هو السلطان أبو عبد الله الصغير محمد الثاني عشر بن الحسن بن سعد بن علي بن يوسف بن محمد: آخر حكام بني نصر ابن الأحمر، المنحدرة من قبيلة الخزرج القحطانية في غرناطة، وكان قد تولى الرياسةَ بعد منازعاته مع عمه أبي عبد الله الزغل محمد بن سعد، وكانت دولة بني الأحمر في هذه المدة متماسكةً، والفتنة بين أفرادها متشابكة، والعدو فيما بين ذلك يخادعُهم عمَّا بأيديهم، جاهد أبو عبد الله الصغير النصارى كثيرًا ووصل الأمر إلى أنهم عرضوا عليه التنازل عن غرناطة مقابل أموال جزيلة أسوةً بعمِّه أبي عبد الله الزغل محمد بن سعد صاحب وادي آش، فرفض أبو عبد الله الصغير وواصل جهاده إلى أن شدُّوا عليه الحصار فتنازل كسابقِه، وبعد فترة سافر إلى فاس فاستوطنها تحت كنف السلطان محمد الشيخ الوطاسي؛ حيث عاش فيها حياة لم يعرف أحد عنها شيئًا حتى مات عن عمر يناهز الخمسة والسبعين عامًا متهمًا بالعار والخيانة والتفريط في بلاد المسلمين في الأندلس, وقد دُفن بإزاء المصلَّى خارج باب الشريعة، وخلَّف ذريةً مِن بعده.
في المحَرَّم حاصَرَ صلاح الدين الحِصنَ، لكنه رآه منيعًا فكان رحيلُه عنها في ربيع الأول إلى دمشق، فأقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشقَ إلى قلعة صفد فحصَرَها وقاتلها، ونصب عليها المجانيقَ، وأدام الرميَ إليها ليلًا ونهارًا بالحِجارةِ والسهام، وكان أهلُها قد قاربت ذخائرُهم وأزوادُهم أن تفنى في المدَّةِ التي كانوا فيها محاصَرينَ، فإنَّ عَسكَرَ صلاح الدين كان يحاصِرُهم مِن أول السنة، فلما رأى أهلُه جِدَّ صلاح الدين في قتالهم، أرسلوا يطلُبونَ الأمان، فأمَّنَهم وتسَلَّمَها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنينَ شَرَّهم، ثمَّ لما كان صلاح الدين يحاصِرُ صفد، اجتمع مَن بصور من الفرنج، وقالوا: إنْ فَتحَ المسلمون قلعةَ صفد لم تبقَ كوكب، ولو أنَّها مُعلَّقة بالكوكب، وحينئذ ينقَطِعُ طَمَعُنا من هذا الطرف من البلاد، فاتفق رأيُهم على إنفاذِ نجدة لها سرًّا من رجال وسلاحٍ وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجلٍ مِن شجعان الفرنج وأجلادِهم، فساروا الليلَ مُستَخفين، وأقاموا النَّهارَ مُكمِنين، فاتَّفق مِن قَدَرِ الله تعالى أنَّ رجلًا من المسلمين الذين يحاصِرونَ كوكب خرج متصَيِّدًا، فلَقِيَ رجلًا من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرضِ، فضَرَبه ليُعلِمَه بحاله، وما الذي أقدَمَه إلى هناك، فأقَرَّ بالحال، ودلَّه على أصحابِه، فعاد الجنديُّ المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مُقَدَّم ذلك العسكر، فأعلمه الخبَرَ، والفرنجيُّ معه، فركب في طائفةٍ مِن العسكر إلى الموضعِ الذي قد اختفى فيه الفرنجُ، فكَبَسَهم فأخَذَهم وتتبعهم في الشِّعابِ والكهوف، فلم يُفلِتْ منهم أحدٌ، ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى مَن بها من الفرنج يبذُلُ لهم الأمانَ إن سَلَّموا، ويتهَدَّدُهم بالقتل والسبي والنهب إن امتَنَعوا، فلم يسمعوا قولَه، وأصروا على الامتناع، فجَدَّ في قتالهم، ونَصَب عليهم المجانيقَ، وتابَعَ رميَ الأحجارِ إليهم، وزحف مرَّةً بعد مرة، وكانت الأمطارُ كثيرة لا تنقطع ليلًا ولا نهارًا، فلم يتمكَّن المسلمونَ مِن القتال على الوجهِ الذي يريدوه، وطال مقامُهم عليها، وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعاتٍ مُتناوبةً في يوم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة- الباشورة حائِطٌ ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- ومعهم النقَّابون والرُّماة يحمونَهم بالنشاب، فلم يقدِرْ أحد منهم أن يُخرِجَ رأسَه من أعلى السور، فنقَّبوا الباشورة فسقطت، وتقَدَّموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنجُ ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمانَ فأمَّنَهم، وتسلم الحِصنَ منهم منتصَفَ ذي القعدة، وسَيَّرَهم إلى صور, واجتمع للمُسلمين بفَتحِ كوكب وصفد من حدِّ أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصِلُ بينه غيرُ مدينة صور، وجميعُ أعمال أنطاكية سوى القصير. قال ابن الأثير: " واجتمع بصور من شياطين الفرنج وشجعانهم كلُّ صنديد، فاشتَدَّت شوكتُهم، وحَمِيَت جمرتهم، وتابعوا الرسُلَ إلى مَن بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستَغيثونَ ويَستَنجِدونَ، والأمدادُ كُلَّ قليل تأتيهم، وكان ذلك كُلُّه بتفريطِ صلاحِ الدين في إطلاقِ كُلِّ مَن حصره، حتى عَضَّ بَنانَه نَدَمًا وأسفًا حيث لم ينفَعْه ذلك".
