هو أبو عبد الله، الزبيرُ بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدي العباسي. ولد سنة 233ه, وأمُّه أم ولد روميَّة تسمَّى قبيحة, وما رُئِيَ في زمانِه أصبحَ وجهًا منه ولا من أمِّه قبيحة، تولَّى الخلافة بعد أن عزَلَ الأتراكُ المستعين بالله وأخذوا البيعة له، ثمَّ دبَّرَ من يقتل المستعينَ بعد عزله من الخلافة، وكان المعتزُ أمرَدَ حين ولِيَ الخلافة, وهو ابنُ عشرين سنة أو دونَها, وجلس جلوسًا عامًّا للناس, فلما كان بعد أشهُرٍ من ولايته، خلعَ أخاه المؤيَّد بالله إبراهيم من العهد، فما بقيَ إبراهيم حتى مات، وخاف المعتَزُّ من أن يتحَدَّثَ الناس أنَّه سَمَّه، فأحضر القضاةَ حتى شاهدوه، وما به أثَرٌ، كانت دولةُ المعتز مُستضعفةً مع الأتراك، اتَّفَق القواد منهم، وقالوا له: أعطِنا أرزاقنا, فطلَبَ مِن أمِّه مالًا ليُنفِقَه فيهم، فشَحَّتْ عليه، فتجَمَّع الأتراك لخلعه، وأتوا الدار, وبعثوا إلى المعتَزِّ ليخرُجَ إليهم, فقال: قد شَرِبتُ دواءً، وأنا ضعيفٌ، فهجم جماعةٌ منهم عليه، فجَرُّوه وضَرَبوه، وأقاموه في الحَرِّ، فبقي يتضوَّرُ وهم يلطِمونَه، ويقولون: اخلَعْ نفسَك, ثم أحضروا القاضيَ والعدول، وخلعوه، وأقدَموا من بغداد إلى سامرَّا محمد بن الواثق، وكان المعتَزُّ قد أبعده، فسَلَّمَ المعتزُّ إليه الخلافة، وبايعوه، ولقِّب بالمهتدي بالله. ثمَّ أخذ الأتراكُ المعتَزَّ بعد خمسة أيام فعذَّبوه ومُنِعَ من الطعام والشراب ثلاثةَ أيامٍ حتى جعل يطلُبَ شَربةً مِن ماء البئر فلم يُسقَ، ثم أدخلوه سردابًا فيه جصُّ جيرٍ فدسوه فيه فأصبح ميتًا، فاستلُّوه من الجصِّ سليمَ الجسَدِ وأشهدوا عليه جماعةً من الأعيان أنَّه مات وليس به أثَرٌ. مات عن عمرِ ثلاث وعشرين سنة, وصلَّى عليه المهتدي بالله، ودُفن مع أخيه المنتصر، فكانت مدَّةُ خلافته أربعَ سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا، ولَمَّا قُتِلَ المعتزُّ وجدوا عند أمِّه قبيحةَ أموالًا عظيمة، وجواهِرَ نفيسة، كان من جملةِ ذلك ما يقارب ألفي ألف دينار، ومن الزمُرُّد والياقوت الأحمر الذي لم يُرَ مثلُه.
هو السُّلطانُ مُعِزُّ الدولة أبو الحسين, أحمدُ بنُ بُوَيه بن فنا خسرو بن تمام بن كوهي الديلمي الفارسي الشيعي, كان أبوه سمَّاكًا, وهو ربَّما احتطب. تملَّك العراق نيفًا وعشرين سنة بلا كُلفةٍ، ودانت له الأُمَم, ولَمَّا تغَلَّب على بغداد سنة 334 لقَّبَه الخليفةُ المستكفي بمعزِّ الدولة، وتولى منصِبَ أميرِ الأمراء، وبدا بتسَلُّطه على الخليفة فأصرَّ أن يُذكَرَ اسمُه مع اسمِ الخليفةِ في خُطبة الجمعة، وأن يُسَكَّ اسمُه على العملة مع الخليفة. ورتَّبَ للخليفة نفقاتِه خمسة آلاف درهمٍ في كل يوم. وكذلك كان الخليفةُ المطيع لله مقهورًا معه، أظهر أبو الحُسَين الرَّفضَ ودعَمَ التشَيُّع. وهو أوَّلُ من أجرى السُّعاةَ بين يديه ليبعثَ بأخبارِه إلى أخيه ركن الدَّولةِ سريعًا إلى شيراز، وحظِيَ عنده أهلُ هذه الصناعةِ, وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهما فضل وبرغوش، يتعصَّبُ لأحدهما عوامُّ أهلِ السُّنَّة، وللآخر عوامُّ أهلِ الشيعة، وجَرَت لهما مَناصِفُ ومواقف، ولَمَّا كان الثالث عشر من ربيع الأول توفي أبو الحسن بعِلَّة الذَّرَب، فصار لا يَثبُت في مَعِدتِه شَيءٌ بالكُليَّة، فلمَّا أحسَّ بالموت قيل: إنه أظهر التَّوبةَ وأناب إلى الله عزَّ وجَلَّ، وترضَّى عن الصحابةِ, وأراق الخمورَ, ونَدِمَ على ما ظلم, وردَّ كثيرًا من المظالم، وتصَدَّق بكثيرٍ مِن ماله، وأعتق طائفةً كثيرةً مِن مماليكه، وعَهِدَ بالأمر إلى ولده بختيار عز الدولة، وقد اجتمع ببعضِ العُلَماءِ، فكَلَّمَه في السُّنَّة وأخبره أنَّ عليًّا زوَّجَ ابنَتَه أمَّ كُلثوم مِن عُمَرَ بنِ الخطاب، فقال: واللهِ ما سَمِعتُ بهذا قطُّ، فقيل إنَّه رجع إلى السُّنَّة ومتابعتِها- والله أعلم, ولَمَّا مات مُعِزُّ الدولة دُفِنَ بباب التبن في مقابر قريش، فبَعَث ابنُه عِزُّ الدولة ووليُّ عَهدِه إلى رؤوس الأُمَراءِ في هذه الأيام بمالٍ جزيلٍ لئلَّا يجتمعوا على مخالفتِه قبل استحكامِ مُبايعتِه، وهذا مِن دهائِه، وكانت مُدَّة ولاية معز الدولة إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهرًا ويومين.
