الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 3793 ). زمن البحث بالثانية ( 0.017 )

العام الهجري : 865 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1461
تفاصيل الحدث:

كان الباعث لهذه الفتنة وخلع المؤيَّد أنه لما تسلطن لم يحرك ساكنًا ولم يتغير أحدٌ مما كان عليه، فشقَّ ذلك على الظاهريَّة، وقال كل منهم في نفسه: كأن الملك الأشرف إينال ما مات، فإن الغالبَ كلٌّ منهم كان أخذ ما بيده من الإقطاعات، وحبس ونفى في أوَّل سلطنة الأشرف إينال، كما هي عادة أوائل الدُّول، وبقى منهم جماعة كثيرة بلا رزق ولا إمرة ولم يجدوا عندهم قوةً ليخلعوا الملك المؤيد هذا ويسلطنوا غيره وحدهم، فكلَّموا الأشرفيَّة في هذا المعنى غير مرَّة، وترققوا لهم، فلم يقبلوا منهم ذلك؛ لنفرةٍ كانت بين الطائفتين قديمًا وحديثًا، وأيضا فلسان حال الأشرفية: نحن الآن في كفاية من الأرزاق والوظائف، فعلام نحرك ساكنًا، ونخاطر بأنفسنا؟ فعجز فيهم الظاهرية وقد ثقُل عليهم الملك المؤيَّد، وكثر خوفُهم منه، فإنه أوَّل ما تسلطن أبرق وأرعد، فانخزى كل أحد، قال ابن تغري بردي: "كان دخول المؤيد السلطنة بحرمة وافرة؛ لأن سنَّه كان نحو الثلاثين سنة يوم تسلطن، وكان قد ولِّيَ الأتابكية في أيَّام أبيه، وأخذ وأعطى، وسافر أميرَ حاجِّ المحمل، وحجَّ قبل ذلك أيضًا وسافر البلاد، ومارس الأمورَ في حياة والده وهذا كلُّه بخلاف من تقدَّمه من سلاطين أولاد الملوك؛ فإن الغالب منهم حدث السِّنِّ يريد له من يدبِّرُه، فإنه ما يعرف ما يرادُ منه، فيصير في حكم غيرِه من الأمراء فتتعلَّق الآمالُ بذلك الأمير، وتتردَّد الناسُ إليه، إلى أن يدبِّر في سلطنة نفسه، بخلاف المؤيَّد هذ؛ فإنَّه ولِيَ السلطنة وهو يقول في نفسه: إنه يدبِّرُ مع مملكة مصر ممالكَ العجم زيادةً على تدبير مصرَ! قلت: وكان كما زعم؛ فإنه كان عارفًا عاقلًا مباشرًا، حسن التدبير، عظيمَ التنفيذ شهمًا، وكان هو المتصرفَ في الأمور أيَّام أبيه في غالب الولايات والعَزلِ وأمور المملكة، فلما تسلطن ظنَّ كل أحد أنْ لا سبيل في دخول المكيدة على مثل هذا؛ لمعرفة الناس بحذقه وفطنته, وكان مع هذه الأوصاف مليح الشكل، وعنده تؤدة في كلامه، وعقل وسكوت خارج عن الحد، يؤديه ذلك إلى التكبُّر، وهذا كان أعظم الأسباب لنفور خواطر الناس عنه؛ فإنه كان في أيام سلطنته لا يتكلَّمُ مع أحد حتى ولا أكابر الأمراء إلا نادرًا، ولأمر من الأمور الضروريات، وفعل ذلك مع الكبير والصغير، وما كفى هذا حتى صار يبلُغُ الأمراءَ أنَّه في خلوته يسامِرُ الأطرافَ الأوباشَ الذين يُستحيا من تسميتهم، فعظم ذلك على الناس، فلما وقع ذلك وجد من عنده حقدٌ فرصةً، وأشاع عنه هذا المعنى وأمثاله، وبشَّع في العبارة وشنَّع، وقال هذا وغيره: إنَّه لا يلتفت إلى المماليك ويزدريهم، وهو مستعزٌّ بمماليك أبيه الأجلاب وأصهاره وحواشيه وخشداشية أبيه- زملاء مهنته-وبالمال الذي خلَّفه أبوه، ومنهم من قال أيضًا: إنما هو مستعزٌّ بحسن تدبيره، فإنه قد عبَّأ لكل سؤال جوابًا، ولكل حرب ضربًا، وكان مع هذا قد قمع مباشري الدولة وأبادهم، وضيَّق عليهم، ودقَّق في حسابهم كما هو في الخاطر وزيادة، فما أحسن هذا لو كان دام واستمر, فنفرت قلوب المباشرين منه، وأخذ أمره في إدبار؛ لعدم مثابرته على سير طريقه الأوَّل من سلطنته، فلو جَسَر لكَسَر، لكنه هاب فخاب" فلما كان آخرُ يوم الجمعة السابع عشر رمضان رسم السلطان الملك المؤيد أحمد لنقيب الجيش الأمير ناصر الدين محمد بن أبي الفرج أن يدور على الأمراء مقدَّمي الألوف، ويُعلمَهم أن السلطان رسم بطلوعهم من الغد في يوم السبت إلى الحوش السلطاني من قلعة الجبل بغير قماش الموكب، ولم يعلِمْهم لأيِّ معنى يكون طلوعهم واجتماعهم في هذا اليوم بالقلعة، وهو غيرُ العادة، وأخذ الأمراء من هذا الأمر أمرٌ مريج، وخلا كل واحد بمن يثق به، وعرفه الخبر، وهو لا يشكُّ أن السلطان يريد القبضَ عليه من الغد، ووجد لذلك من كان عنده كمينٌ من الملك المؤيد أو يريد إثارةَ فتنة فرصةً، وحرَّض بعضهم بعضًا، إلى أن ثارت المماليك الظاهرية في تلك الليلة، وداروا على رفقتهم وإخوانهم وعلى من له غرضٌ في القيام على الملك المؤيد، وداموا على ذلك ليلتَهم كلها، فلما كان صبح نهار السبت تفرَّقوا على أكابر الدولة والأمراء في بيت الأتابك خشقدم لعمل المصلحة، وقد اجتمعت طوائفُ المماليك والجميع في بيت الأمير الكبير، ولم يطلع إلى القلعة في هذا اليوم أحدٌ من الأمراء والأعيان إلا جماعة يسيرة جدًّا، فلما تكامل جمعهم في بيت الأمير الكبير وصاروا على كلمة واحدة؛ على خلع الملك المؤيَّد أحمد من السلطنة، وسلطنة غيره، وتكلموا فيمن يولونه السلطنة, فأجمع رأي الجميع على سلطنة أحد من أعيان الأمراء، ثم تكلموا فيمن يكون هذا السلطان، فقال جانبك: الرأي عندي سلطنةُ الأمير الكبير خشقدم المؤيدي؛ فإنه من غير الجنس يعني كونه روميَّ الجنس وأيضًا إنه رجل غريبٌ ليس له شوكة، ومتى أردتم خلعَه أمكنكم ذلك، وحصل لكم ما تقصدونه من غير تعب، فأعجب الجميعَ هذا الكلامُ، بخلاف المماليك الأشرفية، وإن كانوا هم أيضًا متفقين على خلع المؤيد؛ لتطَلُّعهم تسلطُنَ خشداشهم الأمير جانم نائب الشام، ولو أنَّ أمر المؤيد طرقهم بغتةً ما طاوعوا على الرُّكوبِ في مثل هذا اليوم قبل مجيء خشداشهم جانم، فبويع خشقدم ولقِّبَ بالملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم ونودي بالحال بسلطنته بشوارع القاهرة، ثم شرعوا بعد ذلك في قتالِ الملك المؤيد أحمد، كل ذلك والملك المؤيَّدُ في القلعة في أناس قليلة من مماليكه ومماليك أبيه الأجلاب، ثم التحم القتال بين الطائفتين مناوشةً لا مصاففةً، غير أن كلًّا من الطائفتين مُصِرٌّ على قتال الطائفة الأخرى، والملك المؤيَّد في قلة عظيمة من المقاتلة ممن يعرف مواقِعَ الحرب وليس معه إلا أجلاب، فلم ينقضِ النهار حتى آل أمرُ الملك المؤيد إلى زوال، وهو مع ذلك ينتظر من يجيء إليه لمساعدته، حتى من ليس له غرض عند أحد بعينه جاء إلى الأمير الكبير مخافة على رزقه ونفسه؛ لِما علم من قوة شوكة الأمير الكبير وما يؤول أمره إليه، هذا مع حضور الخليفة والقضاة الأربعة عند الأمير الكبير وجميع أعيان الدولة من المباشرين وأرباب الوظائف وغيرهم، والملك المؤيَّد في أناس قليلة جدًّا، وظهر ذلك للملك المؤيد عيانًا، فأراد أن يسَلِّمَ نفسه، ثم أمسك عن ذلك من وقته، فلما رأى الملك المؤيد أنَّ ذلك لا يفيده إلا شدةً وقسوةً أمر عساكره ومقاتلته بالكفِّ عن القتال، وقام من وقته وطلع القلعة بخواصِّه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى حيث شاؤوا، ثم دخل هو إلى والدته خوند زينب بنت البدري حسن بن خاص بك، وترك باب السلسلة لمن يأخذه بالتسليم، وتمزَّقت عساكره في الحال كأنها لم تكن، وزال ملكه في أقل ما يكون، وخُمِدت الفتنة كأنَّها لم تكن، ثم أرسل الأتابك خشقدم في الحال جماعةً من أصحابه قبضوا على الملك المؤيد أحمد هذا من الدور السلطانية، فأُمسِكَ من غير ممانعة، وسلَّم نفسه، وأُخرِجَ من الدور إلى البحرة من الحوش السلطاني، وحُبِسَ هناك بعد أن اقتِيدَ واحتُفظ به، وكانت مدة حكمه أربعة أشهر وستة أيام، ثم رسم السلطان الملك الظاهر خشقدم بتوجُّهِه وتوجه أخيه محمد إلى سجن الإسكندرية.

