لمَّا أصاب خالدٌ يومَ الوَلَجَةِ ما أصاب مِن نَصارى بكرِ بن وائلٍ الذين أعانوا الفُرْسَ غَضِبَ لهم نَصارى قَوْمِهم، فكاتَبوا الفُرْسَ، واجتمعوا على أَلَّيْس وعليهم عبدُ الأسودِ العِجْليُّ وكتَبَ أَرْدَشِير إلى بهمن جاذُوَيْهِ يأمُرهُ بالقُدومِ على نَصارى العربِ بأُلَّيْس، فقَدِمَ بهمن جاذُوَيْهِ جابانَ إليهم، فاجتمع على جابان نَصارى العربِ مِن أهلِ الحِيرَةِ. وكان خالدٌ لمَّا بَلغَهُ تَجَمُّعُ نَصارى بكرٍ وغيرِهم سار إليهم ولا يَشعُرُ بِدُنُوِّ جابان. فلمَّا طلَع جابانُ بأُلَّيْس قالت العَجَمُ له: أَنُعاجِلُهُم أم نغدي النَّاس ولا نُريهِم أَنَّا نَحْفَلُ بهم، ثمَّ نُقاتِلهم؟ فقال جابانُ: إن تَركوكُم فتَهاوَنوا بهم. فعَصَوْهُ وبَسَطوا الطَّعامَ، وانتهى خالدٌ إليهم وحطَّ الأثقالَ، فلمَّا وُضِعت تَوجَّه إليهم، وطلَب مُبارزةَ عبدِ الأسودِ وابنِ أَبْجَرَ ومالكِ بن قيسٍ، فبرَز إليه مالكٌ مِن بينهم، فقَتلَهُ خالدٌ وأَعجَل الأعاجمَ عن طعامِهم. فقال لهم جابانُ: حيث لم تَقدِروا على الأكلِ فسُمُّوا الطَّعامَ، فإن ظَفرتُم فأَيْسَرُ هالِكٍ، وإن كانت لهم هَلكوا بأَكْلِهِ. فلم يفعلوا، واقتتلوا قِتالًا شديدًا، والمشركون يَزيدُهم ثُبوتًا تَوقُّعُهم قُدومِ بهمن جاذُوَيْهِ، فصابَروا المسلمين، فقال خالدٌ: اللَّهمَّ إن هَزمتَهُم فعَلَيَّ أن لا أَسْتَبْقِي منهم مَن أَقدِر عليه حتَّى أُجري مِن دمائهِم نَهرَهُم. فانهزمت فارِسُ فنادى مُنادي خالدٍ: الأُسَراءُ الأُسَراءُ، إلَّا مَن امتنع فاقتلوه. فأقبل بهم المسلمون أُسَراء، ووَكَّل بهم مَن يَضرِب أعناقَهُم يومًا وليلةً. فقال له القَعْقاعُ وغيرُه: لو قتلتَ أهلَ الأرضِ لم تَجْرِ دِماؤهُم، فأَرْسِلْ عليها الماءَ تَبَرَّ يَمينُك، ففعَل فَسالَ النَّهرُ دَمًا عَبيطًا، فلذلك سُمِّيَ نَهْرَ الدَّمِ إلى اليومِ، ووقَف خالدٌ على الطَّعامِ وقال للمسلمين: قد نَفَّلْتُكُموه، فتَعشَّى به المسلمون، وجعَل مَن لم يَرَ الرِّقاقَ يقول: ما هذه الرِّقاقُ البِيضُ؟
هو السلطان أبو العباس المنصور أحمد، المعروف بالذهبي ابن أبي عبد الله محمد الشيخ المهدي بن محمد القائم بأمر الله الزيداني الحسني السعدي، واسطةُ عِقد الملوك الأشراف السعديين، وأحدُ ملوك المغرب الأقصى العِظام. كانت ولادته بفاس سنة 956, وأمُّه الحُرَّة مسعودة بنت الشيخ الأجلِّ أبي العباس أحمد بن عبد الله الوزكيتي، وكانت من الصالحات الخيرات, وكان أبوه المهدي ينبِّه على أن ابنَه أحمد واسطةُ عِقد أولاده. نشأ المنصور في عَفافٍ وصيانة وتعاطٍ للعلم ومُثافنةٍ لأهله عليه، وكانت مخايل الخِلافة لائحةً عليه إلى أن تمَّ أمره. كان طويلَ القامة ممتلئ الخدين واسِعَ المنكبين، تعلوه صفرةٌ رقيقة، أسود الشعر أدعج أكحل ضيِّق البلج، برَّاق الثنايا، حسن الشكل جميل الوجه، ظريف المنزِع لطيف الشمائل. بويعَ له بالحكم بعد وفاة أخيه عبد الملك في معركة وادي المخازن 986. قال الفشتالي: "لما كانت وقعة وادي المخازن ونصر الله دينَه وكَبَتَ الكفرَ وأهلَه واستوسق الأمرُ للمنصور، كتب إلى صاحب القسطنطينية العظمى، وهو يومئذ السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني، وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب يعرِّفُهم بما أنعم الله به عليه من إظهارِ الدين وهلاك عَبَدة الصليب واستئصال شأفتِهم، فوردت عليه الأرسالُ من سائر الأقطار مهنئين له بما فتح الله على يدِه، وكان أول من وفد عليه رسولُ صاحب الجزائر ثم تلته أرسالُ طاغية البرتغال، وهو الريكي القائم بأمرهم" واستمر أحمد المنصور على منهج أخيه في بناء المؤسسات، واقتناءِ ما وصلت إليه الكشوفاتُ العلمية، وتطويرِ الإدارة والقضاء والجيش، وترتيبِ الأقاليم وتنظيمها، وكان أحمد المنصور يتابع وزراءه وكبارَ موظفيه ويحاسِبُهم على عدم المحافظة على أوقات العمل الرسمية، أو التأخير في الردِّ على المراسلات الإدارية والسياسية، وأحدث حروفًا لرموز خاصة بكتابة المراسَلات السريَّة؛ حتى لا يُعرَفَ فحواها إذا وقعت في يد عدوٍّ. توفي المنصور في الدار البيضاء خارجَ فاس فدُفِن فيها، ثم نُقِل إلى مراكش، ثم خلَفَه بعده ابنه زيدان الذي استخلفه والدُه المنصور بعد أن أَيِس من صلاحِ ابنه الكبير محمد الشيخ المأمون.
هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، أميرُ المؤمنين في الحديث، أبو عبد الله سفيانُ بنُ سعيد بن مسروق الثوريُّ التميميُّ، وُلِدَ سنة 97 بالكوفة, وهو سيِّدُ أهل زمانه في العِلم والدين، من كبارِ تابعي التابعينَ, وأحدُ الأئمة المجتهدينَ الذين كان لهم أتباعٌ، مصنف كتاب (الجامع) ولد: سنة 98 اتفاقا، وطلب العلم وهو حدث باعتناء والده المحدث الصادق سعيد بن مسروق الثوري، وكان والده من أصحاب الشعبي، وخيثمة بن عبد الرحمن، ومن ثقات الكوفيين، وعداده في صغار التابعين, ولا يُختلف في إمامة سفيان وأمانته وحفظه وعلمه وزهده. قال يونس بن عبيد: "ما رأيت أفضل من سفيان الثوري، فقيل له: يا أبا عبد الله رأيت سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهدا وتقول هذا؟ قال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان" قال عبد الرحمن بن مهدي: "ما رأيت رجلاً أحسن عقلاً من مالك بن أنس، ولا رأيت رجلاً أنصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مبارك، ولا أعلم بالحديث من سفيان، ولا أقشف من شعبة". وقد ساق الذهبي جملة من اقوال الأئمة والعلماء في الثوري منها: قال ابن المبارك: "كتبت عن ألف ومائة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان, وما نعت لي أحد فرأيته، إلا وجدته دون نعته، إلا سفيان الثوري. قال أبو حنيفة: لو كان سفيان الثوري في التابعين، لكان فيهم له شأن. وقال أيضا: لو حضر علقمة والأسود، لاحتاجا إلى سفيان. وقال المثنى بن الصباح: سفيان عالم الأمة، وعابدها. وقال ابن أبي ذئب،: ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري. وقال شعبة: ساد سفيان الناس بالورع والعلم, وهو أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن عيينة،: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري. وقال أحمد بن حنبل: قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت. وعن حفص بن غياث، قال: ما أدركنا مثل سفيان، ولا أنفع من مجالسته. وقال أبو معاوية: ما رأيت قط أحفظ لحديث الأعمش من الثوري، كان يأتي، فيذاكرني بحديث الأعمش، فما رأيت أحدا أعلم منه بها. وقال يحيى بن سعيد: سفيان أعلم بحديث الأعمش من الأعمش. وقال ابن عرعرة: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سفيان أثبت من شعبة، وأعلم بالرجال. وقال محمد بن زنبور: سمعت الفضيل يقول: كان سفيان والله أعلم من أبي حنيفة. وقال بشر الحافي: سفيان في زمانه، كأبي بكر وعمر في زمانهما.". يقال: إن عدد شيوخه ستمائة شيخ، وكبارهم الذين حدثوه عن: أبي هريرة، وجرير بن عبد الله، وابن عباس، وأمثالهم. وقد قرأ الختمة عرضا على: حمزة الزيات أربع مرات. وأما الرواة عنه فقد حدث عنه من القدماء من مشيخته وغيرهم خلق، منهم: الأعمش، وأبان بن تغلب، وابن عجلان، وخصيف، وابن جريج، وجعفر الصادق، وجعفر بن برقان، وأبو حنيفة، والأوزاعي، ومعاوية بن صالح، وابن أبي ذئب، ومسعر، وشعبة، ومعمر وكلهم ماتوا قبله, وغيرهم كثير. قال يحيى بن أيوب العابد: حدثنا أبو المثنى، قال: "سمعتهم بمرو يقولون: قد جاء الثوري، قد جاء الثوري. فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه - خرج شعر وجهه-. قلت (الذهبي): "كان ينوه بذكره في صغره، من أجل فرط ذكائه، وحفظه، وحدث وهو شاب قال أبو بكر بن عياش: إني لأرى الرجل يصحب سفيان، فيعظم في عيني. وقال ورقاء، وجماعة: لم ير سفيان الثوري مثل نفسه." كان سفيان رأسا في الزهد، والتأله، والخوف، رأسا في الحفظ، رأسا في معرفة الآثار، رأسا في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم, وهو من أئمة الدين، وكان يكثر من ذكر الآخرة, واغتفر له غير مسألة اجتهد فيها، وفيه تشيع يسير، كان يثلث بعلي، وهو على مذهب بلده أيضا في النبيذ. ويقال: رجع عن كل ذلك، وكان ينكر على الملوك، ولا يرى الخروج أصلا ومن أقوله رحمه الله: ما أودعت قلبي شيئا فخانني. قال وكيع، سمعت سفيان يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت. وقال يحيى بن يمان: سمعت سفيان يقول: المال داء هذه الأمة، والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه، فمتى يبرئ الناس وقال عبد الرزاق: دعا الثوري بطعام ولحم، فأكله، ثم دعا بتمر وزبد، فأكله، ثم قام، وقال: أحسن إلى الزنجي، وكده. أبو هشام الرفاعي: سمعت يحيى بن يمان، عن سفيان، قال: إني لأرى الشيء يجب علي أن أتكلم فيه، فلا أفعل، فأبول دما. وقال سفيان: ما وضع رجل يده في قصعة رجل، إلا ذل له. قيل: إن عبد الصمد عم المنصور دخل على سفيان يعوده، فحول وجهه إلى الحائط، ولم يرد السلام. فقال عبد الصمد: يا سيف! أظن أبا عبد الله نائما. قال: أحسب ذاك أصلحك الله. فقال سفيان: لا تكذب، لست بنائم. فقال عبد الصمد: يا أبا عبد الله! لك حاجة؟ قال: نعم، ثلاث حوائج: لا تعود إلي ثانية، ولا تشهد جنازتي، ولا تترحم علي. فخجل عبد الصمد، وقام، فلما خرج، قال: والله لقد هممت أن لا أخرج، إلا ورأسه معي. دعاه المنصور لتولِّي القضاءِ فأبى، ثم طلَبَه المهدي لذلك, فأبى ثم أتي به للمهدي، فلما دخل عليه سلم تسليم العامة ولم يسلم بالخلافة، والربيع قائم على رأس المهدي متكئاً على سيفه يرقب أمر الثوري، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال له: يا سفيان، تفر منا ها هنا وها هنا وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا قال سفيان: إن تحكم فيّ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا إيذن لي أن أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يُعترض عليه في حكم، فكتب عهده ودفع إليه، فأخذه وخرج فرمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد. هرب إلى مكَّة أولًا، ثم خرج إلى البصرة وبقي فيها متواريًا حتى مات فيها", وأُخرِجَت جنازتُه على أهلِ البصرة فجأةً، فشَهِدَه الخلقُ، وصلَّى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر، ونزل في حُفرتِه هو وخالد بن الحارث. مات وله ثلاث وستون سنة.