الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 450 ). زمن البحث بالثانية ( 0.017 )

العام الهجري : 1325 العام الميلادي : 1907
تفاصيل الحدث:

عَمِلَ السلطانُ عبد الحميد على كَسبِ الشعوب الإسلامية عن طريقِ الاهتمامِ بكلِّ مؤسَّساتها الشرعيَّة والعِلميَّة، والتبَرُّع لها بالأموالِ والمِنَح، ورَصد المبالغ الطائلة لإصلاحِ الحَرَمين، وترميمِ المساجِدِ وزَخرفتها، وأخذ السلطانُ يستميل إليه مسلمي العربِ بكلِّ الوسائِلِ، فكوَّن له من العَرَبِ حرسًا خاصًّا، وعيَّنَ بعضَ الموالين له منهم في وظائِفَ كبرى، وأبدى السلطان عبد الحميد اهتمامًا بالغًا بإنشاءِ الخطوطِ الحديديةِ في مختَلِفِ أنحاءِ الدولة العثمانية، مُستهدفًا من ورائها تحقيقَ ثلاثةِ أغراضٍ:
1- ربطُ أجزاءِ الدولة المتباعدةِ مع بعضٍ؛ ممَّا يساعِدُ على نجاح فكرةِ الوَحدةِ العُثمانية، والجامعة الإسلامية، والسيطرة الكاملة على الولاياتِ التي تتطلَّبُ تقويةَ قَبضةِ الدولة عليها.
2- إجبارُ تلك الولاياتِ على الاندماجِ في الدولةِ والخضوعِ للقوانينِ العَسكرية التي تنُصُّ على وجوبِ الاشتراكِ في الدفاعِ عن الخلافةِ بتقديمِ المالِ والرِّجال.
3- تسهيلُ مُهمَّةِ الدفاع عن الدولة في أيَّةِ جبهةٍ من الجبهاتِ التي تتعرَّضُ للعدوانِ؛ لأنَّ مَدَّ الخطوطِ الحديديَّةِ سيُساعِدُ على سرعةِ توزيع القواتِ العثمانية وإيصالِها إلى الجبهاتِ.
وكانت سكةُ حديد الحجاز من أهمِّ الخطوط الحديدية التي أُنشِئت في عهدِ السلطان عبد الحميد؛ ففي سنة 1900م بدأ بتشييدِ خطٍّ حديدي من دمشق إلى المدينة؛ للاستعاضة به عن طريق القوافِلِ الذي كان يستغرِقُ من المسافرين حوالي أربعين يومًا، وطريقِ البحرِ الذي يستغرقُ حوالي اثنى عشر يومًا من ساحلِ الشامِ إلى الحجاز، وكان يستغرِقُ من المسافرين أربعة أو خمسة أيام على الأكثَرِ، ولم يكن الغَرَضُ من إنشاء هذا الخطِّ مجرَّدَ خدمة حجَّاج بيت الله الحرام وتسهيل وصولهم إلى مكَّة والمدينة، وإنما كان السلطان عبد الحميد يرمي من ورائِه أيضًا إلى أهدافٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ؛ فمن الناحية السياسية خَلَق المشروعُ في أنحاء العالم الإسلامي حماسةً دينيةً كبيرةً؛ إذ نشر السلطانُ على المسلمين في كافة أنحاء الأرضِ بيانًا يناشِدُهم فيه المساهمةَ بالتبَرُّع لإنشاء هذا الخط، وقد افتتح السلطانُ عبد الحميد قائمةَ التبرعات بمبلغ (خمسين ألفًا ذهبًا عثمانيًّا من جيبه الخاصِّ) وتقَرَّر دفع (مائة ألف) ذهب عثماني من صندوق المنافع، وأُسِّست الجمعيَّاتُ الخيرية، وتسابق المسلمون من كلِّ جهةٍ للإعانة على إنشائِها بالأنفُسِ والأموالِ، ورغم احتياجِ المشروع لبعض الفنِّيين الأجانب في إقامة الجسور والأنفاق، فإنَّهم لم يُستخدَموا إلا إذا اشتَدَّت الحاجة إليهم، مع العلمِ بأنَّ الأجانب لم يشتركوا إطلاقًا في المشروع، ابتداءً من محطةِ الأخضر -على بعد 760 كليو مترًا جنوب دمشق- وحتى نهايةِ المشروع؛ ذلك لأنَّ لجنة المشروع استغنت عنهم واستبدلت بهم فنيين مصريين. وبلغ عدد العمال غير المَهَرة عام 1907م (7500) عاملًا. وبلغ إجمالي تكاليف المشروع (4.283.000) ليرة عثمانية. وتم إنشاءُ المشروع في زمنٍ وتكاليف أقلَّ مما لو تعمله الشركات الأجنبية في أراضي الدولةِ العثمانية، وفي أغسطس سنة 1908م وصل الخطُّ الحديدي إلى المدينة المنورة، وكان مفروضًا أن يتِمَّ مَدُّه بعد ذلك إلى مكةَ، لكنْ حدث أن توقَّف العملُ فيه؛ لأنَّ شريف مكة -وهو الحسين بن علي- خشِيَ على سُلطاته في الحجاز من بطشِ الدولة العثمانية، فنهض لعرقلةِ مَدِّ المشروع إلى مكَّةَ، وكانت مقَرَّ إمارتِه وقوَّته. فبقيت نهايةُ الخط عند المدينة المنورة، حتى إذا قامت الحرب العالمية الأولى عَمِلَ الإنجليزُ بالتحالف مع القوات العربية التي انضَمَّت إليهم بقيادة فيصل ابن الشريف حسين بن علي على تخريبِ سكةِ حديد الحجاز، وكان أوَّلُ قطار قد وصل إلى محطة سكة الحديد في المدينة المنورة من دمشق الشام يوم 22 (أغسطس) 1908م، وكان بمثابة تحقيقِ حُلمٍ مِن الأحلام بالنسبة لمئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم كافة؛ فقد اختصر القِطارُ في رحلته التي استغرَقَت ثلاثة أيام، وقطع فيها 814 ميلًا مشقَّاتِ رحلةٍ كانت تستغرق في السابق أكثَرَ من خمسة أسابيعَ، ويسَّرت على المسلمين القيامِ بأداء فريضة الحَجِّ.

العام الهجري : 1343 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1925
تفاصيل الحدث:

في عام 1924 ألَّف الدكتور عبد الرحمن الشهبندر بدمشق حزبًا سياسيًّا سمَّاه حزب الشعب، وتولى رئاسته، وأطلق على نفسِه لقب الزعيم، وأخذ يعمَلُ في تنظيم العمل السياسي ويدعو إلى الوَحدة العربية، ويطالِبُ بإلغاء الانتداب، وإقامة جمهورية سورية في نطاق الاتحاد مع جميع البلدان العربية المستقِلَّة؛ ولتحقيق ذلك بدأ الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الاتصالَ بزعماء ووجهاء المدن السورية يحثُّهم على الثورة ضِدَّ الاستعمار الفرنسي ويشحَذُ هِمَمهم ويعزِّز شعورهم الوطني، ويطلب منهم بدء الكفاح المسلَّح لنيل الاستقلال، وتحقيق الحلم الوطني العربي بإقامة الجمهورية السورية العربية، وقد جاءت الثورةُ السورية الكبرى كرَدِّ فعلٍ على السياسات الدكتاتورية العسكرية التي اتبعَتْها السلطات الفرنسية الاستعمارية، والمتمثِّلة في تمزيق سوريا إلى عدَّة دويلات، وإلغاء الحريات، وملاحقة الوطنيين، وإثارة النزعات الطائفية، ومحاربة الثقافة والطابع العربي للبلاد، ومحاولة إحلال الثقافة الفرنسية، بالإضافة إلى رفضِ سُلُطات الانتداب عَقْدَ اتفاق مع القوى الوطنية السورية لوضع برنامج زمني لاستقلال سوريا، انطلقت ثورة سوريا الكبرى في 29 ذي الحجة الموافق 21 تموز / يوليو، وانضَمَّ تحت لوائها عددٌ من المجاهدين من مختَلِف مناطق سوريا ولبنان والأردن، ومنهم دروز الجبل، وقد شَهِدت سوريا خمسًا وثلاثين ثورة قبل الثورة الكبرى، وقُتِلَ في تلك الثورات ما يقرُبُ من خمسة آلاف جندي فرنسي، وكان الدروز غائبين تمامًا عن كل تلك الثورات 35 ثورة، وبعد وفاة سليم الأطرش حاكِمِ جبل الدروز وتعيين حاكم فرنسي بدلًا عنه ناقضين اتفاقَهم مع زعماء الجبل الذين نفاهم الجنرال سراي بعد ذلك، فتمرد الدروز ووقعت معركةُ المزرعة؛ مما اضطر سراي أن يدخُلَ في مفاوضات مع الدروز لوقف القتال وإطلاق سراح الزعماء، ثم اتصل أعضاءُ حزب الشعب بزعماء الدروز في الجبل وقرَّروا التعاونَ للدفاع عن استقلال البلاد، وحثَّ الدكتور عبد الرحمن الشهبندر زعيمَ الدروز الجديدَ سلطانَ الأطرش على التقدُّم نحو دمشق ضِدَّ السلطات الفرنسية، فاشتعلت المعارِكُ حول دمشق وغوطتها والجبل وقراه، فأرسلت فرنسا الجنرالَ جاملان وعيَّنوه قائدًا عامًّا لجيش الشرق، فزحف نحو الجبل ولم يستطِع احتلال عاصمة الجبل السوداء، ثم نشبت ثورة حماة في تشرين الأول 1925م وانتشرت إلى دمشق وعمَّت أنحاء سوريا، وقُصفت قوات فرنسا في دمشق بعد أن اتَّسع نطاق حرب العصابات، فأطلق الفرنسيون نيرانَ مدافِعِهم وقنابل طائراتِهم على دمشق وأسواقها وأحيائها أيامًا وشهورًا خلال الثورة، واشتركت في هذه الثورة جميعُ الطوائف بما فيهم البدوُ، إلَّا أنَّ بعضَ الطوائف لم تشترك بالثورة، مثل النصيريين وسكان سنجق إسكندرون، وأغلبهم نصيرية، وكانت القواتُ الفرنسية تستعين في إخماد الثورات على الأقليات الذين جنَّدَتْهم للثورة، كالأرمن وبعض الشراكسة وبعض البدو الذين كان لهم ثأرٌ مع الدروز، ولكِنْ في أواخر أيام الثورة انضمَّ الدروز إلى السلطات الفرنسية تحت لواء قيادتهم عبد الغفار الأطرش ومتعب الأطرش، وتطوعوا في الجيش الفرنسي وأجهزة الأمن الفرنسية، وقد كانوا قبل ذلك في اللجنة العليا للثورة السورية التي أعلن المجاهِدونَ حَلَّها بعد هذه الخيانة، وأمَّا عموم النصارى فكان غالِبُهم وقف موقف المتفَرِّج، غير الذين كانوا يعملون في أجهزة الأمنِ الفرنسي، وكان النصارى في دمشق يضعون على منازلهم أقمشةً بيضاء عليها صليبٌ أحمر لِيَعرِفَ الطيارون أنها بيوت للنصارى فلا يقصِفونها، وأما الغوطة فقد كانت ملجأً للمجاهدين، فقام الفرنسيون بإحراق معظَمِ بساتينها، وفرضت السلطاتُ الفرنسية غراماتٍ مالية على الأهالي فوق القَصفِ العشوائي الذي استنكرته القناصِلُ، وهاجر كثيرٌ من أهل دمشق إلى بيروت ومصر وغيرها، واستمر مسلسل العنف والدمار إلى أيار 1926م، ثم حدثت مفاوضاتٌ مع بعض المسؤولين السوريين بَقِيَت قرابة التسعة أشهر، لكِنْ دون نتيجة، فعادت سياسةُ العنف والقصف والنهب للأحياء كما كانت.