جمَعَ مَلِكُ قشتالة الفونسو عساكِرَه من الفرنج، وركب البحرَ إلى قرطبة يريد أخذ غرناطة من المسلمين، فاشتدَّ البلاء عليهم؛ لقلة المال بغرناطة، وفناء عسكرها في الفتنة التي حصلت في استعادة الملك، وموت من هلك في الزلزلة أكثر من ستة آلاف إنسان، ونزل الفرنج عليهم، فلقُوهم في يوم الجمعة عاشر رمضان من هذه السنة، وقاتلوهم يومهم ومن الغد، قُتِلَ من المسلمين نحو الخمسة عشر ألفًا، وألجأهم العدو إلى دخول المدينة، وعسكر بإزائها على بريد منها، وهم نحو خمسمائة وثمانين ألفًا، وقد اشتد الطمع في أخذها، فبات المسلمون ليلة الأحد في بكاء وتضرع إلى الله، ففتح عليهم الله تعالى، وألهمهم رُشدَهم، وذلك أن الشيخ أبا زكريا يحيى بن عمر بن يحيى بن عمر بن عثمان بن عبد الحق شيخ الغزاة خرج من مدينة غرناطة في جمع ألفين من الأجناد، وعشرين ألفًا من المطوعة، وسار نصف الليل على جبل الفخار، حتى أبعد عن معسكر الفرنج إلى جهة بلادهم، ورفع أمارة في الجبال يُعلِمُ بها السلطان بغرناطة، فلما رأى تلك العلامات من الغد خرج يوم الأحد، بجميع من بقي عنده إلى الفرنج، فثاروا لحربهم، فولى السلطان بمن معه من المسلمين، كأنهم قد انهزموا، والفرنجُ تتبَعُهم، حتى قاربوا المدينة، ثم رفعوا الأعلام الإسلامية، فلما رآها الشيخ أبو زكريا نزل بمن معه إلى معسكر الفرنج، وألقى فيه النار، ووضع السيفَ فيمن هنالك، فقَتَل وأسَرَ وسبى، فلم يدع الفرنج إلا والصريخ قد جاءهم، والنار ترتفع من معسكرهم، فتركوا أهل غرناطة ورجعوا إلى معسكرهم، فركب السلطانُ بمن معه أقفيَتَهم، يقتلون ويأسرون، فبلغت عدة من قتل من الفرنج ستة وثلاثين ألفًا، ولحق باقيهم ببلادهم، بعدما كادوا أن يملكوا غرناطة، وبلغت عدةُ مَن أَسَر المسلمون من الفرنج نحو اثني عشر ألفًا، ويقول المكثِر: إنه قُتِل ومات وأُسِر من الفرنج في هذه الكائنة زيادة على ستين ألفًا.
أُفرِجَ عن الخليفة من سِجنه بالقلعة يوم الأربعاء من ربيع الأول، فكانت مُدَّةُ اعتقاله خمسة أشهر وسبعة أيام، ثم أُمِرَ به فأخرج إلى قوص، ومعه أولادُه وابنُ عَمِّه، وكُتِبَ لوالي قوص أن يحتَفِظَ بهم، وكان سَبَبُ ذلك أن السلطان لما نزل عن المُلكِ في سنة 708، وحصل الاجتماعُ على المظَفَّر بيبرس وقَلَّدَه المستكفي بالسلطنة، نَقَمَها عليه السلطانُ النَّاصِرُ وأسَرَّها له، ثم لما قام السلطانُ لاسترجاع مُلكِه، جَدَّد المستكفي للمظَفَّر الولاية، ونُسِبَت في السلطان أقوالٌ إليه حَمَلت السلطان على التحامُل عليه، فلما عاد السلطانُ إلى الملك في سنة 709 أعرض عن المستكفي كلَّ الإعراض، ولم يزَلْ يكَدِّرُ عليه المشارب حتى تَرَكه في برج بالقلعة في بَيتِه وحَرَمِه وخاصَّتِه، فقام الأميرُ قوصون في أمره، وتلَطَّف بالسلطان إلى أن أنزله إلى داره، ثم نُسِبَ إلى ابنه صَدَقة أنه تعَلَّق ببعض خاصة السلطان، وأن ذلك الغلام يتردَّدُ إليه، فنُفِيَ الغلام وبلغ السلطان أنَّه هو يكثر من اللهو في داره التي عَمَرها على النيل بخَطِّ جزيرة الفيل، وأن أحد الجمدارية- حامل ملابس السلطان- يقال له أبو شامة جميل الوجهِ ينقطع عنده ويتأخَّرُ عن الخدمة، فقُبِضَ على الجمدار وضُرب، ونفي إلى صفد، وضُرِبَ رجل من مؤذني القلعة- اتُّهِمَ أنه كان السفير بين الجمدار وبين الخليفة- حتى مات، واعتُقِلَ الخليفة، ثمَّ لَمَّا أُفرِجَ عنه اتُّهِمَ أنه كتب على قصة رُفِعَت إليه "يحمل مع غريمه إلى الشرع"، فأحضره السلطان إلى القلعة ليجتَمِعَ به بحضرة القضاء، فخيله قاضي القضاة جلال الدين القزويني من حضوره أن يَفرُطَ منه كلامٌ في غَضَبِه يَصعُبُ تَدارُكُه، فأعجَبَ السلطان ذلك، وأمر به أن يخرُجَ إلى قوص، فسار بصحبة الأمير سيف الدين قطلوا تمرقلي في يوم السبت تاسع عشر ذي الحجة، بجميع عيالِه وهم مائة شخص، وكان مُرَتَّبُه في كل شهر خمسة آلاف درهم، فعُمِلَ له بقوص ثلاثة آلاف درهم، ثم استقَرَّ ألف درهم، فاحتاج حتى باع نساؤُه ثيابَهنَّ.
