارة ذلك وأخذت في إحراق كبده وأمعائه، فالتهب مزاجه حتى ضَعُف بدنه، وهو يتجلَّد ويسير السَّير السّريع، وأطبَّاؤه يعالجونه بتدبير مزاجه إلى أن صاروا يضعون الثلج على بطنه؛ لعِظَمِ ما به من التلهب، وهو مطروح مدة ثلاثة أيام، فتَلِفَت كَبِده، وصار يضطرب ولونه يحمرُّ، ونساؤه وخواصُّه في صراخ، إلى أن هلك إلى لعنة الله وسَخَطِه، ولما مات لبسوا عليه المسوح، ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل بن ميران شاه بن تيمور، فعاد إلى سمرقند برمَّة جده تيمور. فخرج النَّاس إلى لقائه لابسين المسوح بأسرهم، وهم يبكون ويصرخون، ودخل ورمَّةُ تيمور بين يديه في تابوت أبنوس، والملوك والأمراء وكافة النَّاس مشاة بين يديه، وقد كشفوا رؤوسهم وعليهم المسوح، إلى أن دفنوه على حفيده محمد سلطان بمدرسته، وأقيم عليه العزاء أيَّامًا، وقُرِئَت عنده الختمات، وفُرِّقت الصَّدقات، ومدَّت الحلاوات والأسمطة بتلك الهمم العظيمة، ونُشِرت أقمشته على قبره، وعلَّقوا سلاحه وأمتعته على الحيطان حوالي قبره، وكلُّها ما بين مرصع ومكلل ومزركش، في تلك القبّة العظيمة، وعُلِّقت بالقبَّة قناديل الذَّهب والفضَّة، من جملتها قنديل من ذهب زنته أربعة آلاف مثقال -وهو رطل بالسَّمرقندي، وعشرة أرطال بالدِّمشقي، وأربعون رطلًا بالمصري- وفرشت المدرسة بالبُسُط الحرير والدِّيباج. ثمَّ نُقِلت رمَّتُه إلى تابوت من فولاذ عُمِل بشيراز، وهو على قبره إلى الآن، وتحمل إليه النَّذورة من الأعمال البعيدة، ويُقصَد قبره للزِّيارة والتّبرُّك به، ويأتي قبره من له حاجة ويدعو عنده!! وإذا مرَّ على هذه المدرسة أمير أو جليل خضع ونزل عن فرسه إجلالًا لقبره؛ لِما له في صدورهم من الهيبة. فتسلطن بعده حفيده خليل بن ميران شاه فاستولى خليل على خزائن جده وبذل الأموال، وتم أمرُه إلا أن ولدَي تيمور: شاه رخ، وجلال الدين ميرانشاه، اقتسموا المملكة بينهما بخط ممتد على حدود إيران، فأخذ شاه رخ الغرب، وفيه العراق وأذربيجان وأجزاء من بلاد القفجاق القوقاز، وأخذ ميانشاه الشرق، وفيه خراسان وسجستان وأصفهان وشيراز.
هو العَلَّامةُ، الثَّبْتُ، الفَقيهُ، شَيخُ الإسلامِ، أبو بكرٍ أَحمدُ بنُ الحُسينِ بن عَلِيِّ بن عبدِ اللهِ بن موسى البَيهقيُّ، الخسرو جردي الشافعيُّ الخُرسانيُّ الحافظُ الكَبيرُ المَشهورُ، المُحَدِّثُ الأُصوليُّ. وُلِدَ سَنةَ 384هـ. أَخَذَ الفِقهَ عن أبي الفَتحِ المروزيِّ، ثم غَلَبَ عليه الحَديثُ، واشتَهرَ به، وهو أوَّلُ مَن جَمعَ نُصوصَ الإمامِ الشافعيِّ في عَشرِ مُجلَّداتٍ. قال إمامُ الحَرمينِ في حَقِّهِ: "ما من شافعيِّ المَذهبِ إلَّا وللشافعيُّ عليه مِنَّةٌ، إلَّا أحمدَ البيهقيَّ فإنَّ له على الشافعيِّ مِنَّةً، وكان مِن أَكثرِ الناسِ نَصرًا لِمَذهبِ الشافعيِّ". كان له التَّصانيفُ التي سارَت بها الرُّكبانُ إلى سائرِ الأمصارِ، أَخذَ العِلمَ عن الحاكمِ أبي عبدِ الله النيسابوري، وسَمِعَ على غَيرِه شيئًا كَثيرًا، وجَمعَ أَشياء كَثيرةً نافعةً، لم يُسبَق إلى مِثلِها، ولا يُدرَك فيها، منها كتاب: ((السُّنَن الكبير))، و((السُّنَن الصغير))، و((مَعرِفَة السُّنَن والآثار))، و((المَدْخَل))، و((الآداب)) و((شُعَب الإيمان))، و((الخِلافِيَّات))، و((دَلائِل النُّبُوَّة))، و((البَعْث والنُّشُور))، وغيرُ ذلك من المُصَنَّفاتِ الكِبارِ والصِّغارِ المُفيدَةِ، وكان زاهدًا مُتقَلِّلًا من الدُّنيا، كَثيرَ العِبادَةِ والوَرَعِ. قال الحافظُ عبدُ الغافِر بن إسماعيل: "كان البيهقيُّ على سِيرَةِ العُلماءِ، قانِعًا باليَسيرِ، مُتجَمِّلًا في زُهدِهِ ووَرَعِه, الفَقيهَ، الحافظَ الأُصوليَّ، الدَّيِّنَ الوَرِعَ، واحدَ زَمانِه في الحِفْظِ، وفَرْدَ أَقرانِه في الإتقانِ والضَّبْطِ، مِن كِبارِ أَصحابِ الحاكمِ، ويَزيدُ على الحاكمِ بأَنواعٍ مِن العُلومِ، كَتَبَ الحَديثَ، وحَفِظَهُ مِن صِباهُ، وتَفَقَّه وبَرَعَ، وأَخَذَ فَنَّ الأُصُولِ، وارتَحَلَ إلى العراقِ والجبالِ والحِجازِ، ثم صَنَّفَ، وتَواليفُه تُقارب ألفَ جُزءٍ مما لم يَسبِقهُ إليه أَحدٌ، جَمَعَ بين عَلْمِ الحديثِ والفِقْهِ، وبَيانِ عِلَلِ الحَديثِ، ووَجْهِ الجَمْعِ بين الأحاديثِ، طَلبَ منه الأئمَّةُ الانتقالِ من بَيهَق إلى نيسابور، لِسَماعِ الكُتُبِ، فأتى في سَنةِ 441هـ، وعَقَدوا له المَجلِسَ لِسَماعِ كِتابِ ((المعرفة)) وحَضَرهُ الأئمَّة" تُوفِّي بنيسابور، ونُقِلَ تابوتُه إلى بَيهَق.