هو الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، ولِدَ 1132هـ/1720م ونشأ في الدرعيَّة، ونهل من علومِها الشرعية، ودرس على عُلَماء عصره، وأبرزهم الشيخُ محمد بن عبد الوهاب في العُيَينة، وبعد قدومه الدرعية عام 1157هـ شارك في كثير من المعارك والحروبِ في حياة أبيه, وبعد وفاةِ والده تولَّى الحكمَ سنة 1179هـ, وأكمل بناءَ الدولة ونشر الدعوةَ الإصلاحية التي بدأ بها والده الإمام محمد بمؤازرة الإمامِ محمد بن عبد الوهابِ وتوجيهِه، يقول ابن بشر: "وما يجيءُ إلى الدرعية من دقيقِ الأشياء وجليلِها تُدفَعُ إليه- أي إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بيده ويضعُها حيث يشاء. ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيرُه من ذلك شيئًا إلا عن أمرِه، بيَدِه الحَلُّ والعقدُ، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيشٌ ولا يصدُرُ رأيٌ مِن محمد وابنِه عبد العزيز إلَّا عن قوله ورأيه. فلما فتح اللهُ الرياض واتسَعَت ناحية الإسلام وأمِنَت السبُلُ وانقاد كل صعبٍ من بادٍ وحاضر، جعل الشيخ الأمرَ بيد عبد العزيز وفوَّض أمور المسلمين وبيتَ المال إليه. وانسلخ منها ولَزِم العبادةَ وتعليم العِلمِ، ولكن ما يقطَعُ عبد العزيز أمرًا دونه ولا ينفِّذُه إلا بإذنه" وفي عهدِه امتَدَّ نفوذ الدولة إلى الرياض وجميع بلدان الخرج، ووادي الدواسر في الجنوب، وفي الشمال امتد إلى القصيم ودومة الجندل بالجوف، ووادي سرحان وتيماء وخيبر والعراق, وفي الشرق تمكَّن الإمام عبد العزيز من السيطرةِ على الأحساءِ وإنهاء حكم بني خالد فيها, والبريمي التي كانت خاضعة لحكم قطر لسنوات طويلة، وامتد نفوذُ الدولة وانتشرت الدعوةُ إلى البحرين وعمان عن طريق ولاءِ قبائل المنطقة ودفْعِها الزكاةَ لدولة الدرعية, وفي الغربِ امتَدَّ نفوذ الدولة إلى شرقي الحجاز, في الجنوب الغربي وصل نفوذ الدولة إلى بيشة والليث وجازان, وقد تحقَّق فيها الأمن والإيمان حتى أَمِنت البلدان والسبل. يقول ابن بشر: "كانت الأقطارُ والرعية في زمنه مطمئنةً في عيشةٍ هنيئة، وهو حقيق بأن يلقَّب مهديَّ زمانه؛ لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أيَّ وقت شاء شتاء أو صيفًا، يمنًا أو شامًا، شرقًا وغربًا، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك، لا يخشى أحدًا إلا الله فلا يخشى سارقًا ولا مكابرًا. وكانت جميعُ بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يسَيِّبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك، ليس لها راعٍ ولا مراعٍ، بل إذا عَطِشت وردت على البلدانِ ثمَّ تصدُرُ إلى مفالها حتى ينقضيَ الربيع أو يحتاجون لها أهلها". وكانت دولتُهم تُعرَف بدولةِ آل مقرن في الدرعية إلى نهايةِ عهد الإمام عبد العزيز، وفي عهد ابنه سعود الكبير، نُسِبَت الدولة إلى اسم العائلة فعُرِفَت بالدولة السعودية. اغتال الإمامَ عبد العزيز شيعةُ العراق انتقامًا لِما أصابهم في غزوةِ كربلاء قبل عامين, يقول ابن بشر: "قُتِل الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود في مسجدِ الطريف المعروف في الدرعية وهو ساجِدٌ في أثناء صلاة العصر؛ مضى عليه رجلٌ قيل إنَّه كردي من أهل العمادية بلد الأكراد المعروفةِ عند الموصل اسمُه عثمان، أقبل من موطنه لهذا القصدِ مُحتَسِبًا حتى وصل الدرعية في صورة درويش وادَّعى أنه مهاجر, وأظهر النسُكَ بالطاعة، وتعلمَ شيئًا من القرآن فأكرمه عبد العزيز وأعطاه وكساه... وكان قصدُه غيرَ ذلك، فوثب عليه في الصف الثالث والناسُ في السجودِ فطعنه في أبهرِه، رحمه الله، أو في خاصرته أسفلَ البطن بخنجرٍ كان قد أخفاه وأعده لذلك، وقد تأهب للموت فاضطرب المسجِدُ وماج بعضُه في بعض ولم يكن يدرون ما الأمر... وكان لَمَّا طُعن عبد العزيز أهوى إلى أخيه عبد الله وهو في جانبِه وبَرَك عليه ليطعنَه، فنهض عليه وتصارعا وجرح عبد الله جرحًا شديدًا، ثم إنَّ عبد الله صرعه وضربه بالسَّيفِ، وتكاثر عليه الناس فقتلوه، وقد تبين لهم وجه الأمرِ، ثمَّ حُمل الإمام إلى قصرِه وقد غاب ذهنُه وقرُبَ نزعُه لأنَّ الطعنة قد هوت إلى جوفِه، فلم يلبث أن توفِّيَ بعدما صعدوا به القصر رحمه الله تعالى وعفا عنه، واشتد الأمرُ بالمسلمين وبُهِتوا" وذلك في أواخر شهر رجب لهذا العام, كان الأميرُ سعود حين قُتِل والده في نخل له في الدرعية، فلما بلغه الخبر أقبل مسرعًا، واجتمع الناس عنده فقام فيهم ووعظهم موعظةً بليغة وعزَّاهم, فقام الناسُ فبايعوه خاصتُهم وعامتهم، وعزَّوه في أبيه، ثم كتب إلى أهل النواحي نصيحةً يَعِظُهم ويخبرهم بالأمر ويعزِّيهم ويأمرُهم بالمبايعة، وكل أهل بلد وناحية يبايعون أميرَهم لسعود، فبايعه أهلُ النواحي والبلدان ورؤساء قبائل العربان، ولم يختلف منهم اثنان.