هو أبو عبدِ الرَّحمن عبدُ الله بن عُمَر بن الخَطَّاب العَدَويُّ القُرشيُّ المَكِّيُّ ثمَّ المَدنيُّ، صَحابيٌّ جَليلٌ، وابنُ ثاني خُلفاءِ المُسلمين عُمَر بن الخَطَّاب، وعالِمٌ مِن عُلماءِ الصَّحابةِ، لُقِّبَ بِشَيخِ الصَّحابةِ رضي الله عنه، أَسْلَمَ قَديمًا مع أَبيهِ ولم يَبلُغ الحُلُمَ، وهاجَرا وعُمُرُهُ عشرُ سِنين، وقد اسْتُصْغِر يومَ أُحُدٍ، فلمَّا كان يومُ الخَندقِ أَجازَهُ وهو ابنُ خمسَ عشرةَ سَنة فشَهِدَها وما بعدها، وهو شَقيقُ حَفصةَ بنتِ عُمَر أُمِّ المؤمنين، أُمُّهُما زينبُ بنتُ مَظْعون أُختُ عُثمان بن مَظْعون، وكان عبدُ الله بن عُمَر رِبْعَةً مِن الرِّجال، آدَمَ له جُمَّةٌ تَضرِب إلى مَنْكِبَيْهِ، جَسِيمًا, وهو أَحدُ المُكْثِرين في الرِّوايَةِ عن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، عُرِضَتْ عليه الخِلافَةُ بعدَ مَوتِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة فأبى ذلك حتَّى لا يُقْتَلَ بِسَبَبِه أَحدٌ تَوَجَّهَ للمَدينةِ بعدَ الحَرَّةِ وبَقِيَ فيها إلى مَقْدَمِ الحَجَّاج. كان عبدُ الله بن عُمَر حَريصًا كُلَّ الحِرْصِ على أن يَفْعَلَ ما كان الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم يَفعلُه، فيُصَلِّي في ذاتِ المكانِ، ويَدعو قائمًا كالرَّسولِ الكريمِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان صاحِبَ عِبادَةٍ منذ صِغَرِهِ، وكان ينامُ في المَسجِد. قال عنه صلَّى الله عليه وسلَّم: (نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ الله، لو كان يُصَلِّي مِن اللَّيلِ). فصار لا ينامُ مِن اللَّيلِ إلَّا قليلًا إلى أن مات، وكان إذا صلَّى مِن اللَّيلِ، قال لِمَولاهُ نافع: أَسْحَرْنا؟ -يعني: هل دَخَلْنا في وَقتِ السَّحَرِ- فيقول: لا. ثمَّ يُصلِّي، فيقولُ: أَسْحَرْنا؟ حتَّى يقولُ: نعم. فيُوتِرُ، هكذا يُصلِّي سائِرَ اللَّيلِ، وكان يُغْفِي إغْفاءةَ الطَّائرِ، ينامُ نَوْمَةً يَسيرةً. تُوفِّي بمكَّة وهو ابنُ أربعٍ وثمانين سَنَة، وكان ابنُ عُمَر يُسابِق الحَجَّاجَ في الحَجِّ إلى الأماكنِ التي يَعلَم أنَّ رسولَ الله يَسْلُكُها، فَعَزَّ ذلك على الحَجَّاجِ، وكان ابنُ عُمَر قد أَوْصى أن يُدْفَنَ في اللَّيلِ، فلم يُقدَرْ على ذلك مِن أجلِ الحَجَّاج, ودُفِنَ بذي طُوى في مَقْبَرةِ المُهاجِرين، وصلَّى عليه الحَجَّاجُ نَفسُه، فرضِي الله عن ابنِ عُمَر وأَرضاهُ وجَزاهُ عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
بعدَ أن فَرغَ طُغرلبك من أَخيهِ إبراهيمَ وغيرِ ذلك من المَشاغلِ أَسرعَ بالعَوْدِ إلى بغداد وليس له هم إلَّا إِعادةُ الخَليفةِ لدارهِ، وكان قد راسلَ البساسيري على أن يُعيدوا الخَليفةَ ويَقنَع هو بعَدمِ العَودةِ إلى بغداد فلم يَرضَ البساسيري، فتَمكَّنَت عَساكرُ طُغرلبك مِن قَتلِه في ذي الحجَّةِ سَنةَ451هـ. أَرسلَ طُغرلبك مِن الطَّريقِ الإمامَ أبا بكرٍ أحمدَ بن محمدِ بن أيوبَ المعروف بابنِ فورك، إلى قُريشِ بن بَدران يَشكُرهُ على فِعلِه بالخَليفةِ، وحِفظِه على صِيانَتِه ابنةِ أَخيهِ امرأةِ الخليفةِ، ويُعرِّفهُ أنَّه قد أَرسلَ أبا بكرِ بن فورك للقيامِ بخِدمةِ الخليفةِ، وإحضارِهِ، وإحضارِ أرسلان خاتون ابنةِ أَخيهِ امرأةِ الخليفةِ، ولمَّا سَمِعَ قُريشٌ بِقَصدِ طُغرلبك العِراقَ أَرسلَ إلى مهارش بن مجلي الندوي يُحَرِّضُهُ على عَدمِ تَسليمِ الخَليفةِ حتى يَستَطيعوا أن يَشرُطوا ما يريدون؛ لكنَّهُ أَبَى عليهم ذلك، وسار مهارش ومعه الخليفةُ حادي عشر ذي القعدةِ سَنةَ إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العِراقِ، وجَعَلا طَريقَهما على بَلدِ بَدرِ بن مهلهل لِيَأمَنَا مَن يَقصِدهُما، ووَصلَ ابنُ فورك إلى حلَّةِ بدرِ بن مهلهل، وطلبَ منه أن يُوصِلَهُ إلى مهارش، فجاء إنسانٌ سوادي إلى بدرٍ وأَخبرهُ أنَّه رأى الخليفةَ ومهارشًا بتل عكبرا، فسُرَّ بذلك بَدرٌ ورَحلَ ومعه ابنُ فورك، وخَدَماهُ، وحَملَ له بَدرٌ شَيئًا كَثيرًا، وأَوصلَ إليه ابنُ فورك رِسالةَ طُغرلبك وهَدايا كَثيرةً أَرسلَها معه، ولمَّا سَمِعَ طُغرلبك بوُصولِ الخليفةِ إلى بَلدِ بَدرٍ أَرسلَ وَزيرَه الكندريَّ، والأُمراءَ، والحُجَّابَ، وأَصحبَهم الخِيامَ العَظيمةَ، والسُّرادِقات، والتُّحَف مِن الخَيلِ بالمَراكِب الذَّهبِ وغيرِ ذلك، فوَصَلوا إلى الخليفةِ وخَدموهُ ورَحَلوا، ووَصلَ الخليفةُ إلى النَّهروان في الرابعِ والعشرين من ذي القعدةِ، وخَرجَ السُّلطانُ إلى خِدمتِه، واعتَذرَ مِن تَأَخُّرِه بعِصيانِ إبراهيمَ، وأنه قَتَلَهُ عُقوبةً لِمَا جَرى منه من الوَهَنِ على الدَّولةِ العبَّاسيَّة، وبِوَفاةِ أَخيهِ داودَ بخُراسان، وأنه اضطرَّ إلى التَّرَيُّثِ حتى يُرَتِّبَ أَولادَهُ بعدَه في المملكةِ، ثم إنَّ الخليفةَ لم يَدخُل بغدادَ إلَّا في هذه السَّنَةِ في صفر في السابع عشر منها.
كان لِسُقوط قَرْطاجَنَّة بِيَدِ المسلمين أثرٌ بالغٌ على البِيزنطيِّين، ووجدوا في خُروج حسَّان مِن أفريقيا بعدَ هَزيمتِه على يَدِ الكاهنة مَلِكَة البَرْبَر والفَوضى التي عَمَّت البلادَ بِسَبب سِياسَة الكاهنة التَّخريبيَّة مَجالًا لِإعادَة نُفوذِهم في الشَّمال الإفريقي، فجَهَّز الإمبراطور لِيونتوس الذي خَلَفَ جستنيان الثاني حَملةً كبيرةً بِقيادة البَطْريق يُوحَنَّا إلى أفريقيا وأَعَدَّ أُسطولًا كبيرًا لِنَقْل الجُنْد إليها، فتَمَكَّنَت القُوَّة البِيزنطيَّة مِن اسْتِعادَة قَرْطاجَنَّة، دون مُقاوَمة، واضْطَرَّ أبو صالح نائبُ حسَّان عليها أن يَنسحِب منها مع مَن كان معه مِن المسلمين، ودَخَلها البَطريقُ يُوحَنَّا, وأقام حسَّان في مِنطقَة طرابلس قُرْبَ سُرْت في المكان المُسَمَّى قُصور حسَّان خمسَ سِنين.
هو الصدر الأعظم زاده فاضل أحمد باشا ابن الصدر الأعظم محمد علي باشا كوبريلي رئيس الوزراء، وأحد رجالات الدولة العثمانية الكبار في القرن الحادي عشر الهجري، وأصغر من تولى رئاسة الوزراء في تاريخ الدولة العثمانية. توفي عن إحدى وأربعين سنة قضى منها خمس عشرة سنة في منصب الصدارة العظمى بكل أمانة وصدق سائرًا في ذلك على خطة والده محمد علي باشا, وتقلد منصب الصدارة بعده زوج أخته قرة مصطفى باشا، ولم يكن كفؤًا للسير في الطريق الذي رسمه كوبريلي الكبير وولده، بل اتبع مصلحته الذاتية وباع المناصب العالية والمعاهدات والامتيازات المجحفة بالدولة حالًا ومستقبلًا بدراهم معدودة.
