في سنة ثلاث وثمانين غزا شهاب الدين الغوري بلد الهند، وانهزم أمامَ أحد ملوكها وبَقِيَ إلى الآن في نفسه غَضَبٌ عظيمٌ على الجند الغورية الذين انهزموا، فألزَمَهم من الهوان، حتى هذه السَّنة فخرج من غزنة وقد جمع عساكِرَه وسار منهم يطلُبُ عَدُوَّه الهندي الذي هزمه تلك النوبةَ، قال ابن الأثير: " لما وصل الغوري إلى برشاوور تقَدَّمَ إليه شيخ من الغورية كان يدُلُّ عليه، فقال له: قد قَرُبنا من العدو، وما يعلَمُ أحد أين نمضي، ولا من نَقصِدُ، ولا نَرُدُّ على الأمراء سلامًا، وهذا لا يجوز فِعلُه. فقال له السلطان: اعلَمْ أنَّني منذ هزمني هذا الكافِرُ، ما نمت مع زوجتي، ولا غيَّرْتُ ثياب البياضِ عني، وأنا سائِرٌ إلى عدوي، ومعتَمِدٌ على الله تعالى لا على الغوريَّة، ولا على غيرهم، فإن نَصَرَني الله سبحانه ونَصَرَ دينَه، فمِن فَضلِه وكَرَمِه، وإن انهَزَمْنا فلا تطلبوني فيمن انهَزَم، ولو هَلكْتُ تحت حوافِرِ الخيل, فقال له الشيخ: سوف ترى بني عَمِّك من الغورية ما يفعلونَ، فينبغي أن تكَلِّمَهم وتَرُدَّ سلامهم. ففعل ذلك وبَقِيَ أمراء الغورية يتضَرَّعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعَلُ" ثم سار إلى أن وصل إلى موضع المصافِّ الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عِدَّةَ مواضِعَ مِن بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهَّزَ وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقِيَ بين الطائفتين مرحلةٌ عاد شهاب الدين وراءه والكافِرُ في أعقابه أربع منازل، وتمَّ على حاله عائدًا إلى أن بَقِيَ بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافِرُ في أثره يتبعه، حتى لحقه قريبًا من مرندة فجَرَّدَ شهاب الدين من عسكَرِه سبعين ألفًا، وقال: أريدُ هذه الليلة تدورونَ حتى تكونوا وراء عسكَرِ العدو، وعند صلاة الصبحِ تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية، ففعلوا ذلك، وطلع الفجرُ، ومن عادة الهنود أنَّهم لا يبرحون مِن مضجعهم إلى أن تطلُعَ الشَّمسُ، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكَرُ المسلمين من كل جانب، والقَتلُ قد كَثُرَ في الهنود، والنصرُ قد ظهر للمسلمين، فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرسًا له سابقًا، وركب ليهرُبَ، فقال له أعيان أصحابه: إنَّك حلفت لنا أنَّك لا تُخَلِّينا وتهرُب، فنزل عن الفرس وركِبَ الفيل ووقَفَ مَوضِعَه، والقتالُ شديد، والقَتلُ قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمونَ إليه وأخذوه أسيرًا، وحينئذ عَظُمَ القتلُ والأسر في الهنود، ولم ينجُ منهم إلا القليلُ، وغَنِمَ المُسلِمونَ مِن الهنود أموالًا كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعةَ عشر فيلًا، فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحِصنِ الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.
هو سَعيدُ بن جُبَير بن هِشام الأَسَدِيُّ الوالِبِيُّ مَوْلاهُم الكوفيُّ، أبو محمَّد، كان وِعاءًا مِن أَوْعِيَة العِلْم, قال خُصَيف: كان أَعْلَمَهم بالقُرآن مُجاهِد، وأَعْلَمَهم بالحَجِّ عَطاء، وأَعْلَمَهم بالحَلال والحَرام طاووس، وأَعْلَمَهم بالطَّلاق سَعيد بن المُسَيِّب، وأَجْمَعَهم لِهذه العُلوم سَعيد بن جُبير. لقد مات سَعيد بن جُبَير وما على ظَهْر الأرضِ رَجُل إلَّا يَحتاجُ إلى عِلْمِ سَعيد, وكان ابنُ جُبَير يقول بعدَ أن تَخَفَّى عن الحَجَّاج: (وَدِدْتُ لو أنَّ النَّاس أَخَذوا ما عِندي مِن العِلْم فإنَّه ممَّا يُهِمُّني). كان سَبَبَ قَتْلِ الحَجَّاج لابنِ جُبَير خُروجُه مع عبدِ الرَّحمن بن محمَّد بن الأشعث، وكان الحَجَّاج قد جَعَله على عَطاء الجُنْد حين وَجَّه ابنَ الأشعث إلى مَلِك التُّرْك رتبيل لِقِتالِه، فلمَّا خَلَعَ ابنُ الأَشعث الحَجَّاجَ كان سَعيدُ بن جُبَير فيمَن خَلَعَ، فلمَّا هُزِمَ ابنُ الأشعث ودَخَل بِلادَ رتبيل هَرَب سَعيد بن جُبَير إلى أَصْبَهان، فكَتَب الحَجَّاجُ إلى عامِلِهِ بِأَخْذِ سَعيد بن جُبَير، فخَرَج العامِل مِن ذلك بأن أَرسَل إلى سَعيد يُعَرِّفُه ذلك ويَأمُره بمُفارَقَتِه، فسارَ عنه فأَتَى أَذْرَبِيجان فطالَ عليه القِيامُ فاغْتَمَّ بها، وقد تَخَفَّى ابنُ جُبَير عن الحَجَّاج اثنا عَشَر سَنَةً، كان يَحُجُّ ويَعْتَمِر في كُلِّ سَنَةٍ فَتْرَةَ تَخفِّيه إلى أن خرج في مكَّة, فكان بها إلى أن وَلِيَها خالدُ بن عبد الله القَسري، فأشار مَن أشار على سَعيد بالهَرَب منها، فقال سَعيدٌ: والله لقد اسْتَحْيَيْتُ مِن الله، مم أَفِرُّ، ولا مَفَرَّ مِن قَدَرِهِ. فأَرسلَه خالدٌ القَسري إلى الحَجَّاج، ثمَّ إنَّ الحَجَّاج قَتَلَه، وقِصَّتُه مَشهورَة، ولم يَبْقَ الحَجَّاج بعدَ قَتلِه كَثيرًا، وكان يقول بعدَ ذلك: مالي ولابنِ جُبَير. فرَحِمَ الله سَعيدَ بن جُبَير.