سببُ ذلك أنَّ محمَد بن هُرمُز، المعروفُ بالمولى الصندليِّ، كان خارجيَّ المذهب، وكان قد أقام ببُخارى وهو من أهلِ سِجِستان جنوب غرب أفغانستان، وكان شيخًا كبيرًا، فجاء يومًا إلى الحُسين بن عليِّ بنِ محمَّد العارض يَطلُبُ رِزقَه، فقال له: إنَّ الأصلحَ لِمِثلِك من الشيوخِ أن يلزمَ رباطًا يَعبُدُ الله فيه، حتّى يوافيَه أجلُه، فغاظه ذلك، فانصرف إلى سِجِستان والوالي عليها منصورُ بنُ إسحاق، فاستمال جماعةً من الخوارج، ودعا إلى الصَّفَّار، وبايع في السرِّ لِعَمرو بن يعقوب بن محمَّد بن عمرو بن الليث، وكان رئيسُهم محمَّد بن العبّاس، المعروف بابن الحَفَّار، وكان شديدَ القوَّة، فخرجوا، وقبضوا على منصورِ بن إسحاقَ أميرِهم وحبَسَوه في سجن أرك، وخطبوا لعمرو بن يعقوب، وسلَّموا إليه سجستان، فلمَّا بلغ الخبر إلى الأمير أحمد بن إسماعيل سيَّرَ الجيوشَ مع الحسين بن عليٍّ، مرّةً ثانية إلى زرنج، فحصرها تسعةَ أشهر، فصعد يومًا محمَّدُ بن هُرمُز الصندليُّ إلى السور، وقال: ما حاجتُكم إلى أذى شيخٍ لا يصلُحُ إلَّا لِلُزومِ رِباطٍ؟ يُذَكِّرُهم بما قاله العارضُ ببخارى؛ واتَّفق أنَّ الصندليَّ مات، فاستأمن عمرُو بن يعقوب الصَّفَّار وابن الحفَّار إلى الحسين بن عليٍّ، وأطلقوا منصور بن إسحاق، وكان الحسينُ بن عليٍّ يُكرِمُ ابن الحفَّار ويقرِّبُه، فواطأ ابن الحفَّار جماعة على الفتك بالحسين، فعَلِمَ الحسين بذلك، وكان ابنُ الحفَّارِ يدخُلُ على الحسين، لا يُحجَبُ عنه، فدخل إليه يومًا وهو مُشتَمِلٌ على سيف، فأمر الحُسَينُ بالقبض عليه، وأخذه معه إلى بُخارى، ولَمَّا انتهى خبر فتح سِجِستان إلى الأمير أحمد استعمل عليها سيمجورَ الدواتيَّ، وأمر الحسينَ بالرجوعِ إليها فرجع ومعه عمرُو بن يعقوب وابن الحفّار وغيرهما، وكان عَودُه في ذي الحجَّة سنة ثلاثمائة، واستعمل الأمير أحمدُ منصورًا ابنَ عمِّه إسحاق على نَيسابور وأنفَذَه إليها، وتوفِّي ابنُ الحفّار.
هو عَلِيّ زَيْنُ العابِدِين بن الحُسين بن عَلِيِّ بن أبي طالِب، أُمُّهُ بِنتُ يَزْدَجِرْد آخِر مُلوك فارِس، مِن الفُقَهاء الحُفَّاظ كان مَضْرَب المَثَلِ في الحِلْمِ والوَرَعِ والجُودِ والتَّواضُع، مَدَحَهُ الفَرزدَقُ بالقَصيدَة المَشهورَة التي مَطلعُها: هذا الذي تَعرِف البَطحاءُ وَطأتَهُ والبَيتُ يَعرِفُه والحِلُّ والحَرَمُ، تُوفِّي في أوَّلِ هذه السَّنَة يعني سَنَة 94هـ، وصُلِّيَ عليه بالبَقيعِ ودُفِنَ فيه، فرَحِمَه اللهُ رَحمةً واسِعَة، وجَزاهُ الله عن المسلمين خيرًا.
هو الإمام، فقيه الملة، أبو حنيفة النُّعمانُ بنُ ثابت بن زوطى التيميُّ ولاءً، فقيهُ العراقِ إمامُ الحنفيَّة، أحد الأئمة الأربعة المشهورين أصحاب المذاهب المعروفة، يقال: إنه من أبناء الفرس ولد سنة 80, وكان حسن الوجه حسن المجلس، شديد الكرم حسن المواساة لإخوانه، وكان ربعة من الرجال، وقيل كان طوالا تعلوه سمرة،. أدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة، رضوان الله عليهم وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحداً منهم ولا أخذ عنه، وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل. أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وسمع عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له, وأبا إسحاق السبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصواف ومحمد بن المنكدر ونافعاً مولى عبد الله بن عمر، وكان معروفًا بالزهد والورَع وكثرة العبادة، والوقار والإخلاص وقوة الشخصيَّة، كثير التعطر، لا يتكلم إلا جوابا، ولا يخوض فيما لا يعنيه. قال ابن المبارك: ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه، ولا أحسن سمتا وحلما من أبي حنيفة. كان خزازا يبيع الخز. قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة فقال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. لم يرضَ أن يليَ القَضاءَ لأحدٍ، وطلبه المنصورُ للقضاء فأبى، وكان منها حبسُه، وقيل: مات في الحبسِ ببغداد، قال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: "مررت مع أبي بالكناسة – موضع بالكوفة- فبكى، فقلت له: يا أبت ما يبكيك فقال: يا بني، في هذا الموضع ضرب ابن هبيرة أبي عشرة أيام، في كل يوم عشرة أسواط، على أن يلي القضاء، فلم يفعل". وقيل: إنَّه توفِّيَ وهو يصلِّي.
هو عليُّ بنُ إسماعيلَ بنِ إسحاق بنِ سالم بن إسماعيلَ بنِ عبد الله بن موسى ابنِ أمير البصرةِ بلال بن أبي بُردة ابن صاحبِ رَسولِ اللهِ- صلَّى الله عليه وسلَّم- أبي موسى عبد الله بن قيس بن حضار الأشعري، اليماني، البصري. أبو الحسَن الأشعريُّ المتكلِّم المشهور، وُلِدَ بالبصرة سنة 260، وقيل: ولد سنة سبعين. كان عجبًا في الذَّكاء وقُوَّةِ الفَهمِ. يقولُ الذهبي: "لأبي الحسن ذكاءٌ مُفرِطٌ، وتبحُّرٌ في العِلمِ، وله أشياءُ حَسَنةٌ، وتصانيفُ جمَّة تقضي له بسَعةِ العلم" كان أوَّلَ أمرِه مع المعتزلةِ وتعَلَّم معهم، وعنهم أخذ حتى برع وصار إمامًا فيهم، حتى كان يتولَّى الجدلَ عن شيخِه الجُبَّائي، ولَمَّا برع في معرفةِ الاعتزال، كَرِه الجبَّائي وتبرَّأ منه، فأعلن رجوعَه عن الاعتزالِ وعمَّا كان يعتَقِدُه من معتقداتِهم، فمال إلى الفُقَهاءِ والمُحَدِّثين ثم أخذ يرُدُّ على المعتزلة، ويهتك عَوارَهم. قال الفقيه أبو بكر الصيرفي: "كانت المعتزلةُ قد رفعوا رؤوسَهم، حتى نشأ الأشعريُّ فحَجَرَهم في أقماعِ السِّمسِم" ولكنَّه لم يكُنْ كذلك على مِثلِ ما كان عليه المحَدِّثون من الاعتقادِ، فأصبح يشكِّلُ لنَفسِه مذهبًا مستقلًّا عُرِفَ إلى اليوم بالأشعريَّة، ثم بعد أن ظَلَّ فترةً على هذا المنوال مال بالكليَّة إلى مذهب المحَدِّثين كالإمام أحمد، والبربهاري، وغيرهم في الاعتقاد، ورجع عمَّا كان عليه, وألَّفَ لذلك كتابه الشهيرَ ((الإبانة عن أصول الدِّيانة))، فكانت مراحِلُه ثلاثة: الاعتزالُ، ثم الأشعريَّة، ثم رجع إلى أهل الحديثِ والأثَرِ، ومن مؤلَّفاتِه أيضًا: مقالات الإسلاميين، والرد على المجسمة وغيرها. قال زاهر بن أحمد السرخسي: "لَمَّا قَرُبَ حضورُ أجَلِ أبي الحسن الأشعري في دارِي ببغداد، دعاني فأتيتُه، فقال: اشهَدْ عليَّ أنِّي لا أكَفِّرُ أحدًا من أهل القِبلةِ؛ لأنَّ الكُلَّ يشيرونَ إلى معبودٍ واحدٍ، وإنَّما هذا كُلُّه اختلافُ العبارات" قلت- والكلام للذهبي-: "وبنحو هذا أدينُ، وكذا كان شيخُنا ابنُ تيميَّةَ في أواخِرِ أيَّامِه يقول: أنا لا أكَفِّرُ أحدًا مِن الأمَّةِ"
سار سعودُ بن عبد العزيز وقَصْدُه بريدة، ومعه آل عليان الذين خرجوا منها سنة 1188 عندما أخذها عريعر بن دجين عنوةً, وفرض عليها حصارًا وبنى تجاهها حِصنًا جعل فيه عدَّةَ رجال عبد الله بن حسن أميرًا عليهم يواصِلُ منه الحصارَ على بريدة، فلما اشتد الأمر بأهل بريدة أرسل أمير البلد راشد الدريبي إلى عبد الله بن حسن الأمانَ لنفسه وأن يخرجَ لوحده فأعطاه الأمان وخرج إليه راشد، ثم دخل عبد الله ومن معه البلد وملكوها، وقُتل في ذلك الحصار 50 رجلًا من قوم الدريبي، واستولى عبد الله على ما فيها من الأموالِ، وبعد هذه الواقعة انقاد أهلُ القصيم وبايعوا على السَّمعِ والطاعة، ووفد عبد الله ومعه رجالٌ من رؤساء القصيم على الشيخِ والإمام عبد العزيز فبايعوهما على السمع والطاعة، واسُتعمل عبد الله بن حسن أميرًا على جميع بلدانِ القصيم.
