سار سلطانُ بن أحمد صاحب مسقط البلد المعروف في عمان، في كثيرٍ من المراكب والسفن، ونازل أهل البحرين وأخذَه من يد آل خليفة, ثم آل خليفة ساروا إلى الإمام عبد العزيز في الدرعيَّة واستنصروه، فأمَدَّهم بجيش كثيفٍ تمكَّن من هزيمة سلطان أحمد وانتزاع البحرين منه وتسليمها لآل خليفة.
كان سببُ إلغاء نسَبِ آل زياد الذي كان معاويةُ قد استلحَقَه، وكان يقالُ له: زيادُ بن أبيه، هو أنَّ رجلًا من آل زياد قَدِمَ عليه يقال له الصغدي بن سلم بن حرب بن زياد، فقال له المهدي: من أنت؟ فقال: ابنُ عَمِّك. فقال: أيُّ بني عمي أنت؟ فذكر نسَبَه، فقال المهدي: يا ابنَ سُميَّة الزانية! متى كنتَ ابنَ عمِّي؟ وغَضِبَ وأمَرَ به، فوُجِئَ في عنقِه وأُخرِجَ، وسأل عن استلحاقِ زياد، ثمَّ كتب إلى العامل بالبصرة بإخراجِ آلِ زياد من ديوانِ قُرَيشٍ والعرب، ورَدَّهم إلى ثقيف، وكتَبَ في ذلك كتابًا بالغًا، يذكُرُ فيه استلحاقَ زياد، ومخالفةَ حُكمِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فيه، فأُسقِطوا من ديوانِ قُريشٍ.
هو عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ بن ابنُ سَلولَ، رَأْسُ المُنافقين، مَرِضَ في ليالٍ بَقِينَ مِن شَوَّالٍ بعدَ أن رجَع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن غَزوةِ تَبوكَ, ولمَّا مات اسْتَغفَرَ له رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، وصلَّى عليه بعدَ أن حاوَلَ عُمَرُ مَنْعَهُ عن الصَّلاةِ عليه، وقد نزَل القُرآنُ بعدَ ذلك بِمُوافَقَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، وإنَّما صلَّى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إجراءً له على حُكمِ الظَّاهرِ وهو الإسلامُ؛ ولِما فيه مِن مَصلَحةٍ شَرعيَّةٍ؛ وهو تَأليفُ قُلوبِ قَومِه وتابِعيهِ، فقد كان يَدِينُ له بالوَلاءِ فِئَةٌ كَبيرةٌ مِنَ المُنافقين، فعسى أن يَتأثَّروا ويَرجِعوا عن نِفاقِهم ويَعتبِروا ويُخلِصوا لله ولِرسولِهِ.
كان المُعتَدُّ بالله أبو بكر هِشامُ بنُ مُحمَّدِ بنِ عبدِ المَلِك بن عبد الرحمن النَّاصر الأمويُّ أميرَ قُرطُبةَ، لكنَّه لم يَقُمْ بها إلا يسيرًا حتى قامت عليه طائفةٌ مِن الجُندِ فخُلِعَ، وجَرَت أمورٌ مِن جُملتِها إخراجُ المُعتَدِّ بالله مِن قَصرِه هو وحشَمُه والنِّساءُ حاسراتٍ عن أوجُهِهنَّ حافيةً أقدامُهنَّ إلى أن أُدخِلوا الجامِعَ الأعظَمَ على هيئةِ السَّبايا، فأقاموا هنالك أيامًا يُتعَطَّفُ عليهم بالطَّعامِ والشَّرابِ إلى أن أُخرِجوا عن قُرطُبةَ، ولَحِقَ هِشامٌ ومَن معه بالثُّغورِ بعد اعتقاله بقُرطُبةَ، فلم يزَلْ يجولُ في الثغور إلى أن لَحِقَ بابن هود المتغَلِّب على مدينة لاردة وسرقسطة وأفراغة وطرطوشة وما والى تلك الجهاتِ، فأقام عنده هشامٌ إلى أن مات في سنة 427 ولا عَقِبَ له، فهِشامٌ هذا آخِرُ مُلوكِ بني أميَّة بالأندلُسِ، وبخَلْعِه انقطَعَت الدَّعوةُ لبني أميَّةَ وذِكرُهم على المنابِرِ بجَميعِ أقطارِ الأندلس، ولَمَّا انقَطَعَت دعوةُ بني أمية استولى على تدبيرِ مُلكِ قُرطُبةَ أبو الحزم جهورُ بنُ مُحمَّدِ بنِ جهور وهو قديمُ الرِّياسةِ شَريفُ البيتِ، كان آباؤه وزراءَ الدَّولةِ الحَكَميَّة والعامريَّة، فلمَّا خلا له الجوُّ وأصفَرَ الفِناءُ وأقفَرَ النادي من الرُّؤساءِ وأمكَنَتْه الفرصةُ؛ وثَبَ عليها فتولى أمْرَها واضطلَعَ بحِمايتِها، ولم ينتَقِلْ إلى رتبةِ الإمارةِ ظاهرًا بل دَبَّرَها تدبيرًا لم يُسبَقْ إليه؛ وذلك أنَّه جعَلَ نَفسَه مُمسِكًا للمَوضِعِ إلى أن يجيءَ مَن يتَّفِقُ النَّاسُ على إمارتِه فيُسَلِّم إليه ذلك، ورتَّبَ البوَّابينَ والحَشَم على تلك القُصورِ على ما كانت عليه أيامَ الدَّولةِ، ولم يتحَوَّلْ عن دارِه إليها، وجعَلَ ما يرتَفِعُ مِن الأموالِ السُّلطانيَّةِ بأيدي رجالٍ رَتَّبَهم لذلك، وهو المُشرِفُ عليهم، وصَيَّرَ أهلَ الأسواقِ جُندًا له وجَعَلَ أرزاقَهم رُؤوسَ أموالٍ تكونُ بأيديهم مُحصاةً عليهم، يأخذونَ رِبحَها، ورُؤوسُ الأموالِ باقيةٌ مَحفوظةٌ يُؤخَذونَ بها ويُراعَونَ في كُلِّ وَقتٍ كيف حِفظُهم لها، وفَرَّقَ السِّلاحَ عليهم واستمَرَّ أمْرُه على ذلك إلى أن مات في غُرَّةِ صَفَر سَنةَ 435، ثم ولِيَ ما كان يتولَّى مِن أمر قُرطُبةَ بَعدَه ابنُه أبو الوليدِ مُحَمَّدُ بنُ جهور فجرى في السياسةِ وحُسنِ التدبيرِ على سَنَنِ أبيه غيرَ مُخِلٍّ بشيءٍ مِن ذلك إلى أن مات أبو الوليدِ في شوَّال من سنة 443.
هو حاكِمُ مصر الفائزُ بنَصرِ الله أبو القاسمِ عيسى بن الظَّافِرِ إسماعيلَ بن الحافِظِ عبدِ المَجيدِ بن محمدِ بن المُستَنصِر بالله العُبيديُّ، المصريُّ الفاطِميُّ. كانت مُدَّةُ حُكمِه سِتَّ سِنين ونحوَ شَهرينِ؛ وكان عُمرُه لمَّا وَلِيَ خمسَ سِنين، قال الذَّهبيُّ: "لمَّا اغتَالَ عبَّاسٌ الوَزيرُ الظَّافِرَ، أَظَهَرَ القَلقَ، ولم يكُن عَلِمَ أَهلُ القَصرِ بمَقتَلِه, فطَلَبوه في دُورِ الحَرَمِ فما وَجَدوهُ، وفَتَّشُوا عليه وأَيِسُوا منه، وقال عبَّاسٌ لأَخوَيهِ: أَنتُما الذين قَتَلتُما مولانا، فأَصَرَّا على الإنكارِ، فقَتَلَهُما نَفْيًا للتُّهمَةِ عنه, واستَدعَى في الحالِ عيسى هذا، وهو طِفلٌ له خَمسُ سِنين, وقِيلَ: بل سَنَتانِ. فحَمَلهُ على كَتِفِه، ووَقَفَ باكِيًا كَئيبًا، وأَمَرَ بأن تَدخُل الأُمراءُ، فدَخَلوا, فقال: هذا وَلَدُ مَولاكُم، وقد قَتَلَ عَمَّاهُ مَولاكُم، فقَتَلتُهُما به كما تَرَونَ، والواجِبُ إِخلاصُ النِّيَّةِ والطَّاعةُ لهذا الوَلَدِ، فقالوا كلُّهم: سَمْعًا وطاعَةً، وضَجُّوا ضَجَّةً قَوِيَّةً بذلك، ففَزِعَ الطِّفلُ، ولَقَّبوهُ الفائِزَ، وبَعَثوهُ إلى أُمِّهِ، واختَلَّ عَقلُه من حينئذٍ، وصار يَتَحرَّك ويُصرَع، ودانَت الممالِكُ لعبَّاسٍ. وأمَّا أَهلُ القَصرِ، فاطَّلَعوا على باطِنِ القَضِيَّةِ، فكاتَبُوا طَلائِعَ بنَ رزيك الأرمنيَّ الرَّافِضيَّ، والِيَ المنية" كان ابنُ رزيك ذا شَهامَةٍ وإِقدامٍ, فسَألوهُ الغَوْثَ، والأَخذَ بالثَّأْرِ من عبَّاسٍ الوَزيرِ لقَتْلِه الظَّافِرَ وأَخَوَيْهِ, فلَبِسَ الحِدادَ، وكاتَبَ أُمراءَ القاهرةِ، وهَيَّجَهُم على طَلَبِ الثَّأْرِ، فأَجابوهُ, فسار إلى القاهرةِ، وكان عبَّاسٌ في عَسكرٍ قَليلٍ. فخارَت قُواهُ وهَرَبَ هو وابنُه نَصرٌ ومَماليكُه والأَميرُ ابنُ مُنقِذٍ, واستَولَى الصَّالِحُ طَلائعُ بن رزيك على دِيارِ مصر بلا ضَربَةٍ ولا طَعنَةٍ، فنَزلَ إلى دارِ عبَّاسٍ، ثم استَدعَى خادِمًا كَبيرًا، وقال له: مَن هاهنا يَصلُح للحُكمِ؟ فقال: هاهنا جَماعةٌ؛ وذَكَرَ أَسماءَهُم، وذَكَرَ له منهم إِنسانٌ كَبيرُ السِّنِّ، فأَمَرَ بإحضارِهِ، فقال له بَعضُ أَصحابِه سِرًّا: لا يكون عبَّاسٌ أَحزَمَ منك حيث اختارَ الصَّغيرَ وتَرَكَ الكِبارَ واستَبَدَّ بالأَمرِ؛ فأَعادَ الصالحُ الرَّجُلَ إلى مَوضِعِه، وأَمَرَ حينئذٍ بإحضارِ العاضِدِ لدِينِ الله أبي محمدٍ عبدِ الله بن يوسفَ بن الحافظِ، ولم يكُن أَبوهُ حاكِمًا، وكان العاضِدُ في ذلك الوَقتِ مُراهقًا قارَبَ البُلوغَ، فبايَعَ له بالحُكمِ.
ظَفِرَ أهلُ الإسكندرية وعسكَرُ مصرَ بأسطولِ الفِرنجِ مِن صقليَّةَ، وكان سبَبُ ذلك إرسالَ أهل مصر إلى ملك الفرنج بساحلِ الشَّامِ، وإلى صاحبِ صقليَّةَ، ليَقصِدوا ديارَ مِصرَ ليثُوروا على صلاحِ الدين ويُخرجوه من مصر، فجَهَّزَ صاحبُ صقلية أسطولًا كبيرًا، وسَيَّرَه إلى الإسكندرية من ديار مصر، فوصلوا إليها في التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة 569، على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها وطمأنينةٍ، فخرج أهل الإسكندرية بعُدَّتِهم وسلاحِهم ليمنَعوهم من النزول، وأبعدوا عن البلدِ، فمنعهم الوالي من ذلك، وأمرهم بملازمة السور، ونزل الفرنجُ إلى البَرِّ مما يلي البحر والمنارة، وتقدموا إلى المدينة ونَصَبوا عليها الدبَّابات والمجانيق، وقاتلوا أشد قتال، وصبر لهم أهلُ البلد، وسُيِّرَت الكتُبُ بالحال إلى صلاح الدين يستدعونه لدفعِ العَدُوِّ عنهم، ووصل من العساكِرِ المسلمين كلُّ من كان له في أقطاعه، وهو قريبٌ من الإسكندرية، فقَوِيَت بهم نفوسُ أهل الإسكندرية، وأحسنوا القتالَ والصبر، فلما كان اليومُ الثالث فتح المسلمون باب البلَدِ وخرجوا منه على الفرنجِ مِن كل جانب، وهم غارُّون، واشتد القتالُ، فوصل المسلِمونَ إلى الدبابات فأحرقوها، وصَبَروا للقتال، فأنزل الله نَصْرَه عليهم، وفَشِلَ الفرنجُ وفتَرَ حربُهم، وكثُرَ القتل والجراح في رجالاتهم، وأما صلاح الدين فإنَّه لما وصله الخبر سار بعساكِرِه، وسيَّرَ مملوكًا له ومعه ثلاث جنائب ليجِدَّ السير عليها إلى الإسكندرية يبشِّرُ بوصوله، وسيَّرَ طائفة من العسكر إلى دمياط خوفًا عليها، واحتياطًا لها، فسار ذلك المملوك، فوصل الإسكندريةَ مِن يَومِه وقت العصر، والناسُ قد رجعوا من القتال، فنادى في البلدِ بمجيءِ صلاحِ الدين والعساكِر مُسرعين، فلمَّا سمع الناس ذلك عادوا إلى القتال، وقد زال ما بهم من تعَب وألمِ الجراح، وسمع الفرنجُ بقرب صلاح الدين في عساكره، فسُقِطَ في أيديهم، وازدادوا تعبًا وفتورًا، فهاجمهم المسلمونَ عند اختلاط الظلام، ووصلوا إلى خيامِهم فغَنِموها بما فيها من الأسلحةِ الكثيرة والتحمُّلات العظيمة، وكثُرَ القتل في رجالة الفرنجِ، فهرب كثيرٌ منهم إلى البحر، فغَلَبَهم أهلُ البلد وقهروهم، فصاروا بين قتيل وأسير، وكفى الله المسلمينَ شَرَّهم، وحاق بالكافرين مَكرُهم.