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامةُ أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي الحنبلي المعروفُ بابن قَيِّم الجوزيَّة، فهو إمامُ الجوزيَّة، وابنُ قَيِّمِها، ولِدَ بدمشق في سابع صفر سنة 691, وسَمِعَ الحديث واشتغل بالعلم، وبَرَع في العلوم المتعَدِّدة، لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين، ولَمَّا عاد الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في سنة 712 لازَمَه إلى أن مات الشيخُ، فأخذ عنه علمًا جَمًّا لازمه قرابة 16 عامًا وتأثَّر به, وسُجِنَ في قلعة دمشق في أيام سجنِ ابن تيمية، وخرج بعد أن توفِّيَ شيخه عام 728 ولم يخَلِّفِ الشيخُ العلَّامة تقي الدين ابن تيميَّة مِثلَه، ومع ما سَلَف له من الاشتغال، صار فريدًا في بابِه في فنونٍ كثيرة، مع كثرةِ الطَّلَب ليلًا ونهارًا، وكثرة الابتهال، وكان حَسَن القراءة والخُلُق، كثيرَ التودد لا يحسُد أحدًا ولا يؤذيه، ولا يستعيبُه ولا يحقِدُ على أحد؛ قال ابن رجب: "كان ذا عبادةٍ وتهَجُّد وطولِ صلاةٍ إلى الغاية القصوى، وتألُّه ولَهَج بالذكر، وشَغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله والانكسار له، والاطِّراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهِدْ مِثلَه في ذلك، ولا رأيتُ أوسَعَ منه علمًا، ولا أعرَفَ بمعاني القرآن والسنَّة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصومَ، ولكن لم أرَ في معناه مِثلَه، وقد امتُحِنَ وأوذيَ مَرَّات، وحُبِسَ مع الشيخ تقي الدين في المرَّة الأخيرة بالقلعة، منفرِدًا عنه، ولم يُفرَجْ عنه إلَّا بعد موت الشيخ, وكان في مُدَّة حبسه مشتغلًا بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر، ففُتِحَ عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانِبٌ عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسَلَّط بسبب ذلك على الكلام في علومِ أهل المعارف، والدُّخولِ في غوامِضِهم، وتصانيفه ممتلئةٌ بذلك، وحَجَّ مرات كثيرة، وجاور بمكَّةَ، وكان أهلُ مكة يذكرون عنه من شِدَّة العبادة، وكثرة الطواف أمرًا يُتعَجَّب منه. ولازمت مجالِسَه قبل موته أزيدَ مِن سنة، وسَمِعتُ عليه قصيدته النونية الطويلة في السنة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها " وقال ابنُ كثير: " كنتُ مِن أصحَبِ النَّاسِ له وأحَبِّهم إليه، ولا أعرف في هذا العالَمِ في زماننا أكثَرَ عبادةً منه، وكانت له طريقةٌ في الصلاة يطيلها جِدًّا ويمُدُّ ركوعَها وسجودَها، ويلومه كثيرٌ من أصحابه في بعضِ الأحيانِ، فلا يرجِعُ ولا ينزِعُ عن ذلك- رحمه الله" وقال ابن حجر العسقلاني: " كان إذا صلَّى الصبح جلس مكانَه يذكُرُ الله حتى يتعالى النَّهارُ، ويقول: هذه غَدوتي لو لم أقعُدْها سَقَطَت قُوايَ، وكان يقولُ: بالصبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدين، وكان يقول: لا بد للسَّالك من همَّة تُسيِّرُه وترَقِّيه، وعلمٍ يُبَصِّرُه ويهديه. وكان مُغرًى بجمع الكتب فحصَّل منها ما لا يُحصَرُ حتى كان أولادُه يبيعون منها بعد موتِه دهرًا طويلًا سوى ما اصطَفَوه منها لأنفُسِهم" وله من التصانيف الكبار والصغار شيءٌ كثير، وهي أكثَرُ مِن أن تُحصَرَ هنا، ولكن من أشهرها: زاد المعاد في هَدْي خير العباد، وإعلام الموقعين عن ربِّ العالمين، ومدارج السالكين، وبدائع الفوائد، وطريق السعادتين، وشرح منازل السائرين، والقضاء والقدر، وجلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، ومصايد الشيطان، ومفتاح دار السعادة، والروح، وحادي الأرواح، ورفع اليدين، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، وتصانيف أخرى كثيرة؛ قال ابن حجر: "وكلُّ تصانيفه مرغوبٌ فيها بين الطوائف، وهو طويلُ النَّفَسِ فيها يتعانى الإيضاحَ جُهدَه، فيُسهِبُ جدًّا، ومعظمها من كلام شيخِه يتصَرَّفُ في ذلك، وله في ذلك مَلَكَة قويَّة، ولا يزال يدندِنُ حولَ مُفرداتِه ويَنصُرُها ويحتَجُّ لها" ومن نَظْمِه قصيدة تبلغ ستة آلاف بيت سمَّاها الكافية في الانتصار للفرقة الناجية. ومن تلاميذه ابنه برهان الدين إبراهيم، والإمام ابن رجب الحنبلي، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن عبد الهادي، والإمام الذهبي، والفيروزآبادي صاحب القاموس. توفِّيَ رحمه الله في دمشق ليلة الخميس ثالث عشر رجب وقتَ أذان العشاء وصُلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر من الغد بالجامِعِ الأموي، ودفن عند والدته بمقابر الباب الصغير، وقد كانت جنازته حافلةً، شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة، وتزاحم الناسُ على حمل نعشه، وكَمُل له من العمر ستون سنةً.
هو أبو منصورٍ موهوبُ بنُ أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ الحَسَن بن الخضر الجواليقي البغداديُّ النحويُّ اللُّغويُّ. إمامُ الخليفةِ المقتفي, وكان إمامًا في فُنونِ الأدب. وُلِدَ في ذي الحجة سنة 465, ونشأ بباب المراتِبِ، قرأ على أبي زكريَّا سبع عشرة سنة, فانتهى إليه عِلمُ اللغة فأقرأها، ودرَّسَ العربيَّةَ في النظاميَّةِ بعد أبي زكريَّا مُدَّةً، فلما وَلِيَ المُقتفي اختَصَّ بإمامتِه في الصَّلاةِ, وكان المقتفي يقرأُ عليه شيئًا من الكُتُبِ. كان الجواليقي دَيِّنًا، ثقةً، وَرِعًا، غزيرَ الفَضلِ، وافِرَ العَقلِ، مَليحَ الخَطِّ، كثيرَ الضَّبطِ. صَنَّف التصانيفَ وانتشرت عنه، وشاع ذِكْرُه. قال ابن الجوزي: "كان غزيرَ الفَضلِ مُتواضِعًا في مَلبَسِه ورياستِه، طويلَ الصَّمتِ لا يقولُ الشَّيءَ إلَّا بعدَ التَّحقيقِ والفِكرِ الطَّويلِ، وكثيرًا ما كان يقولُ: لا أدري، وكان مِن أهلِ السُّنَّةِ. سَمِعتُ منه كثيرًا مِن الحديثِ وغَريبِ الحديثِ، وقرأتُ عليه كتابَه المُعرب وغيرَه من تصانيفِه، وقطعةً مِن اللُّغةِ". توفِّي سَحرةَ يوم الأحد مُنتصَفَ مُحَرَّم، وحضر للصَّلاةِ عليه الأكابِرُ، كقاضي القضاة الزينبي، وهو الذي صلَّى عليه، وصاحِبُ المخزنِ، وجماعةُ أربابِ الدولةِ، والعُلَماءُ والفُقَهاءُ، ودُفِنَ بباب حرب عند والدِه, وقد توفِّيَ وله من العمر 74 عامًا, ومن أشهَرِ كتبه "المعرَّب من كلامِ العَجَم" و"شَرحُ أدبِ الكاتِبِ" و "كِتابُ العَروض" و "التَّكملة فيما تلحَنُ فيه العامَّةُ".
وفاة وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء السُّعودي الدكتور عبدُ العزيز الخويطر رحمه الله، الذي يُصنَّف من أقدمِ الوُزراء في المملكة. وُلد الخويطر في عُنيزة عامَ (1347هـ) الموافقَ (1925م)، ودرس فيها مرحلتَي الابتدائيَّة والمتوسِّطة، ثم انتقَل إلى المعهدِ العلميِّ السعودي بمكَّة المكرَّمة؛ لإكمال دِراستِه الثانوية، ثم ذهب إلى القاهرة ولندن لمواصلةِ دِراساتِه العليا في التاريخِ والفلسفة. ويُعدُّ الخويطر أوَّلَ سعوديٍّ يحصُل على شهادةِ الدكتوراه من بريطانيا، وكان ذلك عامَ (1960م). ويَعُدُّه البعضُ عميدَ الوُزراء السعوديِّين؛ إذ عاصَرَ خمسةً من الملوك هم: سعودٌ، وفَيصلٌ، وخالدٌ، وفهدٌ، وأخيرًا الملكُ عبد الله رحمهم الله. وقد تقلَّد عددًا من الوِزارات، وهي: وِزارة الشؤون الاجتماعية، وِزارة المالية، وِزارة العمل، وِزارة التَّربية والتعليم، وزارة التَّعليم العالي، وِزارة الصحَّة، وِزارة الزِّراعة، وأخيرًا وِزارة الدَّولة لشؤون مجلسِ الوُزراء حتى وفاتِه.