اجتَمَعت عَسكَرُ أتابك زنكي، صاحِبِ حَلَب وحَماة، مع الأميرِ أسوار نائِبِه بحَلَب، وقَصَدوا بلدَ الفِرنجِ على حين غفلةٍ منهم، وقَصَدوا أعمالَ اللاذقيَّة بَغتةً، ولم يتمَكَّنْ أهلُها مِن الانتقالِ عنها والاحترازِ، فنَهَبوا منها ما يزيدُ عن الوَصفِ، وقتلوا وأسَروا وفعلوا في بلدِ الفِرنجِ ما لم يَفعَلْه غَيرُهم، وكان الأسرى سبعةَ آلافِ أسيرٍ ما بين رجُلٍ وامرأةٍ وصَبيٍّ، ومِئة ألفِ رأسٍ مِن الدوابِّ ما بينَ فَرَسٍ وبَغلٍ وحِمارٍ وبَقَرٍ وغَنَم، وأما ما سوى ذلك مِن الأقمِشةِ والعَينِ والحُلِيِّ فيَخرُجُ عن الحَدِّ، وخَرَّبوا بلدَ اللاذقيَّة وما جاورها ولم يَسلَمْ منها إلَّا القليلُ، وخرجوا إلى شيزر بما معهم من الغنائِمِ سالِمينَ، مُنتصَفَ رَجَب، فامتلأ الشامُ مِن الأُسارى والدوابِّ، وفرح المُسلِمونَ فَرَحًا عظيمًا، ولم يَقدِرْ الفِرنجُ على فِعلِ شَيءٍ مُقابِلَ هذه الحادثة؛ عَجْزًا ووَهْنًا.
هو سُلطانُ العالَم عَضُدُ الدَّولةِ أبو شُجاعٍ، المُلَقَّبُ بالعادِل محمد، ألب أرسلان بن جغريبك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق بن سلجوق التُّركيُّ, واسمُه بالعربي محمدُ بنُ داودَ وألب أرسلان اسمٌ تُركيٌّ مَعناهُ شُجاع أَسَد، فألب: شُجاع، وأرسلان: أَسَد. وهو ابنُ أخي السُّلطانِ طغرلبك، أَصلُه من قَريةٍ يُقال لها: النور. وُلِدَ سَنةَ 424هـ, وَجَدُّهُ دقاق، هو أَوَّلُ مَن دَخلَ في الإسلامِ, وألب أرسلان أَوَّلُ مَن ذُكِرَ بالسُّلطانِ على مَنابِرِ بغداد, وكان مَلِكًا عادِلًا، مَهِيبًا، مُطاعًا، مُعَظَّمًا. وَلِيَ السَّلْطَنَةَ بعدَ وَفاةِ عَمِّهِ طغرلبك بن سلجوق في سَنةِ 457هـ. لمَّا ماتَ السُّلطانُ طُغرلبك نَصَّ على تَوْلِيَةِ الأَمرِ لسُليمانَ بنِ داودَ أخي ألب أرسلان، ولم يَنُصَّ على ألب أرسلان؛ لأنَّ أُمَّ سُليمانَ كانت عنده فتَبِعَ هَواها في وَلَدِها، فقام سُليمانُ بالأَمرِ وثارَ عليه أَخوهُ ألب أرسلان، وجَرَت بينهم خُطوبٌ فلم يَتِمَّ لِسُليمانَ الأَمرُ، وكانت النُّصرةُ لألب أرسلان. فاستَولَى على المَمالِكِ، وعَظُمَت مَملكَتُه ورُهِبَت سَطوتُه، وفَتحَ من البِلادِ ما لم يكُن لِعَمِّهِ طُغرلبك مع سِعَةِ مُلْكِ عَمِّهِ، وقَصدَ بِلادَ الشامِ فانتَهَى إلى مَدينةِ حَلَب، وهو أَوَّلُ مَن عَبَرَ الفُراتَ من مُلوكِ التُّركِ. وكاد أن يَتَمَلَّكَ مصر. أَعزَّ الله بهِ الإسلامَ وأَذَلَّ الشِّرْكَ. كان ألب أرسلان مِن أَعدَلِ الناسِ، وأَحسَنِهم سِيرَةً، وأَرغَبِهِم في الجِهادِ وفي نَصرِ الدِّينِ. وعَظُمَ أَمرُ السُّلطانِ ألب آرسلان، وخُطِبَ له على مَنابرِ العِراقِ والعَجَمِ وخُراسان، ودانَت له الأُمَمُ، وأَحَبَّتْهُ الرَّعايا، ولا سيما لمَّا هَزَمَ العَدُوَّ، طاغِيةَ الرُّومِ أرمانوس في مَعركةِ ملازكرد سَنةَ 463هـ, وقَنعَ من الرَّعِيَّةِ بالخَراجِ في قِسطَينِ، رِفْقًا بهم, وكان كَثيرَ الصَّدَقاتِ، يَتَفقَّد الفُقراءَ في كلِّ رَمضانَ بأَربعةِ آلافِ دِينارٍ ببَلخ، ومَرو، وهراة، ونيسابور، ويَتَصدَّق بحَضرَتِه بعشرةِ آلافِ دِينارٍ. كَتبَ إليه بَعضُ السُّعاةِ في نِظامِ المُلْكِ وَزيرِهِ، وذَكَرَ مالَه في مَمالِكِه فاستَدعاهُ فقال له: خُذْ إن كان هذا صَحيحًا فهَذِّبْ أَخلاقَك وأَصلِح أَحوالَك، وإن كَذَبَ فاغْفِر له زَلَّتَهُ. وكان شديدَ الحِرصِ على حِفْظِ مالِ الرَّعايا، بَلَغَهُ أنَّ غُلامًا من غِلمانِه أَخذَ إِزارًا لبَعضِ أَصحابِه فصَلَبَهُ فارتَدعَ سائرُ المَماليكِ به خَوفًا من سَطوتِه. في أَوَّلِ سَنةِ 465هـ قَصدَ السُّلطانُ ألب أرسلان، ما وَراءَ النَّهرِ، وصاحبُه شَمسُ المُلْكِ تكين، فعَقدَ على جيحون جِسْرًا وعَبرَ عليه في نَيِّفٍ وعِشرينَ يومًا، وعَسكرُه يَزيدُ على مائتي ألف فارسٍ، فأَتاهُ أَصحابُه بمُسْتَحْفِظِ قَلعَةٍ يُعرفُ بيُوسُف الخوارزمي، في سادس شهرِ رَبيعٍ الأوَّل، وحُمِلَ إلى قُرْبِ سَريرِه مع غُلامَينِ، فقال له يُوسفُ: يا مُخَنَّث! مِثلي يُقتَل هذه القِتلَة؟ فغَضِبَ السُّلطانُ ألب أرسلان، وأَخذَ القَوْسَ والنِّشابَ، وقال للغُلامَينِ: خَلِّيَاهُ! ورَماهُ بِسَهمٍ فأَخطَأهُ، ولم يكُن يُخطِئ سَهمَه، فوَثبَ يُوسفُ يُريدُه، والسُّلطانُ على سُدَّةٍ، فلمَّا رأى يُوسفَ يَقصِدُه قام عن السُّدَّةِ ونَزلَ عنها، فعَثَرَ، فوَقعَ على وَجهِه، فبَرَكَ عليه يُوسفُ وضَربَهُ بسِكِّينٍ كانت معه في خاصِرَتِه، وكان سعدُ الدَّولةِ واقِفًا، فجَرَحَهُ يُوسفُ أيضًا جِراحاتٍ، ونَهضَ ألب أرسلان فدَخَل إلى خَيمةٍ أُخرَى، وضَرَبَ بَعضُ الفَرَّاشِين يُوسفَ بِمِرْزَبَّةٍ على رَأسِه، فقَتَلَه وقَطَّعَهُ الأتراكُ، ولمَّا جُرِحَ السُّلطانُ قال: ما مِن وَجهٍ قَصدتُه، وعَدُوٍّ أَردتُه، إلَّا استَعنتُ بالله عليه، ولمَّا كان أَمسُ صَعدتُ على تَلٍّ، فارتَجَّت الأرضُ تحتي مِن عِظَمِ الجَيشِ وكَثرَةِ العَسكرِ، فقلتُ في نفسي: أنا أَملِكُ الدُّنيا، وما يَقدِر أَحَدٌ عَلَيَّ، فعَجَّزَني الله تعالى بأَضعفِ خَلْقِه، وأنا أَستَغفِرُ الله تعالى، وأَستَقيلُه من ذلك الخاطرِ. فتُوفِّي عاشرَ رَبيعٍ الأوَّلِ من السَّنَةِ، فحُمِلَ إلى مَرو ودُفِنَ عند أَبيهِ. تُوفِّي عن إحدى وأربعين سَنَةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه منذ خُطِبَ له بالسَّلْطَنَةِ إلى أن قُتِلَ تِسعَ سِنينَ وسِتَّةَ أَشهُر وأيامًا، ولمَّا وَصلَ خَبرُ مَوتِه إلى بغداد جَلسَ الوَزيرُ فَخرُ الدَّولةِ بن جهير للعَزاءِ به في صَحنِ السَّلامِ. تَركَ ألب أرسلان من الأولادِ ملكشاه، وإياز، ونكشر, وبوري برس, وأرسلان، وأرغو، وسارة، وعائشة، وبِنتًا أُخرى, وتَولَّى بعده ابنُه ملكشاه.