العام الهجري : 518 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1124
تفاصيل الحدث:

كانت مدينةُ صور تحت حكم الفاطميين العُبيديين بمصر، ولم تَزَل كذلك إلى سنة 506، وكان الفرنجُ قد حصروها، وضَيَّقوا عليها، ونهبوا بلدَها غير مرة، فتجهَّز ملكُ الفرنج، وجمع عساكِرَه ليسيرَ إلى صور، فخافهم أهلُ صور، فأرسلوا إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يطلُبون منه أن يُرسِلَ إليهم أميرًا من عنده يتولاهم ويحميهم، ويكونُ البلد له، وقالوا له: إن أرسلتَ إلينا واليًا وعسكرًا، وإلا سلَّمْنا البلد إلى الفرنج؛ فسيَّرَ إليهم عسكرًا، وجعل عندهم واليًا اسمه مسعود، وكان شهمًا شجاعًا عارفًا بالحرب ومكايدها، وأمدَّه بعسكر، وسير إليهم ميرة ومالًا فرَّقَه فيهم، وطابت نفوس أهل البلد، ولم تُغَيَّر الخطبة للآمر بن المستعلي الفاطمي، صاحب مصر، ولا السكة، وكتب إلى الأفضل بمصر يعرِّفُه صورة الحال، ويقول: متى وصل إليها من مصر من يتولاها ويذُبٌّ عنها، سلَّمتُها إليه، ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة، فشكره الأفضل على ذلك، وأثنى عليه، وصوب رأيه فيما فعله، وجهز أسطولًا، وسيَّره إلى صور، فاستقامت أحوال أهلها. ولم يزل كذلك إلى سنة 516 بعد قتل الأفضل، فسُيِّرَ إليها أسطول على جاري العادة، وأمروا المقَدَّم على الأسطول أن يُعمِلَ الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين، ويقبض عليه، ويتسلَّم البلد منه. وكان السببُ في ذلك أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر العبيدي، صاحب مصر، بما يعتَمِدُه من مخالفتهم، والإضرار بهم، ففعلوا ذلك، وسار الأسطول فأرسى عند صور، فخرج مسعودٌ إليه للسلام على المقدَّم عليه، فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقَدَّم اعتقله ونزل البلد، واستولى عليه، وعاد الأسطول إلى مصر وفيه الأمير مسعود، فأُكرِمَ وأُحسِنَ إليه وأُعيد إلى دمشق، وأما الوالي من قِبَل المصريين فإنه طيَّب قلوبَ الناس، وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد، وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود، فأحسن طغتكين الجواب، وبذل من نفسه المساعدةَ، ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قَوِيَ طمعهم فيها، وحدَّثوا نفوسهم بملكها، وشرعوا في الجمع والتأهُّب للنزول عليها وحَصْرها، فسمع الوالي بالخبر، فعلمَ أنَّه لا قوة له ولا طاقة على دفع الفرنج عنها؛ لقلة مَن بها من الجند والميرة، فأرسل إلى الآمر العُبيدي بذلك، فرأى أن يرُدَّ ولاية صور إلى طغتكين، صاحب دمشق، فأرسل إليه بذلك، فملك صور، ورتب بها من الجندِ وغيرهم ما ظنَّ فيه كفاية، وسار الفرنجُ إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة، وضيَّقوا عليهم، ولازموا القتال، فقَلَّت الأقوات، وسَئِمَ من بها القتالَ، وضَعُفَت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرُبَ منهم، ويذُبَّ عن البلد، ولعل الفرنج إذا رأوا قُرْبَه منهم رحلوا، فلم يتحركوا، ولزموا الحصار، فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجِدُهم، فلم ينجدوه، وتمادت الأيام وأشرف أهلها على الهلاك، فراسل حينئذ طغتكين، صاحب دمشق، الفرنجَ, وقرَّر الأمر على أن يُسَلِّمَ المدينةَ إليهم، ويُمَكِّنوا مَن بها من الجند والرعية من الخروجِ منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها، فاستقرَّت القاعدةُ على ذلك، وفُتِحت أبواب البلد، وملكه الفرنجُ، وفارقه أهلُه، وتفرَّقوا في البلاد، وحملوا ما أطاقوا، وتركوا ما عجزوا عنه، ولم يَعرِض الفرنجُ لأحد منهم، ولم يبقَ إلا الضعيف عجز عن الحركة، وملك الفرنج البلدَ في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وكان سقوط صور بيد الفرنج وهنًا عظيمًا على المسلمين؛ فإنَّه من أحصنِ البلادِ وأمنَعِها.

العام الهجري : 791 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1389
تفاصيل الحدث:

خرج المَلِكُ الظاهر برقوق مِن سجن الكرك، واستولى على مدينتِها ووافقه نائِبُها الأمير حسام الدين حسن الكجكني، وقام بخِدمتِه، وقد حضر إلى الملك الظاهر برقوق ابنُ خاطر أمير بني عقبة من عرب الكَركِ، ودخل في طاعته، وقَدِمَ هذا الخبر من ابن بأكيش نائب غزة، فلمَّا سمعه منطاش- الذي تغلب على الناصري وأصبح هو نائِبَ السلطنة- أرسل من يقتُلُ الظاهر برقوق في سجنه، واضطربت الديارُ المصرية، وكَثُرَت القالة بين الناس، واختلفت الأقاويلُ، وتشَغَّب الزعر، وكان مِن خَبَرِ الملك الظاهر برقوق أنَّ منطاش لَمَّا وثب على الأمر وقهر الأتابك يلبغا الناصري وحبسه وحَبَس عِدَّةً من أكابر الأمراء، عاجَلَ في أمر الملك الظاهر برقوق بأن بعث إليه شخصًا يُعرَفُ بالشهاب البريدي، ومعه كتُبٌ للأمير حسام الدين الكجكني نائب الكرك وغيره بقَتلِ الملك الظاهر برقوق من غير مراجَعةٍ، ووعده بأشياءَ غيرِ نيابة الكرك، وكان الشهابُ البريدي أصلُه من الكرك، فجَهَّزه منطاش لذلك سرًّا، فلما وصل الشهاب إلى الكرك أخرج الشهابُ إلى نائبها كتابَ منطاش الذي بقَتلِ برقوق، فأخذه الكجكني منه ليكونَ له حُجَّةً عند قَتْلِه السلطان برقوق، ووعَدَه بقضاء الشُّغلِ وأنزل الشهابَ بمكان قلعة الكرك قريبًا من الموضِعِ الذي فيه الملك الظاهر برقوق، بعد أن استأنَسَ به، ثم قام الكجكني من فَورِه ودخل إلى الملك الظاهر برقوق ومعه كتاب منطاش الذي بقَتلِه، فأوقفه على الكتابِ، فلمَّا سمعه الملك الظاهر كاد أن يَهلِكَ من الجزع، فحَلَف له الكجكني بكلِّ يمين أنَّه لا يُسَلِّمُه لأحد ولو مات، وأنَّه يطلِقُه ويقومُ معه، وما زال به حتى هدأ ما به، وطابت نفسُه، واطمأنَّ خاطِرُه، وقد اشتهر في مدينة الكرك مجيءُ الشهاب بقتل الملك الظاهر برقوق، وكان في خدمةِ الملك الظاهر غلامٌ مِن أهل الكرك يقال له عبد الرحمن، فنزل إلى جماعةٍ في المدينة وأعلَمَهم أن الشهابَ قد حضر لقَتلِ أستاذه الملك الظاهر، فلمَّا سمعوا ذلك اجتمعوا في الحال، وقَصَدوا القلعة وهجموها حتى دخَلوا إلى الشهاب وهو بسَكَنِه من قلعة الكرك، ووثَبوا عليه وقَتَلوه، ثم جَرُّوه برجله إلى الباب الذي فيه المَلِك الظاهر برقوق، وكان نائِبُ الكرك الكجكني عند الملك الظاهر، وقد ابتدؤوا في الإفطار بعد أذان المغرب، وهي ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة 791 فلم يشعر الملك الظاهر والكجكني إلَّا وجماعة قد هجموا عليهم، وهم يدعون للملك الظاهر بالنَّصرِ، وأخذوا الملك الظاهِرَ بيَدِه حتى أخرجوه من البرجِ الذي هو فيه، وقالوا له: دُسْ بقدمك عند رأس عدُوِّك، وأروه الشهابَ مقتولًا، ثم نزلوا به إلى المدينةِ فدُهِشَ النائب مما رأى، ولم يجِدْ بدًّا من القيامِ في خدمة الملك الظاهر وتجهيزِه، وانضَمَّ على الملك الظاهِرِ أقوام الكرك وأجنادُها، وتسامع به أهلُ البلاد، فأتَوه من كُلِّ فَجٍّ بالتقادم والخيول، كل واحدٍ بحَسَبِ حالِه، وأخذ أمرُ الملك الظاهر برقوق من يومِ ذلك في استظهارٍ، وأما أمر منطاش فإنه لما سَمِعَ هذا الخبر وتحقَّقَه، علم أنه وقع في أمرٍ عظيم، فأخذ في تدبيرِ أحوالِه، فأول ما ابتدأ به أن قَبَض على جماعةٍ كبيرة من المماليك الظاهرية، وسجنهم وقَتَل بَعْضَهم.