العام الهجري : 699 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1300
تفاصيل الحدث:

بعد أن انهزم جيشُ المماليك من التتار في موقعةِ السلمية في ربيع الأول، وبعد ما حصل لأهل دمشق من الخوفِ الشديد، زاد الأمر أنَّه في ليلة الأحد ثاني ربيع الآخر كسر المحبوسون بحَبسِ أبي الصغير الحبسَ وخرجوا منه على حميةٍ، وتفرقوا في البلدِ، وكانوا قريبًا من مائتي رجل فنَهَبوا ما قدروا عليه وجاؤوا إلى باب الجابية فكسروا أقفالَ الباب البراني وخرَجوا منه إلى بر البلد، فتفَرَّقوا حيث شاؤوا لا يقدِرُ أحد على رَدِّهم، وعاثت الحرافشة- كالشُّطَّار والعيَّارين في بغداد- في ظاهرِ البلد، فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الأبوابِ والشبابيك شيئًا كثيرًا، وباعوا ذلك بأرخَصِ الأثمان، هذا وسلطانُ التتار قد قصد دمشقَ بعد الوقعة، فاجتمع أعيانُ البلد والشيخ تقي الدين ابنُ تيميَّةَ في مشهدِ عليٍّ، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلَقِّيه، وأخْذِ الأمانِ منه لأهل دمشق، فتوجَّهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتَمَعوا به عند النبك، وكلَّمَه الشيخُ تقي الدين كلامًا قويًّا شديدًا فيه مصلحةٌ عظيمةٌ عاد نفعُها على المسلمين. ذكر ابن كثير: "أنَّ شَيخَ الإسلامِ تقيَّ الدينِ ابن تيميَّةَ قال لترجمانِ قازان: قل للقان: أنت تزعُمُ أنَّك مسلِمٌ ومعك مؤذِّنونَ وقاضٍ وإمامٌ وشَيخٌ على ما بلَغَنا، فغزَوْتَنا وبلَغْتَ بلادَنا على ماذا؟! وأبوك وجَدُّك هولاكو كانا كافرينِ وما غزَوَا بلادَ الإسلام، بل عاهَدوا قومَنا، وأنت عاهَدْتَ فغَدَرْتَ وقُلْتَ فما وفَيْتَ! قال: وجَرَت له مع قازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونُوَب، قام ابن تيمية فيها كُلِّها لله، وقال الحَقَّ ولم يخشَ إلا الله عزَّ وجَلَّ. قال: وقَرَّب إلى الجماعةِ طَعامًا فأكلوا منه إلَّا ابنَ تيميَّةَ، فقيل له: ألا تأكُلُ؟ فقال: كيف آكُلُ مِن طعامِكم وكلُّه مما نهَبْتُم من أغنامِ النَّاسِ وطَبَختُموه بما قطَعْتُم من أشجارِ النَّاسِ؟! قال: ثمَّ إن قازان طلَبَ منه الدعاءَ، فقال في دعائه: "اللهم إن كان هذا عبدُك محمود إنَّما يقاتِلُ لتكونَ كَلِمَتُك هي العُليا وليكونَ الدِّينُ كُلُّه لك، فانصُرْه وأيِّدْه ومَلِّكْه البِلادَ والعبادَ، وإن كان إنما قام رياءً وسُمعةً وطَلبًا للدنيا ولتكونَ كَلِمتُه هي العليا ولِيُذِلَّ الإسلامَ وأهلَه، فاخذُلْه وزلزِلْه ودَمِّرْه واقطَع دابِرَه" قال: وقازان يؤمِّنُ على دعائه، ويَرفَعُ يديه. قال: فجعَلْنا نجمَعُ ثيابَنا خوفًا من أن تتلوَّثَ بدَمِه إذا أمَرَ بقَتلِه!! قال: فلمَّا خرجنا من عنده قال له قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وغيره: كدتَ أن تُهلِكَنا وتُهلِكَ نَفسَك، واللهِ لا نَصحَبُك من هنا، فقال: وأنا واللهِ لا أصحَبُكم. قال: فانطلَقْنا عُصبةً وتأخَّرَ هو في خاصَّةِ نَفسِه ومعه جماعةٌ من أصحابه، فتسامَعَ به الأمراءُ من أصحاب قازان فأتوه يتبَرَّكونَ بدعائه، وهو سائِرٌ إلى دمشق، وينظُرونَ إليه، قال: والله ما وصل إلى دمشقَ إلَّا في نحو ثلثمائةِ فارسٍ في رِكابِه، وكنت أنا من جملةِ مَن كان معه، وأمَّا أولئك الذين أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعةٌ من التتر فشَلحوهم عن آخِرِهم!!"، ودخل المسلمونَ ليلتئذٍ مِن جهة قازان فنزلوا بالبدرانيَّة وغُلِّقَت أبوابُ البلد سوى باب توما، وخَطَب الخطيبُ بالجامع يوم الجمعةِ، ولم يَذكُرْ سُلطانًا في خُطبتِه، وبعد الصلاةِ قَدِمَ الأمير إسماعيل ومعه جماعةٌ مِن الرسُلِ فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن، وحضر الفرمان بالأمان وطِيفَ به في البلد، وقرئ يومَ السبتِ ثامِنَ الشهر بمقصورة الخطابة، ونُثِرَ شَيءٌ من الذهب والفضة، وفي ثاني يوم من المناداة بالأمان طُلِبَت الخيولُ والسلاح والأموال المخبَّأة عند الناس من جهةِ الدولة، وجلس ديوان الاستخلاصِ إذ ذاك بالمدرسة القيمريَّة، وفي يوم الاثنين عاشِرَ الشهر قَدِمَ سيف الدين قبجق المنصوري الذي كان هرب إلى التتارِ، فنزل في الميدان واقترب جيشُ التتر وكَثُرَ العَيثُ في ظاهر البلد، وقُتِلَ جماعةٌ وغَلَت الأسعارُ بالبلد جِدًّا، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسَلِّمَها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشدَّ الامتناع، فجمع له قبجق أعيانَ البلد فكَلَّموه أيضًا فلم يجبهم إلى ذلك، وصَمَّمَ على ترك تسليمِها إليهم وبه عَينٌ تَطرفُ؛ فإنَّ الشَّيخَ تقيَّ الدين ابن تيمية أرسل إلى نائب القلعةِ يقول له ذلك، لو لم يبقَ فيها إلَّا حَجَرٌ واحِدٌ فلا تسَلِّمْهم ذلك إن استطعْتَ، وكان في ذلك مصلحةٌ عظيمة لأهل الشامِ؛ فإن الله حَفِظَ لهم هذا الحِصنَ والمَعقِلَ الذي جعله الله حِرزًا لأهل الشام التي لا تزال دارَ إيمانٍ وسُنَّةٍ، حتى ينزِلَ بها عيسى بنُ مريم، وفي يوم دخول قبجق إلى دمشقَ دخل السلطانُ ونائبُه سلار إلى مصرَ، كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودُقَّت البشائرُ بها، فقَوِيَ جأش الناس بعضَ قُوَّةٍ، وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر خُطِبَ لقازان على منبر دمشقَ بحضور المغول بالمقصورةِ ودُعِيَ له على السُّدَّة بعد الصلاة، وقرئ عليها مرسومٌ بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنَّؤوه بذلك، فأظهر الكرامةَ وأنه في تعَبٍ عظيمٍ مع التتر، وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتارُ وصاحب سيس في نهب الصالحيَّة ومسجدِ الأسديَّة ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفيَّة بها، واحترق جامعُ التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهةِ الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التَّتارِ قَبَّحَهم الله، وسَبَوا من أهلِها خلقًا كثيرًا وجمًّا غفيرًا، وجاء أكثَرُ الناس إلى رباط الحنابلة، فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخُ الشيوخ، وأعطى في الساكِنِ مال له صورة ثم اقتحموا عليه فسَبَوا منه خلقًا كثيرًا من بنات المشايخ وأولادِهم، ولما نُكِب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقًا من الرجال وأسَروا من النساء كثيرًا، ونال قاضيَ القضاةِ تقيَّ الدين ابنَ تيميَّةَ أذًى كثيرٌ، ويقال إنَّهم قتلوا من أهل الصالحية قريبًا من أربعمائة، وأسَروا نحوًا من أربعة آلاف أسير، ونُهِبَت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباعُ وهي مكتوبٌ عليها الوقفيَّة، وفعلوا بالمزَّة مثل ما فعلوا بالصالحية، وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصَّن الناسُ منهم في الجامِعِ بداريا ففتحوه قسرًا وقتلوا منهم خلقًا وسَبَوا نساءَهم وأولادهم، وخرج الشيخُ ابنُ تيمية في جماعةٍ مِن أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر إلى مَلِك التتر قازان، وعاد بعد يومينِ ولم يتَّفِق اجتماعُه به، حجَبَه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاءِ الشغلِ، وذكرَا له أن التَّتر لم يحصل لكثيرٍ منهم شيءٌ إلى الآن، ولا بُدَّ لهم من شيءٍ، واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخولَ دمشقَ، فانزعج الناسُ لذلك وخافوا خوفًا شديدًا، وأرادوا الخروجَ منها والهرب على وجوههم، وأين الفرارُ ولات حينَ مَناصٍ!! وقد أُخِذَ من البلد فوق العشرةِ آلاف فرس، ثمَّ فُرِضَت أموال كثيرة على البلدِ مُوزَّعةً على أهل الأسواقِ، كلُّ سوقٍ بحَسَبِه من المال، وشرع التتر في عمل مجانيقَ بالجامِعِ لِيَرموا بها القلعةَ مِن صحن الجامِعِ، وغُلِّقَت أبوابُه ونزل التتار في مشاهِدِه يحرسونَ أخشاب المجانيق، وينهَبونَ ما حوله من الأسواقِ، وأهلُ البلدِ قد أذاقَهم اللهُ لباسَ الجوعِ والخَوفِ بما كانوا يصنعونَ، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، والمصادراتُ والتراسيمُ والعقوباتُ عمالة في أكابِرِ أهلِ البلدِ ليلًا ونهارًا، حتى أُخِذَ منهم شيء كثير من الأموال والأوقاف، كالجامِعِ وغيره، ثم جاء مرسومٌ بصيانة الجامِعِ وتوفيرِ أوقافه وصَرْف ما كان يؤخذُ من خزائن السلاحِ إلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسومُ بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادى الأولى، وفي ذلك اليوم توجَّه السلطان قازان وترك نوَّابَه بالشام في ستين ألف مقاتلٍ نحو بلاد العراق، وجاء كتابُه: إنا قد تركنا نوَّابَنا بالشامِ في ستين ألف مقاتلٍ، وفي عَزْمنا العودُ إليها في زمن الخريف، والدخولُ إلى الديار المصرية وفَتْحُها، وقد أعجَزَتْهم القلعةُ أن يصلوا إلى حجَرٍ منها، وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان وسار وراءه وضُرِبَت البشائر بالقلعة فرحًا لرحيلهم، ولم تُفتَح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يومٍ من خروج قبجق إلى الجامعِ، فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبةِ به، وعادوا إلى القلعةِ سريعًا سالمين، واستصحبوا معهم جماعةً ممَّن كانوا يلوذون بالتتر قهرًا إلى القلعة، منهم الشريفُ القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي، وجاءت الرسلُ من قبجق إلى دمشق، فنادوا بها: طَيِّبوا أنفُسَكم وافتَحوا دكاكينَكم وتهيَّؤوا غدا لتلقِّي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناسُ إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفسادِ والدَّمارِ، وانفَكَّ رؤساء البلد من التراسيمِ بعد ما ذاقوا شيئًا كثيرًا!!