شُكِّلت لجنةٌ دوليةٌ تمثِّلُ الدول الأوروبية الكبرى: فرنسا وإنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا، برئاسة فؤاد باشا مندوبِ السلطانِ العثماني ووزيرِ خارجيته، مهمَّتُها التحقيقُ في حوادثِ الستين في لبنانِ، والحيلولةُ دون تجدُّدِها، ورأْبُ الصَّدعِ بين طوائفِ جبل لبنان، ووضع نظام جديد لحُكمه. وبعد أن عَقَدت اللجنةُ عِدَّةَ اجتماعات في بيروت والقسطنطينية ودرست خلالَها مختَلِفَ الشؤون، انتهت إلى عدة قرارات، كان أهمَّها: إلغاءُ نظام القائمقاميتين، ووضعُ نظامين لحكم جبل لبنان تألَّفَ أحدهما من 47 مادة، والثاني من 17 مادة، ثم رفعت اللجنة الأمرَ إلى الباب العالي وسُفَراء الدول الكبرى الخمس في الأستانة للدراسة وإقرار الأصلَحِ.
عقَدَت جمعية الاتحاد والترقي مؤتمرًا لها في باريس بعنوان "مؤتمر أحرار العثمانية" استمَرَّ خمسة أيام، جمع فيه المعارضون لنظامِ السلطان عبد الحميد الثاني، واتخذ المؤتمَرُ عِدَّةَ قرارات؛ منها: أن تؤسَّسَ في الإمبراطورية العثمانية إداراتٌ محليةٌ مستقِلَّة على أساس القوميات. وجمعيةُ الاتحاد والترقي نشأت كجمعيَّةٍ سرية باسم (اتحاد عثماني جمعيت) في عام 1889 لمجموعةٍ من طلاب كلية الطب، وهم إبراهيم طمو، عبد الله جودت، إسحاق سكوتي، وحسين زاده علي. ثم أصبحت منظمةً سياسيةً أسَّسها بهاء الدين شاكر بين أعضاء تركيا الفتاة عام 1906م، وأثناء انهيارِ الدولة العثمانية سيطرت الجمعيَّةُ على السُّلطةِ بين عامي 1908 إلى 1918م.
مَنحت بريطانيا الحُكم الذاتيَّ لسَلطنة بروناي في رمضان 1391هـ / تشرين الثاني 1971م، وفي ذي الحجَّة 1395هـ / ديسمبر 1975هـ أصدر مجلسُ الأُمَم المتَّحدة قرارًا دعا فيه بريطانيا للانسحاب من بروناي، وعودة المنفيِّينَ السياسيِّينَ، وإجراءِ انتخاباتٍ عامَّةٍ، وتمَّتِ المُفاوضةُ بين سَلطنة بروناي وبين بريطانيا عام 1398هـ / 1978م، وأعقبتْها تأكيداتٌ من إندونيسيا وماليزيا على احتِرام استِقلال سَلطنة بروناي، ووُقِّعتْ اتفاقيةٌ بعد ذلك بين الطرفَينِ في صفر 1399هـ / كانون الثاني 1979م، قضتْ بأن تُصبِح بروناي دولةً مُستقِلَّةً خلالَ خمسِ سنواتٍ، وفي 28 ربيع الأول 1404هـ / 1 كانون الثاني 1984م، أُعلِنَ استقلالُ سَلطنة بروناي، وشغل السُّلطان حسن البلقية السَّلطنةَ.
استَولَى الحوثيُّون على السُّلطةِ واحتَلُّوا صنعاءَ، وسَيطروا على مقرِّ التلفزيون والمطار واقتَحَموا مَقرَّ الفِرْقة التي يقودُها علي محسن الأحمر، وجامعةَ الإيمان الإصلاحيَّةَ وسيطروا على مؤسَّساتٍ أمنيَّةٍ ومُعسكراتٍ ووِزاراتٍ حكوميَّة، فهَرَب الأحمرُ إلى السُّعودية، واستقال الرئيسُ عبدُ ربِّه منصور هادي ونائِبُه خالد بحاح في (22 يناير 2015م)، ووقعتْ معاركُ في إب والحديدةِ والبيضاءِ مع المقاومةِ الشَّعبية، أَصدَر الحوثيُّون بعد ذلك ما أَسمَوه بالـ"الإعلان الدُّستوري" وقاموا بحَلِّ البَرلمان، وتمكينِ "اللجنة الثوريَّة" بقيادةِ محمد علي الحوثي لقيادةِ البلاد، وأَعلَنوا عن عَزْمهِم تشكيلَ مجلسٍ وطنيٍّ من (551) عضوًا، ومجلسٍ رئاسيٍّ من خمسةِ أعضاءٍ بقيادة محمد علي الحوثي وهو ما رُفِضَ محلِّيًّا ودَوليًّا.