العام الهجري : 793 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1391
تفاصيل الحدث:

في أوَّلِ شَهرِ رَجَب قَدِمَ منطاش دمشق، وسار إليها من مرعش على العُمق، حتى قارب من حماة، فانهزم منه نائِبُها إلى جهة طرابلس من غيرِ لقاء، ودخلها منطاش، ولم يُحدِثْ حدثًا، وتوجَّه منها إلى حمص، ففَرَّ منه أيضًا نائِبُها إلى دمشق، ومعه نائِبُ بعلبك، فخرج الأميرُ يلبغا الناصري يريد لقاءه من طريق الزبداني، فثار أحمد شكر بجماعة البيدمرية، ودخل دمشقَ من باب كيسان، وأخذ ما في الإسطبلاتِ من الخيول، وخرج في يوم الأحد التاسع والعشرين جمادى الآخرة، وقدم منطاش في يوم الاثنين أولَ رَجَب من طريق أخرى، ونزل القصرَ الأبلق، ونزل جماعتُه حوله، وقد أَحضر إليه أحمد شكر من الخيول التي نهبها ثمانمائة فرس، وندبه ليدخُلَ المدينة ويأخذ من أسواقها المالَ، فبينا هو كذلك إذ قَدِمَ الناصري بعساكر دمشقَ فاقتتلا قتالًا كبيرًا مدَّةَ أيام، ثم إن منطاش انكسر وقُتِلَ كثيرٌ مِمَّن معه، وفَرَّ معظم التركمان الذين قَدِمَ بهم، وصار محصورًا بالقَصرِ الأبلق، ثم إنَّ السلطان برقوق سار بنفسِه إلى دمشق ثم سار إلى حلب وفي ذي القعدة قَبَض سالم الذكرى على منطاش، وإن صاحب ماردين قبض على جماعةٍ مِن المنطاشية حَضَروا إليه، فبعث السلطانُ قرا دمرداش نائِبَ حلب على عسكر، والأميرَ يلبغا الناصري نائب دمشق على عسكرٍ، والأميرَ أينال اليوسفي أتابك العساكر على عسكر، فساروا لإحضارِ منطاش ومن معه، فنودِيَ في القاهرة بالأمان، وقد حصل غريمُ السلطان.
 وقَدِمَ البَريدُ مِن حَلَب بِأَن الأمير قرا دمرداش وصل بعسكر حلب إلى أبيات سالم الذكرى، وأقام أربعة أيام يطالِبُه بتسليم منطاش وهو يماطِلُه، فحنق منه وركب بمن معه ونهب بيوته، وقتل عِدَّة من أصحابه، ففَرَّ سالم بمنطاش إلى سنجار وامتنع بها، ثم إنَّ الأميرَ يلبغا الناصري حضر بعساكر دمشق بعد ذلك، فأنكر على قرا دمرداش ما وقع منه وأغلَظَ في القول وهَمَّ بضَربِه، فكادت تكون فتنةٌ كبيرة وعادا، وإن الأمير أدينال وصل بعسكرِ مِصرَ إلى رأس عين، وتسَلَّمَ من صاحب ماردين الذين قَبَضَهم من المنطاشية، وكبيرهم قشتمر الأشرفي، وحضر بهم وبكتاب صاحب ماردين، وهو يعتذر ويَعِدُ تحصيل غريم السلطان، وفي يوم الاثنين أول ذي الحجة خرج السلطان من حلب يريد دمشق، وفي سادسه قدم البريد بأن السلطان لما بلغه ما جرى من قرا دمرداش وما وقع بينه وبين الناصري من الفتنة، وأنهما عادا بغير طائل، غَلَب على ظَنِّه صِحَّةُ ما نُقِلَ عن الناصري مِن أنَّ قَصْدَه مطاولةُ الأمر مع منطاش، وأنه لم يحضُرْ إلى دمشق إلا بمكاتبَتِه له بذلك، وأَنه قَصَّر في أخذه بدمشق، وأنَّ سالم الذكرى لم يرحَلْ بمنطاش إلى سنجار إلا بكتابِ الناصري إليه بذلك، فلما قَدِمَ إلى حلب قُبِضَ عليه وعلى شهاب الدين أحمد بن المهمندار نائب حماة، وكشلي أمير أخور الناصري، وشيخ حسن رأس نوبته، وقَتَلَهم في ليلة قَبْضِهم، ويُذكَرُ أن يلبغا الناصري هذا هو الذي تمالأ مع منطاش أولًا على برقوق، وسَعَيَا حتى خلعاه، ثم فسد الحالُ بينهما وفاز منطاش بالنيابةِ فسَجَنَ يلبغا، وعندما تسلَّم برقوق السلطنة مرة أخرى أخرج يلبغا وعفا عنه رغم ما فعَلَه ضِدَّه وأنعم عليه بنيابةِ دمشق، ثمَّ إنه تمالأ مرةً أخرى مع منطاش، فكان عاقبته القتل!

العام الهجري : 842 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1438
تفاصيل الحدث:

بعد أن تسلطن الظاهر جقمق أصبح الأمير قرقماس هو أتابك العساكر وهو الأمير الكبير، ثم في ربيع الآخر ثارت عدة من المماليك القرانصة الذين قاموا مع السلطان العزيز يوسف بن برسباي قبل ذلك على الأشرفية، وطلبوا الآن من السلطان الزيادة في مرتباتهم، فنزل إليهم الأمير قرقماس ووعدهم بأن يكلم السلطان بذلك، ولكنهم أبوا إلَّا أن يقاتلوا السلطان واستطاعوا أن يقنعوا الأمير قرقماس بأن يكون معهم ضِدَّ السلطان، فلبسوا سلاحهم ولبس هو الآخر أيضًا، وأتاه كثير من الأشرفية، وساروا به حتى وقف بالرميلة تجاه باب السلسلة، وهم في اجتماعهم مختلفة آراؤهم، وعندما وقف تجاه باب السلسلة من القلعة سار بعض أتباعه ونادى في القاهرة على لسانه بمجيء المماليك إلى الأمير قرقماس، وأنه ينفق فيهم مائتي دينار لكل واحد، وبمجيء الزعر إليه وأنه يعطي كل واحد منهم عشرين دينارًا، فعَظُم جمعُه، بحيث توهَّم كثير من الناس أن الأمر له، وكان السلطان عند ذلك في نفر قليل، فبادر بنزوله من القصر إلى المقعد الذي بجانب باب السلسلة، ومعه المال، وبعث بجماعة للقتال، فوقعت الحربُ بين الفريقين مرارًا، والجراح فاشية فيهم، وقد قُتِل جماعة وتعَيَّن الغلب لقرقماس ومن معه، إلا أن عدة من الأمراء فرُّوا عنه، وصعدوا من باب السلسلة إلى السلطان، فسُرَّ بهم، ثم أقبل أيضًا من جهة الصليبة عدة أمراء، ووقفوا تجاه قرقماس في هيئة أنهم جاؤوا ليقاتلوا معه، ثم ساقوا خيولهم بمن معهم، ودخلوا باب السلسلة، وصاروا مع السلطان، فازداد بهم قوة، هذا وقد دُقَّت الكوسات -قطعتان من نحاس يدق بإحداهما على الأخرى بإيقاع مخصوص- السلطانية حربيًّا بالطبلخاناه من القلعة، وقامت ثلاثة مشاعلية على سور القلعة تنادي من كان في طاعة السلطان فليحضُرْ وله من النفقة كذا وكذا، ونثر مع ذلك السلطان من المقعد على العامة ذهبًا كثيرًا، وصار يَقِفُ على قدميه ويحَرِّض أصحابه على القتال، فأقبلت الفرسان نحوه شيئًا بعد شيء داخلة في طاعته، وتركت قرقماس، والحرب مع هذا كله قائمة بين الفريقين ضربًا بالسيوف، وطعنًا بالرماح، إلا أن الرمي من القلعة على قرقماس ومن معه بالنشاب كثيرٌ جدًّا، مع رمى العامة لهم بالحجارة في المقاليع؛ لبغضها في قرقماس وفي الأشرفية، فتناقص جمعهم، وتزايد جمع السلطان إلى قبيل العصر، فتوجه بعض الأشرفية وأخذوا في إحراق باب مدرسة السلطان حسن؛ ليتمكنوا من الرمي على القلعة من أعلاها، فلم يثبت قرقماس، وفَرَّ وقد جُرِح، فثبتت الأشرفية وقاتلت ساعة، حتى غُلِبت بالكثرة عليها، فانهزمت بعدما قُتِل من الفرسان والرجالة جماعة، وجُرح الكثير، فممن جُرح من السلطانية الأمير تغري بردي المعروف بالمؤذي حاجب الحجاب من طعنة برمح في شدقه، والأمير أسنبغا الطيارى الحاجب في آخرين، فكانت هذه الوقعة من الحروب القوية بحسب الوقت، إلا أن قرقماس جرى فيها على عادته في العجلة والتهور، ففاته الحزم، وأخطأه التدبير من وجوه عدة؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} وعندما انهزم القوم ندب السلطان الأمير أقبغا التمرازي أمير سلاح في جماعة؛ لطلب المنهزمين، فتوجه نحو سرياقوس خشية أن يمضوا إلى الشام، فكانوا أعجز من ذلك، ولم يجد أحدًا فعاد، ثم قُبِض على الأمير قرقماس، ثم سُجِن بالإسكندرية، ثم قُتِل بعد عدة أشهر.