هو الإمامُ العَلَّامة الحافِظُ الأوحَدُ، شَيخُ الإسلامِ القاضي أبو الفَضلِ عِياضُ بنُ موسى بنِ عِياضِ بنِ عَمرِو بنِ موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عِياض اليحصبي الأندلسي، ثمَّ السبتي، المالكيُّ، قاضي سبتة. أحدُ مشايخ العُلَماءِ المالكيَّة، أصلُه من الأندلُسِ انتَقَلَ جَدُّه عَمرٌو مِن الأندلُسِ إلى مدينة فاس، ثمَّ مِن فاس إلى سبتة, ووُلِدَ القاضي عياض بسبتة في النِّصفِ مِن شعبان سنة 476, لم يَحمِل القاضي العِلمَ في الحداثة، وأوَّلُ شَيءٍ أخذه عن الحافِظِ أبي علي الغساني إجازةً مُجَرَّدة، وكان يُمكِنُه السَّماعُ منه. بدأ بطلب العلمِ في الثانية والعشرين مِن عُمُرِه, ثمَّ رحل إلى الأندلس سنة 503، فاستبحَرَ مِن العُلومِ، وجمَعَ وألَّف، وسارت بتصانيفِه الرُّكبانُ، واشتُهِرَ اسمُه في الآفاقِ، حتى أصبح إمامَ وَقتِه في الحديثِ وعُلومِه، والفِقهِ واللُّغةِ والأدَبِ، وأيَّامِ الناس، وله مُصَنَّفات كثيرةٌ مُفيدةٌ شاهِدةٌ على إمامتِه، منها: الشَّفا بتعريف حقوق المصطفى، وشَرحُ مُسلِم، ومشارِقُ الأنوار، وشَرحُ حديث أم زرع، وغير ذلك، وله شِعرٌ حَسَنٌ. قال خلف بن بشكوال تلميذُه: "هو مِن أهلِ العِلمِ والتفَنُّنِ والذَّكاءِ والفَهمِ، استُقضِيَ بسبتةَ مُدَّةً طويلةً، حُمِدَت سِيرتُه فيها، ثمَّ نُقِلَ عنها إلى قضاءِ غِرناطة سنة 532، فلم يُطَوِّلْ بها، وقَدِمَ علينا قُرطُبةَ، فأخَذْنا عنه". قال الفقيهُ محمد بن حماده السبتي: "جلس القاضي للمُناظرة وله نحوٌ مِن ثمان وعشرين سنة، ووَلِيَ القضاءَ وله خمس وثلاثون سنة، كان هيِّنًا مِن غَيرِ ضَعفٍ، صُلبًا في الحَقِّ، تفَقَّه على أبي عبدِ الله التميمي، وصَحِبَ أبا إسحاق بن جعفر الفقيه، ولم يكُنْ أحَدٌ بسبتة في عَصرِه أكثَرَ تواليفَ مِن تواليفِه" ذكره الذهبي بقوله: "تواليفُه نَفيسةٌ، وأجَلُّها وأشرَفُها كِتابُ (الشَّفا) لولا ما قد حشاه بالأحاديثِ المُفتَعَلةِ عَمَلَ إمامٍ لا نَقْدَ له في فَنِّ الحديثِ ولا ذَوْقَ، واللهُ يُثيبُه على حُسنِ قَصْدِه، وينفَعُ بـ (شِفائِه) وقد فَعَل، وكذا فيه من التأويلاتِ البَعيدةِ ألوانًا، ونبيُّنا صَلَواتُ الله عليه وسلامُه غَنِيٌّ بمِدحةِ التَّنزيلِ عن الأحاديثِ، وبما تواتَرَ مِن الأخبارِ عن الآحادِ، وبالآحادِ النَّظيفةِ الأسانيدِ عن الواهياتِ، فلماذا يا قومِ نتشَبَّعُ بالموضوعاتِ؟ فيتطَرَّق إلينا مقالُ ذَوي الغِلِّ والحَسَدِ، ولكِنْ مَن لا يعلَمُ مَعذورٌ، فعليك يا أخي بكتاب (دلائل النبوة) للبَيهقيِّ؛ فإنَّه شِفاءٌ لِما في الصُّدور، وهُدًى ونُور" مات بمراكش يومَ الجُمُعةِ في جمادى الآخرةِ، وقيل في رمضانَ، بمدينة سبتة, ودُفِنَ بباب إيلان داخِلَ المَدينةِ.
كتب المعتزُّ لعلي بن الحسين بن شبل بولاية كرمان، وكتبَ إلى يعقوبَ بن الليث بولايتها أيضًا يلتمِسُ إغراءَ كُلِّ واحدٍ منهما بصاحبه؛ ليُسقِطَ مؤونةَ الهالكِ عنه، وينفرِدَ بالآخر، وكان كلُّ واحد منهما يُظهِرُ طاعةً لا حقيقةَ لها، والمعتز يعلم ذلك منهما. أرسل عليُّ بن الحسين طوقَ بن المغلس إلى كرمان، وسار يعقوبُ إليها فسَبَقه طوقٌ واستولى عليها وأقبل يعقوبُ حتى بقيَ بينه وبين كرمان مرحلةٌ، فأقام بها شهرينِ لا يتقَدَّمُ إلى طوق، ولا طوقٌ يخرج إليه، فلما طال ذلك عليه أظهَرَ الارتحال إلى سجستان، فارتحل مرحلتينِ، وبلغ طوقًا ارتحالُه فظَنَّ أنَّه قد بدا له في حربه، وترك كرمان، فوضع آلةَ الحربِ، وقعد للأكلِ والشُّرب والملاهي، وبلغ يعقوبُ إقبالَ طوقٍ على الشرب، فكرَّ راجعًا فطوى المرحلتينِ في يومٍ واحد، فلم يشعُرْ طوقٌ إلا بغبرةِ عَسكرِ يعقوب، فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابُه يريدون المناهضةَ والدفعَ عن أنفُسِهم، فقال يعقوبُ لأصحابه: أفرِجوا للقَومِ، فمرُّوا هاربينَ، وخَلَّوا كلَّ ما لهم، وأسَر يعقوبُ طَوقًا، وكان علي بن الحسين قد سَيَّرَ مع طوقٍ في صناديقَ قيودًا ليقَيد بها من يأخُذُه من أصحابِ يعقوب، وفي صناديقَ أطوِقةٌ وأسورة ليعطيَها أهلَ البلاء من أصحابِ نفسِه، فلما غنِمَ يعقوب عسكَرَهم رأى ذلك، فقال: ما هذا يا طوقُ؟ فأخبره، فأخذ الأطوِقةَ والأسورة فأعطاها أصحابَه، وأخذ القيودَ والأغلال فقيَّدَ بها أصحابَ عليٍّ، ثم دخل كرمان وملكَها مع سجستان.
خَرجَت خارِجَة مِن الحَرورِيَّة بالعِراق، يَتَزَعَّمُهم شَوْذَب واسْمُه بِسْطام مِن بَنِي يَشْكُر في ثمانين فارِسًا أَكثرُهم مِن رَبيعَة، فبَعَث أَميرُ المؤمنين عُمَرُ بن عبدِ العزيز إلى عبدِ الحَميدِ نائِب الكوفَة يَأمُرهُ بأن يَدعوهم إلى الحَقِّ، ويَتَلَطَّف بِهم، ولا يُقاتِلهم حتَّى يُفسِدوا في الأَرضِ، فلمَّا فَعَلوا ذلك بَعَث إليهم جَيْشًا فكَسَرهُم الحَرورِيَّةُ، فبَعَث عُمَرُ إليه يَلومُه على جَيْشِه، وقد أَرسَل عُمَرُ إلى بِسْطام يَقولُ له: ما أَخْرَجَك عَلَيَّ؟ فإن كُنتَ خَرجتَ غَضَبًا لله فأنا أَحَقُّ بذلك مِنك، ولستَ أَوْلى بذلك مِنِّي، وهَلُمَّ أُناظِرُك; فإن رَأيتَ حَقًّا اتَّبَعْتَه، وإن أَبْدَيْتَ حَقًّا نَظَرْنا فيه. فبَعَث طائِفَةً مِن أَصحابِه إليه، فاخْتارَ منهم عُمَرُ رَجُلين فسَأَلهُما: ماذا تَنْقِمون؟ فقالا: جَعْلَكَ يَزيد بن عبدِ الملك مِن بَعدِك. فقال: إنِّي لم أَجْعَله أَبَدًا، وإنَّما جَعلَه غَيْري. قالا: فكيف تَرْضَى به أَمينًا للأُمَّةِ مِن بَعدِك؟ فقال: أَنْظِرْني ثَلاثَة. فيُقال: إنَّ بَنِي أُمَيَّة دَسَّتْ إليه سُمًّا فقَتَلوه; خَشْيَةَ أن يَخرُج الأَمرُ مِن أَيديهِم. فلمَّا مات عُمَرُ أراد عَبدُ الحَميد بن عبدِ الرحمن أن يَحْظَى عند يَزيد بن عبدِ الملك، فكَتَب إلى محمَّدِ بن جَريرٍ يَأمُرُه بمُحارَبَة شَوْذَب وأَصحابِه، فبَرَزَ له شَوْذَب فاقْتَتَلوا، وأُصِيبَ مِن الخَوارِج نَفَرٌ، وأَكثَروا في أَهلِ الكوفَة القَتْل، فوَلُّوا مُنْهَزِمين والخَوارِجُ في أَكتافِهم حتَّى بَلَغوا أَخْصاص الكوفَة، فأَقَرَّ يَزيدُ عبدَ الحَميد على الكوفَة، ووَجَّهَ مِن قِبَلِهِ تَميمَ بن الحُباب في أَلْفَيْنِ فقَتَلوه وهَزَموا أَصحابَه، فوَجَّهَ إليهم نَجْدَةَ بن الحَكَم الأَزْدِي في جَمْعٍ، فقَتَلوه وهَزَموا أَصحابَه، فبَعَث آخَر في أَلْفَيْنِ فقَتَلوه، فأَنْفَذَ يَزيدُ أَخاهُ مَسلمةَ بن عبدِ الملك، فنَزَل الكوفَة، ودَعا سَعيدَ بن عَمرٍو الحَرَشِي، فعَقَدَ له على عَشرَة آلافٍ ووَجَّهَهُ، فقال لأَصحابِه: مَن كان يُريدُ الله عَزَّ وجَلَّ فقد جاءَتْهُ الشَّهادَة، ومَن كان إنَّما خَرَج للدُّنيا فقد ذَهبَت الدُّنيا منه. فكَسَروا أَغْمادَ سُيوفِهِم وحَمَلوا على الخَوارِج حتَّى طَحَنوهُم وقَتَلوا شَوْذَبًا.