لمَّا رجَع خالدُ بنُ الوليدِ مِن هَدْمِ العُزَّى بعَثهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني جَذيمَةَ داعِيًا إلى الإسلامِ لا مُقاتِلًا, فخرَج في ثلاثمائةٍ وخمسين رجلًا مِنَ المُهاجرين والأنصارِ وبني سُليمٍ، فانتهى إليهم فدَعاهُم إلى الإسلامِ فلم يُحسِنوا أن يَقولوا: أَسلَمْنا، فجعلوا يَقولون: صَبَأْنا، صَبَأْنا. -فحملها خالد على أنها سُخرية بالإسلام لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم صبأ تعييرا له- فجعَل خالدٌ يَقتُلُهم ويَأْسِرُهُم, ودفَع إلى كُلِّ رجلٍ ممَّن كان معه أَسِيرًا، فأمَر يومًا أن يَقتُلَ كُلُّ رجلٍ أَسِيرَهُ, فأبى ابنُ عُمَرَ وأصحابُه حتَّى قَدِموا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكَروا له، فرفَع صلى الله عليه وسلم يَديهِ وقال: (اللَّهمَّ إنِّي أَبْرَأُ إليك ممَّا صنَع خالدٌ) مَرَّتين. وكانت بنو سُليمٍ هُم الذين قَتَلوا أَسْراهُم دون المُهاجرين والأنصارِ, وبعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علِيًّا, فَوَدَى لهم قَتلاهُم وما ذهَب منهم.
خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الطَّائفِ، وهي تَبعُد عن مكَّة نحوَ سِتِّينَ مِيلًا، سارها ماشِيًا على قَدميهِ جِيئةً وذِهابًا، ومعه مولاهُ زيدُ بنُ حارثةَ، وكان كُلَّما مَرَّ على قَبيلةٍ في الطَّريقِ دعاهُم إلى الإسلامِ، فلمْ تُجبْ إليهِ واحدةٌ منها, فلمَّا انتهى إلى الطَّائفِ عَمَدَ إلى رُؤسائِها فدعاهُم فلمْ يَستجيبوا له, فأقام بين أهلِ الطَّائفِ عشرةَ أيَّامٍ، لا يَدَعُ أحدًا مِنْ أشرافهِم إلا جاءهُ وكَلَّمهُ، فقالوا: اخرُجْ من بلادِنا. وأَغْرَوْا به سُفهاءَهُم، فلمَّا أراد الخُروجَ تَبِعَهُ سُفهاؤهُم وعَبيدهُم يُسِبُّونَهُ ويُصيحونَ بهِ، حتَّى اجتمع عَليهِ النَّاسُ، فوقَفوا له سِمَاطَيْنِ [أي صَفَّيْنِ] وجعلوا يَرمونهُ بالحِجارةِ، وبكِلماتٍ مِنَ السَّفَهِ، ورَجموا عَراقيبَهُ، حتَّى اخْتَضَبَ نَعلاهُ بالدِّماءِ. وكان زيدُ بنُ حارثةَ يَقِيهِ بِنفسهِ حتَّى أصابهُ شِجَاجٌ في رَأسهِ، ولم يزلْ بهِ السُّفهاءُ كذلك حتَّى أَلجأوهُ إلى حائطٍ لعُتبةَ وشَيبةَ ابنيْ رَبيعةَ على ثلاثةِ أميالٍ مِنَ الطَّائفِ, ورجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طريقِ مكَّة بعدَ خُروجهِ مِنَ الحائطِ كَئيبًا مَحزونًا، كَسيرَ القلبِ، فلمَّا بلغ قَرْنَ المنازلِ بعث الله إليه جبريلَ ومعه مَلَكُ الجبالِ، يَسْتَأْمِرُهُ أنْ يُطْبِقَ الأَخْشَبَيْنِ على أهلِ مكَّة, فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أنْ يُخرجَ الله عزَّ وجلَّ من أصلابهِم مَنْ يَعبدُ الله عزَّ وجلَّ وحدَه لا يُشركُ بهِ شيئًا). وفي هذا الجوابِ الذي أَدلى بهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم تَتجلَّى شَخصيَّتُه الفَذَّةُ، وما كان عَليهِ من خُلُقٍ عَظيمٍ.