العام الهجري : 857 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1453
تفاصيل الحدث:

هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي، السلطان الرابع والثلاثون من ملوك الترك، والعاشر من الجراكسة، ويذكر في أصله أنه أخذ من بلاده صغيرًا فاشتراه خواجا كزلك وجلبه إلى الديار المصرية، فابتاعه منه الأتابك إينال اليوسفي، وقيل: ولده أمير علي بن إينال وهو الأصح، وربَّاه عنده، فطلبه الملك الظاهر منه في سرحة سرياقوس، وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس، وقد اختلفت الأقوال في أمر عتقه؛ فمن الناس من قال: إن أمير علي كان أعتقه قبل أن يطلُبَه الملك الظاهر منه، فلما طلبه الملك الظاهر سكت أمير علي عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من جملة مشتريات الملك الظاهر. تسلطن يوم خُلِعَ الملك العزيز يوسف، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ربيع الأول سنة 842. كان قد خرج عن طاعة الظاهر جقمق الأمير قرقماس، فواقعه الملك الظاهر، فانهزم قرقماس واختفى، ثم ظُفِرَ به وضُرِبَ عنقه. ثم خرج عن طاعته تغرى برمش نائب حلب، ثم أينال الجكمي نائب الشام؛ فجهز إليهما العساكر، فقاتلوهما واحدًا بعد الآخر، فظَفِرَ بهما وقتلهما. وبعد قتل هؤلاء صفا الوقت للملك الظاهر، وأخذ وأعطى، وقرب أقوامًا وأبعد آخرين. ولم يزل في ملكه والأقدارُ تساعدُه، إلى أن بدأ المرض به في آخر السنة الماضية وما زال يزداد به حتى قويَ عليه جدًّا في أواخر شهر محرم من هذه السنة، ثم لما كان يوم الأربعاء العشرون من المحرم، تكلم السلطان مع بعض خواصِّه في خلع نفسه من السلطنة، وسلطنة ولده المقام الفخري عثمان في حياته، فروجِعَ في ذلك فلم يقبَلْ، ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدهيشة، فلما كان الغد، وهو يوم الخميس الحادي والعشرين محرم حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء، وفي ظنِّ الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هي عادة الملوك، فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح، خلع نفسَه من السلطنة، وقال للخليفة والقضاة: الأمر لكم، انظروا فيمن تُسلطِنوه، أو معنى ذلك؛ لعِلمِه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان؛ فإنَّه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فلما سمع الخليفةُ كلام السلطان، لم يعدِلْ عن المقام الفخري عثمان، لِما كان اشتمل عليه عثمان من العلم والفضل، وإدراكِه سِنَّ الشبيبة، وبايعه بالسَّلطنة، وتسلطن في يوم الخميس ولقِّبَ بالملك المنصور، وعمره يومئذ نحو الثماني عشرة سنة تخمينًا، واستمرَّ الملك الظاهر مريضًا ملازمًا للفراش، وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطي في مملكتِه، ويعزِلُ ويولي، والملك الظاهر في شُغلٍ بمرضه، وما به من الألم في زيادة، إلى أن مات في قاعة الدهيشة الجوانية بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر وقرئ حوله القرآن العزيز، إلى أن أصبح وجُهِّزَ وغُسِّلَ وكُفِّن من غير عجلة ولا اضطراب، حتى انتهى أمرُه وحُمِل على نعشه، وأُخرِج به، وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيًا وجميع أعيان المملكة إلى أن صلِّيَ عليه بمصلاة باب القلعة من قلعة الجبل، وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة، وخلفه السلطان المنصور عثمان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر، ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وأُنزِلَ من القلعة، حتى دفِنَ بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمي المصارع، ولم يشهد ولده الملك المنصور دفنَه، وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومين.

العام الهجري : 1377 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1958
تفاصيل الحدث:

هو الشيخُ أبو المكارم محيي الدين أحمد بن خير الدين الهندي المشهور بلقب "أبو الكلام آزاد", من أسرة أفغانية هاجرت إلى الهند زمنَ الإمبراطور بابر مؤسِّس الدولة المغولية، ولِدَ بكلكتا عام 1306هـ / 1888م وبها استتَمَّ دراستَه الأولية. وقصد الأزهرَ في الرابعة عشرة من عمره، فدرس على علمائِه ودرَّس في خارجه، ثم عاد إلى وطن أبيه (الهند) فسكن كلكتا، وقد أخذ كنيةَ أبي الكلام لكونِه خطيبًا بارعًا، أما كلمة آزاد فتعني في اللغة الأردية "الحـَّر"، تربَّى تربية صوفية، وأتقن الإنجليزية والفارسية وتنقَّل بين كلكتا وبومباي، كما زار القاهرة وتركيا وفرنسا، وقد تأثَّر برشيد رضا، وكان من أعضاء حزب المؤتمر الهندي الذي أقرَّ برنامج المهاتما غاندي القائل بالمقاومة السلبية. ثم كان مستشارًا للبانديت نهرو. قام بتأسيس جماعةٍ دينية في كلكتا سماها "حزب الله"، ثم أسَّس مدرسة سماها "دار الرشاد"، وقام بإصدار مجلة "الهلال" في 1912، وبلغت كمية توزيعها 25 ألف نسخة أسبوعيًّا، وهو عددٌ ضَخمٌ جِدًّا في تلك الفترة. وهاجم الاستعمارَ البريطاني فاعتقله الإنجليزُ (المستعمرين للهند في ذلك الوقت) وقاموا بمنعِ إصدار المجلة في 1915. وسرعان ما أصدر أبو الكلام في نفسِ العام مجلةً أخرى هي مجلة البلاغ، لكِنَّها مُنعت أيضًا. ثم تمَّ إبعاده عن كلكتا ومُنِعَ من دخول ولايات البنجاب ودلهي وبومباي؛ فقد حصل له القَبولُ العظيم في بلاد الهند لمهارته في أساليب الكلام، فقصد البنغال، وقد تكرر اعتقال البريطانيين له. ولم يصرِفْه ذلك عن هدفه في مقاومة الإنجليز، واستقَرَّ بمدينة "رانشي" التي كتب فيها تفسيره للقرآن الكريم، وترجم معانيه إلى اللغة الأردية. وقد تعرَّض بعد ذلك للسجن لمدة ثلاث سنوات ونصف حتى العام 1920. وتولَّى رئاسة حزب المؤتمر بدلهي 1923 و 1939م، تحول أبو الكلام من مصلح ديني وداعية إسلامي إلى زعيم وطني وقائد سياسي، وقد صرف فكرَه ونشاطَه -بعدما رأى تفكُّك الوحدة بين الشعوب الإسلامية- من المجال الإسلامي إلى المجال الوطني. وفي سنة 1356هـ ألَّفَ حزب المؤتمر الوطني الوزارةَ في عدة ولايات هندية، وكان أبو الكلام من كبارِ المشرفين والموجِّهين في هذا التأليف، له الكلمة النافذة والرأي الوجيه في اختيار الوزراء، واستقالت هذه الوزارةُ سنة 1358هـ، وقد قَوِيَت حركة العصبة الإسلامية في هذه المدة ومطالبتها بانفصال باكستان، وثار المسلمون في جميع البلاد الهندية في تأييد هذه الفكرة، وتعَرَّض أبو الكلام وزملاؤه الذين كانوا يعارضون هذه الفكرة، ويدعون إلى فكرة الهند غير المنقسِمة للسَّخَط العام من المسلمين، واكتسحت فكرةُ الانفصال الكثرة من المسلمين، وبقي أبو الكلام على مبدئه وفكرته، وأصرَّت العصبة الإسلامية تحت قيادة رئيسها محمد علي جناح على المطالبةِ بالتقسيم، فحصل الانقسام، كان أبو الكلام مع عِلمِه بالعربية يكتُبُ تآليفه ومجلاته ومقالاته بالأردية، وقد تُرجِمَ بعضها إلى العربية، وكان قد صَنَّف في السجن كتابه (التذكرة) بالأردية، سجَّل فيه فلسفته الثورية، وعقيدته السياسية. بعد تولي أبي الكلام وزارة المعارف في الحكومية المركزية انطوى على نفسه بعيدًا عن المجامع الشعبية، حتى وافته المنية رحمه الله في دلهي، وصلى عليه جمع كبير من المسلمين.