خرج الإمامُ محمد بن عبد الوهاب من العُيينة بنجدٍ يدعو إلى دينِ الله القويم، وقد كانت منطقةُ نجد في هذه الفترة انتشر فيها الشِّركُ والبِدَع، فلقي الشيخُ صعوبات كثيرة إلى أن يسَّرَ الله له الأميرَ محمد بن سعود أمير الدرعية، فتم بينهما اتفاقٌ تاريخي في هذا العام عُرِف "باتفاق الدرعية" لَمَّا وصل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية دخل على شخصٍ مِن خيارها في أعلى البلد يقال له: محمد بن سويلم العريني، فنزل عليه, ويقالُ إنَّ هذا الرجل خاف من نزوله عليه وضاقت به الأرضُ بما رَحُبت، وخاف من أميرِ الدرعية محمد بن سعود، فطمأَنَه الشيخ وقال له: أبشِرْ بخير، وهذا الذي أدعو الناسَ إليه دينُ الله، وسوف يُظهِرُه الله، فبلغ محمَّدَ بن سعود خبرُ الشيخ محمد، ويقال: إن الذي أخبره به زوجتُه، جاء إليها بعضُ الصالحين وقال لها: أخبري زوجَك الأمير محمدًا بهذا الرجل، وشجِّعيه على قَبولِ دعوته، وحَرِّضيه على مؤازرته ومساعدتِه، وكانت امرأةً صالحةً طَيِّبةً، فلما دخل عليها محمد بن سعود أمير الدرعية وملحقاتها قالت له: أبشر بهذه الغنيمة العظيمة! هذه غنيمة ساقها الله إليك، رجلٌ داعية يدعو إلى دينِ الله، ويدعو إلى كتاب الله، يدعو إلى سنَّةِ رَسولِ الله عليه الصلاة والسلام، يا لها من غنيمة! بادِرْ بقَبوله وبادر بنُصرته، ولا تقف في ذلك أبدًا، فقبل الأمير مشورتَها، ثم تردد هل يذهب إليه أو يدعوه إليه؟! فأشير عليه، ويقال: إن المرأة أيضًا هي التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين، وقالوا له: لا ينبغي أن تدعوه إليك، بل ينبغي أن تقصِدَه في منزله، وأن تقصِدَه أنت وأن تعظِّمَ العلم والداعيَ إلى الخير، فأجاب إلى ذلك لما كتب الله له من السعادةِ والخيرِ- رحمةُ الله عليه، وأكرم الله مثواه- فذهب إلى الشيخ في بيت محمد بن سويلم العريني، ورحب به قائلًا: "أبشر ببلاد خيرٍ مِن بلادك، وأبشر بالعِزِّ والمنعة، فقال الشيخ محمد: وأنا أبشِّرُك بالعز والتمكين، وهذه كلمةُ لا إله إلا الله، من تمسَّك بها وعمل بها ونصرها، مَلك بها البلادَ والعباد، وهي كلمةُ التوحيد، وأوَّلُ ما دعت إليه الرسل، من أوَّلهم إلى آخرهم, ثم بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب للأمير محمد بن سعود حقيقةَ الإسلام والإيمان، وأخبره ببطلان ما عليه أهل نجد من عبادة الأوثان والأصنام والأشجار، فقال الأمير له: يا شيخ، لاشك عندي أنَّ ما دعوتَ إليه أنَّه دين الله الذي أرسل به رسُلَه وأنزل به كتُبَه، وأنَّ ما عليه اليوم أهلُ نجد من هذه العبادات الباطلة هو كما ذكرت نفسُ ما كان عليه المشركون الأولون من الكُفرِ باللهِ والإشراك، فأبشِرْ بنُصرتِك وحمايتك والقيام بدعوتِك، ولكن أريد أن أشتَرِطَ عليك شرطين: نحن إذا قمنا بنصرتك وجاهدنا معك ودان أهلُ نجد بالإسلام وقَبِلوا دعوة التوحيد، أخاف أن ترتحِلَ عنا وتستبدل بنا غيرَنا، والثاني: أن لي على أهل الدرعية قانونًا آخذُه منهم وقت حصاد الثمارِ، وأخاف أن تقول: لا تأخذ منهم شيئًا، فقال الشيخ: أما الشرط الأول فابسُطْ يدك أعاهِدْك: الدَّمُ بالدَّمِ، والهدمُ بالهدم، وأما الثاني فلعل الله أن يفتحَ عليك الفتوحاتِ فيُعَوِّضَك من الغنائِمِ والزكوات ما هو خيرٌ منه. فتمَّ التعاهد والاتفاق بينهما"، فقام الأمير محمد بن سعود بمؤازرة الشيخ ودَعْمِه وحمايته؛ ليقوم بتبليغ الدعوة، فانطلق الشيخ محمد يصحح الأوضاعَ الدينية المتردِّية، فقويت الدرعية سياسيًّا ودينيًّا, ثم انطلقت منها الجيوشُ لتوحيد الأجزاء المتفَرِّقة من نجد وما حولها ونشْرِ الدعوة فيها.
هو أحمد بن طولون أبو العبَّاسِ، تركي الأصل، ولِدَ بسامرَّاء، عام 220ه كانت أمُّه جاريةً اسمُها هاشم, أميرُ الديار المصرية، وباني الجامع المنسوب إليه، نشأ ابنُ طولون في صيانةٍ وعفافٍ ورياسةٍ وطلَبٍ للعلمِ ودِراسةٍ للقرآن العظيم، مع حُسنِ الصَّوتِ به. تنقَّلَت به الأحوال؛ تأمَّرَ فولِيَ ثُغورَ الشامِ، ثمَّ إمرةَ دمشق، ثم ولِيَ الديار المصريةَ في سنة أربع وخمسين، وله إذ ذاك أربعونَ سنة, وكانت له أطماعٌ توسُّعِيَّة على حسابِ الخلافة العباسيَّة, والخليفةُ كان مشغولًا عنه بحرب الزنج. وكان بطلًا شُجاعًا، مِقدامًا مَهِيبًا، سائِسًا جَوادًا، مُمَدَّحًا باذِلًا، مِن دُهاة الملوك. لكنَّه كان جبارًا سفَّاكًا للدماء، أُحصِيَ من قتَلَهم صبرًا، أو مات في سِجنِه، فبلغوا ثمانية عشر ألفًا. كان يعيب على أولاد التُّرك ما يرتكبونَه من المحرَّمات والمُنكَرات. بنى المارستان وأنفقَ عليه ستين ألف دينار، وعلى الميدانِ مائةً وخمسين ألفًا، وكانت له صدقات كثيرة جدًّا، وإحسانٌ زائد. ملك دمشقَ بعد أميرها ماخور، توفِّي بمصر من علةٍ أصابته من أكلِ لَبَن الجواميسِ فأُصيبَ بسَبَبِه فكواه الأطباءُ وأمروه أن يحتمِيَ منه، فلم يقبَلْ منهم، فكان يأكُلُ منه خُفيةً، فمات رحمه الله، وقد تركَ من الأموال والأثاث والدوابِّ شَيئًا كثيرًا جدًّا، من ذلك عشرةُ آلافِ ألفِ دينار، ومن الفضَّة شيئًا كثيرًا، وكان له ثلاثةٌ وثلاثون ولدًا، منهم سبعة عشر ذكرًا. قام بالأمر من بعده وَلَدُه خِمارَوَيه.