العام الهجري : 411 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1021
تفاصيل الحدث:

هو صاحِبُ مِصرَ الحاكِمُ بأمر الله، أبو عليٍّ منصورُ بنُ العزيز نزار بن المعِزِّ معد بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدي، العُبَيديُّ الإسماعيليُّ الزِّنديقُ المُدَّعي الرُّبوبيَّة. مولِدُه سنةَ 375. أقاموه في المُلكِ بعد أبيه، وله إحدى عشرةَ سنةً. حكى هو عن نَفسِه قال: "ضَمَّني أبي وقَبَّلَني وهو عُريان، وقال: امْضِ فالعَبْ، فأنا في عافيةٍ. قال: ثمَّ توفِّيَ، فأتاني برجوان، وأنا على جميزةٍ في الدار. فقال: انزِلْ وَيحَك، اللهَ اللهَ فينا، فنَزَلْت، فوضَعَ العِمامةَ بالجوهَرِ على رأسي، وقبَّلَ الأرضَ، ثمَّ قال: السَّلامُ عليك يا أميرَ المُؤمنينَ، وخرج بي إلى النَّاسِ، فقَبَّلوا الأرضَ، وسَلَّموا عليَّ بالخِلافةِ". قال الذهبيُّ: "كان شَيطانًا مَريدًا جَبَّارًا عنيدًا، كثيرَ التلَوُّن، سَفَّاكًا للدِّماء، خبيثَ النِّحلةِ، عظيمَ المَكرِ، جَوادًا مُمَدَّحًا، له شأنٌ عجيبٌ، ونبأٌ غريبٌ، كان فرعونَ زَمانِه، يختَرِعُ كُلَّ وَقتٍ أحكامًا يُلزِمُ الرَّعيَّةَ بها، أمَرَ بسَبِّ الصَّحابةِ رَضِيَ الله عنهم، وبكتابةِ ذلك على أبوابِ المساجِدِ والشوارعِ، وأمَرَ عُمَّالَه بالسَّبِّ، وفي سنة 395 أمَرَ بقَتلِ الكِلابِ. وأبطَلَ بَيعَ الفَقعِ والمُلوخيَّة، وحَرَّم بيعَ السَّمَك بغيرِ قِشرٍ، ووقَعَ بباعةٍ لِشَيءٍ مِن ذلك فقَتَلَهم. وفي سنة 402 حَرَّمَ بيعَ الرُّطَب، وجمَعَ منه شيئًا عظيمًا فأحرَقَه، ومنَعَ مِن بَيعِ العِنَب، وأباد الكُرومَ. وأمر النَّصارى بتعليقِ صَليبٍ في رِقابِهم زِنَتُه رطلٌ وربعٌ بالدمشقيِّ، وألزم اليهودَ أن يُعَلِّقوا في أعناقِهم قرميَّةً في زنة الصَّليبِ إشارةً إلى رأسِ العِجلِ الذي عبدوه، وأن تكونَ عِمائِمُهم سُودًا، وأن يدخُلوا الحَمَّام بالصَّليبِ وبالقرمية، ثم أفرَدَ لهم حَمَّاماتٍ. وأمَرَ في العامِ بهَدمِ كَنيسةِ قمامة، وبهدمِ كَنائِسِ مِصرَ، فأسلَمَ عِدَّةٌ، ثمَّ إنه نهى عن تقبيلِ الأرضِ، وعن الدُّعاءِ له في الخُطَب وفي الكُتُب، وجعَلَ بدَلَه السَّلامُ عليه، ثمَّ إنَّ ابنَ باديس أميرَ المغربِ بَعَث ينقِمُ عليه أمورًا، فأراد أن يَستَميلَه، فأظهَرَ التفَقُّهَ، وحمَلَ في كُمِّه الدَّفاتر، ولَزِمَ التفَقُّهَ وأمَرَ الفُقَهاءَ بِبَثِّ مَذهَبِ مالكٍ، واتَّخَذ له مالكيَّينِ يُفَقِّهانِه، ثمَّ تغَيَّرَ فقَتَلَهما صبرًا", وفي سنة 404 نفى المنَجِّمينَ مِن بلاده. ومنَعَ النِّساءَ مِن الخروجِ مِن البيوتِ، وأبطَلَ عَمَل الِخفافِ لهنَّ جُملةً، وما زِلنَ ممنوعاتٍ مِن الخروجِ سَبعَ سِنينَ وسَبعةَ أشهر. ثم بعد مُدَّةٍ أمَرَ بإنشاءِ ما هُدِمَ من الكنائِسِ، وأذِنَ للنَّصارى الذين أكرَهَهم في العَودِ إلى الكُفرِ، وخبَرُ هلاكِه أنه فُقِدَ في ليلةِ الاثنينِ لثلاثٍ بَقِينَ مِن شَوَّال، ولم يُعرَفْ له خبَرٌ، وكان سبَبُ فَقدِه أنَّه خرج يطوفُ ليلةً على رَسمِه، وأصبح عند قَبرِ الفقاعي، وتوجَّهَ إلى شرقي حُلوان ومعه ركابيَّان، فأعاد أحدَهما مع جماعةٍ مِن العرب إلى بيتِ المال، وأمر لهم بجائزةٍ، ثمَّ عاد الركابيُّ الآخر، وذكَرَ أنَّه خَلَّفَه عند العَينِ والمقصبة، وبقيَ النَّاسُ على رسمِهم يَخرُجونَ كُلَّ يومٍ يلتَمِسونَ رُجوعَه إلى آخر شوال، فلما كان ثالثُ ذي القعدة خرج مُظَفَّر الصقلبي وغَيرُه من خواصِّ الحاكِمِ، ومعهم القاضي، فبَلَغوا عسفان، ودخلوا في الجَبَلِ، فبَصُروا بالحِمارِ الذي كان عليه راكبًا، وقد ضُرِبَت يداه بسَيفٍ فأثَّرَ فيهما، وعليه سَرجُه ولِجامُه، فاتَّبَعوا الأثَرَ، فانتهوا به إلى البِركةِ التي شَرقيَّ حلوان، فرأوا ثيابَه، وهي سبعُ قِطَع صُوف، وهي مُزَرَّرة بحالِها لم تُحَلَّ، وفيها أثَرُ السَّكاكين، فعادوا ولم يَشُكُّوا في قَتلِه، وكان عُمُرُه 37 سنة، وولايته 25 سنة, وقيل: إنَّ سَبَبَ قَتلِه هو أنَّه كان كثيرَ الشَّتمِ والسَّبِّ لأختِه سِتِّ الملك، واتَّهَمَها بالفاحشة، فعَمِلَت على قتلِه، بحيث كانت تَعرِفُ يومَ خُروجِه إلى الجَبَلِ لينظُرَ في النجومِ، فتمالأت مع الوزيرِ وأرسلوا عبدينِ أسودَينِ، فلما كان من اللَّيلِ وسار إلى الجبَلِ وَحدَه، قتَلَه العبدانِ وأحضراه إلى أختِه التي دفنته في دارِه، وقَرَّرَت توليةَ وَلَدِه، وكان حينها بدمشقَ، فأخبَرَت النَّاسَ أنَّ الحاكِمَ سيَغيبُ سَبعةَ أيَّامٍ, وهذا لِيَسكُنَ النَّاسُ ويَحضُرَ ابنُه من دمشق، فلما حضَرَ جَهَّزَتْه وأخرَجَتْه للنَّاسِ، على أنَّه الحاكِمُ الجديدُ، وابنُه هو أبو الحسن علي، ولُقِّبَ الظاهِرَ لإعزاز دين الله، وأُخِذَت له البيعةُ.

العام الهجري : 564 العام الميلادي : 1168
تفاصيل الحدث:

هو مَلِك الديار المصرية ووزيرُها أبو شجاع شاور بن مجير بن نزار بن عشائر السعدي، الهوازني. يرجع نسبه إلى أبي ذؤيب عبد الله والد حليمة السعدية مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان الملك الصالحُ طلائع بن رزيك الرافضي وزيرُ العاضد قد ولَّاه إمرة الصعيد، ثم نَدِمَ على توليته حيث لا ينفع الندم. ثم إن شاوِر تمكن في الصعيد، وكان شجاعًا فارسًا شهمًا، وكان الصالح لما احتُضِرَ قد وصى ولده رزيك ألَّا يتعرض لشاور ولا يهيجه بمساءةٍ ولا يُغَيِّر عليه حاله، فإنه لا يأمَنُ عصيانه والخروج عليه، وكان كما أشار، ثم إن شاور بعد وفاة الملك الصالح حشَدَ وجمع، وأقبل من الصعيد على واحات، واخترق البرِّية إلى أن خرج من عند تروجة بقرب الإسكندرية، وتوجه إلى القاهرة ودخلها، فقتل العادِلَ رزيك بن الملك الصالح، ووزر للعاضِدِ. لما تملك شاور البلاد لمَّ شَعثَ القصر، وأدرَّ الأرزاق الكثيرة على أهل القصر، وكان قد نقصهم المَلِكُ الصالح أشياءَ كثيرة، ثمَّ تجبَّرَ شاور وظلم فخرج عليه الأميرُ ضرغام وأمراء، وتهيؤوا لحربه، ففَرَّ إلى دمشق مستنجدًا بالسلطان نور الدين محمود، فاجتمع به، وأكرمَه، ووعده بالنصرة. وقال شاوِر له: أنا أمَلِّكُك مصر، فجهَّزَ معه شيركوه بعد عهودٍ وأيمان، فالتقى شيركوه وعسكر ضرغام، فانكسرَ المصريون، وحُوصِرَ ضرغام بالقاهرة، وتفلَّلَ جمعُه، فهرب، فأُدرِك وقُتِلَ عند جامع ابن طولون، وطِيفَ برأسه، ودخل شاوِر، فعاتبه العاضِدُ على ما فعل من جَلبِ أصحاب نور الدين محمود إلى مصر، فضَمِنَ له أن يصرِفَهم، فخلع عليه، فكتب إلى الروم يستنفِرُهم ويُمَنِّيهم، فأُسقِطَ في يد شيركوه، وحاصر القاهرةَ، فدهمته الرومُ، فسبق إلى بلبيس، فنزلها، فحاصره العدوُّ بها شهرين، وجرت له معهم وقعات، ثم فَتَروا، وترحلوا، وبقي خلقٌ من الروم يتقوَّى بهم شاور، وقرر لهم مالًا، ثم فارقوه. وبالغ شاوِر في العسف والمصادرة، وتمنى المصريون أن يليَ أمرهم شيركوه، فسار إليهم ثانيًا من الشام، فاستصرخ شاوِر بملك الفرنج عموري، للعودِ إلى مصر، ولكنهم تأخروا فخاف شاور فعَمِلَ حيلةً يغدر فيها بأسد الدين وأمرائه ويقبض عليهم، فنهاه ابنه الكامل، وقال له: والله لئن لم تنتهِ عن هذا الأمرِ لأُعَرِّفنَ أسد الدين. فقال له أبوه شاور: واللهِ لئن لم نفعَلْ هذا لنُقتَلَنَّ كلنا. فقال له ابنه الكامل: لَأنْ نقتل والبلادُ بيدِ المُسلِمينَ خَيرٌ من أن نقتل والبلاد بيد الفرنج. وكان شاور قد شرط لأسدِ الدين شيركوه ثلثَ أموال البلاد، فأرسل أسد الدين يطلب منه المال، فجعل شاوِر يتعلل ويماطل وينتظر وصول الفرنج، فابتدره أسدُ الدين وقتَلَه، واختلفوا في قتلِه على أقوال؛ أحدُها: أن الأمراء اتفقوا على قتله لَمَّا عَلِموا مكاتبتَه للفرنج، وأنَّ أسد الدين تمارض، وكان شاور يخرجُ إليه في كل يوم والطبل والبوق يضربان بين يديه على عادةِ وُزَراء مصر، فجاء شاوِر ليعود أسد الدين فقَبَض عليه وقتله، والثاني: أن صلاح الدين وجرديك اتَّفقا على قتله وأخبرا أسدَ الدين فنهاهما، وقال: لا تفعلا، فنحن في بلاده ومعه عسكر عظيم، فأمسكا عن ذلك إلى أن اتفق أنَّ أسد الدين ركب إلى زيارة الإمام الشافعي وأقام عنده، فجاء شاوِر على عادته إلى أسد الدين فالتقاه صلاح الدين وجرديك وقالا: هو في الزيارة انزل، فامتنع؛ فجذباه فوقع إلى الأرض فقتَلاه، والثالث: أنهما لما جذباه لم يمكِنْهما قتله بغير أمر أسد الدين فسَحَبَه الغلمان إلى الخيمة وانهزم أصحابه عنه إلى القاهرة ليُجَيِّشوا عليهم، علم أسد الدين فعاد مسرعًا، وجاء رسول من العاضد برقعةٍ يطلب من أسد الدين رأسَ شاور، وتتابعت الرسل. وكان أسد الدين قد بعث إلى شاوِر مع الفقيه عيسى يقول: لك في رقبتي أيمانٌ، وأنا خائِفٌ عليك من الذي عندي فلا تجيء. فلم يلتفت وجاء على العادة فقُتِل. ولما تكاثرت الرسل من العاضد دخل جرديك إلى الخيمة وجَزَّ رأسه، وبعث أسد الدين برأسِه إلى العاضد فسُرَّ به. ثم طلب العاضد ولدَ شاوِر الملك الكامل وقتَلَه في الدهليز وقتَلَ أخاه، واستوزر أسدَ الدين شيركوه، وذلك في شهر ربيع الأول.

العام الهجري : 656 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1258
تفاصيل الحدث:

هو الخليفةُ الشهيد أمير المؤمنين المستعصِم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد بن المستضيء الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد: سنة 609, واستُخلِفَ سنة أربعينَ يومَ مَوتِ أبيه في عاشر جمادى الآخرة، وكان فاضلًا تاليًا لكتاب الله، كان مليحَ الخَطِّ، قرأ القرآن على الشيخ علي بن النيار الشافعي، ويوم خَتَمَه خلع على الشَّيخِ، وأعطي ستة آلاف دينار. ويوم خلافته بلغت الخِلَع ثلاثة عشر ألف خلعة وسبعمائة وخمسين خلعة, وكان كريمًا حليمًا، سليمَ الباطن، حَسَن الديانة. قال الشيخ قطب الدين: "كان المستعصمُ بالله متدينًا مُتمَسِّكًا بالسنَّة كأبيه وجَدِّه، ولكنه لم يكن على ما كان عليه أبوه المستنصر وجده الناصر من التيقُّظ والحزم وعلُوِّ الهمة؛ فإن المستنصر بالله كان ذا همة عالية، وشجاعةٍ وافرة، ونفسٍ أبيَّة، وعنده إقدامٌ عظيم, وكان له أخٌ يُعرَف بالخفاجي يزيدُ عليه في الشهامة والشجاعة، وكان يقول: إن ملَّكني الله الأمرَ لأعبُرَنَّ بالجيوش نهر جيحون وأنتزع البلاد من التتار واستأصلهم, فلما توفِّيَ المستنصر لم يَرَ الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمرَ، وخافوا منه، وآثروا المستعصِمَ لِمَا يعلمون من لينِه وانقياده وضَعفِ رأيه؛ ليكونَ الأمر إليهم. فأقاموا المستعصم، ثم ركَنَ إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحَرثَ والنَّسلَ، وحَسَّنَ له جمع الأموال، والاقتصارَ على بعض العساكر، وقطَعَ الأكثر, فوافقه على ذلك, وكان فيه شُحٌّ، وقلة معرفة، وعدم تدبيرٍ، وحُبٌّ للمال، وإهمالٌ للأمور. وكان يتَّكِلُ على غيره، ويُقدِمُ على ما لا يليق وعلى ما يُستقبَحُ". قال الذهبي: "كان يلعب بالحَمام، ويُهمِلُ أمر الإسلام، وابنُ العلقمي يلعَبُ به كيف أراد، ولا يُطلِعُه على الأخبار. وإذا جاءته نصيحةٌ في السر أطلع عليها ابنَ العلقمي؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "جاء هولاكو في نحو مائتي ألف، ثم طلب الخليفةَ، فطلع ومعه القُضاة والمدرِّسون والأعيان في نحو سبعمائة نفس، فلما وصلوا إلى الحربية جاء الأمرُ بحضور الخليفة ومعه سبعة عشر نفسًا، فاتفق أن أبي كان أحدهم، فحدثني أنهم ساقوا مع الخليفة، وأنزلوا مَن بَقِيَ عن خيلهم، وضَرَبوا رقابَهم. ووقع السيف في بغداد، فعَمِلَ القتل أربعين يومًا. وأنزلوا الخليفةَ في خيمةٍ صغيرة، والسبعة عشر في خيمة. قال أبي: فكان الخليفةُ يجيء إلى عندنا كل ليلة ويقول: ادعُوا لي. قال: فاتفَقَ أنَّه نزل على خيمته طائرٌ، فطلبه هولاكو وقال: أيش عَمَلُ هذا الطائر؟ وأيش قال لك؟ ثم جرت له محاوراتٌ معه ومع ابن الخليفةِ أبي بكر. ثم أمَرَ بهما فأُخرِجا، ورفسوهما في غرارة -كيس كبير من صوف أو شعر- حتى ماتا، وكانوا يسمُّونه: الأبْلَه. توفي الخليفةُ في أواخر المحرم، وما أظنه دُفِنَ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان الأمرُ أعظم من أن يوجَدَ مؤرخ لموته، أو موارٍ لجَسَدِه. وراح تحت السيف أممٌ لا يحصيهم أحَدٌ إلا الله، فيقال: إنَّهم أكثرُ من ألف ألف، واستغنت التتارُ إلى الأبد، وسَبَوا من النساء والولدان ما ضاق به الفَضاءُ. وقيل: إن الخليفة بقي أربعة أيام عند التتار، ثم دخل بغداد ومعه أمراء من المغول ونصير الطوسي، فأخرج إليهم من الأموال والجواهر والزركش والثياب والذخائر جملةً عظيمة، ورجَعَ ليَومِه، وقُتِلَ، وقُتِلَ ابناه أحمد وعبد الرحمن، وبَقِيَ ابنه الصغير مبارك، وأخواته فاطمة، وخديجة، ومريم، في أَسْرِ التتار"، وقُتِلَ عدد من أعمام الخليفة وأقاربه, وقيل كانت المغول بقيادة هولاكو قد أخذوه وكانوا أولًا يهابون قَتْلَه، ثم هون عليهم ابن العلقمي والطوسي قَتْلَه فقُتل, وكان عمره يومئذ ستًّا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر، به انتهت الخلافة العباسية وانقضت أيامُها، وبقي الناسُ بلا خليفة فكانت أيامُ الدولة العباسية جملةً خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة. 

العام الهجري : 664 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1266
تفاصيل الحدث:

اهتم السلطانُ الظاهر بيبرس بأمر صفد، وأحضر العساكِرَ المجردة، ورحَّل الأمير بكتاش الفخري أميرَ سلاح بالدهليز السلطاني ونزل على صفد، وتبعه الأميرُ البندقدار والأميرُ عز الدين أوغان في جماعة، وحاصروها، هذا والسلطانُ مقيم على عكا حتى وافته العساكرُ، وعمل عدةَ مجانيقَ، ثم رحل والعساكِرُ لابسة، وساق إلى قربِ باب عكا، ووقفَ على تل الفضول، ثم سار إلى عين جالوت، ونزل على صفد يوم الاثنين ثامن شهر رمضان وحاصرها، فقدم عليه رسول متملك صور ورسل الفداوية، ورسول صاحب بيروت ورسول صاحب يافا، ورسل صاحب صهيون، وصار السلطان يباشر الحصارَ بنَفسِه، وقَدِمَت المجانيق من دمشق إلى جسر يعقوب وهو منزلة من صفد ثم نصبت المجانيقُ فرمي بها في السادس عشر، وصار السلطان يلازم الوقوف عندها وهي ترمي، وأتت العساكِرُ من مصر والشام، فنزلوا على منازلهم وفي ثاني يوم عيد الفطر: وقع الزحفُ على صفد، ودفع الزراقون النفطَ، ووعد السلطان الحجَّارين أنه من أخذ أول حجر كان له مائة دينار، وكذلك الثاني والثالث إلى العشرة، وأمر حاشيته بألا يشتغلوا بخدمته، فكان بين الفريقين قتال عظيم استُشهِدَ فيه جماعة، وكان الواحد من المسلمين إذا قُتِلَ جَرَّه رفيقه ووقف موضِعَه، وتكاثرت النقوبُ ودخل النقَّابون إليها، ودخل السلطانُ معهم، وبذل السلطانُ في هذا اليوم من المال والخِلَع كثيرًا، ونصب خيمةً فيها حكماء وجرائحية وأشربة ومآكل، فصار من يُجرَحُ من العُربان والفقهاء والفقراء وغيرهم يُحضَرُ إليها، وفي ثامنه: كانت بين الفريقين أيضًا مَقاتِلُ، وفي ليلة الرابع عشر: اشتد الزحف من الليل إلى وقت القائلة، فتفرق الناس من شدة التعب، فغضب السلطانُ من ذلك وأمر خواصَّه بالسَّوقِ إلى الصاواوين وإقامة الأمراء والأجداد بالدبابيس، وقال المسلمون على هذه الصورة، وأنتم تستريحون!! فأقيموا، وقبَضَ السلطان على نيف وأربعين أميرًا، وقيَّدَهم وسجَنَهم بالزردخاناه-خزانة السلاح-، ثم شفع فيهم فأطلَقَهم وأمرهم بملازمةِ مواضِعِهم، وضُرِبَت الطبلخاناه- الطبول والأبواق- واشتد الأمر إلى أن طلب الفرنجُ الأمان، فأمَّنَهم السلطان على ألا يخرجوا بسلاحٍ ولا لَأْمةِ حَربٍ ولا شيءٍ مِن الفضيات، ولا يُتلِفوا شيئًا من ذخائر القلعة بنارٍ ولا هدم، وأن يُفتَّشوا عند خروجهم، فإن وُجِدَ مع أحد منهم شيء من ذلك انتقَضَ العهد، ولم تزل الرسُلُ تتردد بينهم إلى يوم الجمعة الثامن عشر، ثم طلعت السناجق –رماح- الإسلاميَّة، وكان لطلوعها ساعةٌ مشهودة، هذا والسلطان راكِبٌ على باب صفد حتى نزل الفرنجُ كُلُّهم، ووقفوا بين يديه فرسم بتفتيشِهم، فوجد معهم ما يناقض الأمانَ من السلاح والفضيات، ووجد معهم عِدَّةً من أسرى مسلمين أخرجوهم على أنهم نصارى، فأخذ ما وجد معهم وأُنزِلوا عن خيولهم، وجُعِلوا في خيمةٍ ومعهم من يحفظهم، وتسَلَّمَ المسلمون صفد، وولى السلطانُ قلعَتَها الأميرَ مجد الدين الطوري، وجعل الأميرَ عز الدين العلائي نائب صفد، فلما أصبح حضر إليه النَّاسُ، فشكر اجتهادَهم واعتذر إليهم مما كان منه إلى بعضِهم، وإنه ما قصَدَ إلَّا حَثَّهم على هذا الفتح العظيم، وقال: من هذا الوقتِ نتحالَلُ، وأمَرَهم فركبوا، وأُحضِرَت خيالة الفرنج وجمعٌ من صفد، فضُرِبَت أعناقهم على تل قرب صفد حتى لم يبق منهم سوى نفرينِ، أحدهما الرسول، فإنه اختار أن يقيمَ عند السلطان ويُسلِم، فأسلم وأقطَعَه السلطانُ إقطاعًا وقَرَّبَه، والآخَرُ تُرِكَ حتى يخبِرَ الفرنج ممَّا شاهده، وصَعِدَ السلطانُ إلى قلعة صفد، وفَرَّق على الأمراء العُدَد الفرنجية والجواري والمماليك، ونَقَل إليها زردخاناه من عنده، وحمل السلطانُ على كتفه من السلاح إلى داخل القلعة، فتشَبَّه به الناس ونقلوا الزردخاناه في ساعةٍ واحدة، واستدعى السلطانُ الرجال من دمشق للإقامةِ بصفد، وقرر نفقةَ رجال القلعة في الشهرِ مبلغ ثمانين ألف درهم نقرةً واستخدم على سائر بلاد صفد، وعَمِلَ بها جامعًا في القلعة وجامعًا بالربض ووقفَ على المجنون نصف وربع الحباب، وللربع الآخر على الشيخ إلياس، ووقف قريةً منها على قبر خالد بن الوليد بحمص، وفي السابع عشر: رحل السلطان من صفد إلى دمشق.