العام الهجري : 215 العام الميلادي : 830
تفاصيل الحدث:

أُنشِئَت هذه المكتبةُ في القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي) على يدِ هارونَ الرشيد، وذلك بعد أن ضاقت مكتبةُ القَصرِ بما فيها من كتُبٍ, وعَجَزت عن احتواءِ القُرَّاء المتردِّدين عليها؛ ممَّا جعله يفكِّرُ في إخراجِها من القصر, وإفرادِها بمبنًى خاصٍّ بها, يَصلُحُ لاستيعابِ أكبَرِ عدَدٍ مِن الكتُبِ, ويكون مفتوحًا أمام كلِّ الدارسينَ وطُلَّابِ العِلمِ. فاختار لها مكانًا مُناسِبًا, وأقام عليه مبنًى مكَوَّنًا من عدَّةِ قاعات؛ قاعة للاطِّلاع, وقاعة للمُدارَسة, وقاعة لنَسخِ الكتُبِ الجديدة وتجليدِها, وقاعة للتَّرويحِ عن النَّفسِ وللاستراحةِ. ومسجِدًا للصلاةِ, ومكانًا يَبيتُ فيه الغُرَباء, تتوفَّرُ فيه مقوِّماتُ الحياةِ مِن طعامٍ وشَرابٍ وغَيرِه, ومخزنًا للكتُب, نظمَت فيه بحيثُ صار لكُلِّ فَنٍّ مِن الفنون العِلميَّة مكانٌ خاصٌّ به, وتُوضَعُ فيه مُرَتَّبةً في دواليبَ، ثم زوَّدها بما تحتاجُ إليه من أثاثٍ ومرافِقَ, وأحبارٍ وأوراقٍ للدارسين, وعيَّنَ لها المُشرِفينَ على إدارتِها, والعُمَّالَ القائمينَ على خدمة ورعايةِ زائريها. وواصلَ ابنُه المأمونُ بعده الاهتمامَ بتلك المكتبةِ، فأحضر مئاتِ النُّسَّاخ والشُّرَّاح والمُترجِمينَ مِن شَتَّى اللُّغات؛ لتعريبِ ونَقلِ الكتُبِ من لغَتِها الأصلية, حتى غَدَت من أعظَمِ المكتبات في العالَم, ووضع بها مرصدًا؛ ليكون تعليمُ الفلَكِ فيها تعليمًا عمليًّا، يجَرِّبُ فيها الطلابُ ما يدرُسونَه من نظريَّاتٍ عِلميَّةٍ, وبنى بها مستشفًى لعلاجِ المرضى وتعليمِ الطِّبِّ؛ إذ كان يؤمِنُ بأن العِلمَ النظري وحده لا جَدوى منه. وكتب إلى ملكِ الرومِ يسألُه الإذنَ في إنفاذِ ما عنده من العلومِ القديمة المخزونةِ المورَّثة عن اليونان, واجتمع لدى المأمونِ بذلك ثروةٌ هائلةٌ مِن الكتبِ القديمة, فشَكَّلَ لها هيئةً مِن المترجمينَ المَهَرة والشُّرَّاح والورَّاقينَ؛ للإشرافِ على ترميمِها ونَقلِها إلى العربيَّة, وعيَّنَ مسؤولًا لكلِّ لغةٍ يُشرِفُ على من يُترجِمونَ تُراثَها, وأجرى عليهم الرواتبَ العظيمة, حيث جعل لبعضِهم خمسَمائة دينارٍ في الشهر, أي ما يساوي 2كيلو جرام ذهبًا تقريبًا, بالإضافة إلى الأعطيات الأخرى, إذ أعطى على بعضِ الكتُبِ المُترجَمة وزنَها ذهبًا. وبعضُهم كان يقومُ بترجمة الأصلِ إلى لُغتِه هو, ثم يقومُ مترجِمٌ آخَرُ بنَقلِه إلى العربيَّةِ وغيرِها, ولم يقتَصِرْ دَورُ المترجمينَ على الترجمةِ فقط، وإنما قاموا بالتعليقِ على هذه الكتب، وتفسيرِ ما فيها من نظريَّات, ونَقْلها إلى حيِّز التطبيق, وإكمالِ ما فيها من نَقْصٍ, وتصويبِ ما فيها من خطأٍ؛ حيث كان عمَلُهم يُشبِهُ ما يسمَّى بالتحقيقِ الآن, وما إن انتهى عصرُ المأمون حتى كانت معظَمُ الكتُبِ اليونانيَّة والهنديَّة والفارسية وغيرِها من الكتب القديمة في علومِ الرياضةِ والفَلَك والطبِّ والكيمياءِ والهندسةِ موجودةً بصورتها العربيَّة الجديدةِ بمكتبة بيتِ الحكمةِ. كان للترجمةِ التي عَمِلَ عليها المأمونُ أثَرٌ واضِحٌ في تطوُّرِ الحركة العلميَّة لدى المسلمين إلَّا أنَّها نقَلَت معها بعضَ مُعتَقداتِ الأُمَم السابقة، وأفسدت على بعضِ المُسلِمين دينَهم. يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: "أظهر اللهُ مِن نورِ النبوةِ شَمسًا طَمَسَت ضوءَ الكواكبِ، وعاش السَّلَفُ فيها بُرهةً طويلةً، ثم خَفِيَ بعضُ نورِ النبوة؛ فعُرِّبَ بعضُ كتُبِ الأعاجِمِ الفلاسفةِ مِن الرومِ والفُرس والهند في أثناءِ الدولة العباسيَّة، ثم طُلِبَت كتُبُهم في دولة المأمونِ مِن بلاد الروم فعُرِّبَت، ودَرَسَها الناسُ وظهر بسبب ذلك من البِدَعِ ما ظهر، وكان أكثَرُ ما ظهر من علومِهم الرياضيَّة كالحسابِ والهيئةِ، أو الطبيعةِ كالطبِّ أو المنطقيَّة، فأمَّا الإلهيَّةُ: فكلامُهم فيها نَزْرٌ، وهو مع نزارتِه ليس غالِبُه عندهم يقينًا، وعند المسلمينَ من العلومِ الإلهيَّة الموروثة عن خاتَمِ المُرسَلين ما ملأ العالمَ نُورًا وهدًى". وقال أيضًا رحمه الله: "إنَّ أمَّتَنا- أهلَ الإسلامِ- ما زالوا يَزِنون بالموازينِ العَقليَّة, ولم يسمَعْ سَلَفًا بذكرِ هذا المنطقِ اليوناني, وإنَّما ظهر في الإسلامِ لَمَّا عُرِّبَت الكتبُ الروميَّة في عهد دولة المأمونِ"

العام الهجري : 802 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1399
تفاصيل الحدث:

تزايد الاختلافُ بين أمراء المماليك والخاصكية، وكثُر نفور الخاصكية من الأمير أيتمش الذي كان يتولَّى نيابة السلطنة بوصية السلطان برقوق، وخاصة أن السلطان فرجًا ما زال قاصرًا، وظنوا به وبالأمراء أنَّهم قد مالوا إلى نائب الشام الأمير تنم الحسني الذي بدأ يعصي عن الطاعة، واتفقوا معه على إفناء المماليك بالقتل والنفي، فحَذِرَ الأمراء منهم، واشتدت الوحشةُ بين الطائفتين، وتعيَّن من الخاصكية سودون طاز، وسودون بن زاده، وجركس المصارع، ووافقوا الأمير يشبك الشعباني الذي كان منافسًا لأيتمش، فصاروا في عصبة قوية وشوكة شديدة، وشرع كلٌّ من الأمراء والخاصكية في التدبير، والعمل على الآخر، ثم استدعى الملكُ الناصر فرج الأميرَ الكبير أيتمش إلى القصر، وقال له: يا عمِّ، أنا قد أدركت، وأريد أن أترشَّدُ، وكان هذا قد بيَّته معه الأمير يشبك، والأمير سودون طاز، فيمن معهما من الخاصكية، ليستبِدَّ السلطان ويحصُلَ لهم الغرض في أيتمش والأمراء، ويمتنع أيتمش من تصرُّف السلطان، فينفتح لهم باب إلى القتال، ومحاربة أيتمش والأمراء، فأجاب أيتمش السلطانَ بالسمع والطاعة، واتَّفق مع الأمراء والخاصكية على ترشيد السلطان، وأن يُمتثَلَ سائِرُ ما يرسُمُ به، فكان كما أراد ورُسم بترشيد السلطان، وافترق من يومئذ العسكر فريقان: فرقة مع أيتمش، وفرقة مع يشبك، وانقطع يشبك بداره، وأظهر أنه مريض، فحَذِرَ أيتمش ومن معه من الأمراء وظنوا أنَّها من يشبك حيلة، حتى إذا دخلوا لعيادته قبض عليهم، فلزم كلٌّ منهم داره واستعَدَّ، وأخلد أيتمش إلى العجز، وأعرض عن إعمال الرأي والتدبير، وكان قد تبيَّن منذ مات الظاهر عجزُه وعدم أهليته للقيام بالأمر، فلما كان ليلة الاثنين عاشر من شهر صفر أشيع من العصر ركوب العساكر للقتال، وماج الناس وكثرت حركاتهم، فلم يدخل الليل حتى لبس أيتمش ومن معه آلةَ الحرب، وملك أيتمش الصوة -قرية بشرقية مصر- تجاه باب القلعة، وأصعد عدةً من المقاتِلة إلى عمارة الأشرف تجاه الطبلخاناه؛ ليرموا على من فيها ومن يقف على باب القلعة، ولم يخرُج يشبك من بيته، وأخذ الأمير فارس حاجب الحجاب رأس الشارع الملاصِق لباب مدرسة السلطان حسن؛ ليقاتِلَ من يخرج من باب السلسلة، ودُقَّت بها الكوسات -قطعتان من نحاس يُدَقُّ بإحداهما على الأخرى- الحربية، ولبست المماليك السلطانية، ووقعت الحروبُ بين الفريقين من وقت العشاء الآخرة إلى السَّحَر، وقد نزل السلطان من القصر إلى الإسطبل، فاشتَدَّ قتال المماليك السلطانية، وثبت لهم الأمير فارس، وكاد يهزمُهم لولا ما كادوه من أخذ مدرسة السلطان حسن، ورَمْيه من أعلاها إلى أن هزموه، وأحاطوا بداره، وهزموا تغري بردي وأرغون شاه، بعدما أبلى تغري بردي بلاء كثيرًا، وأحاطوا بدورهما، فصار الجميع إلى أيتمش، وقد امتدَّت الأيدي إلى دُورِهم، فنهبوا ما فيها، فنادي أيتمش بالقاهرة وظواهرها: من قبض مملوكًا جركسيًّا من المماليك السلطانية، وأحضره إلى الأمير الكبير أيتمش يأخذُ عريةً فحنقوا من ذلك، وفارقه من كان معه من الجراكسة، وصاروا إلى جهة السلطان، ومالوا بأجمعِهم على أيتمش، فانهزم ممن بقي معه وقت الظهر من يوم الاثنين يريدون جهة الشام، وانهزم معه من الأمراء الألوف أرغون شاه أمير مجلس، وتغري بردي أمير سلاح، وغيرهم، فمرُّوا بالخيول السلطانية في ناحية سرياقوس، فأخذوا من جيادها نحو المائة، وساروا إلى دمشق، وتجمَّع من المفسدين خلائق، ونهبوا مدرسة أيتمش، وحفَروا قبر ولده الذي بها، وأحرقوا الرَّبعَ المجاور لها من خارج باب الوزير، فلم يُعمَر بعد ذلك، ونهبوا جامع أقسنقر، واستهانوا بحرمة المصاحف، ونهبوا مدرسةَ السلطان حسن، وأتلَفوا عِدَّةً من مساكن المنهزمين، وكسروا حبس الديلم وحبس الرحبة، وأخرجوا المسجونين.

العام الهجري : 862 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1458
تفاصيل الحدث:

وقع حريق عظيم بساحل بولاق لم يُسمَعْ بمثله في سالف الأعصار إلا قليلًا، بحيث إنَّه أتى على غالب أملاك بولاق من ساحل النيل إلى خط البوصة التي هي محل دفن أموات أهل بولاق، وعجز الأمراء والحكام عن إخماده، وكان من أمر هذا الحريق أنه لما كان صبيحة يوم الجمعة سادس رجب هبت ريح عظيمة وعظمت حتى اقتلعت الأشجار وألقت بعض المباني، واستمرت في زيادة ونمو إلى وقت صلاة الجمعة، فلما كان وقت الزوال أو بعده بقليل احترق ربع الحاج عبيد البرددار بساحل البحر، وذهب الربع في الحريق عن آخره ومات فيه جماعة من الناس، كل ذلك في أقل من ساعة رمل، ثم انتقلت النار إلى ربع القاضي زين الدين أبي بكر بن مزهر وغيره، وهبت الرياح وانتشرت النيران على الأماكن يمينًا وشمالًا، وحاجب الحجَّاب وغيره من الأمراء والأعيان وكل أحد من الناس في غاية الاجتهاد في تخميد النار بالطفي والهدم، وهي لا تزداد إلا قوة وانتشارًا على الأماكن، إلى أن وصلت النار إلى ربع الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص، وإلى الحواصل التي تحته، وأحرقت أعلاه وأسفله، وذهب فيه من بضائع الناس المخزونة فيه ما لا ينحصر كثرة، وسارت النار إلى الدور والأماكن من كل جهة، هذا وقد حضر الحريق جميع أمراء الدولة بمماليكهم وحواشيهم، شيئًا بعد شيء، والأمر لا يزداد إلا شدة، إلى أن صار الذي حضر من الناس لأجل طفي النار كالمتفرِّج من عِظَم النار والعجز عن إخمادها، وصارت النار إذا وقعت بمكان لا تزال به حتى يذهب جميعه، ويضمحل عن آخره، فعند ذلك فطن كل أحد أن النار تسير من دار إلى دار إلى أن تصل إلى القاهرة؛ لعِظَم ما شاهدوا من هولها، والريح يتداول هبوبها من أول النهار إلى نصف الليل؛ ولشدة هبوب الريح صارت رياحًا؛ لأنها بقيت تهب من سائر الجهات، فيَئِس كل من كان له دار تحت الريح، وتحقق زوالها، وشرع في نقل متاعه وأثاثه، واستمر الأمراء والأعيان يشاهدون الحريق، ويطفئون ما قدروا عليه من أطراف المواضع المنفردة؛ وأما الحريق العظيم فلا يستجرئ أحد أن يقربه لعِظَمِه، بل يشاهدونه من بعيد، واستمروا على ذلك إلى بعد أذان عشاء الآخرة، ثم ذهب كل واحد إلى داره والنار عمالة إلى نصف الليل، فأخذ أمر الريح في انحطاط، فعند ذلك اجتهد كل أحد في إخمادها، وأقاموا على ذلك أيامًا كثيرة، والنار موجودة في الأماكن والجُدُر والحيطان، والناس تأتي لبولاق أفواجًا للفرجة على هذا الحريق العظيم، فكان عدة ما احترق فيه من الأرباع زيادة على ثلاثين رَبْعًا، كل رَبْع يشتمل على مائة سكن وأكثر، وما به من الحوانيت والمخازن ما خلا الدور والأماكن والأفران والحوانيت وغير ذلك، وقد اختُلِفَ في سبب هذا الحريق على أقوال كثيرة، منهم من قال: إنها صاعقة نزلت من السماء، ومنهم من قال: إن الأرض كأن النار تنبع منها، ثم بعد ذلك بأيام أشيع أن الذي كان يفعل ذلك ويلقي النار في الأماكن هم جماعة من القرمانية ممن أحرق العسكر المصري أمكنَتَهم لما توجهوا إلى تجريدة ابن قرمان، وشاع القولُ في أفواه الناس، ثم ظهر للناس بعد ذلك أن الذي صار يحرق من الأمكنة بالقاهرة وغيرها بعد حريق بولاق إنما هو مِن فِعلِ المماليك الجلبان، لينهبوا ما في بيوت الناس عندما تُحرق، فإنه تداول إحراق البيوت أشهرًا، ثم تداول الحريق بعد ذلك بخط بولاق والقاهرة، وقوي عند الناس أن الذي يفعل ذلك إنما هو من تركمان ابن قرمان، ثم وقع الحريق أيضًا في شعبان بأماكن كثيرة، وتداول الحريق بالقاهرة وظواهرها، وضرَّ ذلك كثيرًا بحال الناس، وقد قوي عندهم أن ذلك من فعل القرمانية والمماليك الأجلاب: يعنون بالقرمانية والأجلاب أن القرمانية إذا فعلوا ذلك مرةً ويقع الحريق، فتَنهَبُ المماليك الأقمشة وغيرها لِما يطلبون الدور المحروقة للطفي، فلما حسن ببال المماليك ذلك صاروا يفعلون ذلك.