بعد أن استطاع الشيخُ مبارك آل الصباح الاستيلاءَ على حُكمِ الكويت أبقى العلمَ العُثمانيَّ مرفوعًا في الكويت ليخَفِّفَ نقمةَ النَّاسِ عليه من قَتلِه لأخويه محمد وجراح ليستفردَ بالحكم، ومن جانبِ الدولة العثمانية فإنها لم تكنْ واثقةً به، ومنعًا لاعتراف أيِّ دولة باستقلاله عيَّنَتْه قائمقام في الكويت، أمَّا البريطانيون فكانوا يتخوَّفون من أمرين: من الحكومة العثمانية التي بدأت تعَزِّزُ قواتها في البصرة، وبدأت نواياها تتَّجِهُ إلى ضمِّ الكويت رسميًّا لها، وعدم تركها على وَضعِها، ومن طرفٍ آخَرَ تتخَوَّف من روسيا التي باتت تزاحمُها على الخليج العربي بالتقرُّبِ من الكويت لأخذِ الامتيازات وإنشاء محطاتٍ للفحم في الموانئ، فحاولت بريطانيا عن طريقِ المقيم البريطاني عقدَ اتفاقية مع مبارك الصباح، فتَمَّ إبرام اتفاقية مضمونُها عدم استقبال مبارك لأيِّ مبعوث دولة أجنبية، وتمت هذه الاتفاقيَّةُ بسريَّةٍ تامَّةٍ، وحاولت بريطانيا أيضًا أن تزيدَ عدد السفن البحرية الحربية بحُجَّةِ حماية الخليج العربي أمام الكويتِ، وحاول العثمانيون أن يتولَّوا بأنفُسِهم إدارة ميناء الكويت، ورفض ذلك مبارك فأرسل العثمانيون قوةً عسكريةً بحجَّةِ إقامة دارٍ للجمارك ومَدِّ خطٍّ للتلغراف، وفي الوقت نفسه قام البريطانيون بإعلامِ العثمانيين بأنَّ الكويتَ له استقلالُه، وأنَّ الأمور ستُصبِحُ خطيرةً إذا ما قام العثمانيون بإنشاءِ دار الجمارك في الكويت دون موافقةِ بريطانيا، وأصدر البريطانيون أوامِرَهم للمقيم البريطاني في الخليجِ العربي بالضغطِ على مبارك وتهديدِه حتى لا يتصَرَّفَ دون استشارةِ حكومة الهند، ثم إنَّ محاولات الدولة العثمانية لفَرضِ سُلطتِها على الكويت جَعَلت مباركًا يتصل بقائِدِ السفينة البريطانية سفنكس طالبًا منه إعلان الحكومة البريطانية بتجديدِ الحمايةِ الدائمةِ على الكويت، ورفضت بريطانيا ذلك أولًا، ثم استاء البابُ العالي من مبارك، فأصدر مرسومًا بنفيه من الكويت، ولكِنَّه استنجد بالسفُنِ البريطانية ليخَلِّصوه من هذا المرسوم، وبعد أن قام كرزن برحلةٍ إلى الخليج العربي والتي أدَّت إلى تركيز النفوذ البريطاني في الخليجِ بعد مناقشةٍ قوية مع الدولة العثمانية، تمَّ إعلانُ الحمايةِ البريطانية للكويت والتي أصبحت الكويت بموجِبِه منطقةَ نفوذٍ بريطانية، وتم تعيينُ ممَثِّل سياسي فيها، هو الضابط نوكس.