العام الهجري : 679 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1280
تفاصيل الحدث:

لما أعلن سنقر الأشقر نفسَه سلطانًا في دمشق كتب إلى الأمير عز الدين الأفرم وهو بالكرك يعتذر عن قيامِه بما كَلَّف به السلطان في الكرك، وأتبع الكتابَ بعسكر، فلما ورد كتابه جهزه الأفرم إلى السلطان قلاوون بمصر، فكتب السلطانُ عند وروده إلى الأشقر يقَبِّحُ فعله، وكتب أمراءُ مصر إليه بذلك، ويحثُّونه على الإذعان وترك الفتنة، وسار بالكتُبِ بلبان الكريمي، فوصل دمشقَ في ثامنه، وخرج سنقر الأشقر إلى لقائه وأكرمه، ولم يرجِعْ عما هو فيه، واستقر الأفرم بغزة، فوافاه عسكَرُ سنقر الأشقر بها، فاندفع من قُدَّامِهم إلى الرمل، وملك عسكر سنقر غزة واطمأنوا، فطرَقَهم الأفرم وأوقع بهم فانهزموا إلى الرملة، وأسَرَ من الأمراء عدة وغنم منهم مالًا وخيولًا وأثقالًا كثيرة، وبعث الأفرم بالبشارةِ على يد ناصر الدين محمد ولد الأمير بكتاش الفخري، فقدم في الخامس عشر بالأمراء المأسورين، فعفا السلطانُ عنهم وأحسن إليهم، وأعادهم على أخبازهم – عطاياهم-وجعلهم في عسكَرِه، ولما بلغ سنقر الأشقر كسرةُ عَسكرِه، جمع وحشد وبعث إلى الأمراء بغزة يَعِدُهم ويستميلهم، فقَدِمَ عليه شهاب الدين أحمد بن حجي أمير العربان بالبلاد القبلية، والأمير شرف الدين عيسى بن مهنا أمير العربان بالبلاد الشرقية والشمالية، وأتته النجداتُ مِن حلب وحماة ومن جبال بعلبك، واستخدم عدةً كبيرةً وبذل فيهم المال، وكَثُرت عنده بدمشق الأرجافُ أن عسكر مصر قد سار إليه، فاشتد استعدادُه، وجرَّد السلطان من القاهرة الأميرَ بدر الدين بكتاش الفخري أميرَ سلاح، ومعه الأمير بدر الدين الأيدمري والأمير حسام الدين أيتمش بن أطلس خان في أربعة آلاف فارس، فسار إلى غزة، واجتمعوا مع الأمير عز الدين الأفرم والأمير بدر الدين الأيدمري، وساروا جميعًا والمقَدَّم عليهم علم الدين سنجر الحلبي، فرحل عسكَرُ سنقر الأشقر من الرملة إلى دمشق، فخرج سنقر الأشقر في الثاني عشر صفر بعساكره وخيم بالجسورة خارج دمشق، ونزل عسكرُ مصر الكسوة والعقوة في يوم الاثنين السابع عشر بالجسورة، فوقعت الحرب في التاسع عشر، وثبت سنقر الأشقر وأبلى بلاء عظيمًا، ثم خامر من عسكَرِه طائفة كبيرة إلى عسكر مصر، وانهزم كثيرٌ منهم، ورجع عسكر حلب وحماة عنه إلى بلادِهم، وتخاذل عنه عسكرُ دمشق، وحمَلَ عليه الأمير سنجر الحلبي فانهزم منه، وهرب سنقر الأشقر وتَبِعَه بعض خواصه من الأمراء وساروا معه هم والأمير عيسى بن مهنا إلى برية الرحبة، وأقاموا بها أيامًا، وتوجهوا إلى الرحبة، وكان سنقر قبل ذلك قد بَعَثَ حرمه وأمواله إلى صهيون، ولما انهزم سنقر الأشقر تفرق عسكرُه في سائر الجهات، وغُلِّقَت أبواب دمشق، وزحف عسكر مصر إليها وأحاطوا بها، ونزلوا في الخيام ولم يتعرضوا لشيء، وأقام الأمير سنجر الحلبي بالقصر الأبلق في الميدان الأخضر خارج دمشق، فلما أصبح أمَرَ فنُوديَ بالأمان، وكان بقلعة دمشق الأميرُ سيف الدين الجكندار، وهو متوليها من جهة سنقر الأشقر، فأفرج عن الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق، والأمير حسام الدين لاجين المنصوري، والصاحب تقي الدين توبة، وحَلَّفَهم ألا يؤذوه إذا أطلقهم، ثم فتح باب القلعة، ونزل لاجين إلى باب الفرج فوقَفَ عليه، ومنع العسكَرَ من دخول المدينة، ونودِيَ بإطابة قلوب النَّاسِ وزينة البلد، فوقَفَ البشائر بالقلعة، وقدم كثيرٌ ممن كان مع سنقر الأشقر فأمنهم الأميرُ سنجر الحلبي، ثم في صفر من سنة 680هـ جردَ السلطان من دمشق الأميرَ عِزَّ الدين أيبك الأفرم والأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي في عدة من الأجناد، فساروا إلى شيزر، فبعث سنقر الأشقر يطلب الصلحَ على أن يسلِّمَ شيزر، ويعَوَّضَ عنها الشغر وبكاس وكانتا، قد أخذت منه ومعهما فامية وكفر طلب وأنطاكية وعدة ضياع، مع ما بيده من صهيون وبلاطنس ونرزية واللاذقية، وشرط أيضًا أن يكون أميرًا بستمائة فارس، ويؤمر من عنده من الأمراء، فأُجيبَ إلى ذلك.

العام الهجري : 721 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1321
تفاصيل الحدث:

ثارت العامَّةُ يدًا واحدةً في يوم الجمعة تاسِعَ ربيع الآخر، وهَدَموا كنيستينِ مُتقابلتَينِ بالزهري، وكنيسة بستان السكري، وتعرف بالكنيسة الحمراء، وبعض كنيستين بمصرَ، ففي هذا اليوم الجمعة تاسع ربيع الآخر بطل العَمَلُ وقتَ الصلاةِ لاشتغالِ الأمراء بالصلاةِ، اجتمع من الغلمانِ والعامَّة طائفةٌ كبيرة، وصرخوا صوتًا واحدًا: اللهُ أكبر، ووقعوا في أركانِ الكنيسة بالمساحي والفُؤوسِ حتى صارت كُومًا، ووقع مَن فيها من النصارى، وانتهب العامَّةُ ما كان بها، والتفَتوا إلى كنيسة الحمراء المجاورة لها، وكانت من أعظَمِ كنائس النصارى، وفيها مالٌ كبير، وعِدَّةٌ من النَّصارى ما بين رجالٍ ونساءٍ مُتَرَهِّبات، فصعدت العامَّةُ فوقها، وفتحوا أبوابَها ونهبوا أموالَها وخُمورَها، وانتقلوا إلى كنيسةِ بومنا بجوار السبع سقايات، وكانت مَعبدًا جليلًا من معابد النصارى، فكَسَروا بابَها ونهبوا ما فيها، وقَتَلوا منها جماعة، وسَبَوا بنات كانوا بها تزيد عِدَّتُهن على ستين بكرًا، فما انقضت الصلاة حتى ماجت الأرضُ، فلما خرج الناسُ من الجامع رأوا غبارًا ودخانَ الحريق قد ارتفعا إلى السَّماءِ، وما في العامَّةِ إلَّا من بيده بنتٌ قد سباها أو جَرَّة خمرٍ أو ثوب أو شيء من النهب، فدُهِشوا وظنُّوا أنها الساعة قد قامت، وقَدِمَ مملوك والي مصر وأخبر بأن عامَّتَها قد تجمَّعَت لهدم كنيسة المعلَّقة حيث مسكَنُ البطرقِ وأموال النصارى، ويَطلُبُ نجدة، فلِشِدَّةِ ما نزل بالسلطان من الغَضَبِ هَمَّ أن يركَبَ بنَفسِه، ثم أردف أيدغمش بأربعةِ أمراء ساروا إلى مصر، وبعث بيبرس الحاجِبَ، وألماس الحاجب إلى موضع الحفر، وبعث طينالَ إلى القاهرة، ليضعوا السيف فيمن وَجَدوه، فقامت القاهرةُ ومصر على ساق، وفَرَّت النهَّابة، فلم تُدرِك الأمراءُ منهم إلا من غلب على نفسِه بالسُّكرِ مِن الخمر، وأدرك الأميرُ أيدغمش والي مصر وقد هزمته العامَّةُ من زقاق المعلقة، وأنكَوا مماليكَه بالرَّميِ عليهم، ولم يبقَ إلَّا أن يحرقوا أبوابَ الكنيسة، فجَرَّد هو ومن معه السيوفَ ليفتِكَ بهم، فرأى عالَمًا عظيمًا لا يحصيهم إلَّا خالِقُهم، فكفَّ عنهم خوفَ اتِّساعِ الخَرقِ، ونادى مَن وقَفَ فَدَمُه حلالٌ، فخافت العامَّةُ أيضًا وتفَرَّقوا، ووقف أيدغمش يحرُسُ المعَلَّقة إلى أن أُذِّنَ بالعصر، فصلى بجامع عمرو بن العاص، وعيَّنَ خمسينَ حارِسًا للمَبيتِ مع الوالي على بابِ الكنيسة، وعاد. وقيل كأنَّما نودي في إقليم مصر بهدمِ الكنائس، وأوَّل ما وقع الصوتُ بجامع قلعة الجبل, وذلك أنَّه لما انقضت صلاةُ الجمعة صرخ رجلٌ مُولَهٌ في وسط الجامع: "اهدِموا الكنيسةَ التي في القلعةِ"، وخرج في صراخه عن الحَدِّ واضطرب، فتعجَّب السلطانُ والأمراء منه، ونُدِبَ نقيب الجيش والحاجب لتفتيش سائر بيوت القلعة، فوجدوا كنيسةً في خرائب التتر قد أُخفِيَت، فهدموها، وما هو إلَّا أن فرغوا من هَدمِها والسلطانُ يتعَجَّبُ إذ وقع الصراخُ تحت القلعة، وبلغه هدمُ العامَّة للكنائس، وطُلِبَ الرجُلُ المُولَهُ فلم يُوجَدْ، وعندما خرج الناسُ من صلاة الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة رأوا العامةَ في هرج عظيم، ومعهم الأخشابُ والصُّلبان والثياب وغيرها، وهم يقولون: "السلطانُ نادى بخراب الكنائس"، فظنُّوا الأمر كذلك، وكان قد خُرِّبَ من كنائس القاهرة سوى كنيستي حارة الروم وحاره زويلة وكنيسة بالبندقانيين كنائس كثيرة، ثم تبيَّنَ أنَّ ذلك كان من العامة بغير أمر السلطان، فلما كان يومُ الأحد الحادي عشر سقط الطائِرُ من الإسكندرية بأنَّه لَمَّا كان الناس في صلاة الجمعة تجمَّع العامَّةُ وصاحوا هُدِمَت الكنائس، فركب الأميرُ بدر الدين المحسني متولي الثغر بعد الصلاةِ لِيُدرِك الكنائس، فإذا بها قد صارت كُومًا، وكانت عِدَّتُها أربع كنائس، ووقعت بطاقةٌ من والي البحيرة بأنَّ العامَّةَ هَدَمت كنيستين في مدينة دمنهور، والنَّاسُ في صلاة الجمعة، ثمَّ ورد مملوكُ والي قوص في يوم الجمعة السابع عشر، وأخبر بأنه لما كان يوم الجمعة هدم العامَّةُ سِتَّ كنائس بقوص في نحو نصف ساعة، وتواترت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بهدم الكنائس وقت صلاةِ الجمعة، فكثُرَ التعَجُّبُ من وقوع هذا الاتِّفاق في ساعةٍ واحدة بسائر الأقاليم، وكان الذي هُدِمَ في هذه الساعة من الكنائِسِ سِتُّونَ كَنيسةً!!