في ليلةِ الجمعة تاسِعَ عَشَر صفر لَبِسَ الأمير بركة السلاحَ هو ومماليكه، ولبس الأمراءُ أيضًا وباتوا في إسطبلاتهم على احتراز، فلما أصبح نهارُ يوم الجمعة، طلب الأميرُ الكبير برقوق القضاةَ ومشايخَ العلم وندبهم للدخول بينه وبين الأمير بركة في الصُّلحِ؛ مكيدةً منه ودَهاءً، فما زالوا يتردَّدونَ بينهما عِدَّة مرار، حتى وقع الصلحُ على دَخَن، وحلف كلٌّ منهم لصاحبه، ونزعوا عنهم السلاحَ، فبعث الأميرُ برقوق بالأمير أَيْتَمِش إلى الأمير بركة، فنزل إليه وفي عُنُقِه منديل، ليفعل ما يريدُ مِن قتل أو حبس أو غير ذلك، وخضع له خضوعًا زائدًا، فلم يجِدْ بركةُ بدًّا من الإغضاءِ عنه وقبول معذرته، وخلع عليه، وأعاده إلى الأميرِ برقوق، والقلوبُ ممتلئةٌ حَنَقًا، ونودي في القاهرة بالأمان وفَتْح الأسواق، فسكن انزعاجُ الناس، فلما أصبح نهارُ الأربعاء تاسع شهر ربيع الأول أنزل برقوق السلطانَ المَلِكَ المنصور إلى عنده بالإسطبل السلطاني، ونادى للمماليكِ السُّلطانية بالحضور، فحضروا فأخرجَ جماعةً كبيرة من الأمراء ومعهم المماليك السلطانية ونَدَبَهم لقتال بركة بعد أن بلَغَه أنَّه يريدُ أن يقتُلَه غِيلةً يوم الجمعة في الصلاة، ودُقَّت الكوسات بقلعة الجبل، هذا وقد جَهَّز بركة أيضًا جماعةً كبيرة أيضًا من أصحابِه؛ لملتقى من ندبه برقوق لقتالِه، وسار كل من الفريقينِ إلى الآخر حتى تواجَها على بُعدٍ، فلم يتقَدَّمْ أحد من العسكرين إلى غريمِه، فلما كان بعد الظهر بعث الأميرُ بركة أمير آخوره سيف الدين طغاي يقول لبرقوق: ما هذا العَمَلُ، هكذا كان الاتفاق بيننا؟ فقال برقوق: هكذا وقع، قل لأستاذك: يتوجه نائبًا في أيِّ بلد شاء، فرجع أميرُ آخور بركة إليه بهذا القَولِ، فلم يوافِقْ بركة على خروجه من مصر أصلًا، فركب بركةُ بأصحابه ومماليكه من وَقتِه، وساقوا فرقتين: فرقةٌ من الطريق المعتادة، وفرقةٌ من طريق الجبل، وكان بركةُ في الفرقة التي بطريق الجَبَل، وبلغ برقوقًا ذلك فأرسل الأمراءَ والمماليك في الوَقتِ لِمُلتقاه، فلما أقبل بركةُ هرب أكثَرُ عساكر برقوق ولم يَثبُتْ إلَّا الأميرُ علان الشعباني في نحو مائة مملوك، والتقى مع بركة، وكان يلبغا الناصري بمن معه من أصحابِ بركة توجَّه من الطريق المعتادة، فالتقاه أيتمش البجاسي بجماعةٍ وكسره، وضَرَبَه بالطبر، وأخذ جاليشَه وطبلخاناتِه، ورجع مكسورًا بعد أن وقع بينهم وقعةٌ هائلة جُرِحَ فيها من الطائفتين خلائق، وأما بركة فإنه لما التقى مع علان صَدَمَه عَلَّان صدمةً تقنطَرَ فيها عن فَرَسِه، وركب غَيرَه، فلما تقنطر انهزم عنه أصحابُه، فصار في قِلَّة، فثبت ساعة جيدةً ثم انكسر وانهزم إلى جهةِ قُبَّة النصر، وأقام به إلى نِصفِ الليل، فلم يجسُرْ أحد من البرقوقيَّة على التوجه إليه وأخْذِه، فلما كانت نصفُ ليلة الخميس رأى بركة أصحابَه في قلة، وقد تخَلى عنه أكثَرُ مماليكه وحواشيه، وهرب من قُبَّة النصر هو والأمير آقبغا صيوان إلى جامع المقسي خارج القاهرة، فغُمِزَ عليه في مكانه فمُسِكَ هو وآقبغا من هناك، وطُلِعَ بهما إلى برقوق، وتتَبَّعَ برقوق أصحابَ بركة ومماليكه فمسك منهم جماعةً كبيرة مع من مُسِك مع بركة من الأمراء، وبَقِيَت القاهرة ثلاثة أيام مغلقة والنَّاسُ في وَجَل بسبب الفتنة، فنادى برقوقٌ عند ذلك بالأمان والاطمئنان، وأمَّا أمرُ بركة فإنه لما كان شهر رجب من هذه السنة ورد الخبَرُ من الأمير صلاح الدين خليل بن عرام نائب الإسكندرية بموت الأمير زين الدين بركة الجوباني اليلبغاوي بسِجنِ الإسكندرية، فلما بلغ الأتابك برقوقًا ذلك بعث بالأميرِ يونس النوروزي الدوادار بالإسكندرية لكَشفِ خَبَرِ الأمير بركة وكيف كانت وفاتُه، فتوجه يونُسُ إلى الإسكندرية، ثم عاد إلى مصر ومعه ابنُ عرام نائب الإسكندرية، وأخبر برقوقًا بأنَّ الأمرَ صَحيحٌ، وأَّنه كشف عن موته وأخرجه من قَبرِه فوجد به ضرباتٍ: إحداها في رأسِه، وأنه مدفون بثيابِه مِن غير كفن، وأن يونُسَ أخرجه وغَسَّله وكَفَّنه ودفنه وصلَّى عليه خارج باب رشيد، وبنى عليه تربة، وأن الأمير صلاح الدين خليل بن عرام هو الذي قتَلَه، فحَبَس برقوقٌ ابنَ عرام بخزانة شمائل وهي السِّجنُ المخصَّص لأصحاب الجرائم، ثم عصره وسأله عن فصوصٍ تركها بركة عنده، فأنكرها وأنكر أنَّه رآها، فلما كان يوم الخميس خامس عشرين شهر رجب طلع الأمراءُ للخدمة على العادة، وطُلِبَ ابن عرام من خزانة شمائل، فطلعوا به إلى القلعةِ على حمار، فرَسَم برقوق بتسميره، فخرج الأميرُ مأمور القلمطاوي حاجب الحجاب، وجلس بباب القلة هو وأميرُ جاندار، وطلب ابن عرام بعد خدمةِ الإيوان، فعُريَ وضُرِبَ بالمقارع ستة وثمانين شيبًا، ثم سفر على جمل بلعبة تسمير عطب، وأنزل من القلعة إلى سوق الخيل بالرميلة بعد نزول الأمراء، وأوقفوه تجاه الإسطبل السلطاني ساعةً، فنزل إليه جماعةٌ من مماليك بركة وضَرَبوه بالسيوف والدبابيس حتى هَبَروه وقطَّعوه قطَعًا عديدة، ثم إنَّ بَعضَهم قَطَع أذنه وجعل يَعَضُّها صفة الأكل، وأخذ آخَرُ رجله، وآخر قَطَعَ رأسَه وعَلَّقَها بباب زويلة، وبقيت قِطَعٌ منه مرمية بسوق الخيل، وذُكِرَ أن بعض مماليك بركة أخذ من لحمه قطعةً شواها، والله أعلم بصحة ذلك، ثم جُمِعَ ابن عرام بعد ذلك ودُفِنَ بمدرسته خارج القاهرة عند جامع أمير حسين بن جندر بحكر جوهر النوبي.