كُتِبَ ببغدادَ مَحضَرٌ يتضَمَّنُ الطَّعنَ والقَدحَ في نَسَبِ الفاطميِّينَ، وهم ملوكُ مِصرَ فليسُوا كذلك، وإنَّما نسَبُهم إلى عُبيدِ بنِ سَعدٍ الجَرميِّ، وكَتَب في ذلك جماعةٌ من العُلَماءِ والقُضاة والأشراف والعُدول، والصالحين والفُقهاء، والمحَدِّثين، وشَهِدوا جميعًا أنَّ الحاكِمَ بمِصرَ: منصورُ بنُ نِزارِ الملَقَّب بالحاكم- حَكَمَ اللهُ عليه بالبَوارِ والخِزيِ والدَّمارِ- بن مَعد بنِ إسماعيلَ بنِ عبد الله بن سعيد، لا أسعَدُه الله؛ فإنَّه لَمَّا صار إلى بلاد المغرِبِ تَسمَّى بعُبَيد الله، وتلَقَّب بالمهديِّ، وأنَّ مَن تقَدَّمَ مِن سَلَفِه أدعياءُ خوارِجُ، لا نسَبَ لهم في ولدِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، ولا يتعَلَّقونَ بسَببٍ، وأنَّه مُنَزَّهٌ عن باطلهم، وأنَّ الذي ادَّعَوه إليه باطِلٌ وزُورٌ، وأنَّهم لا يَعلَمونَ أحدًا مِن أهل بيوتاتِ عليِّ بنِ أبي طالب توقَّف عن إطلاقِ القَولِ في أنَّهم خوارِجُ كَذَبةٌ، وقد كان هذا الإنكارُ لباطِلِهم شائعًا في الحَرَمينِ، وفي أوَّلِ أمْرِهم بالمَغربِ مُنتشِرًا انتشارًا يمنع أن يُدَلَّسَ أمرُهم على أحدٍ، أو يذهَبَ وَهمٌ إلى تَصديقِهم فيما ادَّعوه، وأنَّ هذا الحاكِمَ بمِصرَ هو وسَلَفُه كُفَّارٌ فُسَّاقٌ فُجَّارٌ، مُلحِدون زنادِقة، مُعَطِّلون، وللإسلامِ جاحدون، ولِمَذهب المجوسيَّة والثنويَّة مُعتَقِدونَ، قد عطَّلوا الحُدودَ، وأباحوا الفُروجَ، وأحلُّوا الخَمرَ، وسَفَكوا الدِّماءَ، وسَبَوا الأنبياءَ، ولَعَنوا السَّلَف، وادَّعَوا الرُّبوبيَّة.
وقد كتَبَ خَطَّه في المَحضَرِ خَلقٌ كَثيرٌ؛ فمِن العَلَويِّينَ: الشَّريفُ المُرتضى وأخوه الرَّضِي، وابن البطحاويِّ العَلَوي، وابن الأزرق المُوسَوي، والزكي أبو يعلى عمرُ بن محمد، ومن القُضاة: ابنُ الأكفاني، وابن الخرزي، وأبو العبَّاسِ الأبيوردي، وأبو عبدِ اللهِ بنُ النُّعمان، فقيه الشيعة، ومِن الفُقَهاءِ: أبو حامدٍ الإسفرايينيِّ، والكشفلي، والقُدوري، والصيمري، وأبو عبد الله بن البيضاوي، وأبو الفَضلِ النَّسَوي، ومن الشُّهودِ: أبو القاسِمِ التَّنوخيُّ في كثيرٍ منهم، وكَتَبَ فيه خلقٌ كثيرٌ غيرَهم. قال أبو الفرجِ بنُ الجوزي: "وممَّا يدُلُّ على أنَّ هؤلاء أدعياءُ كَذَبةٌ، كما ذكَرَ هؤلاء السَّادة العُلَماء، والأئِمَّة الفُضَلاء، وأنَّهم لا نسَبَ لهم إلى عليِّ بن أبي طالب، ولا إلى فاطمةَ، كما يَزعُمونَ؛ قَولُ ابنِ عُمَرَ للحُسَينِ بنِ علي حين أراد الذَّهابَ إلى العراق، وذلك حين كتَبَ عَوامُّ أهلِ الكوفةِ بالبَيعةِ إليه، فقال له ابنُ عمر: لا تذهَبْ إليهم؛ فإني أخافُ عليك أن تُقتَلَ، وإنَّ جَدَّك قد خُيِّرَ بين الدنيا والآخرةِ فاختار الآخِرةَ على الدنيا، وأنت بَضعةٌ منه، وإنَّه- والله- لا تنالها لا أنت ولا أحَدٌ مِن خَلَفِك ولا مِن أهلِ بَيتِك، فهذا الكلامُ الحسَنُ الصَّحيحُ المتوَجِّه المعقول، من هذا الصَّحابيِّ الجليلِ، يقتضي أنَّه لا يلي الخلافةَ أحَدٌ مِن أهلِ البَيتِ إلَّا مُحمَّدُ بنُ عبد اللهِ المهديُّ الذي يكونُ في آخِرِ الزَّمانِ عندَ نُزولِ عيسى بنِ مريم؛ رغبةً بهم عن الدُّنيا، وألَّا يُدَنَّسوا بها. ومعلومٌ أنَّ هؤلاء قد مَلَكوا ديارَ مِصرَ مُدَّةً طَويلةً، فدَلَّ ذلك دَلالةً قَويَّةً ظاهِرةً على أنَّهم ليسوا مِن أهلِ البَيتِ، كما نَصَّ عليه سادةُ الفُقَهاءِ". قال ابن كثير: "وقد صَنَّف القاضي الباقلَّاني كتابًا في الردِّ على هؤلاء، وسَمَّاه: (كَشْف الأسرارِ وهَتْك الأستار) بيَّنَ فيه فضائِحَهم وقبائِحَهم، ووضَّحَ أمْرَهم لكُلِّ أحدٍ، ووضوحُ أمْرِهم يُنبئُ عن مطاوي أفعالِهم وأقوالِهم، وقد كان الباقلَّاني يقولُ في عبارته عنهم: هم قومٌ يُظهِرونَ الرَّفضَ، ويُبطِنونَ الكُفرَ المَحض". قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: "وهؤلاء القومُ- يعني العُبَيديِّينَ- يَشهَدُ عليهم عُلَماءُ الأمَّةِ وأئمَّتُها وجماهيرُها أنَّهم كانوا مُنافِقينَ زَنادقةً، يُظهِرونَ الإسلامَ ويُبطِنونَ الكُفرَ, وقد عُلِمَ أنَّ جُمهورَ الأمَّة تَطعَنُ في نَسَبِهم، وَيذكُرونَ أنَّهم من أولادِ المجوسِ أو اليهودِ، هذا مشهورٌ مِن شهادةِ عُلَماءِ الطَّوائِفِ: من الحنفيَّة والمالكيَّة والشَّافعية والحنابلة وأهلِ الحديثِ، وأهلِ الكلامِ، وعُلَماءِ النَّسَبِ، والعامَّة وغيرهم, وهذا أمرٌ قد ذكَرَه عامَّةُ المُصَنِّفينَ لأخبارِ النَّاسِ وأيَّامِهم، حتى بعض مَن قد يتوقَّفُ في أمْرِهم، كابنِ الأثيرِ المَوصليِّ في تاريخِه، ونحوه؛ فإنَّه ذكَرَ ما كتَبَه عُلَماءُ المُسلِمينَ بخُطوطِهم في القَدحِ في نَسَبِهم"