العام الهجري : 813 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1410
تفاصيل الحدث:

هو أحمد بن أويس بن الشيخ حسن النوين بن حسين بن أقبغا بن أيلكان بن القال غياث الدين سلطان العراق. أوَّل ما ولي إمرة البصرة من أخيه حسين، فلما اختلف الأمراء على حسين خرج من بغداد إلى تبريز، فقدم أحمد بالجنود واغتال أخاه وقام بالسلطنة، وذلك في صفر سنة أربع وثمانين، وقبض على أعيان الأمراء فقتلهم وأقام أولادهم، فثار عليه من بقي ببغداد مع أخيه شيخ على شاه زاده؛ فآل الأمر إلى أن قتل واستبد أحمد فسار السيرة الجائرة وقتل في يوم واحد ثمانمائة نفس من الأعيان وانهمك في اللذات، واتفق أن تيمورلنك نازل شاه منصور صاحب شيراز وقتله وبعث برأسه إلى بغداد، والتمس منهم ضرب السكة باسمه، فلم يُطِعْه أحمد، فنزل تيمورلنك بغداد في شوال سنة خمس وتسعين، ففرَّ منها ابن أويس بأهله وما يعزُّ عليه من ماله، فلحقه عسكر تيمورلنك بالحلة فهزموه ونهبوا ما معه وخربوا الحلة، وقَصَد الشام فوصل إلى الرحبة واستأذن الظاهر في القدوم عليه، فأجابه بما يطيب خاطره وأمر النواب بإكرامه، ثم جهز السلطان أحمد بن أويس في أول شعبان سنة 796 ورسم له بجميع ما يحتاج إليه، فدخل بغداد في رمضان فوجد بها مسعود الخراساني من جهة تيمورلنك، ففر وأقام أحمد ببغداد، واستخدم جنودًا من العرب والتركمان، ووقع الوباء ببغداد، ففر أحمد إلى الحلة، وجرى على سيرته السيئة من سفك الدماء والجِدِّ في أخذ أموال الرعية، ولم يزل على ذلك إلى أن عاد تيمورلنك طالبًا الشام، ففرَّ أحمد إلى قرا يوسف بن قرا محمَّد بن بيرم خجا صاحب الموصل واستنجد به فسار معه، وكان أهل بغداد قد كرهوه فحاربوه وهزموهما معًا، فدخلا بلاد الشام واستأذنا أمير حلب وكان يومئذٍ دقماق من جهة الناصر فرج، وذلك في شوال سنة 802، فلم يأذن لهم فخرج لمحاربتهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم أهل حلب وأُسِرَ دقماق، فبلغ الناصر ذلك فغضب وأمر بتجهيز عساكر الشام، فتوجهوا ففر قرا يوسف فأوقعوا بأحمد فكسروه ونهبوا ما معه وبعثوا بسيفه إلى الناصر. رجع أحمد إلى بغداد فأقام بها قليلًا فثار عليه ولده طاهر بن أحمد ففر منه وأتى إلى قرا يوسف فسار معه وقاتلا طاهرًا بالحلة، فانهزم وغرق، ودخل أحمد بغداد ثم غدر أحمد بجماعة كانوا عنده من جهة قرا يوسف عدتهم خمسون نفسًا من أعيان دولته، فغضب قرا يوسف وسار لمحاربة أحمد، فهرب ثم اختفى في بئر ببغداد، فأمر قرا يوسف بطم البئر، فطُمَّت فما شكُّوا في هلاكه، واتفق أنه كان بالبئر فرجة فخرج منها ابن أويس ومضى إلى تكريت ثم إلى حلب، وملك قرا يوسف بغداد فأخذها منه تيمورلنك, فكتب قرا يوسف إلى أحمد ليجتمعا على قتال عسكر تيمورلنك فنازلا مرزا أبي بكر بن تيمورلنك بالسلطانية سنة 808، فهزموه وقتلوا ابنه, وملك قرا يوسف تبريز ورجع أحمد إلى بغداد، فاستأذنه قرا يوسف فيمن يقيمه في السلطنة، فأذن له بإقامة ولده بزق ففعل، وذلك في سنة إحدى عشرة، فقدم مرزا شاه في طلب ثأر ولده، فواقعه قرا يوسف فقتل، وغنم قرا يوسف جميع ما كان معه, واتفق في غضون ذلك أن أحمد لما تغلب على طباعه من الغدر مضى إلى تبريز فملكها، ونهب جميع ما وجده لقرا يوسف وولده، فرجع إليه وقاتله فانهزم منه، وذلك في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة، فلم يزل قرا يوسف يتطلب ابن أويس إلى أن ظفر به فأكرمه، ثم سجنه ثم دسَّ عليه من خنقه، فمات في آخر يوم من ربيع الآخر، واستقرت قدم قرا يوسف في بغداد وتبريز، وكان أحمد بن أويس سفاكًا للدماء، متجاهرًا بالقبائح، وله مشاركة في عدة علوم، كالنجوم والموسيقى، وله شعر كثير بالعربية وغيرها؛ وكتب الخط المنسوب، وكانت له شجاعة ودهاء وحِيَل، ومحبة في أهل العلم.

العام الهجري : 841 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1438
تفاصيل الحدث:

هو السلطانُ الملك الأشرف سيف الدين أبي النصر برسباي الدقماقي الظاهري، سلطان الديار المصرية، جركسي الأصل، اشتراه الأمير دقماق المحمدي الظاهري نائب ملطية، وأقام عنده مدة، ثم قدَّمه إلى الملك الظاهر برقوق, وهو السلطان الثاني والثلاثون من ملوك دولة الترك المماليك، والثامن من الجراكسة بالديار المصرية، وقد تولى السلطنة بمصر سنة 825 وفتح مدينة قبرص وأنشأ بمصر مدرسة وجامعًا بسرياقوس, كان سلطانًا جليلًا سياسيًّا مدبِّرًا، عاقلًا شهمًا متجمِّلًا في مماليكه وخيوله، وكانت صفتُه أشقر طوالًا نحيفًا رشيقًا منوَّر الشيبة بهيَّ الشكل، غير سبَّاب ولا فحَّاش في لفظه، حَسنَ الخُلقِ، ليِّنَ الجانب، حريصًا على إقامة ناموس الملك، يميل إلى الخير، يحب سماع تلاوة القرآن العزيز، حتى إنه رتب عدة أجواق تُقرأُ عنده في ليالي المواكب بالقصر السلطاني دوامًا. وكان يكرم أرباب الصلاح ويُجِلُّ مقامهم، وكان يكثر من الصوم صيفًا وشتاء؛ فإنه كان يصوم في الغالب يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر، يديم على ذلك. وكان يصوم أيضًا أول يوم في الشهر وآخر يوم فيه، مع المواظبة على صيام يومي الاثنين والخميس في الجمعة، حتى إنه كان يتوجه في أيام صومه إلى الصيد ويجلس على السماط وهو صائم، ويُطعِمُ الأمراء والخاصكية بيده، ثم يَغسِلُ يديه بعد رفع السِّماط كأنه واكل القوم. وكان عبدًا صالحًا ديِّنًا خيِّرًا لا يتعاطى المُسكِرات، ولا يحب من يفعل ذلك من مماليكه وحواشيه. وكان يحب الاستكثار من المماليك، حتى إنه زادت عدة مماليكه المشتروات على ألفي مملوك، لولا ما أفناهم طاعون سنة ثلاث وثلاثين، ثم طاعون سنة إحدى وأربعين هذا، فمات فيهما من مماليكه خلائق. وكان يميل إلى جنس الجراكسة على غيرهم في الباطن، يَظهَرُ ذلك منه في بعض الأحيان، وكان لا يحبُّ أن يشهر عنه ذلك؛ لئلا تنفر الخواطر منه؛ فإن ذلك مما يُعاب به على الملوك، وكانت مماليكه أشبه الناس بمماليك الملك الظاهر برقوق في كثرتهم، وأيضًا في تحصيل فنون الفروسية، ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبوبكري. لَمَّا تولى الأشرف برسباي نيابةَ حلب لم يقطع يدَ أحد بحلب، ولا قَتَل أحدًا، وحماها وبلادها بالحال, وفي يوم الثلاثاء رابعه عَهِدَ السلطان الأشرف برسباي إلى ولده المقام الجمالي يوسف، ثم جلس الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داود، وقضاة القضاة الأربعة على مراتبهم، والأمير الكبير جقمق العلائي أتابك العساكر، ومن تأخَّر من أمراء الألوف، والمباشرون، ما عدا كاتب السر فإنه شديد المرض، ثم قام القاضي زين الدين عبد الباسط وفتح باب الكلام في عهد السلطان من بعد وفاته لابنه المقام الجمالي بالسلطنة، وقد حضر أيضًا مع أبيه، فاستحسن الخليفة ذلك وأشار به، فتقدَّم القاضي شرف الدين الأشقر بالعهد إلى بين يدي السلطان، فأشهد السلطان على نفسه بأنه عهد إلى ولده الملك العزيز جمال الدين أبي المحاسن يوسف من بعد وفاته بالسلطة، فأمضى الخليفة العهد، وشهد بذلك القضاة، ثم ظل المرض يتزايد بالسلطان إلى أن خارت قواه وأصبح يهذي أحيانًا حتى لما كان شهر ذي الحجة مات عصر يوم السبت ثالث عشر، وفي الحال حضر الخليفة والقضاة الأربعة والأمير الكبير جقمق العلائي وسائر أمراء الدولة، وسلطَنوا المقام الجمالي يوسف، ولقبوه بالملك العزيز يوسف جمال الدين أبي المحاسن وعمره يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، ثم أخذ الأمراء في تجهيز السلطان، فجُهِّز وغُسِّل وكُفِّن بحضرة الأمير إينال الأحمدي الفقيه الظاهري برقوق أحد أمراء العشرات بوصية السلطان له، وهو الذي أخرج عليه كلفة تجهيزه وخرجته من مال، كان الأشرف دفعه إليه في حياته، وأوصاه أن يحضر غسله وتكفينه ودفنه، ولما انتهى أمْرُ تجهيز الملك الأشرف حُمِل من الدور السلطانية إلى أن صُلِّي عليه بباب القلعة من قلعة الجبل، وتقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر، ثم حُمِل من المصلى على أعناق الخاصكية والأمراء الأصاغر، إلى أن دفن بتربته التي أنشأها بالصحراء خارج القاهرة، وكانت جنازته مشهودة بخلاف جنائز الملوك، ولم يقع في يوم موته اضطراب ولا حركة ولا فتنة، ونزل إلى قبره قُبَيل المغرب، وكانت مدة سلطنته بمصر سبع عشرة سنة تَنقُص أربعة وتسعين يومًا.

العام الهجري : 1336 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1918
تفاصيل الحدث:

هو السلطانُ عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد الثاني، السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية، وآخِرُ من امتلك سلطةً فعليةً منهم. ولد في 16 شعبان 1258هـ الموافق 21 سبتمبر 1842م، وتولَّى الحكم عام 1293هـ 1876م. أبعِدَ عن العرش عام 1327هـ / 1909م بتهمة الرجعية، وأقام تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في 15 جمادى الأولى 1337هـ الموافق 10 فبراير 1918م. تلقى السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد تعليمَه بالقصر السلطاني، وأتقن من اللغات: الفارسية والعربية، وكذلك درس التاريخ والأدب. يعرِّفُه البعض، "باولو خاقان" أي "الملك العظيم" وعُرِفَ في الغرب باسم "السلطان الأحمر"، أو "القاتل الكبير" بسبب مذابح الأرمن المزعوم وقوعُها في فترة تولِّيه منصِبَه. رحَّب جزء من الشعب العثماني بالعودة إلى الحكم الدستوري بعد إبعاد السلطان عبد الحميد عن العرش في أعقاب ثورة الشباب التركي "الاتحاديين". غيرَ أن الكثير من المسلمين ما زالوا يقدِّرون قيمة هذا السلطان الذي خَسِرَ عرشه في سبيل أرض فلسطين التي رفض بيعَها لزعماء الحركة الصهيونية. تولى السلطانُ عبد الحميد الثاني الخلافة في 11 شعبان 1293هـ، الموافق 31 آب (أغسطس) 1876م، وتبوَّأ عرشَ السلطنة يومئذٍ على أسوأ حال؛ حيث كانت الدولة في منتهى السوء والاضطراب، سواء الأوضاع الداخلية أو الخارجية. دبَّرت جمعية "الاتحاد والترقي" عام 1908م انقلابًا على السلطان عبد الحميد تحت شعارات الماسونيةِ "حرية، عدالة، مساواة". كان اليهودُ لَمَّا عُقِدَ مؤتمرُهم الصهيوني الأول في (بازل) بسويسرا عام 1315هـ، 1897م، برئاسة ثيودور هرتزل 1860م-1904م رئيس الجمعية الصهيونية، اتَّفقوا على تأسيس وطنٍ قوميٍّ لهم يكون مقرًّا لأبناء عقيدتهم، وأصَرَّ هرتزل على أن تكون فلسطينُ هي الوطنَ القوميَّ لهم، فنشأت فكرةُ الصهيونية، وقد اتَّصل هرتزل بالسلطان عبد الحميد مرارًا ليسمح لليهودِ بالانتقال إلى فلسطين، ولكِنَّ السلطان كان يرفض، ثم قام هرتزل بتوسيطِ كثير من أصدقائه الأجانب الذين كانت لهم صلةٌ بالسلطان أو ببعض أصحابِ النفوذ في الدولة، كما قام بتوسيطِ بعض الزعماء العثمانيين، لكنه لم يُفلح، وأخيرًا زار السلطانَ عبد الحميد بصحبة الحاخام (موسى ليفي) و(عمانيول قره صو)، رئيس الجالية اليهودية في سلانيك، وبعد مقَدِّمات مُفعَمة بالرياء والخداع، أفصحوا عن مطالبهم، وقدَّموا له الإغراءاتِ المتمثلة في إقراض الخزينة العثمانية أموالًا طائلةً مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، وتحالُف سياسي يُوقفون بموجِبِه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضِدَّه في صحف أوروبا وأمريكا. لكِنَّ السلطان رفض بشدةٍ وطردهم من مجلسِه، وقال: " إنكم لو دفعتم ملءَ الدنيا ذهبًا، فلن أقبل؛ إنَّ أرضَ فلسطين ليست ملكي، إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وما حصل عليه المسلِمون بدمائهم لا يمكن أن يباعَ، وربما إذا تفَتَّت إمبراطوريتي يومًا يمكِنُكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل"، ثم أصدر أمرًا بمنعِ هجرة اليهود إلى فلسطين. عندئذ أدرك خصومُه الصهاينة أنهم أمام رجلٍ قوي وعنيد، وأنَّه ليس من السهولة بمكانٍ استمالتُه إلى صفِّها، ولا إغراؤه بالمال، وأنه ما دام على عرش الخلافة فإنَّه لا يمكِنُ للصهيونية العالمية أن تحقِّقَ أطماعها في فلسطين، ولن يمكِنَ للدول الأوروبية أن تحقِّقَ أطماعها أيضًا في تقسيمِ الدولة العثمانية والسيطرة على أملاكها، وإقامة دويلات لليهود والأرمن واليونان؛ لذا قرَّروا الإطاحةَ به وإبعاده عن الحكم، فاستعانوا بالقوى المختلفة التي نذرت نفسَها لتمزيق ديار الإسلام؛ أهمها الماسونية، والدونمة، والجمعيات السرية (الاتحاد والترقي)، وحركة القومية العربية، والدعوة للقومية التركية (الطورانية)، ولَعِبَ يهود الدونمة دورًا رئيسًا في إشعال نار الفتن ضد السلطان إلى أن تمَّ عزلُه وخَلعُه من منصبه عام 1909، وتم تنصيب شقيقِه محمد رشاد خلفًا له. وتوفِّيَ السلطان عبد الحميد الثاني في المنفى في 15 جمادى الأولى 1337هـ 10 فبراير 1919م.