تجَدَّدَت الفِتنةُ ببغدادَ بينَ السُّنَّة والشِّيعة، وكان سبَبُ ذلك أنَّ الوزيرَ أبا القاسم عليَّ بنَ أحمد الملَقَّب بالمذكور أظهَرَ العَزمَ على الغَزاة، واستأذن الخليفةَ في ذلك، فأَذِنَ له، وكُتِبَ له منشورٌ من دار الخلافة، وأعطى عَلَمًا، فاجتمَعَ له لفيفٌ كثيرٌ، فسار واجتاز ببابِ الشعير، وطاق الحراني، وبين يديه الرِّجالُ بالسِّلاحِ، فصاحوا بذِكرِ أبي بكرٍ وعُمَرَ، رَضِيَ الله عنهما، وقالوا: هذا يومُ مُعاوية، فنافَرَهم أهلُ الكَرخِ ورَمَوهم، وثارت الفِتنةُ، ونُهِبَت دورُ اليَهودِ؛ لأنَّهم قيل عنهم إنَّهم أعانوا أهلَ الكَرخِ، فلمَّا كان الغدُ اجتمع السُّنَّةُ من الجانِبَينِ، ومعهم كثيرٌ مِن الأتراكِ، وقصدوا الكَرخَ، فأحرقوا وهَدَّموا الأسواق، وأشرف أهلُ الكَرخِ على خُطَّةٍ عظيمة. وأنكَرَ الخليفةُ ذلك إنكارًا شديدًا، ونَسَب إليهم تخريقَ عَلامتِه التي مع الغزاةِ، فركب الوزيرُ فوَقَعَت في صَدرِه آجُرَّة، فسَقَطَت عِمامَتُه، وقُتِلَ مِن أهل الكرخِ جماعةٌ، وأُحرِقَ وخُرِّبَ في هذه الفتنةِ سُوقُ العَروسِ، وسوقُ الصَّفَّارين، وسوقُ الأنماط، وسوق الدقَّاقين، وغيرها، واشتد الأمرُ، ووقع القتالُ في أصقاع البلَدِ مِن جانبيه، وقَتَلَ أهلَ الكَرخِ، ونهر طابق، والقَلَّائين– صَنعتُهم القَليُ-، وباب البصرة، وفي الجانب الشَّرقيِّ أهل سوقِ الثلاثاء، وسُوق يحيى، وباب الطاق، والأساكفة، والرهادرة، ودرب سليمان، فقُطِعَ الجِسرُ ليُفَرَّقَ بين الفريقين، ودخل العَيَّارون– والعيارون: لُصوصٌ يَمتَهِنونَ النَّهبَ والدعارةَ - البلدَ، وكَثُرَ الاستقفاءُ بها ليلًا ونهارًا. وأظهر الجندُ كراهةَ المَلِك جلالِ الدَّولة، وأرادوا قَطعَ خُطبتِه، ففَرَّقَ فيهم مالًا وحَلَفَ لهم فسَكَنوا، ثم عاودوا الشَّكوى إلى الخليفةِ منه، وطَلَبوا أن يأمُرَ بقَطعِ خُطبتِه، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، فامتنع حينئذ جلالُ الدَّولة من الجلوس، ودامت هذه الحالُ إلى عيدِ الفِطرِ، ثمَّ حدث في شوال فتنةٌ بين أصحابِ الأكْيِسة وأصحابِ الخِلعانِ، وهما شيعةٌ، وزاد الشَّرُّ، ودام إلى ذي الحِجَّة، فنودي في الكَرخِ بإخراجِ العَيَّارين، فخرجوا، واعتَرَض أهلُ باب البصرة قومًا مِن قُمٍّ أرادوا زيارةَ مَشهدِ عليٍّ والحُسَين، فقَتَلوا منهم ثلاثةَ نَفَر، وامتنَعَت زيارةُ مَشهَدِ موسى بنِ جَعفَر.
لما كان شهر ربيع الأول من هذه السنة، شغَّب العبيد على السلطان مولاي عبد الله بن إسماعيل بن مولاي علي الشريف العلوي, وهمُّوا بخلعه والإيقاع به، فنذرت بذلك أمه الحرة خناثى بنت بكار، ففرت من مكناسة إلى فاس الجديد، ومن الغد تبِعَها ابنها السلطان المولى عبد الله، ونزل برأس الماء فخرج إليه الودايا وأهل فاس وأجَلُّوا مَقدَمَه واهتزُّوا له، فاستعطفهم السلطان وقال لهم: أنتم جيشي وعدتي، ويميني وشمالي، وأريد منكم أن تكونوا معي على كلمة واحدة، وعاهدهم وعاهدوه ورجعوا، وفي أثناء ذلك بلغه أن أحمد بن علي الريفي قد كاتب عبيد مشرع الرملة وكاتبوه واتفق معهم على خلع السلطان مولاي عبد الله وبيعة أخيه مولاي زين العابدين، وكان يومئذ عنده بطنجة وأنهم وافقوه، فوجم لها السلطان مولاي عبد الله، ثم استعجل أمر المولى زين العابدين ففرَّ مولاي عبد الله إلى بلاد البربر.
لمَّا فتَح أبو عُبيدةَ الجابِيَةَ مِن أعمالِ دِمشقَ وقِنَّسرينَ وحاصَر أهلَ مَسجدِ إيليا -أي بيت المَقدِس- فأَبَوْا أن يَفتَحوا له، وسَألوه أن يُرْسِلَ إلى صاحِبِه عُمَرَ لِيَقْدُمَ فيكون هو الذي يَتوَلَّى مُصالحَتَهُم، فكتَب بذلك إلى عُمَرَ فاسْتخلفَ علِيَّ بن أبي طالبٍ على المدينةِ, ثمَّ قَدِمَ للشَّامِ, وكتَب إلى أُمراءِ الأجنادِ أن يُوافُوه بالجابِيَةِ ليومٍ سَمَّاهُ لهم في المُجَرَّدَةِ، ويَستخلِفوا على أعمالِهم، وكان أوَّلَ مَن لَقِيَهُ فيها أبو عُبيدةَ, فلمَّا دخَل الجابِيَةَ قال له رجلٌ مِن اليَهودِ: يا أميرَ المؤمنين، إنَّك لا تَرجِع إلى بِلادِك حتَّى يفتحَ الله عليك إيلياء. فبينما عُمَر مُعسكرٌ بالجابِيَةِ فزَع النَّاسُ إلى السِّلاحِ، فقال: ما شَأنُكم؟ فقالوا: ألا ترى إلى الخيلِ والسُّيوفِ؟ فنظَر فإذا جَمْعٌ يلمعون بالسُّيوفِ. فقال عُمَرُ: مُسْتَأْمِنَةً فلا تُراعُوا، فأَمِّنُوهُم. وإذا أهلُ إيلياء، فصالَحهُم على الجِزيةِ, وعلى أن لا يَهْدِمَ كَنائِسَها، ولا يُجْلِيَ رُهْبانَها، ففَتَحوها له، وبَنَى بها مَسجِدًا، وأقام أيَّامًا ثمَّ رجَع إلى المدينةِ.