هو العلامة البارع ذو البلاغتين: أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، الأديب اللغوي النحوي البصري الحريري، صاحب المقامات المشهورة، كان يسكن بني حرام أحد محال البصرة مما يلي الشط، مولِدُه ومَرْباه بقرية المشان، من أعمال البصرة، وكان أحد أئمة عصره في الأدب والبلاغة والفصاحة، وله مصنفات كثيرة، من أبرزها المقامات، التي لا نظير لها في معناها، وقد سلك فيها منوالَ بديع الزمان صاحب المقامات، وقد اشتملت مقامات الحريري على شيء كثير من كلام العرب: من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، ومَن عرَفَها حقَّ معرفتها استدلَّ بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته، وكان سببُ وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله؛ قال: "كان أبي جالسًا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أُهبة السفر، رثُّ الحال، فصيح الكلام، حسنُ العبارة، فسألَتْه الجماعة: من أين الشيخُ، فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته، فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد، واشتهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنوشروان بن خالد بن محمد القاشاني وزير الخليفة المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة، وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار مَن إشارتُه حُكم، وطاعتُه غُنم، إلى أن أنشئَ مقاماتٍ أتلو فيها البديع، وإن لم يدرك الظالِعُ شأوَ الضليع" وله كتاب درة الغواص في أوهام الخواص، ومُلحة الإعراب، وغيرها. قال الذهبي: "أملى الحريري بالبصرة مجالس، وعمل (درة الغواص في وهم الخواص)، و(المُلحة) وشرحها، و(ديوانًا) في الترسُّل، وغير ذلك، وخضع لنثره ونظمه البلغاء. قدم بغداد سنة 500، وحدَّث بها بجزء من حديثه، وبمقاماته".
هو العلامة المتكلم أبو الحسن علي بن أبي علي ابن محمد بن سالم الثعلبي سيف الدين الآمدي، الحنبلي ثم الشافعي. الحموي الدمشقي، صاحبُ المصَنَّفات في الأصلين وغيرهما، ومن مصنفاته: " أبكار الأفكار في الكلام " و" دقائق الحقائق في الحكمة " و" إحكام الأحكام في أصول الفقه " ولد بعد 550 بيسيرٍ بآمد، وقرأ بها القراءات على الشيخ محمد الصفار، وعمار الآمدي. وحفظ "الهداية" في مذهب أحمد. كان حنبليَّ المذهب فصار شافعيًّا أشعريًّا أصوليًّا منطقيًّا جدليًّا خلافيًّا، وكان حسن الأخلاق، وقد تكَلَّموا فيه بأشياءَ اللهُ أعلم بصحتها، وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظَّم والكامل يُكرمونَه وإن كانوا لا يحبُّونه كثيرًا، وقد فوَّضَ إليه المعَظَّم تدريس العزيزية، فلما ولي الأشرفُ دمشق عزله عنها ونادى بالمدارس أن لا يشتغل أحدٌ بغير التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بعلومِ الأوائل نفيتُه، فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفِّي بدمشق، ودُفِنَ بتربته بسفح قاسيون، وكان قد اشتغل ببغداد على أبي الفتح نصر بن فتيان بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهبِ الشافعي فأخذ عن ابن فضلان وغيره، وحَفِظَ طريقة الخلاف للشريف، وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام واشتغل بعلوم المعقول. قال الذهبي: "تفنَّنَ في علم النظر، والفلسفة وأكثَرَ من ذلك. وكان من أذكياءِ العالم, ثم دخل الديارَ المصرية وتصَدَّرَ بها لإقراء العقليات بالجامع الظافري. وأعاد بمدرسةِ الشافعي. وتخرَّج به جماعة. وصنَّف تصانيفَ عديدة. ثم قاموا عليه، ونسبوه إلى فساد العقيدة والانحلال والتعطيل والفلسفة. وكتبوا محضرًا بذلك. قال القاضي ابن خلكان: وضعوا خطوطَهم بما يستباحُ به الدم، فخرج مستخفيًا إلى الشام فاستوطن حماة" ثم تحوَّل إلى دمشق فدرس بالعزيزية، ثم عُزِلَ عنها ولزم بيته إلى أن مات، وله ثمانون عامًا- رحمه الله تعالى وعفا عنه.