العام الهجري : 444 العام الميلادي : 1052
تفاصيل الحدث:

في هذه السَّنَةِ دَخلتْ العَربُ إلى إفريقية, وسببُ ذلك أنَّ المُعِزَّ بن باديس كان خَطَبَ للقائم بأَمرِ الله الخليفة العبَّاسي، وقَطَع خُطبةَ المُستَنصِر العُبيدي الفاطمي صاحب مصر، فلمَّا فعل ذلك كَتَب إليه المُستَنصِر العَلويُّ يَتَهدَّدهُ، فأَغلظَ المُعِزُّ في الجوابِ، ثم شَرعَ المُستَنصِرُ ووَزيرهُ الحسنُ بن عَليٍّ اليازوري في إرسالِ العَربِ إلى أفريقية، وأصلحوا بني زُغْبَة ورِياحٍ، وكان بينهم حُروبٌ وحُقودٌ، وأعطوهم مالًا، وأَمروهُم بِقَصدِ بِلادِ القَيروان، ومَلَّكوهُم كُلَّ ما يَفتحونَه، ووَعَدوهُم بالمَدَدِ والعُدَدِ. فدَخلتْ العربُ إلى إفريقية، وكَتَب اليازوري إلى المُعِزِّ وكان حاقدا عليه: "أمَّا بعدُ، فقد أرسلنا إليكم خُيولًا فُحولًا، وحَملنا عليها رِجالًا كُهولًا، ليقضي الله أمرًا كان مَفعولًا". فاحلوا فلمَّا حَلُّوا أرضَ بَرْقَة وما والاها ووجدوا بِلادًا كَثيرةَ المَرْعَى خالِيَة مِن الأَهلِ، فأَقامَت العَربُ بها واستَوطَنَتها، وعاثوا في أَطرافِ البِلادِ, وبَلَغ ذلك المُعِزَّ فاحتَقَرهُم, وكانت عَربُ زُغبَة قد مَلكَت مَدينةَ طرابلس سنة 446هـ، فتَتابَعَت رِياحٌ والأثبجُ وبنو عَدِيٍّ إلى إفريقية، وقَطَعوا السَّبيلَ وعاثوا في الأرضِ، وأرادوا الوصولَ إلى القَيروان، فقال مُؤْنِسُ بن يحيى المِرداسيُّ: "ليس المُبادرَة عندي بِرَأيٍ. فقالوا: كيف تُحِبُّ أن تَصنعَ؟ قال: خُذوا شيئًا فشَيئًا حتى لا يَبقَى إلَّا القَيروان، فخُذوها حينئذٍ. فقالوا: أنت المُقَدَّمُ علينا، ولَسْنَا نَقطعُ أَمرًا دُونك". ثم قَدِم أُمراءُ العَربِ إلى المُعِزِّ فأَكرَمَهم وبَذَل لهم شيئًا كَثيرًا، فلمَّا خَرجوا مِن عِندِه لم يُجازُوهُ بما فَعلَ مِن الإحسانِ، بل شَنُّوا الغاراتِ، وقَطَعوا الطَّريقَ، وأَفسَدوا الزُّروعَ، وقَطَّعوا الثِّمارَ، وحاصَروا المُدُنَ، فضاق بالنَّاسِ الأَمرُ، وساءَت أَحوالُهم، وانقَطعَت أَسفارُهم، ونَزلَ بإفريقية بَلاءٌ لم يَنزِل بها مِثلُه قط، فحينئذٍ احتَفلَ المُعِزُّ وجَمعَ عَساكرَه، فكانوا ثلاثين ألف فارس، ومِثلَها رَجَّالَة، وسار حتى أَتَى جَنْدِران، وهو جَبَلٌ بينه وبين القَيروان ثلاثةُ أيَّامٍ، وكانت عُدَّةُ العَربِ ثَلاثةُ آلافِ فارس، فلمَّا رَأَتْ العَربُ عساكِر صنهاجة والعَبيدَ مع المُعِزِّ هالَهُم ذلك، وعَظُمَ عليهم، فقال لهم مُؤْنِسُ بن يحيى: ما هذا يوم فِرارٍ. والتَحَم القِتالُ واشتَدَّتْ الحَربُ، فاتَّفقَت صِنهاجَة على الهزيمةِ وتَرْكِ المُعِزِّ مع العَبيدِ حتى يَرَى فِعلَهم، ويُقتَل أَكثرُهم، فعند ذلك يَرجِعون على العَربِ، فانهَزمتْ صِنهاجَة وثَبَتَ العَبيدُ مع المُعِزِّ، فكَثُرَ القَتلُ فيهم، فقُتِلَ منهم خَلْقٌ كَثيرٌ، وأرادت صِنهاجة الرُّجوعَ على العَربِ فلم يُمكِنهُم ذلك، واستَمرَّت الهَزيمةُ، وقُتِلَ مِن صِنهاجة أُمَّةٌ عَظيمَة، ودَخلَ المُعِزُّ القَيروانَ مَهزومًا، على كَثرَةِ مَن معه، وأَخذتْ العَربُ الخَيْلَ والخِيامَ وما فيها مِن مالٍ وغَيرِه. ولمَّا كان يومُ النَّحْرِ من هذه السَّنَةِ جَمعَ المُعِزُّ سَبعةً وعِشرينَ ألف فارس، وسار إلى العَربِ جَرِيدَةً -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- وسَبَقَ خَبرُه، وهَجَم عليهم وهُم في صَلاةِ العِيد، فرَكِبَت العَربُ خُيولَهم وحَملَت، فانهَزَمت صِنهاجة، فقُتِلَ منهم عالَمٌ كَثيرٌ. ثم جَمعَ المُعِزُّ وخَرجَ بِنَفسِه في صِنهاجة وزِناتَة في جَمعٍ كَثيرٍ، فلمَّا أَشرفَ على بُيوتِ العَربِ، انتَشَب القِتالُ، واشتَعَلت نِيرانُ الحَربِ، وكانت العَربُ سَبعةَ آلافِ فارس، فانهَزَمت صِنهاجة، وزِناتَة، وثَبَتَ المُعِزُّ فيمَن معه من عَبيدِه ثَباتًا عَظيمًا لم يُسمَع بمِثلِه، ثم انهَزَم وعاد إلى المَنصوريَّة. وأحصي مَن قُتِلَ مِن صنهاجة ذلك اليوم، فكانوا ثلاثةَ آلاف وثلاثمائة. ثم أَقبلَت العَربُ حتى نَزلَت بمُصَلَّى القَيروان، ووَقعَت الحَربُ، فقُتِلَ مِن المَنصوريَّة ورقادة خَلْقٌ كَثيٌر، فلمَّا رأى ذلك المُعِزُّ أَباحَهم دُخولَ القَيروان لِمَا يحتاجون إليه مِن بَيعٍ وشِراءٍ، فلمَّا دخلوا استَطالَت عليهم العامَّةُ، ووَقعَت بينهم حَربٌ كان سَببُها فِتنةً بين إنسانٍ عَربيٍّ وآخرَ عامِيٍّ، وكانت الغَلَبةُ للعَربِ. وفي سنة 444هـ بُنِيَ سورُ زويلة والقَيروان، وفي سنة 446هـ حاصرت العَربُ القَيروانَ، ومَلَكَ مُؤنِسُ بن يحيى مدينةَ باجَة، وأَشارَ المُعِزُّ على الرَّعِيَّة بالانتقالِ إلى المَهديَّة لِعَجزِه عن حمايتهم من العَربِ. وشَرعَت العَربُ في هَدمِ الحُصونِ والقُصورِ، وقَطَّعوا الثِّمارَ، وخَرَّبوا الأَنهارَ، وأَقامَ المُعِزُّ والناسُ يَنتَقِلون إلى المَهديَّة إلى سَنةِ تِسعٍ وأربعين، فعندها انتَقلَ المُعِزُّ إلى المَهديَّة في شعبان، فتَلقَّاهُ ابنُه تَميمٌ، ومَشَى بين يَديهِ، وكان أَبوهُ قد وَلَّاهُ المَهديَّة سَنةَ خَمسٍ وأربعين، وفي رمضان من سَنةِ تِسعٍ وأربعين نَهبَت العَربُ القَيروانَ, وهكذا تَتابَعت هَزائمُ المُعِزِّ وعَسكرِه على يَدِ العَربِ بِدَعمٍ مِن المُستَنصِر العُبيدي حاكم مصر.