لمَّا قتل عَلِيُّ بن أبي طالِب رضي الله عنه بايَع أهلُ الكوفَة الحسنَ بن عَلِيٍّ، وأطاعوه وأحبُّوه, فاشْتَرط عليهم: إنَّكم سامِعون مُطيعون، مُسالِمون مَن سالَمْتُ، مُحارِبون مَن حارَبْتُ. فارتاب به أهلُ العِراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب. فما كان عن قَريب حتَّى طعنوه، فازداد لهم بُغْضًا، وازداد منهم ذُعْرًا، فعند ذلك عرَف تَفرُّقَهُم واخْتِلافَهُم عليه, وكان أهلُ العِراق أشاروا على الحسن أن يَسير إلى الشَّام لمُلاقاة مُعاوِيَة فخرج بهم، ولمَّا بلغ مُعاوِيَةَ ذلك خرَج هو أيضًا بجَيشِه وتَقارَب الجَيشان في مَسْكِن بناحِيَة الأنبارِ، لمَّا رأى الحسنُ الجيشان في مَسْكِن بناحِيَة الأنبار هالَهُ أن تكونَ مَقتلةٌ كبيرةٌ تَسيلُ فيها دِماءُ المسلمين فرَغِب في الصُّلْح، استقبل الحسنُ بن عَلِيٍّ مُعاوِيَةَ بن أبى سُفيان بكَتائِبَ أمثالِ الجِبال، قال عَمرُو بن العاص لمَّا رأى ضَخامةَ الجَيشين: إنِّي لأرى كَتائِبَ لا تُوَلِّي حتَّى تَقْتُلَ أقرانَها. فقال مُعاوِيَةُ: أي عَمرُو، إن قتَل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، مَن لي بأُمور النَّاس؟ مَن لي بضَيْعَتِهم؟ مَن لي بِنِسائِهم؟ عرَض الحسنُ بن عَلِيٍّ على عبدِ الله بن جَعفَر أَمْرَ الصُّلْح، قال له: إنِّي قد رأيتُ رَأْيًا، وإنِّي أُحِبُّ أن تُتابِعَني عليه. قال: قلتُ: ما هو؟ قال: قد رأيتُ أن أَعْمِدَ إلى المدينة فأنزِلُها، وأُخَلِّيَ بين مُعاوِيَة وبين هذا الحديثِ، فقد طالت الفِتنَةُ، وسُفِكَتْ فيها الدِّماءُ، وقُطِّعَتْ فيها الأرحامُ، وقُطِّعَت السُّبُلُ، وعُطِّلَت الثُّغورُ. فقال ابنُ جَعفَر: جزاك الله عن أُمَّةِ محمَّد خيرًا، فأنا معك، وعلى هذا الحديثِ. فقال الحسنُ: ادْعُ لي الحُسينَ. فبعَث إلى حُسين فأتاهُ، فقال: أي أخي، إنِّي قد رأيتُ رَأْيًا، وإنِّي أُحِبُّ أن تُتابِعَني عليه. قال: ما هو؟ فقَصَّ عليه الذي قال لابنِ جَعفَر، قال الحُسينُ: أُعيذُك بالله أن تُكَذِّبَ عَلِيًّا في قَبرِه، وتُصَدِّقَ مُعاوِيَةَ!. فقال الحسنُ: والله ما أردتُ أَمْرًا قَطُّ إلَّا خالَفتَني إلى غَيرِه، والله لقد هَمَمْتُ أن أَقْذِفَكَ في بيتٍ فأُطَيِّنَهُ عليك حتَّى أقضِيَ أمري. فلمَّا رأى الحُسينُ غَضبَه قال: أَمْرُنا لأَمْرِك تَبَعٌ، فافْعَل ما بَدا لك. فقام الحسنُ فقال: يا أيُّها النَّاسُ، إنِّي كنتُ أَكْرَهَ النَّاسَ لأوَّلِ هذا الحديثِ، وأنا أَصْلحتُ آخرَه، لِذي حَقٍّ أَدَّيْتُ إليه حَقَّهُ أَحَقَّ به مِنِّي، أو حَقٌّ جُدْتُ به لصَلاحِ أُمَّةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنَّ الله قد وَلَّاك يا مُعاوِيَة هذا الحديثَ لِخيرٍ يَعلمُه عندك، أو لِشَرٍّ يَعلمُه فيك، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111]. وبهذا التَّنازُل تَحَقَّقَ في الحسنِ ما أَخبَر به النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقولِه: (إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، ولَعلَّ الله أن يُصْلِحَ به بين فِئتَين عَظيمَتين مِن المسلمين). ولمَّا تَمَّ الصُّلْحُ بشُروطِه برَز الحسنُ بين الصَّفَّيْنِ وقال: ما أَحببتُ أنَّ لي أَمْرَ أُمَّةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم على أن يُهْراقَ في ذلك مِحْجَمَةُ دَمٍ. وكان يقول: إنِّي قد اخْتَرتُ ما عند الله، وتَركتُ هذا الأمرَ لمُعاوِيَة. وأمَّا طلبُ الحسنِ لأن تكونَ الخِلافَة له مِن بعدِه فليست صحيحة، قال جُبيرُ بن نُفيرٍ: قلتُ للحسنِ بن عَلِيٍّ: إنَّ النَّاس يَزعُمون أنَّك تُريدُ الخِلافَة. فقال: كانت جَماجِم العرب بِيَدِي يُسالِمون مَن سالمتُ، ويُحارِبون مَن حاربتُ، فتَركتُها ابتغاءَ وجهِ الله، ثمَّ أَبْتَزُّها بِأَتْياسِ أهلِ الحِجازِ!. وجاء في نَصِّ الصُّلْح في إحدى الرِّوايات: بل يكونُ الأمرُ مِن بعدِه شُورى بين المسلمين.
هو المَلِكُ شِهابُ الدِّينِ، أبو القاسِمِ محمودُ بنُ تاج الملوك بوري بن الأتابك طغتكين صاحِب دمشقَ. تمَلَّك بعد مَقتَلِ أخيه شمسِ الملوك، بإعانةِ أمِّه زمرد، وكان مُقَدَّمَ عَسكَرِه مُعينُ الدين أنر. قال ابنُ عساكر: "كانت الأمورُ تجري في أيَّامه على استقامةٍ، إلى أن وثَبَ عليه جماعةٌ مِن خَدَمِه، فقتلوه في شوَّال، هذه السنة"، قُتِلَ على فِراشِه غِيلةً، قتله ثلاثةٌ مِن غِلمانِه هم خواصُّه وأقربُ النَّاسِ منه في خَلوتِه، وكانوا ينامونَ عنده ليلًا، فقَتَلوه وخرجوا من القلعة وهربوا، فنجا أحدُهم، وأُخِذَ الآخَرانِ فصُلِبا، وكَتَب مَن بدمشقَ إلى أخيه جمالِ الدينِ مُحمَّدِ بنِ بوري صاحب بعلبك، بصورة الحالِ واستدعَوه ليملِكَ بدَلَ أخيه، فحضر في أسرَعِ وَقتٍ، فلمَّا دخل البلد جلسَ للعزاء بأخيه، وحلَفَ له الجندُ وأعيانُ الرعيَّة، وسكن النَّاسُ، وفَوَّضَ أمرَ دَولتِه إلى مُعين الدين أنر، مملوكِ جَدِّه، وزاد في علوِّ مَرتبةِ مُعين الدين، وصار الجُملة والتفصيل، وقد كان خَيِّرًا عاقِلًا حَسَن السِّيرةِ، فجَرَت الأمورُ عنده على أحسَنِ نِظامٍ.