في سادس عشر جمادى الآخرة قدم الأمير صلاح الدين محمد الحاجب بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص إلى الإسكندرية في تحصيل المال، فجلس بالخمس، وبين يديه أعيان أهلها، فجاءه الخبر بأن الفرنج الذين وصلوا ببضائع المتجر، وهم في ثمان عشاريات من مراكب بحر الملح، قد عزموا على أن يهجموا عليه، وأن يأخذوه هو ومن معه، فقام عَجِلًا من غير تأنٍّ يريد الفرار، وتسارع الناس أيضًا يفرون، فهجم الفرنج من باب البحر، فدافعهم من هناك من العتالين، حتى أغلقوا باب البحر، وقتلوا رجلًا من الفرنج، فقتل الفرنج نحو عشرين من المسلمين، وانتشروا على الساحل، وأسروا نحو سبعين مسلمًا، وأخذوا ما ظفروا به، ولحقوا بمراكبهم، وأتوا في الليل يريدون السورَ، فتراموا ليلتَهم كلها مع المسلمين إلى الفجر، فأخذ كثير من المسلمين في الرحيل من الإسكندرية، وأخرجوا عيالهم، وقام الصياح على فقد من قُتِل وأُسِر، وباتوا ليلة الجمعة مع الفرنج في الترامي من أعلى السور، فقَدِمت طائفة من المغاربة في مركب ومعهم زيت وغيره من تجاراتهم، فمال الفرنج عليهم وقاتلوهم قتالًا شديدًا حتى أخذوهم عَنوة، وأخرجوهم إلى البر، وقطَّعوهم قطعًا، وأهل الإسكندرية يرونهم فلا يغيثونَهم، فقدم الخبر بذلك في ليلة السبت عشرينه، فاضطرب الناس بالقاهرة، وخرج ناظر الخاص نجدة لولده، ومضى معه عدة من الأمراء، وخرج الشيخ أبو هريرة بن النقاش في عدة من المطوعة، يوم الأحد الحادي والعشرين، وقدموا الإسكندرية، فوجدوا الفرنج قد أقلعوا، وساروا بالأسرى، وما أخذوه من البر ومن مركب المغاربة، في يوم الثلاثاء الثاني والعشرين، فعادوا في آخر الشهر إلى القاهرة.
لَمَّا صارت الهزيمةُ على عبد الله بن سعود في جمادى الآخرة رحل بالقُربِ من جَبَل ماوية ونزل إبراهيمُ باشا وقواته الرسَّ، فثبت له أهلُ الرس وحاربوه، وأرسل عبد الله للرس مرابِطةً مع حسن بن مزروع، والهزاني صاحب حريق نعام، فحاصرهم الرومُ أشَدَّ الحصار وتابعوا الحربَ عليهم في الليل والنهار، وكُلَّ يوم يسوقُ الباشا على سورِها صناديدَ الروم بعدما يجعل السورَ بالقبوس فوق الأرضِ مهدومًا، ومع ذلك ثبت أهلُ الرس والمرابطة، وقاتلوا قتالَ مَن حمى الأهل والعيال، وصبروا صبرًا عظيمًا، فكلما هَدَم الرومُ السورَ بالنهار بنوه بالليل، وكلَّما حفروا حُفَرًا للبارود حفَرَ أهل الرس تجاهَه حتى يبطلوه، وبعض الأحيان يثور عليهم وهم لا يعلمون، وطال الحصار إلى ذي الحجة، وذُكر أنَّ الروم رموه في ليلةٍ 5000 رمية بالمدافع والقنبر والقبس، وأهلكوا ما خلفَ القلعة من النخيل وغيرها، وعبدُ الله بن سعود وجنوده في عنيزة، فأرسل أهل الرس إليه إمَّا أن يرحلَ إليهم لقتال الرومِ، وإمَّا أن يأذَنَ لهم بالمصالحةِ، ثم أقبل عساكِرُ وقبوس وأمداد من الروم كثيرة ونزلوا على إبراهيم ومن معه في الرس واستعظم أمرُه وكثرت دولتُه، فوقعت المصالحة بينه وبين أهلِ الرسِّ على دمائِهم وأموالِهم وسلاحِهم وبلادِهم وجميعِ مَن عندهم من المرابِطة يخرجون إلى مأمَنِهم بسلاحِهم وبجميع ما معهم، فخرجوا من الرس وقصدوا عبدَ الله وهو في عنيزة، وقتُل من أهل الرس والمرابطة نحو سبعين رجلا وقُتِلَ من عسكر الروم ما ينيف على 600 رجلٍ.