هو السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ المأمون بن أحمد المنصور الذهبي، ملك السعديين في المغرب الأقصى. كان المأمونُ وَلِيَّ عهد أبيه المنصور وخليفتَه على فاس وأعمالها سائرَ مدة أبيه، وكان للمنصور اعتناءٌ تام به واهتمامٌ بشأنه حتى قيل إن المنصور كان لا يختِمُ على صندوق من صناديق المال إلا قال: "جعل الله فتحَه على يد ابنِه الشيخ رجاءَ أن يقوم بالأمر بعدَه، فلم يُقدَّرْ له، وخرج الأمرُ عن مرادِه؛ فقد أساء المأمون السيرةَ وأضَرَّ بالرعية، قال اليفرني: "كان فسيقًا خبيث الطويَّة مُولَعًا بالعبث بالصبيان، مدمنًا للخمر سفاكًا للدماء غير مكتَرِث بأمور الدين من الصلاة وشرائطها، ولَمَّا ظهر فساده وبان للناس عَوارُه، نهاه وزير أبيه القائد أبو إسحاق إبراهيم السفياني عن سوء فعلِه، فلم ينتَهِ واستمر على قبح سيرتِه، فأعاد عليه اللومَ فلَجَّ في مذهبِه، ولما أكثَرَ عليه مِن التقريع سقاه السمَّ فكان فيه حَتفُه, فلما كثرت قبائحُ المأمون وترددت الشكايات لأبيه، كتب إليه لينكَفَّ عن غيِّه وينزجر عن خبثِه، فما زاده التحذيرُ إلا إغراءً، فلما رأى المنصور أنه لم يكترثْ بأمرِه ولم ينزجِرْ عن قبائحه، عزم على التوجُّه إلى فاس بقصد أن يمكُرَ به ويؤدِّبَه بما يكون رادعًا له، فلما سمع الشيخ بذلك جمع عساكِرَه وهيأَ جنده لمدافعة أبيه، فتحيَّل عليه أبوه حتى أسَرَه ثم سجنه في مكناسة، وظل في سجنِه حتى أخرجه أخوه أبو فارس ليحارِبَ به أخاهما زيدان، وتمكن الشيخ وتغلب على أخيه زيدان، ثم على أبي فارس، وسيطر على حكم المغرب، فظلم الرعيةَ وأسرف على نفسِه إلى أن توفي في هذا العام. بعد تذمُّر وسخَط أهل تطوان ونواحيها من أفعال الشيخ المأمون، اجتمع أعيانُ القوم وتآمروا على قتل الشيخ وأتباعه، فقُتِل السلطان الشيخ المأمون في وسط محلَّتِه المعروفة بفج الفرس, وانتُهِبت تلك المحلة وتفرَّقت جموعه, وتولى بعده أخوه زيدان في حُكم المغرب.