التحالفُ الإسلاميُّ العسكريُّ لمحاربة الإرهابِ هو حِلفٌ عسكريٌّ مكوَّنٌ من 40 دولةً إسلاميَّةً تقودُه المملكةُ العربيَّةُ السعوديَّة، من أصلِ سبعٍ وخمسين دولةً مِن الدُّولِ الأعضاءِ في «منظمة التعاونِ الإسلاميِّ»، يسعَى هذا التحالُفُ إلى مُحارَبةِ الإرهابِ بجميعِ أشكالِه ومظاهرِه، كما جاء في بيانِ إعلانِ التحالُفِ. ومن الدُّوَل العربيَّة التي انضمَّت إلى هذا التحالُفِ: الأردُنُّ، والإماراتُ، والبحرَينِ، وتونُسُ، والسودان، والصومالُ، وفِلَسطينُ، وقطر، والكويت، ولُبنانُ، وليبيا، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، واليمن، وجمهوريةُ القمر. أمَّا الدُّوَل غيرُ العربية، فمِثلُ: باكستانَ، وبنغلاديش، وتركيا، وتشاد، وتوغو، وجيبوتي، والسنغالِ، وسيراليون، والغابون، وغينيا، وكوت دي فوار، والمالديف، ومالي، وماليزيا، والنيجَرِ، ونيجيريا.
هو السُّلطانُ الكبير، أبو يعقوبَ يوسفُ بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي صاحب المغرب, تمَلَّك بعد أخيه المخلوع محمد بن علي؛ لطَيشِه، وشُربِه الخمر، فخُلِعَ بعد شهر ونصف، وبُويع أبو يعقوب، وكان شابًّا مليحًا، أبيض بحُمرة، مستديرَ الوجه، أفوَهَ، أعيَنَ، تامَّ القامة، حُلوَ الكلام، فصيحًا، حُلوَ المفاكهةِ، عارفا باللغة والأخبار والفِقه، متفنِّنًا، عاليَ الهمة، سخيًّا، جوادًا، مَهيبًا شجاعًا، خليقًا للمُلك. قال عبد الواحد بن علي التميمي: "صحَّ عندي أنَّه كان يحفَظُ أحد (الصحيحين)، أظنُّه البخاري", وكان فقيهًا، يتكلم في المذاهب، ويقول: قولُ فلان صواب، ودليلُه من الكتاب والسنة كذا وكذا. نظر في الطبِّ والفلسفة، وجمع كُتُب الفلاسفة، وتطَلَّبَها من الأقطار، وكان يصحَبُه أبو بكر محمد بن طفيل الفيلسوف، فكان لا يصبِرُ عنه. قال أبو الوليد بن رشد الأندلسي: "لما دخلتُ على أبي يعقوب وجدتُه هو وابن طفيل فقط, فأخذ ابنُ طفيل يطريني، فكان أوَّلَ ما فاتحني أن قال: ما رأيُهم في السماء؟ أقديمةٌ أم حادثة؟ فخِفتُ، وتعَلَّلتُ، وأنكرتُ الفلسفة، ففَهِمَ، فالتفَتُّ إلى ابنِ طفيل، وذكرَ قول أرسطو فيها، وأورد حُجَجَ أهل الإسلام، فرأيتُ منه غزارة حِفظٍ لم أكن أظنُّها في عالِم، ولم يَزَلْ يبسطني، حتى تكَلَّمتُ، ثم أمر لي بخِلعةٍ ومال ومركوب". قال عبد الواحد: "لما تجهَّز أبو يعقوب لغزوِ الروم، أمَرَ العلماء أن يجمعوا أحاديثَ في الجهاد تُملى على الجند، وكان هو يُملي بنفسه، وكبارُ الموحدين يكتبونَ في ألواحهم". وكان يَسهُلُ عليه بذل الأموال لسَعةِ الخراج، فقد كان يأتيه من إفريقيَّةَ في العام مائة وخمسون وقرَ بغل, كان سديد الملوكيَّة، بعيدَ الهمَّة، جوادًا، استغنى الناسُ في أيامه. وزر له أخوه عمر أيامًا، ثم رفَعَ منزلته عن الوزارة، وولى إدريسَ بنَ جامع، إلى أن استأصله، ثم وزر له ولده يعقوب الذي تولى السلطة بعده، وكان له مِن الولد ستة عشر ابنًا. قال ابن خلكان: "كان يوسفُ فقيهًا حافظًا متقنًا؛ لأن أباه هَذَّبه وقرن به وبإخوتِه أكمَلَ رجال الحرب والمعارف، فنشؤوا في ظهور الخيل بين أبطال الفرسانِ، وفي قراءةِ العلم بين أفاضِلِ العلماء, وكان ميلُه إلى الحكمة والفلسفة أكثَرَ مِن ميله إلى الأدب وبقيَّة العلوم، وكان جمَّاعًا منَّاعًا ضابطًا لخراجِ مملكته عارفًا بسياسة رعيته، وكان ربما يحضُرُ حتى لا يكادُ يغيبُ، ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نُوَّاب وخلفاء وحكام قد فوَّضَ الأمور إليهم؛ لِمَا علم من صلاحِهم لذلك، والدنانير اليوسفية المغربية منسوبةٌ إليه. فلما مُهِّدَت له الأمورُ واستقَرَّت قواعِدُ مُلكِه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالحِ دولته وتَفقُّد أحوالها. ثم استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج". دخل الأندلسَ في سنة سبع وستين للجهاد، وهو يضمِرُ الاستيلاء على باقي الجزيرة، فجهَّزَ الجيش إلى محمد بن سعد بن مردنيش صاحِبِ مرسية، فالتقوا بقرب