لَمَّا بلغ نور الدين محمودًا وفاةُ أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل، ومُلك ولده سيف الدين غازي الموصِلَ والبلاد التي كانت لأبيه، بعد وفاته، وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمرِ معه، وتحكُّمه عليه؛ أنِفَ لذلك وكَبِرَ لديه وعَظُمَ عليه، وكان يُبغِضُ فخر الدين؛ لما يبلغه عنه من خشونةِ سياسته، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي ومُلكِهم، وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر، وعبر الفرات، عند قلعة جعبر، مُستهَلَّ المحَرَّم، وقصد الرقةَ فحصَرَها وأخذها، ثم سار إلى الخابور فمَلَكَه جميعه، وملك نصيبين وأقام فيها يجمَعُ العساكر، فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحِبُ حصن كيفا، وكثُرَ جمعه، وكان قد ترك أكثر عساكره في الشام لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيقَ وملَكَها، وسَلَّمَها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين، وكان قد جاءته كتُبُ الأمراء الذين بالموصل سرًّا، يبذلون له الطاعةَ، ويَحُثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل، وكان سيفُ الدين غازي وفخر الدين قد سيَّرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز، صاحب همذان وبلد الجبل، وأذربيجان، وأصفهان، والري وتلك البلاد، يستنجده على عمه نور الدين محمود، فأرسل إيلدكز رسولًا إلى نور الدين ينهاه عن التعرُّضِ للموصل، ويقول له: إن هذه البلاد للسُّلطان، فلا تقصِدْها، فلم يلتفت إليه، فأقام نور الدين على الموصِل، فعزم مَن بها من الأمراء على مجاهرةِ فخر الدين عبد المسيح بالعِصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين، فعلم ذلك، فأرسل فخر الدين إلى نور الدين بتسليمِ البلَدِ إليه على أن يُقِرَّه بيد سيف الدين، ويطلُب لنفسه الأمان ولماله، فأجابه إلى ذلك، وشرطَ أنَّ فخر الدين يأخذُه معه إلى الشام، ويعطيه عنده إقطاعًا يُرضيه، فتسَلَّم البلد ثالث عشر جمادى الأولى، ودخل القلعةَ من باب السر؛ لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه، حلف ألَّا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها، ولَمَّا ملكها أطلقَ ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالمِ، وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، وهكذا كان جميعُ بلاده من الشام ومصر، واستناب في قلعة الموصل خصيًّا له اسمه كمشتكين، ولقَّبَه سعد الدين، وأمر سيف الدين ألَّا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير، وحَكَّمَه في البلاد وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين بن أخيه قطب الدين، وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يومًا، واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح، وغيَّرَ اسمه فسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعًا كبيرًا.
في سادس جمادى الآخرة، فتح أتابك عمادُ الدين زنكي بن آقسنقر مدينةَ الرَّها من الفرنج، وفتَحَ غَيرَها مِن حُصونِهم بالجزيرةِ أيضًا، وكان ضَرَرُهم قد عَمَّ بلادَ الجزيرة وشَرَّهم قد استطار فيها، ووصَلَت غاراتُهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلَغَت آمِدَ ونصيبين ورأسَ عَين والرقَّة، وكانت مملكَتُهم بهذه الديارِ مِن قَريبِ ماردين إلى الفُرات مثل الرَّها، وسروج، والبيرة، وسن ابن عطير، وحملين، والموزر، والقرادي، وغير ذلك. وكانت هذه الأعمالُ مع غيرِها ممَّا هو غَرْبَ الفرات لجوسلين، وكان صاحِبَ رأي الفرنجِ والمُقَدَّم على عساكِرِهم؛ لِما هو عليه من الشَّجاعةِ والمكرِ، وكان زنكي يَعلَمُ أنَّه متى قَصَد حَصْرَ الرَّها، اجتمع فيها مِن الفرنجِ مَن يَمنَعُها، فيتعَذَّر عليه مِلكُها لِما هي عليه من الحَصانةِ، فاشتغل بقِتالِ الملوك الأرتقيَّة بديارِ بَكرٍ ليُوهِمَ الفرنجَ أنَّه غيرُ مُتفَرِّغٍ لقَصدِ بلادِهم، فلمَّا رأَوْا أنَّه غيرُ قادر على تَرْكِ الملوك الأرتقيَّة وغيرِهم من ملوكِ ديارِ بَكرٍ، حيث إنَّه محارب لهم، اطمأنُّوا، وفارق جوسلين الرَّها وعبَرَ الفراتَ إلى بلاد الغربية، فجاءت عيونُ أتابك إليه فأخبَرَته فنادى العسكَرَ بالرحيلِ وألَّا يتخَلَّفَ عن الرَّها أحَدٌ مِن غَدِ يَومِه، وجمَعَ الأمراءَ عنده، وقال: قَدِّموا الطعامَ، وقال: لا يأكُلْ معي على مائدتي هذه إلَّا مَن يَطعنُ غدًا معي على بابِ الرَّها، فلم يتقَدَّمْ إليه غيرُ أميرٍ واحدٍ وصَبيٍّ لا يُعرَف؛ لِما يَعلَمونَ مِن إقدامِه وشجاعته، وأنَّ أحدًا لا يَقدِرُعلى مُجاراتِه في الحَربِ، فقال الأميرُ لذلك الصبي: ما أنت في هذا المقامِ؟ فقال أتابك: دَعْه فواللهِ إنِّي أرى وجهًا لا يتخَلَّفُ عني، وسار والعساكِرُ معه، ووصل إلى الرَّها، وكان هو أوَّلَ مَن حمل على الفرنجِ ومعه ذلك الصبيُّ، وحمَلَ فارِسٌ مِن خَيَّالة الفرنج على أتابك عرضًا، فاعتَرَضه ذلك الأميرُ فطَعَنَه فقَتَلَه، وسَلِمَ الشهيدُ، ونازل البَلَدَ، وقاتله ثمانيةً وعشرين يومًا، فزحَفَ إليه عِدَّةَ دَفعاتٍ، وقَدَّم النقَّابينَ فنَقَبوا سورَ البَلَدِ، وطَرَحوا فيه الحَطَب والنَّارَ فتهَدَّمَ، ودخلها فحاربهم، ولجَّ في قتالِه خَوفًا من اجتماعِ الفرنج والمسيرِ إليه واستنقاذِ البلد منه، فأخذ البَلَدَ عَنوةً وقهرًا، وحَصَرَ قلعةَ الرَّها فمَلَكها أيضًا, فنصَرَ اللهُ المُسلمينَ وغَنِموا غنائِمَ عَظيمةً، وخَلَّصوا أُسارى مُسلِمينَ يَزيدونَ على خمسِمئة. ونهب النَّاسُ الأموالَ وسَبَوا الذُّريَّةَ وقَتَلوا الرجالَ، فلمَّا رأى أتابك زنكي البلدَ أعجَبَه، ورأى أنَّ تَخريبَ مِثلِه لا يجوزُ في السِّياسة، فأمَرَ فنُودِيَ في العساكِرِ برَدِّ مَن أخذوه من الرِّجالِ والنِّساءِ والأطفالِ إلى بُيوتِهم، وإعادةِ ما غَنِموه من أثاثِهم وأمتِعَتِهم، فرَدُّوا الجميعَ عن آخِرِهم لم يُفقَدْ منهم أحَدٌ إلَّا الشَّاذُّ النَّادِرُ الذي أُخِذَ وفارَقَ مَن أخَذَه العَسكَرُ، فعاد البلدُ إلى حالِه الأوَّلِ، وجعَلَ فيه عسكرًا يَحفَظُه، وكان جمالُ الدين أبو المعالي فضلُ الله بن ماهان رئيسُ حرَّان هو الذي يحُثُّ أتابك في جميعِ الأوقاتِ على أخْذِ الرَّها، ويُسَهِّلُ عليه أمْرَها, ثمَّ رَحَل إلى سروجٍ ففَتَحَها، وهَرَب الفرنجُ منها، وتسَلَّمَ سائِرَ الأماكِنِ التي كانت بيَدِ الفِرنجِ شَرقيَّ الفُراتِ ما عدا البيرةَ؛ فإنَّها حصينةٌ مَنيعةٌ، وعلى شاطئِ الفُراتِ، فسار إليها وحاصَرَها، وكانوا قد أكثَروا مِيرتَها ورِجالَها، فبَقِيَ على حِصارِها إلى أن رحَلَ عنها عندما جاءَه الخبَرُ مِن المَوصِل أنَّ نَصيرَ الدِّينِ جقر نائبه بالموصِلِ قُتِلَ، فخاف عليها، وتَرَك البيرةَ بعد أن قارَبَ أخْذَها, وسار جِهةَ المَوصِلِ، ولَمَّا بلَغَ زنكي خبَرُ قَتْلِ مَن قَتَلَ جقر، سكَنَ جأشُه واطمأنَّ قَلبُه.