هو سلطان المغرب الملقب بأمير المؤمنين، عبد المؤمن بن علي بن علوي الكومي، القيسي، المغربي التلمساني. وُلِدَ بأعمال تلمسان، سنة 487, وكان أبوه يصنع الفخار. كان أبيضَ جميلًا، تعلوه حُمرة، أسود الشعر، معتدل القامة، جَهْوري الصوت، فصيحًا جَزلَ المَنطِق، لا يراه أحدٌ إلَّا أحَبَّه بديهةً، وكان في كِبَره شَيخًا وقورًا، أبيض الشعر، كثَّ اللحية، واضِحَ بياض الأسنان، وكان عظيمَ الهامة، طويل القعدة، غليظَ الكف، أشهلَ العين، على خَدِّه الأيمن خالٌ, وكان كامِلَ السُّؤددِ، عاليَ الهمة، خليقًا للإمارة، وكان شديدَ السطوة، كان في جُودِه بالمال كالسَّيلِ، وفي محبته لحُسنِ الثناء كالعاشق. مجلِسُه مجلس وقار وهيبةٍ، مع طلاقةِ الوجه. انعمرت البلادُ في أيامه، وما لبس قَطُّ إلا الصوفَ طُولَ عُمُرِه. وما كان في مجلسِه حُصرٌ، بل مفروش بالحَصباءِ، وله سجادة من الخوص تحته خاصة. ظهر أمر عبد المؤمن بعد أن التقى بابن تومرت مُدَّعي المهدية والانتساب لآل البيت, وهو في طريق رجعته من المشرق إلى إفريقية، حيث صادفه عبد المؤمن، فحَدَّثه ووانسه، وقال: "إلى أين تسافر؟ قال: أطلبُ العلم. قال: قد وجدتَ طَلِبَتَك. ففَقَّهه وصحبه، وأحبه، وأفضى إليه بأسرارِه لِما رأى فيه من سمات النُّبل، فوجد همَّتَه كما في النفس. قال ابنُ تومرت يوما لخواصِّه: هذا غلَّاب الدُّوَل" قال ابن خَلِّكان: "وجد ابن تومرت عبدَ المؤمن- وهو إذ ذاك غلام- فأكرمه وقدَّمَه على أصحابه، وأفضى إليه بسِرِّه، وانتهى به إلى مراكش، وصاحِبُها يومئذ علي بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين، فأخرجه منها، ثم توجه إلى الجبال وحشد واستمال المصامدة، وبالجملة فإن ابن تومرت لم يملك شيئًا من البلاد، بل عبد المؤمن ملَكَ بعد وفاته بالجيوش التي جهَّزها ابن تومرت والترتيب الذي رتبه، وكان ابن تومرت يتفَرَّس فيه النجابةَ ويُنشِدُ إذا أبصره: تكاملت فيك أوصافٌ خُصِصْتَ بها فكلُّنا بك مسرورٌ ومُغتَبِطُ السنُّ ضاحكةٌ والكَفُّ مانِحةٌ والنفسُ واسعةٌ والوجهُ مُنبَسِطُ" لما توفي ابن تومرت سنة 524، كتم أصحابُه خبر موته، وجعلوا يَخرُجون من البيت، ويقولون: قال المهدي كذا، وأمر بكذا، وبقي عبد المؤمن يُغِيرُ في عسكره على القرى، ويعيشون من النهب، وبعد خمسة أعوام أفصحوا بموت ابن تومرت، وبايعوا عبد المؤمن ولقَّبوه بأمير المؤمنين. وأوَّل ما أخَذَ عبد المؤمن من البلاد وهران، ثم تلمسان، ثم فاس، ثم سلا، ثم سبتة. ثم حاصر مراكش أحد عشر شهرًا، فأخذها في أوائل سنة اثنتين وأربعين. وامتد مُلكُه إلى أقصى المغرب وأدناه، وبلاد إفريقية، وكثير من الأندلس، وسمى نفسه: أمير المؤمنين، وقصدته الشعراء وامتدحوه, ولما قال فيه الفقيه محمد بن أبي العباس التيفاشي هذه القصيدة، وأنشده إياها: ما هَزَّ عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي فلما أنشده هذا المطلع أشار إليه أن يقتصرَ عليه، وأجازه بألف دينار". لم يزل عبد المؤمن بعد موت ابن تومرت يقوى، ويَظهَر على النواحي، ويدوخ البلاد. استولى على مراكش كرسيِّ مُلك أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. قال سبط ابن الجوزي: "لما استولى عبد المؤمن على مراكش، قطع الدعوةَ لبني العباس ثمَّ قَتَل المُقاتِلة، ولم يتعرَّضْ للرعية، وأحضر أهلَ الذمَّة وقال: "إن المهديَّ أمرني ألَّا أُقِرَّ الناس إلا على ملَّة الإسلام، وأنا مخيِّرُكم بين ثلاث: إما أن تُسلِموا، وإما أن تلحقوا بدار الحرب، وإمَّا القتل. فأسلم طائفةٌ، ولحق بدار الحرب آخرون، وخَرَّبَ الكنائِسَ ورَدَّها مساجِدَ، وأبطل الجزيةَ، وفعل ذلك في جميع مملكته، ثم فرق في الناس بيتَ المال وكَنَسَه، وأمر الناس بالصلاةِ فيه اقتداءً بعلي رضي الله عنه، وليعلم الناسُ أنه لا يُؤثِرُ جمعَ المال, وقال: من ترك الصلاةَ ثلاثةَ أيَّامٍ فاقتلوه. وكان يصلِّي بالناس