اعترفَت إدارةُ الرئيسِ دونالد ترامب رسميًّا بالقدسِ عاصمةً لإسرائيلَ، وأضافَ ترامب أنَّ وزارةَ الخارجيةِ الأمريكيةَ ستبدأ عمليةَ بناءِ سفارةٍ أمريكيةٍ جديدةٍ في القدسِ.
رفَضَ البيانُ الخِتاميُّ للقمَّةِ العربيَّةِ التاسعُ والعِشرون قرارَ الإدارةِ الأمريكيةِ بالاعترافِ بالقدسِ عاصمةً للاحتلالِ الإسرائيليِّ ونَقْلِ السفارةِ إليها، عادًّا ذلك خَرقًا وتدميرًا لعمليةِ السلامِ وللاتفاقياتِ جَميعِها؛ سواءٌ مع الفِلَسطينيين أو المعاهداتِ الدَّوْليَّةِ والقراراتِ الأُمَميَّةِ.
وأكَّد البيانُ أنَّ الولاياتِ المتحدةَ لم تَعُد راعيًا حقيقيًّا للسلامِ، وغدَتْ طرَفًا يدعَمُ العدوانَ على الحقِّ والسلامِ، وهو ما يتناقَضُ مع موقفِ الإدارةِ المُعلَنِ كراعٍ حِياديِّ لعمليةِ السلامِ في الشرقِ الأوسطِ؛ ممَّا أفقدها المِصداقيَّةَ والحياديَّةَ والشفافيةَ، والسعيَ الحقيقيَّ الدؤوبَ لإحلالِ السلامِ في الشرقِ الأوسطِ، وإنصافِ الشعبِ الفلسطينيِّ في إقامةِ دولتِه ونَيلِه الحريةَ والاستقلالَ التامَّ، مشدِّدًا على ضرورةِ إيجادِ إطارٍ دَوليٍّ جديدٍ لرعايةِ السلامِ في الشرقِ الأوسطِ.
هو حُسين بن طلال بن عبد الله بن الحسين، ثالثُ ملوك الأُردُنِّ، ينتهي نسبُه لآل البيت من الفرع الحَسَني، وُلد بعَمَّان سنةَ 1935م، وتلقَّى علومَه الأُولى بها، ثم انتقل للدراسة بكلية فكتوريا بالإسكندرية، ثم انتقلَ لإنجلترا، والتحق بكلية سانت هيرست العسكرية سنةَ 1950، وكان بصُحبة جَدِّه الملك عبد الله لحظةَ اغتياله سنةَ 1951م، وأُصيب في الحادث إصابةً طفيفةً، وبعد تنصيب أبيه طلال على عرش الأُردُنِّ بأيامٍ قليلةٍ قرَّرَ مجلس الأعيان عزلَه لعدم الصلاحية، وتمَّ انتخاب حُسين بن طلال ملكًا على الأُردُنِّ، وذلك تحت مجلس وصاية حتى يبلُغَ السنَّ القانونية «18سنة»، وأخذ الملك حُسين في تكريس نفوذه داخلَ الأُردُنِّ، فعزلَ الجنرال «جلوب» الإنجليزي عن قيادة الجيش الأُردُنِّيِّ سنةَ 1955م، ثم أنهى الانتدابَ البريطانيَّ سنةَ 1957م، ولكنْ ظلَّ على علاقةٍ وثيقةٍ ومتينةٍ جدًّا مع الإنجليز، ثم حاول إنشاءَ اتحاد عربي هاشمي مع ابن عمِّه ملكِ العراق فَيْصل الثاني، ولكنَّ هذا الاتحاد فشِلَ بسبب قيام الجمهورية في العراق، وبعد هزيمة 67 اقترحَ الملك حُسين أولَ مشروع للسلام معَ إسرائيلَ، ولكنَّه قوبِلَ بالرفض من اليهودِ والفِلَسْطينيين على حدِّ السواء، شارك الملك حُسين في كل مؤتمرات السلامِ التي عقَدَها العربُ معَ اليهودِ، وقد وقَّعَ معَ اليهود اتفاقَ وادي عربة سنةَ 1994م، وبموجِبِه أقامت الأُردُنُّ علاقاتٍ كاملةً مع إسرائيلَ، وكان الملك حُسين على عَلاقة متينة معَ الغربِ، وقد أُصيب بالسرطان سنةَ 1992م، وظلَّ يُعالَجُ لمُدَّة طويلةٍ، وقبلَ وَفاته بأيام عاد للأُردُنِّ من الخارج، وعزَلَ أخاه الأميرَ الحسنَ عن ولايةِ العهدِ، وعيَّنَ وَلَدَه عبدَ الله بدلًا منه، ثم مات في 21 شوال 1419هـ ـ 7 فبراير 1999م. وإثْرَ وَفاة الملك حُسين بن طلال، نُصِّبَ الأميرُ عبدُ لله بن حُسين ملكًا دستوريًّا، وعُيِّنَ الأميرُ حمزةُ بن حُسين وليًّا للعهد.