ابتدأ الوباءُ في النَّاسِ في القاهرة ومِصرَ في نصف جمادى الآخر، وكَثُر مَوتُ الفقراء والمساكين بالجوع، وقد توقَّفَت أحوال الناس من قِلَّة المكاسب؛ لشِدَّة الغلاء وعَدَمِ وجودِ ما يُقتاتُ به، وشَحَّ الأغنياءُ وقَلَّت رَحمتُهم، فمن كان يكتَسِبُ في اليوم درهمًا يقومُ بحالِه ويَفضُلُ له منه شيء، صار الدِّرهَمُ لا يجدي شيئًا، فمات ومات أمثالُه من الأُجَراء والعُمَّال والصنَّاع والفلاحين والسُّؤَّال من الفقراء، وفي شَهرَي رجب وشعبان: اشتَدَّ الغلاء، وشَفَع الموت في الفُقَراءِ مِن شِدَّة البَردِ والجوعِ والعُري، وهم يَستغيثونَ فلا يُغاثُونَ، وأكَلَ أكثَرُ النَّاسِ خُبزَ الفولِ والنخال، عجزًا عن خبزِ القمح، وكَثُرَ الخَطفُ من أيدي النَّاسِ، ورُمِيَ طينٌ بالسجنِ لعمارة حائطٍ به، فأكله المسجونونَ مِن شِدَّةِ جُوعِهم، وعزَّ وجود الدوابِّ لِمَوتها جوعًا، وفي رابِع عشرين شعبان انتدب الأميرُ منجك نائب السلطان لتفرقةِ الفُقَراء على الأمراء وغيرهم، فجمع أهلَ الحاجة والمَسكَنة، وبعث إلى كلِّ أميرٍ مِن أمراء الألوف مائةَ فقير، وإلى مَن عدا أمراء الألوف على قَدرِ حالِه، وفَرَّق على الدواوين والتجَّار وأرباب الأموال كل واحدٍ عددًا من الفقراءِ، ثم نودي في القاهرة ومصر بألا يتصَدَّقَ أحَدٌ على حرفوش، وأيُّ حرفوش شَحَذ صُلِبَ، فآوى كلُّ أحدٍ فُقراءَه في مكانٍ، وقام لهم من الغِذاء بما يمُدُّ رَمَقَهم على قَدرِ هِمَّتِه وسَماح نفسِه، ومنعهم من التَّطوافِ لسُؤالِ النَّاسِ، فخَفَّت تلك الشناعات التي كانت بين النَّاسِ إلَّا أن الموات عَظُم، حتى كان يموتُ في كُلِّ يوم من الطُّرَحاء على الطرقات ما يزيدُ على خمسمائة نفر، ويُطلَقُ من ديوان المواريث ما يُنيفُ على مائتي نفس، وتزايَدَ في شهر رمضان مَرَضُ الناس وموتهم، ونَفِدَت الأقوات، واشتَدَّ الأمر، فبلغت عِدَّةُ مَن يرد اسمُه للديوان في كلِّ يوم خمسمائة، وبلغت عِدَّةُ الطرحاء زيادةً على خمسمائة طريح، فقام بمواراةِ الطُّرَحاء الأميرُ ناصر الدين محمد بن الأمير أقبغا آص، والأمير سودن الشيخوني، وغيرهما، وكان من أتى بميِّتٍ طريح أعطَوه درهمًا، فأتاهم الناسُ بالأموات، فقاموا بتغسيلِهم وتكفينِهم ودَفْنِهم- أحسَنَ قيامٍ، بعد ما شاهد النَّاسُ الكلابَ تأكل الموتى من الطُّرَحاء، فلما فَنِيَ مُعظَمُ الفقراء، وخَلَت دورٌ كثيرة خارج القاهرة ومصر لِمَوت أهلها، فَشَت الأمراضُ مِن أُخرَيات شهر رمضان في الأغنياءِ، ووقع الموتُ فيهم، فازداد سِعرُ الأدوية، واشتَدَّ الأمر في شوَّال إلى الغاية، وفي أوَّلِ ذي القعدة وصَلَت تراويج القمح الجديد، فانحَلَّ السِّعرُ، ثم تناقَصَت الأسعارُ.