مرسية، فانكسر محمَّد، ثم ضايقه الموحِّدون بمرسية مدة، فمات، وأخذ أبو يعقوب بلاده، ثم سار فنازل مدينةَ وبذى، فحاصر فيها الفرنجَ أشهُرًا، وكادوا أن يسلِّموها من العَطَشِ، ثم استُسقُوا فسُقُوا، وامتلأت صهاريجُهم، فرحل بعد أن هادَنَهم، وأقام بإشبيليَّةَ سنتين ونصفًا، ودانت له الأندلس، ثم رجع إلى السوس، وفي سنة خمس وسبعين سار حتى أتى مدينةَ قفصة، فحاصرها، وقبضَ على ابن الرند. وهادَنَ صاحب صقلية، على أن يحمِلَ كُلَّ سنة ضريبة على الفرنج، وفي سنة تسع وسبعين استنفَرَ أهلَ السهل والجبل والعرب، فعَبَرَ إلى الأندلس، وقصد شنترين بيد ابن الريقِ فحاصر فيها الفرنجَ مُدَّةً، وجاء البرد، فقال: غدًا نترحل. فكان أوَّلَ من قَوَّض مخيمَه عليُّ بن القاضي الخطيب، فلما رآه الناسُ، قوَّضوا أخبيتهم، فكَثُر ذلك، وعَبَرَ ليلتئذ العسكر النهر، وتقدموا خوف الازدحام، ولم يَدْرِ بذلك أبو يعقوب، وعَرَفَت الروم، فانتهزوا الفرصةَ، وبرزوا، فحَمَلوا على الناس، فكشفوهم، ووصلوا إلى مخيَّم السلطان، فقُتِلَ على بابه خلقٌ من الأبطال، وخُلِصَ إلى السلطان، فطُعِنَ تحت سُرَّتِه طعنةً مات بعد أيام منها، وتدارك الناسُ، فهزموا الرومَ إلى البلد، وهرب الخطيبُ، ودخل إلى صاحِبِ شنترين، فأكرمه، واحترمه، ثم أخذ يكاتِبُ المسلمين، ويدلُّ على عورة العدو، فأحرقوه. ولما طُعِنَ أبو يعقوب ساروا به ليلتين، ثم توفِّي، فصُلِّيَ عليه، وصُيِّرَ في تابوت، ثم بعث إلى تينمل، فدُفِنَ مع أبيه، وابن تومرت. مات في سابع رجب، وكانت مدَّة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهرًا، ومات عن غيرِ وصية بالمُلك لأحد من أولاده، فاتَّفَق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليكِ ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فمَلَّكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه؛ لئلا يكونوا بغيرِ مُلكٍ يَجمَعُ كَلِمتَهم لقُربِهم من العدُوِّ.
هو الإمامُ العلَّامةُ، الحافِظُ الكبيرُ المجَوِّد، مُحَدِّثُ الشام، ثِقةُ الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر، الدمشقي الشافعي صاحب (تاريخ دمشق). من أعيانِ الفُقَهاء الشافعيَّة، ومُحَدِّث الشام في وقته. غَلَب عليه الحديثُ فاشتَهَر به وبالَغَ في طلبه إلى أن جمعَ منه ما لم يتَّفِق لغَيرِه، حتى صار أحدَ أكابر حُفَّاظ الحديث ومن عُنِيَ به سَماعًا وجمعًا وتصنيفًا، واطِّلاعًا وحفظًا لأسانيده ومتونِه، وإتقانًا لأساليبه وفنونه، صاحِبُ الكتاب المشهور (تاريخ دمشق) الذي حاز فيه قَصَب السَّبْق، ومن نظَرَ فيه وتأمَّله، رأى ما وصَفَه فيه وأصَّلَه، وحَكَم بأنَّه فريدُ دَهرِه في التواريخ، هذا مع ما له في علوم الحديث من الكُتُب المفيدة، وما هو مشتَمِلٌ عليه من العبادة والطرائق الحميدة, وله مصنفاتٌ كثيرة منها الكبار والصغار، والأجزاءُ والأسفار، وقد أكثَرَ في طلب الحديث من التَّرحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وجمع من الكتبِ ما لم يجمَعْه أحدٌ مِن الحُفَّاظ نسخًا واستنساخًا، ومقابلة وتصحيحَ الألفاظ. قال الذهبي: "نقلتُ ترجمته من خَطِّ ولده المحدِّث أبي محمد القاسم بن علي، فقال: وُلِدَ أبي في المحرم سنة 499، وعَدَدُ شيوخِه الذي في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع، وستة وأربعون شيخًا أنشدوه، وعن مائتين وتسعين شيخًا بالإجازة، الكل في معجمه، وبضع وثمانون امرأة لهن مُعجَم صغير سَمِعْناه. وحدَّث ببغداد، والحجاز، وأصبهان، ونيسابور, وصنف الكثير, وكان فَهِمًا، حافِظًا، متقِنًا ذكيًّا، بصيرًا بهذا الشأن، لا يُلحَقُ شَأنُه، ولا يُشَقُّ غُباره، ولا كان له نظيرٌ في زمانه. وكان له إجازاتٌ عالية، ورُوي عنه أشياءُ من تصانيفه بالإجازة في حياته، واشتهر اسمُه في الأرض، وتفقَّه في حداثته على جمال الإسلام أبي الحسن السلمي وغيره، وانتفع بصحبة جده لأمه القاضي أبي المفضل عيسى بن علي القرشي في النحو، ولازم