هو الأميرُ مجيرُ الدين طاشتكين بن عبد الله المقتفوي المستنجدي, أميرُ الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخًا غاليًا في التشَيُّع، وكانت الحلة الشيعيَّة إقطاعَه، وكان شجاعًا قليلَ الكلام، يمضي عليه الأسبوعُ لا يتكلم فيه بكلمةٍ، وذُكِرَ أنَّه حج بالناس ستًّا وعشرين سنة، كان يكونُ في الحجاز كأنَّه مَلِكٌ، وقد رماه الوزيرُ ابن يونس بأنه يكاتب صلاحَ الدين فحبَسَه الخليفة، ثم تبيَّنَ له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان، ثم أعاده إلى إمرة الحَجِّ، توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحُملَ تابوتُه إلى الكوفة فدُفِنَ بمشهد عليٍّ لوصيَّتِه بذلك.
كان الأميرُ علي بن يحيى صاحب إفريقية لما استوحش من رجار صاحب صقلية، جدَّد الأسطول الذي له، فكثَّر عَدده وعُدده، وكاتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش بالاجتماع معه على قصد جزيرة صقلية، فلما علم رجار ذلك كفَّ عن بعض ما كان يفعله، فاتفق أن عليًّا مات سنة 515، وولي ابنه الحسن، فلما دخلت سنة 516 سيَّرَ أمير المسلمين أسطولًا، ففتح نقوطرة بساحل بلاد قلورية، فلم يشكَّ رجار أن عليًّا كان سبب ذلك، فجدَّ في تعمير الشواني والمراكب، وحشد فأكثر، ومُنِع من السفر إلى إفريقية وغيرها من بلاد الغرب، فاجتمع له من ذلك ما لم يُعهَد مثله، قيل: كان ثلاثمائة قطعة، فلما انقطعت الطريق عن إفريقية توقَّع الأمير الحسن بن علي خروج العدو إلى المهدية، فأمر باتخاذ العُدد، وتجديد الأسوار، وجَمْع المقاتِلة، فأتاه من أهل البلاد ومن العرب جمع كثير، فلما كان جمادى الآخرة سنة 517 سار الأسطول الفرنجي في ثلاثمائة قطعة، فيها ألف فارس وفرس واحد، إلا أنهم لما ساروا من مرسى علي فرَّقتهم الريح، وغرق منهم مراكب كثيرة، ونازل من سَلِمَ منهم جزيرة قوصرة ففتحوها، وقتلوا من بها، وسَبَوا وغنموا، وساروا عنها، فوصلوا إلى إفريقية، ونازلوا الحصن المعروف بالديماس أواخر جمادى الآخرة، فقاتلهم طائفة من العرب كانوا هناك، والديماس حِصن منيع في وسطه حصن آخر، وهو مُشرِف على البحر، وسيَّر الحسن من عنده من الجموع إلى الفرنج، وأقام هو بالمهدية في جمع آخر يحفظها، وأخذ الفرنج حصن الديماس، وجنود المسلمين محيطة بهم، فلما كان بعد ليال اشتدَّ القتال على الحصن الداخل، فلما كان الليل صاح المسلمون صيحة عظيمة ارتجَّت لها الأرض، وكبَّروا، فوقع الرعبُ في قلوب الفرنج، فلم يشكُّوا أن المسلمين يهجمون عليهم، فبادروا إلى شوانيهم، وقتلوا بأيديهم كثيرًا من خيولهم، وغنم المسلمون منها أربعمائة فرس، ولم يسلم معهم غير فرس واحد، وغنم المسلمون جميع ما تخلَّف عن الفرنج، وقتلوا كلَّ من عجز عن الطلوعِ إلى المراكِبِ، فلما صعد الفرنج إلى مراكِبِهم أقاموا بها ثمانية أيام لا يقدِرون على النزول إلى الأرض، فلما أيسوا من خلاص أصحابهم الذين في الديماس ساروا والمسلمون يكبِّرون عليهم ويَصيحون بهم، وأقامت عساكِرُ المسلمين على حصن الديماس في أُمم لا يُحصَون كثرةً، فحَصَروه، فلم يُمكِنْهم فتحُه لحصانته وقوته، فلما عدم الماء على من به من الفرنج، وضجروا من مواصلة القتال ليلًا ونهارًا، فتحوا باب الحصن وخرجوا، فقُتِلوا عن آخِرِهم، وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة إقامتهم في الحصن ستة عشر يومًا، ولما رجع الفرنج مقهورين أرسل الأمير الحسن البشري إلى سائر البلاد.