الصلوات، ويقرأ كل يومٍ سُبعًا، ويلبَسُ الصوفَ، ويصوم الاثنين والخميس، ويقسم الفيء على الوجه الشرعي، فأحبه الناس", ثم تملك بجاية وأعمالها وأما الأندلس فاختلت أحوالها اختلالًا بَيِّنًا أوجب تخاذل المرابطين وميلَهم إلى الراحة، فهانوا على الناس، واجترأ عليهم الفرنجُ، وقام بكل مدينة بالأندلس رئيس منهم فاستبَدَّ بالأمر، وأخرج مَن عنده من المرابطين. وكادت الأندلسُ تعود إلى مثل سيرتها بعد الأربعمائة عند زوال دولة بني أمية, فجهز عبد المؤمن الشيخَ أبا حفص عمر إينتي، فعدى البحر إلى الأندلس، فافتتح الجزيرةَ الخضراء، رندة، ثم افتتح إشبيليَّةَ، وغرناطة، وقرطبة. وسار عبد المؤمن في جيوشه وعبَرَ مِن زقاق سبتة، فنزل جبلَ طارق، وسماه: جبل الفتح. فأقام هناك شهرًا، وابتنى هناك قصرًا عظيمًا ومدينة، فوفد إليه رؤساء الأندلس، ومدحه شعراؤها، فمن ذلك: ما للعدى جنة أوفى من الهَرَبِ أين المفرُّ وخَيلُ الله في الطَّلَبِ فأين يذهبُ مَن في رأس شاهقةٍ وقد رمته سهامُ الله بالشُّهُبِ حدث عن الروم في أقطار أندلس والبحر قد ملأ البرين بالعرب فلما أتم القصيدةَ قال عبد المؤمن: بمثل هذا تُمدَحُ الخلفاء. عبد المؤمن هو خليفة ابن تومرت وعلى طريقته ودعوته، فكان يمتحن الناس في عصمة ابن تومرت ودعواه أنه المهدي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي يقولون: إنه معصوم، ويقولون في خطبة الجمعة: الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، ويقال: إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصومًا". كما اشتهر عن عبد المؤمن تساهلُه في استباحة دماء خصومه من المسلمين، وسَبْي نسائهم وذراريهم إذا انتصر عليهم. كما فعل في مراكش؛ قال ابن الأثير"فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عَنوةً، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقُتلوا، وجَعَل إسحاق يرتعد رغبةً في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفًا فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمِّك؟! اصبر صبْرَ الرجال؛ فهذا رجلٌ لا يخاف اللهَ ولا يدينُ بدين. فقام الموحِّدون إلى ابن الحاج بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقُدِّمَ إسحاق على صِغَرِ سِنِّه، فضُرِبَت عنقه" وأما في دكالة، فقال ابن الأثير عن عبد المؤمن "فأخذ الملثمين السيف، فدخلوا البحر، فقُتِل أكثرهم، وغُنِمَت إبلهم وأغنامهم وأموالهم، وسُبِيَت نساؤهم وذراريهم، فبيعت الجارية الحسناء بدراهم يسيرة، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش منتصرًا، وثبت ملكه، وخافه الناس في جميع المغرب، وأذعنوا له بالطاعة". وغيرهما من بلاد المسلمين في المغرب والأندلس. وفي تلمسان قال ابن الأثير: "وأما العسكر الذي كان على تلمسان، فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق، وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن، بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقُتِلَ أكثر أهله، وسُبِيت الذرية والحريم، ونُهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجواهر ما لا تحَدُّ قيمتُه، ومَن لم يُقتَلْ بِيعَ بأوكس الأثمان، وكان عِدَّةُ القتلى مائة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان" في العشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، توفي عبد المؤمن. كان قد أمر الجيش بالجهاز لجهاد الروم، واستنفر الناس عامة، ثم سار حتى نزل بسلا، فمرض، وجاءه الأجل بها، في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وارتجت المغرب لموته، وكان قد جعل ولي عهده ابنه محمدا، وكان لا يَصلُح لطَيشِه وجُذامٍ به ولِشُربه الخمر، فتملك أيامًا، ثم خلعوه، واتفقوا على تولية أخيه أبي يعقوب يوسف، فبقي في الملك اثنتين وعشرين سنة، وخلف عبد المؤمن ستة عشر ولدًا ذكرًا.