الدرسَ والتفقُّه بالنظامية ببغداد، وصنف وجمع فأحسن, فمن ذلك تاريخ دمشق في ثمانمائة جزء. قلت (الذهبي): "الجزء عشرون ورقة، فيكون ستة عشر ألف ورقة", وجمع (الموافقات) في اثنين وسبعين جزءًا، و(عوالي مالك)، والذيل عليه خمسين جزءًا، و(غرائب مالك) عشرة أجزاء، و(المعجم) في اثني عشر جزءًا, و(مناقب الشبان) خمسة عشر جزءًا، و(فضائل أصحاب الحديث) أحد عشر جزءًا، (فضل الجمعة) مجلد، و(تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري) مجلد، و (المسلسلات) مجلد، و (السباعيات) سبعة أجزاء، (من وافقت كنيته كنيةَ زوجته) أربعة أجزاء، و (في إنشاء دار السنة) ثلاثة أجزاء، (في يوم المزيد) ثلاثة أجزاء، (الزهادة في الشهادة) مجلد، (طرق قبض العلم)، (حديث الأطيط)، (حديث الهبوط وصحته)، (عوالي الأوزاعي وحاله) جزءان, (الخماسيات) جزء، (السداسيات) جزء، (أسماء الأماكن التي سمع فيها)، (الخضاب)، (إعزاز الهجرة عند إعواز النصرة)، (المقالة الفاضحة)، (فضل كتابة القرآن)، (من لا يكون مؤتمنًا لا يكون مؤذِّنًا)، (فضل الكرم على أهل الحرم)، (في حفر الخندق)، (قول عثمان: ما تغنيت)، (أسماء صحابة المسند)، (أحاديث رأس مال شعبة)، (أخبار سعيد بن عبد العزيز)، (مسلسل العيد)، (الأبنة)، (فضائل العشرة) جزءان، (من نزل المزة)، (في الربوة والنيرب)، (في كفر سوسية)، (رواية أهل صنعاء)، (أهل الحمريين)، (فذايا)، (بيت قوفا)، (البلاط)، (قبر سعد)، (جسرين)، (كفر بطنا)، (حرستا)، (دوما مع مسرابا)، (بيت سوا)، (جركان)، (جديا وطرميس)، (زملكا)، (جوبر)، (بيت لهيا)، (برزة)، (منين)، (يعقوبا)، (أحاديث بعلبك)، (فضل عسقلان)، (القدس)، (المدينة)، (مكة)، كتاب (الجهاد)، (مسند أبي حنيفة ومكحول)، (العزل)، (الأربعون الطوال)، (الأربعون البلدية) جزء، (الأربعون في الجهاد)، (الأربعون الأبدال)، (فضل عاشوراء) ثلاثة أجزاء، (طرق قبض العلم) جزء، كتاب (الزلازل)، (المصاب بالولد) جزءان، (شيوخ النبل)، (عوالي شعبة) اثنا عشر جزءًا، (عوالي سفيان) أربعة أجزاء، (معجم القرى والأمصار) جزء، وغير ذلك, وسرد له عدة تواليف. قال: وأملى أبي أربعمائة مجلس وثمانية. قال: وكان مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب في غير طاعة، كان يجري ذكره عند ابن شيخه، وهو الخطيب أبو الفضل بن أبي نصر الطوسي، فيقول: ما نعلم من يستحِقُّ هذا اللقب اليوم يعني: (الحافظ) ويكون حقيقًا به سواه. وقال القاسم: لما دخلت همذان أثنى عليه الحافظ أبو العلاء، وقال لي: أنا أعلم أنه لا يساجِلَ الحافظ ابن عساكر في شأنه أحد، فلو خالط الناسَ ومازجهم كما أصنع، إذًا لاجتمع عليه الموافِقُ والمخالف, وقال لي أبو العلاء يومًا: أي شيء فتح له، وكيف ترى الناس له؟ قلت (الذهبي): "هو بعيد من هذا كله، لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتصنيف والتسميع، حتى في نُزَهِه وخلواته" ثم قال أبو العلاء: ما كان يسمَّى ابن عساكر ببغداد إلَّا شعلةَ نار؛ من توقُّدِه وذكائه وحُسنِ إدراكه. قال أبو المواهب: لم أرَ مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الجماعة في الخمس في الصف الأول إلَّا من عذر، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عُرِضَت عليه، وقِلَّة التفاته إلى الأمراء، وأخْذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخُذُه في الله لومة لائم. قال لي: لَمَّا عزمت على التحديث، واللهُ المطَّلِعُ أنَّه ما حملني على ذلك حُبُّ الرئاسة والتقدم، بل قلت: متى أروي كُلَّ ما قد سمعته، وأيُّ فائدة في كوني أخَلِّفُه بعدي صحائف؟ فاستخرتُ الله، واستأذنت أعيانَ شيوخي ورؤساء البلد، وطُفت عليهم، فكُلٌّ قال: ومن أحقُّ بهذا منك؟ فشرعت في ذلك سنة ثلاث وثلاثين" كانت وفاة ابن عساكر في الحادي عشر من رجب، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين الأيوبي جنازتَه ودُفِنَ بمقابر باب الصغير، وكان الذي صلى عليه الشيخُ قطب الدين النيسابوري.