هو الأمير أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم بن عثمان بن يسار، بن شذوس بن جودرن من ولد بزرجمهر بن البختكان الخراساني الفارسي صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية. وقيل كان اسمه إبراهيم بن عثمان بن يسار غيره بطلب من الإمام إبراهيم بن محمد لمزيد من التخفي. قال الذهبي: "كان أبو مسلم من أكبر الملوك في الإسلام، كان ذا شأن عجيب، ونبأ غريب، من رجل يذهب على حمار بإكاف من الشام حتى يدخل خراسان، ثم يملك خراسان بعد تسعة أعوام، ويعود بكتائب أمثال الجبال، ويقلب دولة، ويقيم دولة أخرى! كان قصيرا، أسمرا، جميلا، حلوا، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية، طويل الشعر، طويل الظهر، خافض الصوت، فصيحا بالعربية وبالفارسية، حلو المنطق، وكان لا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة، فلا يرى مكتئبا, وكان إذا غضب، لم يستفزه الغضب, وكان لا يأتي النساء في العام إلا مرة واحدة، يشير إلى شرف نفسه وتشاغلها بأعباء الملك". كان مولده بأصبهان سنة 100, وضعته أمه يتيما فنشأ عند عيسى بن معقل، فلما ترعرع اختلف مع ولده إلى المكتب، فخرج أديباً لبيباً يشار إليه من صغره, وكان راوية للشعر، عارفا بالأمور، لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا في وقته. كان بدء أمر أبي مسلم أنه قدم الكوفة جماعة من نقباء العباسيين، فصادفوا أبا مسلم، فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه وأدبه، ومال هو إليهم ثم عرف أمرهم وأنهم دعاة، ثم خرج معهم إلى مكة، فأهدوه للإمام إبراهيم بن محمد، فأُعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه، وقال لهم: هذا عضلة من العضل. وأقام أبو مسلم عند الإمام إبراهيم يخدمه حضراً وسفراً. ثم إن النقباء عادوا إلى الإمام إبراهيم وسألوه رجلاً يقوم بأمر خراسان، فقال: إني قد جربت هذا الأصبهاني وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حجر الأرض، ثم دعا أبا مسلم وكان عمره ثمان عشر سنة وقلده الأمر وأرسله إلى خراسان, فأخذ يدعو الناس إلى رجل من بني هاشم وأقام على ذلك سنين, وبعد مقتل الإمام إبراهيم بن علي صار أبو مسلم يدعو الناس إلى أبي العباس عبد الله بن محمد الملقب السفاح. حتى مكن للعباسيين وقضى على الأمويين في الشرق وكان سفاكا للدماء قال ابن خلكان: "قتل أبو مسلم في دولته ستمائة ألف صبراً. قيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم خير أو الحجاج قال: لا أقول إن أبا مسلم خيراً من أحد، ولكن الحجاج كان شراً منه", وقال الذهبي: "كان أبو مسلم سفاكا للدماء، يزيد على الحجاج في ذلك، وهو أول من سن للعباسيين لبس السواد, وكان بلاء عظيما على عرب خراسان، فإنه أبادهم بحد السيف". قال أحمد بن سيار: حدثنا الحسن بن رشيد العنبري، سمعت يزيد النحوي يقول: "أتاني إبراهيم بن إسماعيل الصائغ، فقال لي: ما ترى ما يعمل هذا الطاغية، إن الناس معه في سعة، غيرنا أهل العلم؟ قلت: لو علمت أنه يصنع بي إحدى الخصلتين لفعلت، إن أمرت ونهيت يقيل أو يقتل، ولكني أخاف أن يبسط علينا العذاب، وأنا شيخ كبير، لا صبر لي على السياط. فقال الصائغ: لكني لا أنتهي عنه. فذهب، فدخل عليه، فأمره ونهاه، فقتله" وكان أبو مسلم يجتمع قبل أن يعلن بدعوة العباسيين بإبراهيم الصائغ، ويعده بإقامة الحق, فلما ظهر وبسط يده، دخل عليه، فوعظه فقتله". لما خشي المنصور من خطر أبي مسلم على دولته قرر التخلص منه, وكان المنصورُ قد غضِبَ عليه لعدَّةِ أمورٍ؛ منها: أنَّه تقدَّمَ عليه في الحجِّ، وأكثَرَ مِن النفقةِ حتى قيل فيه ما قيل، ثم إنَّه خافه بعد أن صار أمرُه في خراسان قويًّا، فبعد أن هزمَ أبو مسلم جيش عبد الله بن علي، أمَرَه المنصور بالعودةِ إليه فأبى، فاحتال له أنَّه يوليه الشامَ ومصرَ فأبى عليه كلَّ ذلك، وأرسل له رسلًا وكُتُبًا، كلُّ ذلك وهو يأبى الرجوعَ؛ حيثُ شعر أنَّ هناك مكيدةً، ومن ذلك أن المنصور كاتب أبا مسلم ليقدم عليه، فكتب إليه أبو مسلم: "إنه لم يبق لك عدو إلا أمكنك الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان: إن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، فإن أرضاك ذلك، فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت نقضت ما أبرمت من عهدك، ضنا بنفسي، والسلام" فرد عليه الجواب يطمئنه ويمنيه، وكان المنصور داهية وقته، ثمَّ لَمَّا جاءه الخبَرُ أن المنصورَ سيقاتِلُه بنفسه إن أبى الرجوعَ إليه، عاد، وقيل: إنَّه قيل له أن يقتُلَ المنصور قبل أن يقتُلَه، لكنَّ المنصور احتال عليه وأمرَ بعضَهم بالاختباءِ وراء الستورِ، فإذا صفق بيده انقضُّوا عليه، فدعاه المنصور على غدائِه وعاتبه على أفعالِه، وكل ذلك يعتذِرُ أبو مسلم ويقَبِّلُ يدَه، ولكنه لم يرضَ عنه حتى صفق بيدِه، فخرجوا وقتلوه، فكانت تلك نهايةَ أبي مسلم الخراساني، الذي كان له الأثَرُ الكبيرُ في توطيدِ دعائمِ الدَّعوة العباسيَّة. قتله المنصور وله من العمر سبع وثلاثون سنة. قال الذهبي: " فرحنا بمصير الأمر إلى بني العباس، ولكن والله ساءنا ما جرى؛ لما جرى من سيول الدماء، والسبي، والنهب فإنا لله وإنا إليه راجعون فالدولة الظالمة مع الأمن وحقن الدماء، ولا دولة عادلة تنتهك دونها المحارم، وأنى لها العدل؟ بل أتت دولة أعجمية خراسانية جبارة، ما أشبه الليلة بالبارحة " وقال: "وقد كان بعض الزنادقة، والطغام من التناسخية، اعتقدوا أن الباري سبحانه وتعالى حل في أبي مسلم الخراساني المقتول، عندما رأوا من تجبره، واستيلائه على الممالك، وسفكه للدماء، فأخبار هذا الطاغية يطول شرحها". لما قُتل أبو مسلم الخرساني، خرج بخراسان سنباذ للطلب بثأر أبي مسلم، وكان سنباذ مجوسيا، فغلب على نيسابور والري، وظفر بخزائن أبي مسلم، واستفحل أمره, فجهز المنصور لحربه جمهور بن مرار العجلي، في عشرة آلاف فارس، فانهزم سنباذ، وقتل من عسكره نحو من ستين ألفا، وعامتهم كانوا من أهل الجبال، فسبيت ذراريهم، ثم قتل سنباذ بأرض طبرستان.
بعد مؤامرة خلع أبي عبد الله محمد الملقب بالأيسر حاكم غرناطة -في فترة حكمه الثانية- والتي قام بها خصومه، وتولِّي أبي الحجاج يوسف بن المول الحكم، والذي كان مائلًا إلى ملك قشتالة ليساعده على انتزاع حكم غرناطة في مقابل تعهُّده بأن يحكم غرناطة باسم ملك قشتالة وتحت طاعته، تم بعد ذلك توقيعُ معاهدة بين يوسف بن المول وخوان الثاني ملك قشتالة؛ لتحقيق هذا الهدف في 7 محرم سنة 835 (16 سبتمبر 1431م) متضمنة بنودًا مهينة للطرف المسلم، نصت على إقرار من يوسف بأنه من أتباع ملك قشتالة وخُدَّامه، وتعهَّد منه بدفع جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار ذهبي، وإطلاق سراح الأسرى النصارى، وأن يقدِّمَ يوسف ألفًا وخمسمائة فارس إلى ملك قشتالة لمحاربة أعدائه، سواء أكانوا من النصارى أو المسلمين. وفي مقابل هذه التنازلات يتعهد الطرف القشتالي بأن يكون الصلحُ مستمرًّا طوال حكم يوسف ومَن يخلُفُه من أبنائه، وأن يُعينَه على محاربة أعدائه من المسلمين والنصارى، وطبقًا لهذه المعاهدة وتنفيذًا لبنودها تحركت القوات القشتالية لمعاونة يوسف في حربة مع السلطان الأيسر، ونشبت بينهما معركة شديدة، انتهت بهزيمة الأيسر، ودخول يوسف غرناطة بمؤازرة النصارى القشتاليين، وجلس على عرش السلطنة في جمادى الأولى من هذه السنة، وكان أول ما فعله يوسف أن جدَّد المعاهدة مع ملك قشتالة باعتباره سلطان غرناطة، وبهذه المعاهدة قَطَعت قشتالة خطوة كبيرة في سبيل تحقيق أمنيتها، وإزالة الوجود الإسلامي من إسبانيا، وهذا ما حدث بعد سنوات قليلة!!