أُنشِئَت هذه المكتبةُ في القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي) على يدِ هارونَ الرشيد، وذلك بعد أن ضاقت مكتبةُ القَصرِ بما فيها من كتُبٍ, وعَجَزت عن احتواءِ القُرَّاء المتردِّدين عليها؛ ممَّا جعله يفكِّرُ في إخراجِها من القصر, وإفرادِها بمبنًى خاصٍّ بها, يَصلُحُ لاستيعابِ أكبَرِ عدَدٍ مِن الكتُبِ, ويكون مفتوحًا أمام كلِّ الدارسينَ وطُلَّابِ العِلمِ. فاختار لها مكانًا مُناسِبًا, وأقام عليه مبنًى مكَوَّنًا من عدَّةِ قاعات؛ قاعة للاطِّلاع, وقاعة للمُدارَسة, وقاعة لنَسخِ الكتُبِ الجديدة وتجليدِها, وقاعة للتَّرويحِ عن النَّفسِ وللاستراحةِ. ومسجِدًا للصلاةِ, ومكانًا يَبيتُ فيه الغُرَباء, تتوفَّرُ فيه مقوِّماتُ الحياةِ مِن طعامٍ وشَرابٍ وغَيرِه, ومخزنًا للكتُب, نظمَت فيه بحيثُ صار لكُلِّ فَنٍّ مِن الفنون العِلميَّة مكانٌ خاصٌّ به, وتُوضَعُ فيه مُرَتَّبةً في دواليبَ، ثم زوَّدها بما تحتاجُ إليه من أثاثٍ ومرافِقَ, وأحبارٍ وأوراقٍ للدارسين, وعيَّنَ لها المُشرِفينَ على إدارتِها, والعُمَّالَ القائمينَ على خدمة ورعايةِ زائريها. وواصلَ ابنُه المأمونُ بعده الاهتمامَ بتلك المكتبةِ، فأحضر مئاتِ النُّسَّاخ والشُّرَّاح والمُترجِمينَ مِن شَتَّى اللُّغات؛ لتعريبِ ونَقلِ الكتُبِ من لغَتِها الأصلية, حتى غَدَت من أعظَمِ المكتبات في العالَم, ووضع بها مرصدًا؛ ليكون تعليمُ الفلَكِ فيها تعليمًا عمليًّا، يجَرِّبُ فيها الطلابُ ما يدرُسونَه من نظريَّاتٍ عِلميَّةٍ, وبنى بها مستشفًى لعلاجِ المرضى وتعليمِ الطِّبِّ؛ إذ كان يؤمِنُ بأن العِلمَ النظري وحده لا جَدوى منه. وكتب إلى ملكِ الرومِ يسألُه الإذنَ في إنفاذِ ما عنده من العلومِ القديمة المخزونةِ المورَّثة عن اليونان, واجتمع لدى المأمونِ بذلك ثروةٌ هائلةٌ مِن الكتبِ القديمة, فشَكَّلَ لها هيئةً مِن المترجمينَ المَهَرة والشُّرَّاح والورَّاقينَ؛ للإشرافِ على ترميمِها ونَقلِها إلى العربيَّة, وعيَّنَ مسؤولًا لكلِّ لغةٍ يُشرِفُ على من يُترجِمونَ تُراثَها, وأجرى عليهم الرواتبَ العظيمة, حيث جعل لبعضِهم خمسَمائة دينارٍ في الشهر, أي ما يساوي 2كيلو جرام ذهبًا تقريبًا, بالإضافة إلى الأعطيات الأخرى, إذ أعطى على بعضِ الكتُبِ المُترجَمة وزنَها ذهبًا. وبعضُهم كان يقومُ بترجمة الأصلِ إلى لُغتِه هو, ثم يقومُ مترجِمٌ آخَرُ بنَقلِه إلى العربيَّةِ وغيرِها, ولم يقتَصِرْ دَورُ المترجمينَ على الترجمةِ فقط، وإنما قاموا بالتعليقِ على هذه الكتب، وتفسيرِ ما فيها من نظريَّات, ونَقْلها إلى حيِّز التطبيق, وإكمالِ ما فيها من نَقْصٍ, وتصويبِ ما فيها من خطأٍ؛ حيث كان عمَلُهم يُشبِهُ ما يسمَّى بالتحقيقِ الآن, وما إن انتهى عصرُ المأمون حتى كانت معظَمُ الكتُبِ اليونانيَّة والهنديَّة والفارسية وغيرِها من الكتب القديمة في علومِ الرياضةِ والفَلَك والطبِّ والكيمياءِ والهندسةِ موجودةً بصورتها العربيَّة الجديدةِ بمكتبة بيتِ الحكمةِ. كان للترجمةِ التي عَمِلَ عليها المأمونُ أثَرٌ واضِحٌ في تطوُّرِ الحركة العلميَّة لدى المسلمين إلَّا أنَّها نقَلَت معها بعضَ مُعتَقداتِ الأُمَم السابقة، وأفسدت على بعضِ المُسلِمين دينَهم. يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: "أظهر اللهُ مِن نورِ النبوةِ شَمسًا طَمَسَت ضوءَ الكواكبِ، وعاش السَّلَفُ فيها بُرهةً طويلةً، ثم خَفِيَ بعضُ نورِ النبوة؛ فعُرِّبَ بعضُ كتُبِ الأعاجِمِ الفلاسفةِ مِن الرومِ والفُرس والهند في أثناءِ الدولة العباسيَّة، ثم طُلِبَت كتُبُهم في دولة المأمونِ مِن بلاد الروم فعُرِّبَت، ودَرَسَها الناسُ وظهر بسبب ذلك من البِدَعِ ما ظهر، وكان أكثَرُ ما ظهر من علومِهم الرياضيَّة كالحسابِ والهيئةِ، أو الطبيعةِ كالطبِّ أو المنطقيَّة، فأمَّا الإلهيَّةُ: فكلامُهم فيها نَزْرٌ، وهو مع نزارتِه ليس غالِبُه عندهم يقينًا، وعند المسلمينَ من العلومِ الإلهيَّة الموروثة عن خاتَمِ المُرسَلين ما ملأ العالمَ نُورًا وهدًى". وقال أيضًا رحمه الله: "إنَّ أمَّتَنا- أهلَ الإسلامِ- ما زالوا يَزِنون بالموازينِ العَقليَّة, ولم يسمَعْ سَلَفًا بذكرِ هذا المنطقِ اليوناني, وإنَّما ظهر في الإسلامِ لَمَّا عُرِّبَت الكتبُ الروميَّة في عهد دولة المأمونِ"
ثارت الأتراك بالمَلِك جلالِ الدَّولة البويهي ليأخُذوا أرزاقَهم، وأخرجوه من دارِه، ورسَموا عليه في المسجِدِ، وأُخرِجَت حريمُه، فذهب في اللَّيلِ إلى دار الشَّريفِ المرتضى فنزلها، ثمَّ اصطلحت الأتراكُ عليه وحَلَفوا له بالسَّمعِ والطاعة، وردُّوه إلى دارِه.
هو بغا الكبير أبو موسى التركي، مُقَدَّمُ قُوَّادِ المتوكِّل وأكبَرُهم، كان شجاعًا مِقدامًا وله همَّةٌ عالية وهيبة، ووقْعٌ في النُّفوسِ، وكان مملوكًا للحسن بن سهل الوزير، وكان يُحمَّق ويجهَّل في رأيه، أسهم في اغتيالِ الخليفة المتوكِّل، ثم سيطر على الخليفة المستعين الذي لم يكُنْ له من الأمر شيءٌ غير الاسم، فغَلَب على المستعين هو ووصيفُ الأمير، حتى قيل: خليفةٌ في قفصٍ بين وصيف وبغا ** يقول ما قالا له كما يقولُ البَبَّغا. له عِدَّةُ فتوحات ووقائع، باشر الكثيرَ من الحروب فما جُرِح قط، وخلَّف أموالًا عظيمة، وكان بغا دَيِّنًا من بين الأتراك، وكان من غِلمانِ المعتصم، يشهد الحروبَ العظام، ويباشِرُها بنفسه، فيخرجُ منها سالِمًا، ويقول: الأجَلُ جوشن، مرض بغا الكبير في جمادى الآخرة فعاده المستعينُ في النصف منها، ومات بغا من يومِه عن سن ستين سنة، فعقد المستعين لموسى بن بغا على أعمالِه وعلى أعمالِ أبيه كلِّها، وولي ديوانَ البريد.
جَمَعَ نورُ الدينِ بنُ محمودٍ صاحِبُ الشامِ، العَساكِرَ بحَلَب، وسار إلى قَلعةِ حارِم، وهي للفِرنجِ غَربيَّ حَلَب، فحَصَرَها وَجَدَّ في قِتالِها، فامتَنَعَت عليه بحَصَانَتِها، وكَثرَةِ مَن بها من فِرسانِ الفِرنجِ ورَجَّالَتِهم، فلمَّا عَلِمَ الفِرنجُ ذلك جَمَعوا فارِسَهم وراجِلَهم من سائرِ البلادِ، وحَشَدوا، واستَعَدُّوا، وساروا نَحوَها لِيُرَحِّلُوه عنها، فلمَّا قارَبوهُ طَلَبَ منهم المُصَافَّ، فلم يُجِيبوهُ إليه، وراسَلوهُ، وتَلَطَّفوا الحالَ معه، فلمَّا رأى أنه لا يُمكِنهُ أَخْذُ الحِصنِ، ولا يُجيبُونَه إلى المُصَافِّ، وكان بالحِصنِ شَيطانٌ مِن شَياطِينِهم يَعرِفون عَقْلَهُ ويَرجِعون إلى رَأيهِ، فأَرسلَ إليهم يقول: إننا نَقدِر على حِفْظِ القَلعَةِ، وليس بنا ضَعْفٌ، فلا تُخاطِروا أنتم باللِّقاءِ، فإنه إن هَزَمَكُم أَخَذَها وغَيرَها، والرَّأيُ مُطاوَلَتُه؛ فأَرسَلوا إليه وصالَحوهُ على أن يُعطوهُ نِصفَ أَعمالِ حارِم، فاصطَلَحوا على ذلك، ورَحَلَ عنهم.