عالمُ الرَّافِضةِ، صاحِبُ التَّصانيفِ: أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ محمد بن القاضي النعمان البغدادي الكَرْخي بن محمد المغربي، المعروفُ بابنِ المعَلِّم أو الشَّيخ المُفيد شيخ الإماميَّة الرَّوافض، والمُصَنِّف لهم، والمُحامي عن حوزتِهم، صاحِب فُنونٍ وبحوثٍ وكلام، واعتزالٍ وأدبٍ. قال الذهبي: "ذكَرَه ابن أبي طي في "تاريخ الإماميَّة"، فأطنب وأسهب، وقال: كان أوحَدَ في جميعِ فُنونِ العلم: الأصلينِ، والفِقه، والأخبار، ومعرفة الرِّجال، والتفسير، والنحو، والشعر". كانت له وَجاهةٌ عند ملوك الأطرافِ، وكان مَجلِسُه يَحضُرُه خَلقٌ كَثيرٌ مِن العُلَماءِ مِن سائر الطوائِفِ، وكان من جُملةِ تلاميذِه الشَّريفُ الرَّضِيُّ، والمرتضى، له تصانيفُ؛ منها: الإرشادُ، والرسالة المُقنِعة، والإعلام فيما اتَّفَقَت عليه الإماميَّة من الأحكامِ وغيرها. كان يُناظِرُ أهلَ كُلِّ عقيدةٍ مع ما له من العَظَمةِ في الدَّولة البُويهيَّة، والرُّتبة الجَسيمة عند الخُلَفاء، وكان قويَّ النَّفسِ، كثيرَ البِرِّ، عظيمَ الخُشوعِ، كثيرَ الصَّلاة والصَّوم، يَلبَسُ الخَشِنَ من الثياب، وكان مُديًما للمطالعةِ والتَّعليمِ، ومن أحفَظِ الناس. قيل: "إنَّه ما ترك للمُخالفينَ كِتابًا إلَّا وحَفِظَه، وبهذا قَدَرَ على حَلِّ شُبَهِ القَومِ، وكان مِن أحرَصِ النَّاسِ على التَّعليم؛ يدورُ على المَكاتبِ وحوانيتِ الحاكَةِ، فيتلَمَّحُ الصبيَّ الفَطِنَ، فيستأجرُه من أبويه- يعني فيُضِلُّه- وبذلك كَثُر تلامِذتُه". ربما زاره عَضُدُ الدَّولة، وكان يقضي حوائجَه ويقول له: اشفَعْ تُشَفَّع، وكان يقومُ لتلامذتِه بكُلِّ ما يحتاجونَ إليه. وكان الشَّيخُ المفيد ربعةً نحيفًا، أسمرَ، وما استغلَقَ عليه جوابٌ إلَّا فَزِعَ إلى الصلاة، ثم يسألُ اللهَ فيُيَسِّرُ له الجواب. عاش ستًّا وسبعين سنة، وصَنَّف أكثَرَ من مِئَتي مُصَنَّف، وشَيَّعَه ثمانون ألفًا، وكانت جنازتُه مشهودة. قال الذهبي: "بلَغَت تواليفُه مِئَتين، لم أقِفْ على شيءٍ منها، ولله الحَمدُ"
أعلن الكاردينال "خيمينيث" أن المعاهدة التي تم توقيعُها مع حكام غرناطة قبل مائة سنة والتي عقدت عام 879 لم تعُدْ صالحة أو موجودة، وأعطى أوامرَه بتنصير جميع المسلمين في غرناطة دون الأخذ برأيهم، أو حتى تتاح لهم فرصةُ التعرف إلى الدين الجديد الذي يساقون إليه، ومن يرفُض منهم عليه أن يختار أحد أمرين: 1- إما أن يغادر غرناطة إلى إفريقيا دون أن يحمل معه أي شيء من أمواله، ودون راحلةٍ يركبها هو أو أحد أفراد أسرته من النساء والأطفال، وتُصادَر أمواله. 2- وإما أن يُعدَمَ علنًا في ساحات غرناطة باعتباره رافضًا للنصرانية, فكان من الطبيعي أن يختار عدد كبير من أهالي غرناطة الهجرةَ بدينهم وعقائدهم، فخرج قسمٌ منهم تاركين أموالهم سيرًا على الأقدام، غيرَ عابئين بمشاقِّ الطرقات، ومجاهِلِ وأخطار السفر إلى إفريقيا من دون مال أو راحلة، في مشهد يشبه هجرة الصحابةِ رضي الله عنهم إلى الحبشة! وبعد خروجِهم من غرناطة كانت تنتظرُهم عصابات الرعاع الإسبانية والجنود الإسبان، فهاجموهم وقتلوا معظمَهم، وعندما سمع الآخرون في غرناطة بذلك آثروا البقاء بعد أن أدركوا أنَّ خروجهم من إسبانيا يعني قتْلَهم، وبالتالي سيقوا في قوافِلَ للتنصير والتعميد كُرهًا! ومن كان يكتشفُه الإسبان أنه قد تهرَّب من التعميد تتمُّ مصادرة أمواله وقتله علنًا! وقد فرَّ عدد كبير من المسلمين الذين رفضوا التعميدَ إلى الجبال المحيطة في غرناطة محتمين في مغاورها وشعابها الوعرة، وأقاموا فيها لفترات، وأنشؤوا قرى عربية مسلمة، وكان الملكُ الإسباني يُشرفُ بنفسه على الحملات العسكرية الكبيرة التي كان يوجِّهها إلى الجبال؛ حيث كانت تلك القرى تُهدَمُ ويُساق أهلُها إلى الحرق أو التمثيل بهم وهم أحياء، في الساحات العامة في غرناطة- رحمهم الله رحمة واسعة، وجعلهم في عِداد الشهداء.