خَرَج الجُنَيْدُ المُرِّيُّ غازِيًا يُريدُ طَخارِسْتان، فوَجَّه عُمارَةَ بن حُرَيْم إلى طَخارِسْتان في ثمانِيَة عَشر ألفًا، ووَجَّهَ إبراهيمَ بن بَسَّام اللَّيْثِيَّ في عَشرةِ آلافٍ إلى وَجْهٍ آخَر، وجاشَت التُّرْكُ فأتوا سَمَرْقَنْد وعليها سَوْرَةُ بن الحُرِّ، فكَتَب سورةُ إلى الجُنَيْدِ: إنَّ خاقان جاشَ التُّرْكَ فخَرَجتُ إليهم فلم أَطِقْ أن أَمنَع حائِطَ سَمَرْقَنْد، فالغَوْثَ الغَوْثَ. وعَبَرَ الجُنيدُ فنَزَل كِشَّ وتَأَهَّبَ للمَسيرِ، وبَلَغ التُّرْك فغَوَّرُوا الآبارَ التي في طَريقِ كِشٍّ فأَخَذ الجُنيدُ طَريقَ العَقَبَة فارْتَقى في الجَبَلِ ودَخَل الشِّعْبَ، فصَبَّحَهُ خاقان في جَمعٍ عَظيمٍ، وزَحَف إليه أَهْلُ الصُّغْدِ وفَرْغانَة والشَّاش وطائِفَة مِن التُّرْك، فحَمَل خاقان على المُقَدِّمَة وأَخَذ الرَّايَة ابنُ مَجاعَة فقُتِلَ، وتَداوَلَها ثمانية عشر رَجُلًا فقُتِلوا، وصَبَر النَّاسُ يُقاتِلون حتَّى أَعْيوا، فكانت السُّيوف لا تَقطَع شَيْئًا، فقَطَع عَبيدُهُم الخَشَب يُقاتِلون به حتَّى مَلَّ الفَريقان، فكانت المُعانَقَة ثمَّ تَحاجَزوا فبَيْنا النَّاسُ كذلك إذ أَقْبَل رَهَجٌ وطَلَعَت فُرْسانٌ، فنادَى الجُنيدُ: الأرضَ الأرضَ! فتَرَجَّلَ وتَرَجَّل النَّاسُ، ثمَّ نادَى: لِيُخَنْدِق كُلُّ قائِدٍ على حِيالِه. فخَنْدَقوا وتَحاجَزوا ثمَّ طَلَب الجُنيدُ النَّجْدَة فعَرَفت التُّرْك بذلك فكَمُنَت له وقَتَلَته، فخَرَج مِن الشِّعْب واشْتَدَّ الأَمْرُ حتَّى قال الجُنيدُ: كُلُّ عَبدٍ قاتَل فهو حُرٌّ. فقاتَلوا قِتالًا عَجِبَ منه النَّاسُ حتَّى انْكَشَف العَدُوُّ ورَجَع الجُنيدُ إلى سَمَرْقَنْد.
الروانديَّةُ أو الروانديَّة أصلُهم من خراسان، وهم على رأي أبي مسلمٍ الخراساني، كانوا يقولونَ بالتناسُخِ، ويزعمونَ أنَّ روح آدم انتقَلَت إلى عثمان بن نهيك، وأنَّ رَبَّهم الذي يُطعِمُهم ويسقيهم أبو جعفرٍ المنصور. وأنَّ الهيثم بن معاوية جبريل- قبَّحَهم الله- فأتَوا يومًا قصر المنصور فجعلوا يطوفونَ به، ويقولون: هذا قصر ربنا، فأرسل المنصورُ إلى رؤسائهم، فحبس منهم مئتين، فغَضِبوا من ذلك ودخَلوا السجن قهرًا، وأخرجوهم فخرج المنصور إليهم، وخرج الناس وكان منهم معن بن زائدة، الذي قال للمنصور: نحن نكفيكَهم فأبى، وقام أهل الأسواق إليهم فقاتَلوهم، وجاءت الجيوشُ فالتفُّوا عليهم من كل ناحية فحصدوهم عن آخِرِهم، ولم يَبقَ منهم بقيَّة.
قَدِمَت رسلُ بركة خان إلى السلطانِ الظاهرِ بيبرس يقول له: قد عَلِمتَ محبَّتي للإسلام، وعَلِمتَ ما فعَلَ هولاكو بالمسلمين، فاركَبْ أنت من ناحيةٍ حتى آتيَه أنا من ناحيةٍ حتى نصطَلِمَه أو نخرِجَه من البلاد. فالتقى بركة خان وهولاكو ومع كلِّ واحدٍ جيوشٌ كثيرة فاقتتلوا فهزم اللهُ هولاكو هزيمةً فظيعةً وقُتِلَ أكثر أصحابه وغَرِقَ أكثر من بقي، وهرب هو في شرذمةٍ يسيرةٍ، ولله الحمد، ولما نظَرَ بَركة خان كثرة القتلى قال: يعِزُّ علي أن يقتل المغولُ بعضُهم بعضًا، ولكن كيف الحيلةُ فيمن غيَّرَ سُنَّة جنكيز خان، ثم أغار بركة خان على بلادِ القسطنطينية فصانعه صاحِبُها وأرسل الظاهِرُ هدايا عظيمةً إلى بركه خان.
هو الإمام العالم المصَنِّف الفقيه الحنفي أبو الفضل عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، ولد بالموصل سنة 599هـ (1203م) له أصحاب وحلقة أشغال، ومن مصنفاته: "المختار في الفتوى" و"الاختيار لتعليل المختار" و"الوقاية" و"شرح الجامع الكبير للشيباني"، تولى قضاء الكوفة فترة، ثم استقَرَّ في بغداد يفتي ويدرس في مسجد الإمامِ أبي حنيفة. قال ابن الفوطي: "كان عالمًا بالفقه والخلاف والأصول، سمع الكثيرَ في صباه وألحق الأحفاد بالأجداد، وكان صبورًا على السماع، ولي قضاء الكوفة، ثم فوض إليه تدريس مشهد الإمام أبي حنيفة، فكان على ذلك إلى أن توفي في العشرين من محرم" مات ببغداد ودفن بمشهد أبي حنيفة، وكان يومًا مشهودًا.