خرج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمداني، وكان خروجُه بنواحي الموصِل بقريةٍ تُسمَّى بَافَخَّارى، قريب من الموصل على دجلة، فخرج إليه عسكرُ الموصِل، وعليها الصقر بن نجدة، فالتقَوا واقتَتلوا وانهزم عسكرُ الموصِل على الجِسر، وأحرق الخوارجُ أصحابُ حسَّان السوقَ هناك ونهبوه. ثم إنَّ حسانَ سار إلى الرقَّةِ ومنها إلى البحر ودخل إلى بلد السِّند، وكانت الخوارجُ مِن أهل عمان يُدخِلونَهم ويَدَعونهم، فاستأذَنَهم في المصير إليهم، فلم يجيبوه، فعاد إلى الموصِل، فخرج إليه الصقرُ أيضًا والحسَنُ بن صالح بن حسان الهمداني وبلال القيسي، فالتقَوا فانهزم الصقرُ وأُسِرَ الحسنُ بن صالح وبلال، فقتَل حسانُ بلالًا واستبقى الحسنَ؛ لأنَّه من همدان، ففارقه بعضُ أصحابه لهذا، وكان حسانُ قد أخذ رأيَ الخوارج عن خالِه حفصَ بنِ أشيم، وكان من علماء الخوارجِ وفُقَهائِهم، ولَمَّا بلغ المنصورَ خروجُ حَسَّان، قال: خارجيٌّ مِن همدان؟ قالوا: إنَّه ابن أخت حفص بن أشيم. فقال: فمن هناك؟ وإنَّما أنكر المنصورُ ذلك؛ لأن عامَّة همدان شيعةٌ لعليٍّ، وعزمَ المنصورُ على إنفاذ الجيوش إلى الموصِل والفَتكِ بأهلها، فأحضرَ أبا حنيفة، وابنَ أبي ليلى، وابنَ شبرمة، وقال لهم: إنَّ أهل الموصل شَرَطوا إليَّ أنَّهم لا يَخرُجون عليَّ، فإن فعلوا حلَّت دماؤهم وأموالهم، وقد خرجوا. فسكتَ أبو حنيفة وتكلَّم الرجُلانِ وقالا: رعِيَّتُك، فإنْ عَفَوتَ فأهلُ ذلك أنت، وإن عاقبتَ فبما يستحقُّون. فقال لأبي حنيفة: أراك سكتَّ يا شيخُ؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أباحوك ما لا يملِكونَ، أرأيتَ لو أنَّ امرأةً أباحَت فرجَها بغير عقدِ نكاحٍ ومِلكِ يمينٍ، أكان يجوزُ أن تُوطأَ؟! قال: لا! وكفَّ عن أهل الموصل، وأمرَ أبا حنيفةَ وصاحِبَيه بالعودة إلى الكوفةِ.
قَدِمَ إلى أرض عجلون شخص يُسمَّى عثمان بن أحمد بن عثمان بن محمود بن محمد بن علي بن فضل بن ربيعة، يعرف بابن ثقالة، من فقهاء دمشق، وادعى أنه السفياني، وظهر بقرية الجيدور وحلَّف أهل البلاد وأقطع الإقطاعات، وأمَّر عدة من الناس، وقال: أنا السلطان الملك الأعظم السفياني، فاجتمع عليه خلق كثير؛ من عرب وترك وعشير، بألوية خضر إلى وادي إلياس من جبل عوف بمعاملة عجلون، وبثَّ كتُبَه، ووقَّع عليها تحت البسملة السفياني، ونصها: إلى حضرة فلان أن يجمع فرسان هذه الدولة السلطانية، الملكية، الإمامية، الأعظمية، الربانية، المحمدية، السفيانية، أعلاها الله تعالى وشرَّفها، وأنفذها في الآفاق، وصرَّفها، ويحضروا بخيلهم ورجالهم وعددهم، مهاجرين إلى الله ورسوله، ومجاهدين في سبيل الله تعالى، ومقاتلين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، والاعتماد على العلامة الشريفة أعلاه أعلاها الله تعالى. ثم دخل أرض عجلون في تاسع ربيع أول، بعسكر كبير، فيه سلاح دارية، وطبر دارية، فأقطع الإقطاعات، وكتب على القصص، يكتب كما يكتب السلطان، فقَبَّل الناس الأرض بين يديه في ساعة واحدة، وهم زيادة على خمسمائة رجل، في وقتٍ واحد معًا، وخُطِب له على منبر عجلون، فقيل: السلطان الملك الأعظم السفياني، ونادى ببلاد عجلون أن مغلَّ هذه السنة يسامح به الناس فلا يؤخذُ منهم منه، وفيما بعدها يؤخَذُ منهم العشر فقط، ويترك أخذ الخراج وأخذ المكس، فإن حكم التركِ قد بَطَل، ولم يبقَ إلا حكم أولاد الناس، فثار عند ذلك غانم الغزاوي به، وجهز إليه طائفة طرقوه وهو بالجامع وقاتلوه، وقبضوا عليه، وعلى ثلاثة من أصحابه، بعدما ركب وقاتلهم، فاعتُقل الأربعة بقلعة عجلون، وكتب بالخبر إلى السلطان، فنقله إلى قلعه صفد، واعتقله بها.