هو الإمامُ العلَّامةُ، الحافِظُ الكبيرُ المجَوِّد، مُحَدِّثُ الشام، ثِقةُ الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر، الدمشقي الشافعي صاحب (تاريخ دمشق). من أعيانِ الفُقَهاء الشافعيَّة، ومُحَدِّث الشام في وقته. غَلَب عليه الحديثُ فاشتَهَر به وبالَغَ في طلبه إلى أن جمعَ منه ما لم يتَّفِق لغَيرِه، حتى صار أحدَ أكابر حُفَّاظ الحديث ومن عُنِيَ به سَماعًا وجمعًا وتصنيفًا، واطِّلاعًا وحفظًا لأسانيده ومتونِه، وإتقانًا لأساليبه وفنونه، صاحِبُ الكتاب المشهور (تاريخ دمشق) الذي حاز فيه قَصَب السَّبْق، ومن نظَرَ فيه وتأمَّله، رأى ما وصَفَه فيه وأصَّلَه، وحَكَم بأنَّه فريدُ دَهرِه في التواريخ، هذا مع ما له في علوم الحديث من الكُتُب المفيدة، وما هو مشتَمِلٌ عليه من العبادة والطرائق الحميدة, وله مصنفاتٌ كثيرة منها الكبار والصغار، والأجزاءُ والأسفار، وقد أكثَرَ في طلب الحديث من التَّرحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وجمع من الكتبِ ما لم يجمَعْه أحدٌ مِن الحُفَّاظ نسخًا واستنساخًا، ومقابلة وتصحيحَ الألفاظ. قال الذهبي: "نقلتُ ترجمته من خَطِّ ولده المحدِّث أبي محمد القاسم بن علي، فقال: وُلِدَ أبي في المحرم سنة 499، وعَدَدُ شيوخِه الذي في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع، وستة وأربعون شيخًا أنشدوه، وعن مائتين وتسعين شيخًا بالإجازة، الكل في معجمه، وبضع وثمانون امرأة لهن مُعجَم صغير سَمِعْناه. وحدَّث ببغداد، والحجاز، وأصبهان، ونيسابور, وصنف الكثير, وكان فَهِمًا، حافِظًا، متقِنًا ذكيًّا، بصيرًا بهذا الشأن، لا يُلحَقُ شَأنُه، ولا يُشَقُّ غُباره، ولا كان له نظيرٌ في زمانه. وكان له إجازاتٌ عالية، ورُوي عنه أشياءُ من تصانيفه بالإجازة في حياته، واشتهر اسمُه في الأرض، وتفقَّه في حداثته على جمال الإسلام أبي الحسن السلمي وغيره، وانتفع بصحبة جده لأمه القاضي أبي المفضل عيسى بن علي القرشي في النحو، ولازم الدرسَ والتفقُّه بالنظامية ببغداد، وصنف وجمع فأحسن, فمن ذلك تاريخ دمشق في ثمانمائة جزء. قلت (الذهبي): "الجزء عشرون ورقة، فيكون ستة عشر ألف ورقة", وجمع (الموافقات) في اثنين وسبعين جزءًا، و(عوالي مالك)، والذيل عليه خمسين جزءًا، و(غرائب مالك) عشرة أجزاء، و(المعجم) في اثني عشر جزءًا, و(مناقب الشبان) خمسة عشر جزءًا، و(فضائل أصحاب الحديث) أحد عشر جزءًا، (فضل الجمعة) مجلد، و(تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري) مجلد، و (المسلسلات) مجلد، و (السباعيات) سبعة أجزاء، (من وافقت كنيته كنيةَ زوجته) أربعة أجزاء، و (في إنشاء دار السنة) ثلاثة أجزاء، (في يوم المزيد) ثلاثة أجزاء، (الزهادة في الشهادة) مجلد، (طرق قبض العلم)، (حديث الأطيط)، (حديث الهبوط وصحته)، (عوالي الأوزاعي وحاله) جزءان, (الخماسيات) جزء، (السداسيات) جزء، (أسماء الأماكن التي سمع فيها)، (الخضاب)، (إعزاز الهجرة عند إعواز النصرة)، (المقالة الفاضحة)، (فضل كتابة القرآن)، (من لا يكون مؤتمنًا لا يكون مؤذِّنًا)، (فضل الكرم على أهل الحرم)، (في حفر الخندق)، (قول عثمان: ما تغنيت)، (أسماء صحابة المسند)، (أحاديث رأس مال شعبة)، (أخبار سعيد بن عبد العزيز)، (مسلسل العيد)، (الأبنة)، (فضائل العشرة) جزءان، (من نزل المزة)، (في الربوة والنيرب)، (في كفر سوسية)، (رواية أهل صنعاء)، (أهل الحمريين)، (فذايا)، (بيت قوفا)، (البلاط)، (قبر سعد)، (جسرين)، (كفر بطنا)، (حرستا)، (دوما مع مسرابا)، (بيت سوا)، (جركان)، (جديا وطرميس)، (زملكا)، (جوبر)، (بيت لهيا)، (برزة)، (منين)، (يعقوبا)، (أحاديث بعلبك)، (فضل عسقلان)، (القدس)، (المدينة)، (مكة)، كتاب (الجهاد)، (مسند أبي حنيفة ومكحول)، (العزل)، (الأربعون الطوال)، (الأربعون البلدية) جزء، (الأربعون في الجهاد)، (الأربعون الأبدال)، (فضل عاشوراء) ثلاثة أجزاء، (طرق قبض العلم) جزء، كتاب (الزلازل)، (المصاب بالولد) جزءان، (شيوخ النبل)، (عوالي شعبة) اثنا عشر جزءًا، (عوالي سفيان) أربعة أجزاء، (معجم القرى والأمصار) جزء، وغير ذلك, وسرد له عدة تواليف. قال: وأملى أبي أربعمائة مجلس وثمانية. قال: وكان مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب في غير طاعة، كان يجري ذكره عند ابن شيخه، وهو الخطيب أبو الفضل بن أبي نصر الطوسي، فيقول: ما نعلم من يستحِقُّ هذا اللقب اليوم يعني: (الحافظ) ويكون حقيقًا به سواه. وقال القاسم: لما دخلت همذان أثنى عليه الحافظ أبو العلاء، وقال لي: أنا أعلم أنه لا يساجِلَ الحافظ ابن عساكر في شأنه أحد، فلو خالط الناسَ ومازجهم كما أصنع، إذًا لاجتمع عليه الموافِقُ والمخالف, وقال لي أبو العلاء يومًا: أي شيء فتح له، وكيف ترى الناس له؟ قلت (الذهبي): "هو بعيد من هذا كله، لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتصنيف والتسميع، حتى في نُزَهِه وخلواته" ثم قال أبو العلاء: ما كان يسمَّى ابن عساكر ببغداد إلَّا شعلةَ نار؛ من توقُّدِه وذكائه وحُسنِ إدراكه. قال أبو المواهب: لم أرَ مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الجماعة في الخمس في الصف الأول إلَّا من عذر، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عُرِضَت عليه، وقِلَّة التفاته إلى الأمراء، وأخْذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخُذُه في الله لومة لائم. قال لي: لَمَّا عزمت على التحديث، واللهُ المطَّلِعُ أنَّه ما حملني على ذلك حُبُّ الرئاسة والتقدم، بل قلت: متى أروي كُلَّ ما قد سمعته، وأيُّ فائدة في كوني أخَلِّفُه بعدي صحائف؟ فاستخرتُ الله، واستأذنت أعيانَ شيوخي ورؤساء البلد، وطُفت عليهم، فكُلٌّ قال: ومن أحقُّ بهذا منك؟ فشرعت في ذلك سنة ثلاث وثلاثين" كانت وفاة ابن عساكر في الحادي عشر من رجب، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين الأيوبي جنازتَه ودُفِنَ بمقابر باب الصغير، وكان الذي صلى عليه الشيخُ قطب الدين النيسابوري.