العام الهجري : 725 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1325
تفاصيل الحدث:

سأل المَلِكُ المجاهِدُ صاحِبُ اليمن إنجادَه بعسكَرٍ من مصر، وأكثَرَ من ترغيب السلطان الناصر محمد بن قلاوون في المالِ الذي باليمن، وكان قدومُ رُسُلِه في مستَهَلِّ صفر، فرسم السلطانُ بتجهيز العسكر صحبة الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، وهو مُقَدَّم العسكر، فسار إلى مكَّةَ، فوصل في السادس والعشرين من جمادى الأولى، ودخلها وأقامَ بها حتى قَدِمَت المراكِبُ بالغلال وغيرِها من مصر إلى جُدَّة، وتقَدَّم الخادِمُ كافور الشبيلي خادِمُ الملك المجاهد إلى زَبيد لِيُعلِمَ مولاه بالعساكر، وكتب الأميرُ ركن الدين بيبرس بن الحاجب، وهو مُقَدَّم العسكر إلى أهل حلي بني يعقوب بالأمان، وأن يجلِبوا البضائِعَ للعسكَرِ، ورحل العسكَرُ في خامس جمادى الآخرة من مكَّة، ومعه الشَّريفُ عطفة والشريف عقيل، وتأخَّر الشريف رميثة، فوصل العسكَرُ إلى حلي بني يعقوب في اثني عشر يومًا، فتلقَّاهم أهلُها، ودُهِشوا لرؤية العساكر، فنودي فيهم بالأمانِ، ورحل العسكَرُ بعد ثلاثة أيام في العشرين منه، فقَدِمَت الأخبار باجتماعِ رأي أهل زبيد على الدخولِ في طاعة المَلِك المجاهد خوفًا من مَعَرَّة قدوم العسكر المصري، وأنهم ثاروا بالمتمَلِّك عليهم وهو المَلِك الظاهِر، ونهبوا أموالَه ففَرَّ عنهم، وكتَبوا إلى المجاهد بذلك، فقَوِيَ ونزل من قلعة تعز يريدُ زبيدَ، فكتب أمراءُ العسكر المصري إليه، وهم قُربَ حدود اليمن، بأن يكون على أُهْبةِ اللقاء، ونزل العسكَرُ على زبيد، ووافاهم المجاهِدُ بجُندِه، فسَخِرَ منهم الناسُ من أجل أنَّهم عراةٌ، وسلاحُهم الجريدُ والخَشَبُ، وسيوفُهم مشدودةٌ على أذرِعَتِهم، ويقادُ للأميرِ فَرَسٌ واحِدٌ مُجَلَّل، وعلى رأسِ المجاهِدِ عِصابةٌ مُلَوَّنةٌ فوقَ العمامة، وعندما عاين المجاهِدُ العساكِرَ المصريَّةَ وهي لابسةٌ آلة الحَربِ رُعِبَ، ومضى العسكَرُ صَفَّين والأمراءُ في الوسط حتى قَرُبوا منه، فألقى المجاهِدُ نَفسَه ومن معه إلى الأرضِ، وترجل له أيضًا الأمراء وأكرموه وأركبوه في الوَسَطِ، وساروا إلى المخَيَّم، وألبسوه تشريفًا سلطانيًّا وقُرِئَ كتاب السلطان، فقَبَّلوا بأجمعِهم الأرض، وقالوا سمعًا وطاعةً، وكتب الأميرُ بيبرس الحاجِبُ لممالك اليمَنِ بالحضور، فحضروا، ولم يُجَهِّز المَلِكُ المجاهد للعسكَرِ شيئًا من الإقامات، وعَنَّفه الأمير بيبرس على ذلك، فاعتذر بخرابِ البلاد، وكَتَب لهم على البلاد بغنمٍ وأذرة، وسار المجاهِدُ إلى تعز لتجهيز الإقاماتِ، ومعه الأميرانِ سيف الدين ططر العفيفي السلاح الدار وسيف الدين قجمار في مائتي فارس، وتأخَّر العسكر بزبيد، وعادت قُصَّاد الأمراء بغير شيءٍ فرحل العسكَرُ من زبيد في نصف رجب يريدون تعز، فتلقَّاهم المجاهد، ونزلوا خارجَ البلد، وشكَوا ما هم فيه من قِلَّة الإقامات، فوعد بخير، وكتب الأمراءُ إلى الملك الظاهر المقيم بدملوة -حصن عظيم باليمن من بلاد الحجرية تعز-، وبعَثوا إليه الشريفَ عطفة أميرَ مكَّةَ وعِزَّ الدين الكوندكي، وكتب إليه المجاهِدُ أيضًا يحُثُّه على الطاعة، وأقام العسكَرُ في جَهدٍ، فأغاروا على الضياع، وأخذوا ما قَدَروا عليه، واتُّهِم أن ذلك بمواطأة المجاهِد خوفًا من العسكَرِ أن يَملِكَ منه البلاد، ثمَّ إنَّ أهل جبل صبر قطَعوا الماء عن العسكر، وتخَطَّفوا الجمال والغِلمان، وزاد أمرُهم إلى أن ركب العسكَرُ في طَلَبِهم، فامتنعوا بالجَبَلِ، ورموا بالمقاليعِ على العسكر، فرَمَوهم بالنشاب، وأتاهم المجاهِدُ فخَذَّلَهم عن الصُّعودِ إلى الجبل، فلم يعبؤوا بكلامه، ونازلوا الجبَلَ يَومَهم، ففُقِدَ من العسكر ثمانيةٌ من الغلمان، وبات العسكَرُ تحته، فبلغ الأميرَ بيبرس أن المجاهدَ قَرَّر مع أصحابه بأن العسكرَ إذا صَعِدَ الجَبَل يُضرِمونَ النار في الوطاقِ وينهبون ما فيه، فبادر بيبرس وقَبَض على بهاء الدين بهادر الصقري وأخذ موجودَه، ووسَّطَه قطعتينِ وعَلَّقه على الطريق، ففَرِحَ أهل تعز بقَتلِه، وكان بهادر قد تغَلَّب على زبيد، وتسَمَّى بالسلطنة، وتلَقَّب بالملك الكامل، وظَلَّ متسَلِّطًا عليها، حتى طرده أهلُها عند قدوم العسكر، وقَدِمَ الشريف عطفة والكوندكي من عند الملك الظاهر صاحب دملوة، وأَخبَرا بأنَّه في طاعة السلطان الناصر ابن قلاوون، وطلب بيبرس من المجاهِدِ ما وَعَد به السلطان، فأجاب بأنه لا قُدرةَ له إلا بما في دملوة فأشهَدَ عليه بيبرس قضاةَ تَعز بذلك، وأنه أذِنَ للعسكر في العود، لخرابِ البلاد وعَجْزِه عمَّا يقومُ به للسُّلطانِ، وأنَّه امتَنَع بقلعة تعز، ورحل العسكَرُ إلى حلي بني يعقوب، فقَدِمَها في تاسع شعبان، ورحلوا منها أوَّلَ رمضان إلى مكَّة، فدخلوها في حادي عشره بعد مشقةٍ زائدة، وساروا من مكَّةَ يوم عيد الفطرِ.

العام الهجري : 767 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1365
تفاصيل الحدث:

كان الكنزُ أمير العرب بنواحي أسوان، وهو من الشيعة العَلَوية بمصر، فعصى الكنز الدولةَ واجتمَعَ إليه العرب والسودان، وطالت أيَّامُه واشتهر منذ أيام صلاح الدين، وفي هذا العام كثُرَ فسادُ أولاد الكنز وطائفة العكارمة بأسوان وسواكن، ومَنَعوا التجارَ وغَيرَهم من السفر؛ لِقَطعِهم الطريق، وأخْذِهم أموالَ الناس، وأنَّ أولاد الكنز قد غلبوا على ثغر أسوان، وصحراء عيذاب وبرية الواحات الداخلة، وصاهَروا ملوك النوبةِ، وأمراء العكارمة، واشتَدَّت شوكتُهم، ثم قَدِمَ ركن الدين كرنبس من أمراء النوبةِ، والحاج ياقوت ترجمانُ النوبة، وأرغون مملوك فارس الدين، برسالة متملك دنقلة بأن ابنَ أخته خرج عن طاعته، واستنجد ببني جعد من العرب، وقصدوا دنقلةَ فاقتتلا قتالًا كثيرًا، قُتِلَ فيه الملك وانهزم أصحابُه، ثم أقاموا عِوَضَه في المملكة أخاه، وامتَنَعوا بقلعة الدو فيما بين دنقلة وأسوان، فأخذ ابنُ أخت المقتول دنقلةَ، وجلس على سرير المملكة، وعمل وليمةً جمع فيها أمراء بني جعد وكبارَهم، وقد أعَدَّ لهم جماعةً مِن ثقاته ليفتِكوا بهم، وأمر فأُخلِيَت الدور التي حول دارِ مُضَيِّفِهم، وملأها حَطَبًا، فلما أكَلوا وشَرِبوا، خرجت جماعةٌ بأسلِحَتِهم، وقاموا على باب الدار، وأضرم آخرونَ النَّارَ في الحطب، فلما اشتعلت بادر العُربان بالخروج من الدار، فأوقع القومُ بهم، وقتلوا منهم تسعةَ عشر أميرًا في عِدَّةٍ مِن أكابرهم، ثم ركب إلى عَسكَرِهم، فقَتَل منهم مقتلةً كبيرة، وانهزم باقيهم، فأخذ جميعَ ما كان معهم واستخرج ذخائِرَ دنقلة وأموالها، وأخلاها من أهلِها، ومضى إلى قلعة الدو، وسألا أن ينجِدَهما السلطان على العَرَب، حتى يستردُّوا مُلكَهما، والتزما بحَملِ مال في كل سنة إلى مصر، فرسم السُّلطانُ بنجدتهم وأخَذَ في تجهيز العسكر من سادس عشر شهر ربيع الأول، وساروا في الرابعِ والعشرين، وهم نحوُ الثلاثة آلاف فارس، فأقاموا بمدينةِ قوص ستة أيام، واستدعوا أمراءَ أولاد الكنز من ثغر أسوان ورغَّبوهم في الطاعة، وخَوَّفوهم عاقِبةَ المعصية، وأمَّنوهم، ثم ساروا من قوص، فأتَتْهم أمراء الكنوز طائعينَ عند عقبة أدفو، فخلع عليهم الأميرُ أَقتمر عبد الغني وبالغَ في إكرامهم، ومضى بهم إلى أسوان، وسارت العساكِرُ تريدُ النوبة على محاذاتها في البَرِّ يومًا واحدًا، وإذا برُسُل متمَلِّك النوبة قد لاقَتْهم، وأخبروهم بأنَّ العَرَب قد نازلوا المَلِكَ وحصروه بقلعة الدو، فبادر الأمير أقتمر عبد الغني لانتقاء العسكر، وسار في طائفةٍ منهم جريدة، وترك البقيَّةَ مع الأثقال، وجَدَّ في سيره حتى نزل بقلعة أبريم، وبات بها ليلَتَه، وقد اجتمع بمَلِك النوبة وعرب العكارمة، وبقية أولاد الكنز، ووافاه بقية العسكر فدَبَّرَ مع مَلِكِ النوبة على أولاد الكنز، وأمراء العكارمة، وأمسكهم جميعًا، ورَكِبَ مُتَمَلِّك النوبة في الحالِ، ومعه طائفةٌ من المماليك، ومضى في البَرِّ الشَّرقيِّ إلى جزيرة ميكائيل؛ حيث إقامة العكارمة، وسار الأمير خليل بن قوصون في الجانب الغربي ومعه طائفة، فأحاطوا جميعًا بجزيرة ميكائيل عند طلوع الشمس، وأسَرُوا من بها من العكارمة، وقَتَلوا منهم عِدَّةً بالنشَّاب والنفط، وفَرَّ جماعة نجا بعضُهم وتعلق بالجبال وغرق أكثرهم، وساق ابن قوصون النساء والأولاد والأسرى والغنائم إلى عند الأمير أَقتمر، ففَرَّقَ عِدَّة من السَّبيِ في الأمراء، وأطلق عِدَّةً، وعين طائفةً للسُّلطانِ، ووقع الاتفاقُ على أن يكون كرسي ملك النوبة بقلعة الدو؛ لخراب دنقلة، ولأنَّه يخافُ من عرب بني جعد أيضًا إن نزل المَلِك بدنقلة أن يأخذوه، فكتب الأمير أقتمر عبد الغني محضرًا برضاء مَلِك النوبة بإقامته بقلعةِ الدو، واستغنائه عن النجدة، وأنَّه أذِنَ للعسكر في العود إلى مصر، ثم ألبَسَه التشريف السلطاني، وأجلسه على سرير الملك بقلعة الدو، وأقام ابنَ أخته بقلعة أبريم، فلمَّا تَمَّ ذلك جَهَّزَ مَلِكُ النوبة هديةً للسلطان، وهديةً للأمير يَلْبُغا الأتابك، ما بين خيل وهجن ورقيقٍ وتُحَف، وعاد العسكَرُ ومعهم أمراء الكنز، وأمراء العكارمة في الحديد، فأقاموا بأسوان سبعة أيام، ونودي فيها بالأمانِ والإنصاف من أولاد الكنز، فرُفِعَت عليهم عِدَّةُ مُرافعات، فقُبِضَ على عدة مِن عبيدهم وقُتلوا، ورحل العسكَرُ من أسوان، ومرُّوا إلى القاهرة، فقَدِموا في ثاني شهر رجب، ومعهم الأسرى، فعُرِضوا على السُّلطانِ، وقُيِّدوا إلى السجن، وخُلِعَ على الأمير عبد الغني، وقُبِلَت الهديَّةُ.