هو الشيخ عبد الجبَّار بن عبد الله المعتزلي الحنفي الخوارزمي عالم الدشت، صاحب تيمورلنك وإمامه وعالمه وترجمانه. ولد في حدود سنة 770، وكان إمامًا عالِمًا بارعًا، متقِنًا للفقه، والأصلين، والمعاني، والبيان، والعربية، واللغة، انتهت إليه الرئاسة في أصحاب تيمور، وكان هو عظيم دولته، ولما قدم تيمور البلاد الحلبية والشامية كان عبد الجبَّار هذا معه، وباحَثَ وناظر علماء البلدين، وكان فصيحًا باللغات الثلاث: العربية، والعجمية، والتركية، وكانت له ثروة ووجاهة وعَظَمة وحرمة زائدة إلى الغاية؛ قال أبو الفلاح العكري الحنبلي: "كان عبدالجبار ينفع المسلمين في غالب الأحيان عند تيمور، وكان يتبرَّمُ من صحبة تيمور ولا يسعُه إلا موافقته، ولم يزل عنده حتى مات في ذي القعدة".
هو كتبغانوين نائب هولاكو على بلاد الشَّامِ- لعنه الله، ومعنى نوين يعني أمير عشرة آلاف، وكان هذا الخبيث قد فتح لأستاذه هولاكو من أقصى بلاد العَجَمِ إلى الشام، وقد أدرك جنكيزخان جد هولاكو، وكان كتبغا هذا يعتمد في حروبه للمسلمين أشياءَ لم يسبِقْه أحد إليها، فكان إذا فتح بلدًا ساق مقاتِلةَ هذا البلد إلى البلد الآخر الذي يليه، ويطلب من أهل ذلك البلد أن يُؤوا هؤلاء إليهم، فإن فعلوا حصل مقصودُه في تضييقِ الأطعمةِ والأشربةِ عليهم، فتقصُر مدَّة الحصارِ عليه لِما ضاق على أهلِ البلد أقواتُهم، وإن امتنعوا من إيوائِهم عندهم قاتَلَهم بأولئك المقاتِلة الذين هم أهلُ البلد الذي فتحه قبل ذلك، فإن حصل الفتحُ وإلَّا كان قد أضعَفَ أولئك بهؤلاء حتى يفني تلك المقاتِلةَ، فإن حصل الفتحُ وإلَّا قاتَلَهم بجُندِه وأصحابِه مع راحةِ أصحابِه وتَعَبِ أهلِ البلد المحاصَرِ وضَعفِهم فيفتَحُها سريعًا. كان شيخًا كبيرًا قد أسَنَّ وكان يميل إلى دين النصارى ولكن لا يمكِنُه الخروجُ مِن حكم جنكيزخان في الياسق. قال الشيخ قطب الدين اليونيني: وقد رأيتُه ببعلبك حين حاصر قلعتَها، وكان شيخًا حسنًا له لحية طويلة مسترسلة قد ضفَرَها مثل الدبوقة، وتارة يعلِّقُها من خَلفِه بأُذنِه، وكان مَهيبًا شديد السَّطوة، قال: وقد دخل الجامِعَ فصَعِدَ المنارة ليتأمَّل القلعة منها، ثم خرج من الباب الغربي فدخل دكانًا خرابًا فقضى حاجتَه والنَّاسُ ينظرون إليه وهو مكشوفُ العورة، فلما فرغ من حاجته مسحه بعضُ أصحابه بقطن ملبدٍ مَسحةً واحدة, وكان قاِئَد التتار في عين جالوت, فقُتِلَ في المعركة وأُسِرَ ابنُه، وكان شابًّا حسنًا، فأُحضِرَ بين يدي المظفَّر قطز فقال له أهَرَب أبوك؟ قال: إنَّه لا يهرب، فطلبوه فوجَدوه بين القتلى، فلما رآه ابنُه صرخ وبكى، فلما تحقَّقَه المظفر سجَدَ لله تعالى، ثم قال: أنامُ طَيِّبًا. كان هذا سعادةَ التتارِ وبقَتلِه ذهب سَعدُهم، وهكذا كان كما قال، ولم يفلحوا بعده أبدًا، وكان قتلُه يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، وكان الذي قتله الأميرُ جمال الدين آقوش الشمسي.
خرج الوليدُ بن طريف التغلبي بالجزيرة، ففَتَك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم قَوِيَت شوكةُ الوليد، فدخل إلى أرمينيَّة، وحصر خلاط عشرينَ يومًا، فافتدوا منه أنفُسَهم بثلاثين ألفًا. ثم سار إلى أذربيجان، ثمَّ إلى حلوان وأرض السواد، ثم عبَرَ إلى غرب دجلة، وقصد مدينة بلد، فافتدوا منه بمائةِ ألف، وعاث في أرضِ الجزيرة، فسَيَّرَ إليه الرشيد يزيدَ بن مزيد بن زائدة الشيباني, فجعل يزيدُ يختالُه ويُماكِرُه، وكانت البرامِكةُ مُنحَرِفةً عن يزيد، فقالوا للرشيد: إنَّما يتجافى يزيدُ عن الوليد للرَّحِم؛ لأنَّهما كلاهما من وائل، فكتب إليه الرشيدُ كتابَ مُغضَب، وقال له: لو وَجَّهتُ أحدَ الخدم لقام بأكثَرَ ممَّا تقوم به، ولكِنَّك مُداهِنٌ متعَصِّبٌ، وأُقسِمُ بالله إن أخَّرْتَ مناجَزتَه لأُوجِّهنَّ إليك من يحمِلُ رأسَك. فقال يزيدُ لأصحابه: فِداكم أبي وأمِّي، إنَّما هي الخوارِجُ ولهم حَملةٌ، فاثبُتوا، فإذا انقضت حملتُهم فاحملوا عليهم؛ فإنهم إذا انهزموا لم يرجِعوا، فكان كما قال، حَمَلوا عليهم حَملةً، فثَبَت يزيدُ ومن معه مِن عشيرته، ثم حَمَل عليهم فانكشفوا واتَّبَع يزيدُ الوليدَ بن طريف، فلَحِقَه واحتَزَّ رأسَه.
هو الإمامُ الثِّقةُ العلَّامة، شيخُ الإسلامِ: أبو نُعَيم، أحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أحمد بن إسحاقَ بنِ موسى بن مهران، الأصبهاني الحافظ المشهور، الصوفيُّ، الأحول، سبطُ الزاهد محمد بن يوسف البنَّاء، وصاحب "الحِلْية". وُلِدَ سنة ست وثلاثين وثلاثمِئَة. كان أبوه من عُلَماءِ الحديثِ والرحَّالين، من أعلامِ المحدِّثين وأكابِرِ الثقاتِ الحُفَّاظ، رحلَ إلى العراقِ والحجاز وأصفهان، قال أحمدُ بنُ محمد بن مردويه: "كان أبو نُعَيم في وقته مرحولًا إليه، ولم يكُنْ في أفُقْ مِن الآفاقِ أسنَدُ ولا أحفَظُ منه، كان حُفَّاظُ الدنيا قد اجتمعوا عنده، فكان كلَّ يومٍ نَوبةُ واحد منهم يقرأُ ما يريده إلى قُريبِ الظَّهر، فإذا قام إلى داره، ربما كان يُقرأُ عليه في الطريق جزءٌ، وكان لا يضجَرُ، لم يكن له غداءٌ سوى التصنيف والتسميع". وقال حمزةُ بنُ العباس العلوي: "كان أصحابُ الحديثِ يقولون: بقيَ أبو نُعَيم أربعَ عشرةَ سنةً بلا نظيرٍ، لا يوجَدُ شَرقًا ولا غربًا أعلى منه إسنادًا، ولا أحفَظَ منه". أشهَرُ مُصنَّفاته (حِليةُ الأولياء) وله (مُعجم الصحابة) وغيرها من الكتب، توفِّي في أصبهان عن 96 عامًا.
استدعى السلطانُ حسام الدين لاجين قاضيَ القضاة زينَ الدين علي بن مخلوف المالكي، وصِيَّ المَلِك الناصرِ محمد بن قلاوون، وقال له: الملِكُ الناصر ابنُ أستاذي، وأنا قائِمٌ في السلطنة كالنائِبِ عنه إلى أن يُحسِنَ القيامَ بأمرها، والرأيُ أن يتوجَّهَ إلى الكرك وأمَرَه بتجهيزِه، ثم قال السلطانُ للملك الناصر محمد بن قلاوون: لو عَلِمتُ أنَّهم يخلونَك سلطانًا واللهِ ترَكْتُ المُلكَ لك، لكِنَّهم لا يخلونه لك وأنا مملوكُك ومملوكُ والدِك، أحفَظُ لك المُلكَ، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرعَ وترتجِلَ وتتحَرَّج وتجرِّبَ الأمور وتعود إلى مُلكِك، بشرط أنك تعطيني دمشقَ وأكونَ بها مثل صاحِبِ حماة فيها، فقال له الناصر: فاحلِفْ لي أن تبقيَ على نفسي وأنا أروحُ، فحَلَفَ كلٌّ منهما على ما أراده الآخَرُ، فخرج الناصِرُ في أواخر صفر، ومعه الأميرُ سيف الدين سلار أمير مجلس، والأمير سيف الدين بهادر الحموي، والأمير أرغون الدوادار، وطيدمر جوباش رأس نوبة الجمدارية، فوصل إلى الكرك في رابع ربيع الأول، فقام لخدمته الأميرُ جمال الدين أقوش الأشرف نائب الكرك.