العام الهجري : 916 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1510
تفاصيل الحدث:

من أقوى الأسباب التي هيأت للإسبان احتلال طرابلس الغرب ضعفُ الحامية فيها، وانصراف الناس إلى تنمية المال، وإلى مُتَع الحياة عن الاهتمام بتقوية الجيش وتحصين القلاع، ومن المناسبات التي انتهزها الإسبان للتعجيل باحتلال طرابلس، أنه في هذه سنة وقع خلاف بين أحمد الحفصي وبين والده الناصر، فذهب إلى الإسبان يستنجد بهم على أبيه، فاستعد الإسبان لغزو طرابلس، فجهزوا 120 قطعة بحرية، وانضم إليها سفن أخرى من مالطة، وشُحنت بخمسة عشر ألف جندي من الإسبان، وثلاثة آلاف من الإيطاليين والمالطيين. وفي 8 من ربيع الآخر أقلع الأسطول من فافينيانا، ومرَّ بجزيرة قوزو بمالطة فتزود منها بالماء، وانضمَّ إلى الجيش خبير مالطي اسمه جوليانو بيلا، له معرفة بطرابلس. وقد أعدت هذه الحملة بإشراف نائب ملك صقلية، وبإعانة الجيوش الصقلية والإيطالية. وقد تسربت أخبار هذه الحملة إلى طرابلس قبل تحركها بنحو شهر، فأخذ الناس في الهجرة منها إلى غريان، وتاجورة، ومسلاتة، وأخذوا معهم كل ما كان مهمًّا من أموالهم، وما أمكنهم من أثقال متاعهم، ولم يبقَ بالمدينة إلا المحاربون، وبعض السكان الذين لم يقدروا على الفرار، وانحازوا إلى قصر الحكومة والجامع الكبير، وصعد المحاربون فوق الأسوار وعلى القلاع.  نزلت جيوش الإسبان في القوارب وكانت بقيادة بييترو نافارو، وفي الصباح، بدأ الهجوم وأطلقت السفن مدافعها على الأسوار وقصر الحكومة. ونزل الجيش المكلف بمنع المسلمين من الاتصال بالمدينة إلى البر بجهة سيدي الشعاب لمنع الاتصال بالمدينة. واندفع الجيش الإسباني نحو المدينة تحميه مدافع الأسطول، فاحتل البرج القائم على باب العرب وبعض الأسوار، وتمكن الإسبان من فتح باب النسور، واتصل الجيش الخارجي بالجيش الداخلي واستبسل الطرابلسيون في الدفاع، وجاء في رسالة القائد نافارو أنه لم يخلُ موضِعُ قَدَمٍ في المدينة من قتيلٍ، ويقَدَّر عدد القتلى بخمسة آلاف، والأسرى بأكثر من ستة آلاف، وتغلَّب الإسبان على مقاومة المسلمين العنيفة، واحتُلَّ قصر الحكومة عَنوةً، وقد حَمِيَ وطيس المعركة حينما تمكَّن حامل العلم الإسباني من نصبِه على برج القصر. وأبدى من التجؤوا إلى الجامع الكبير مقاومة شديدة، فقُتِل منهم نحو ألفي طرابلسي بين رجال ونساء وأطفال. وقتل من الإسبان ثلاثمائة رجل، وكان من بين الموتى كولونيل كبير في الجيش، وأميرال الأسطول، وقبل أن تغرب شمس يوم 18 من ربيع الآخر من هذه السنة، سقطت مدينة طرابلس في يد الإسبان، بعد أن أريقت دماء الطرابلسيين في كل بقعةٍ منها، ولكثرة القتلى فقد أُلقيت جثثُهم في صهاريج الجوامع وفي البحر، وأُحرق بعضها بالنار. وأقام نائب البابا احتفالات الفرح بسقوط هذه المدينة العربية الإسلامية في أيدي النصارى. وأرسل القسيس أمريكو دامبواس رئيس منظمة فرسان القديس يوحنا إلى فرديناند ملك إسبانيا تهنئة، ويرجوه أن يتابع فتوحاته في إفريقية. وعلى الجانب الآخر فقد استاء المسلمون لهذا الاحتلال، وقابله الطرابلسيون المقيمون في الإسكندرية إذ ذاك بإحراق فندق للإسبان في المدينة. انتهز الطرابلسيون المعسكِرون خارج السور غياب القائد الإسباني نافارو وأسطوله، وانقضُّوا على المدينة وتسلَّقوا سورها، ولكنهم لم يوفَّقوا فرجعوا أدراجَهم, وهو ما دفع محمد بن حسن الحفصي إلى إعانة طرابلس، فجمع جيشًا كبيرًا بقيادة محمد أبي الحداد قائد توزر، وكان من أكبر قواده، ووصل طرابلس ونزل خارج السور، وانضم إلى هذا الجيش المحاربون الطرابلسيون، وهاجموا المدينة في ذي الحجة من هذه السنة, ولكنهم لم يظفروا منها بطائل. وظل يحكم طرابلس فرسان القديس يوحنا حتى سنة 936 (1530م) عندما منحها شارل الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية لهم، الذين صاروا يعرفون في ذلك الوقت بفرسان مالطا.

العام الهجري : 1334 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1916
تفاصيل الحدث:

كانت مُراسلاتُ "حسين - مكماهون" التي دارت بين شَريف مكةَ الشَّريفِ حسين، ونائبِ الملِكِ البريطاني في القاهرة هنري مكماهون، تمثِّلُ مقدِّماتِ الثورةِ العربية، ومن أبرزِ أسبابِها، والتي وعدت فيها بريطانيا الشريفَ حسينًا بالمساعدة وتنصيبِه ملكًا على العربِ، وإقامةِ خلافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ، كما أنَّ هناك أسبابًا أخرى، منها: الضَّعفُ الذي دَبَّ في أطرافِ الدولةِ العثمانية التي كانت تحكمُ المناطِقَ العربيةَ في الشامِ والحجازِ ومصر والمغرب، ومنها النعراتُ العُنصرية التي ظهرت على يدِ الاتحاديِّين القوميِّين بشكلٍ واضح، وانتشر الظلمُ في الدولةِ على نطاقٍ واسع؛ فسياسةُ الاتحاديِّينَ هي التي أيقظت الفكرةَ القوميَّةَ العثمانيةَ، بدأ بسوء الظنِّ بالعربِ، وأسهم في ذلك بعضُ الذين يريدون تخويفَ السلطانِ العثماني من العربِ، يُشيعُ أن العربَ يريدون أن يقيموا مملكةً عربية وحدهم، وكانت شكاوى العرب تنحصِرُ في إقصاء عدد كبير منهم عن وظائفهم بالأستانة، وعدمِ دعوة العربِ لأيِّ اجتماع للتأليف بين العناصِرِ العثمانية، ولا إدخالهم في الجمعياتِ الاتحادية ولا اللِّجان المركزية، ولا حتى تعيينهم على الولاياتِ والقضاءِ في البلاد العربية، ومعارضة الاتحاديين لكلِّ مشروعٍ علمي أو أدبي في البلاد العربية، ثم بدأت بعضُ الأحزاب العربية بالظهورِ كردَّةِ فِعلٍ للقومية العثمانية؛ فعُقِدَ في باريس أول مؤتمر عربي عام 1913م، ثم تفاقم أمرُ الاتحاديين وعَظُم تشدُّدهم إلى القومية التركية، وزاد الأمرُ عندما قام جمال باشا -الذي لقِّبَ بالسفاح- بقتل عددٍ مِن الذين كَشَف أنهم يتآمرون من خلال جمعياتٍ سرية على الاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان القوميُّون العربُ قد رأوا أن يتجمَّعوا حولَ زعيم واحد ويشكِّلوا قوةً كبيرة عربية، فرأوا في الشريفِ حُسين بن علي -شريفِ مكة وأميرِها- الشخصَ المناسب لهذه الزعامة، فأجابهم، وكان التفاهمُ معه سرًّا بواسطةِ من تمكَّن مِن بعض أعضاء الجمعيات العربية الذين هربوا من جمال باشا ووصلوا للحجاز وغيرها، فتمَّ بين زعماء العرب وجمعيَّاتهم وبعضِ المقامات العالية، ومنهم الشريف حسين، أن قرَّروا إعلان الثورة في الحجاز، وكان الشريف حسين قد تعاقد مع مكماهون على أن يكون العرب حلفاءَ للإنجليز والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، وطبعا ضد الأتراك؛ لأنها كانت ضِدَّ الحلفاء، ووعدوا الشريف حسين أن يُبقوه مَلِكًا على العرب وأن يعطوا العربَ استقلالهم، وإن كان القوميون العربُ بعد اطِّلاعهم على مراسلات حسين مكماهون أغضبهم كثيرًا تنازل الشريف حسين عن بعض البلاد العربية للإنجليز أو للفرنسيين. أعلن الشريفُ حسين الثورةَ على الدولة العثمانية، وأطلق بنفسِه في ذلك اليوم أولَ رصاصةٍ على قلعةِ الأتراك في مكة؛ إيذانًا بإعلانِ الثورة، وعزَّز حركتَه بإذاعة منشورٍ اتَّهم فيه الاتحاديِّين في تركيا بالخروج على الشريعةِ الإسلامية، وجاء فيه: "وانفصلت بلادُنا عن المملكةِ العثمانية انفصالًا تامًّا، وأعلنَّا استقلالًا لا تشوبُه شائبةُ مُداخَلة أجنبية ولا تحكُّم خارجي"، واستطاعت القواتُ الثائرة أن تستوليَ في أقلَّ من ثلاثة أشهرٍ على جميعِ مدن الحجاز الكبرى، باستثناء المدينة النبوية التي بقيت محاصَرةً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يلبَثْ أن بويع الشريفُ حسين ملكًا على العرب. وقد نسفت القواتُ العربية بقيادةِ الأمير الشريف فيصل سكةَ حديد الحجاز، واحتلَّت ينبع والعَقَبة، واتخذوا من العَقَبة نُقطةَ ارتكازٍ لهم، ثم أخذ فيصل يتقدَّمُ لِيُحارِبَ الأتراكَ في منطقة شرقي الأردن، وبذلك قَدَّم للحُلفاء أكبرَ مساعدة؛ حيث استطاع اللورد اللنبي قائِدُ القوات الإنجليزية أن يدخُلَ القدسَ بمعاونة العرب، كما أنَّ احتلالَ القوات العربية لمنطقة شرقي معان قد حمى ميمنة القواتِ البريطانية في فلسطين من هَجَمات الأتراك عليها في منطقة بئر سبع والخليل، وحمى خطوطَ مواصلاتها، ولم تلبَث القواتُ العربيةُ أن تقدَّمت في (ذي الحجة 1336هـ/ سبتمبر 1918م) فاحتَلَّت دمشق واصطدمت بالأتراكِ قبل أن يدخُلَها اللنبي، ولم يمضِ أكثرُ من شهر حتى زال النفوذُ العثماني من سوريا بعد أن أمضى بها أربعة قرون. والواقع أن الكثيرين قد أُصيبوا بخيبةِ أمل كبيرة، وعلى رأسِهم الشيخ محمد رشيد رضا، وذلك عندما عَلِموا بتنازل حسين عن ولايتي إسكندرون ومرسين والمناطق الشمالية السورية، ووافق على مصالح فرنسا في ولاية بيروت لِما بعد الحرب، وعلى مصالح بريطانيا في البصرة وبغداد، وأنَّ الأسطول الإنجليزي هو الذي أسقط ثغورَ جدة ورابغ وينبع وغيرها من موانئ الحجاز، وأن ثغرَ بورسودان كان القاعدةَ التي انطلق منها الأسطول الإنجليزي لدعم ثورة الشريف حسين، وازداد شعورُهم بالخيبة عندما وجدوا ضباط إنجلترا وفرنسا مثل اللنبي وكوكس وكاترو وغورو والضابط الشهير لورانس هم الذين يقودون القبائِلَ العربية، ووصل الأمرُ ببعض هؤلاء الضبَّاط في النَّيلِ من المسلمين أنه لَمَّا دخل الجنرال اللنبي القدسَ يوم 9/12/1917م قال قولَته المشهورة: الآن انتهت الحروبُ الصَّليبية! ولَمَّا دخل الجنرال غورو دمشق يوم 21/7/1920م توجَّه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ووقف أمامَه قائلًا: ها قد عُدنا يا صلاحَ الدين! ثم تكرَّست المرارةُ والحسرة عندما ارتفعت أعلامُ بريطانيا وفرنسا على المناطق التي قاتَلَ فيها العرب، ولم يكن بينها عَلَمُ الدولة العربية المنتظَرة! وحاول الشيخ رشيد رضا أن يلفِتَ نظرَ الشريف حسين إلى خطورة ما أقدم عليه؛ لأن العدوَّ الحقيقيَّ هو الاستعمار الغربي لا الدولةُ العثمانية، إلا أنَّ بريقَ المصلحة وأحلامَ المُلك والعَرش كانا قد سيطرا على خيال الشريف حسين، فلم يستمِعْ إلى صوتِ ناصحٍ أو حكيمٍ! وإنما أمر بمنع دخول مجلة "المنار" التي يُصدِرُها الشيخ رشيد رضا من دخول مكة. ولم يعلم العربُ باتفاقِ (سايكس – بيكو) إلا عندما أعلنه البلاشفة بعد قيام ثورتهم في روسيا 1917م، وتأكَّد العربُ أنَّ الاتفاق أهمل تأسيسَ خلافة عربية، وأعطى بعضَ أجزاء من الدولة العربية المنتَظَرة لفرنسا، وأثار هذا الاتفاقُ حفيظةَ العرب، إلا أنَّهم مضوا في ثورتهم بعد طمأنةِ البريطانيين لهم، ونجح العثمانيُّون في تصوير الشريف حسين على أنَّه خائِنٌ للإسلام متحالِفٌ مع الدُّوَل النصرانية ضِدَّ دولة إسلامية، إلَّا أن الخلافاتِ الحقيقيةَ بين العرب والإنجليز تعمَّقت وظهرت مع إطلاقِ بريطانيا لوعدِ بلفور في (المحرم 1336هـ/نوفمبر 1917م) كانت غاية الإنجليز من ثورة العرب هو ضربَ الأتراك بالعرب، بدلًا أن يخوضوا هم غمار هذه الحرب، ويدلُّ على ذلك أن الإنجليز كانوا يضغطون على الشريف حسين لبدء الثورة عندما كانت جيوش الحلفاء تستسلم للأتراك عند كوت العمارة في نيسان 1916م، وكان الحلفاءُ غير قادرين على مواجهة القوات العثمانية عند قناة السويس واليمن، فكان التعجيل بالثورة ضِدَّ العثمانيين فيه تخفيف العبء عن الإنجليز، وفعلًا أدى إعلان الثورة إلى رجحان كفة الحلفاء، وبدأت الحاميات التركية في الاستسلام بعد أن حوصِرَت واستعمل معها رجال الجيش حربَ العصابات، ثم بدأ القتال فعلًا بين العرب وجيوش العثمانيين في الحجاز في التاسع من شعبان 10 يونيو، وأعلنوا استقلالهم، وهاجموا الثكناتِ التركيةَ في مكة، وحمِيَ القتال خلال يومين، حتى تعطَّلت الصلاةُ والطواف في المسجد الحرام، وكذلك الأمرُ في جدَّة؛ دام القتال ستة أيام حتى سقطت بيدِ قوات الشريف، وفي التاسع من رمضان استسلم الأتراك في مكة، وفي ذي القعدة سقطت الطائفُ، ثم أعلن الحجازُ استقلاله عن الاتحاديين، فانتهز الإنجليز والفرنسيون الفرصة وبدؤوا في إرسال التهاني، وحتى الدول الأوربية الأخرى كروسيا وسائر الدول غير المنحازة، أما السوريون واللبنانيون فلم ينَلْهم من الثورة إلا الحصارُ والاضطهاد؛ حيث كانت كفاءتُهم الحربية ضعيفة مقارنة مع كفاءات العثمانيين في هذه المنطقة، وكانت جيوش الثورة عبارة عن ثلاثة جيوش كل واحد بقيادة ولد من أولاد الحسين، وهم فيصل، وعبد الله، وعلي، وكان مع جيش فيصل لورنس وكان يتلقى أوامِرَه من الجنرال اللنبي، ثم تألَّفت أول وزارة عربية في السابع من ذي الحجة 1334هـ/ 5 أكتوبر 1916م، ثم أمر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، هذا ولم تعين الحكومة العربية، ثم تمت مبايعةُ العربِ للشريف حسين بن علي ملكًا على العرب يوم الخميس السادس من محرم 1335هـ/ 6 تشرين الأول 1916م، علما أن استنكارًا إسلاميًّا قد ورد إلى الشريف حسين عن طريق شكيب أرسلان الذي قال له: أتقاتل العربَ بالعربِ أيها الأمير حتى تكون ثمرةُ دماء قاتِلِهم ومقتولِهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سوريا، واليهود على فلسطين، وهذا ما حصل بالفعل!!

العام الهجري : 741 العام الميلادي : 1340
تفاصيل الحدث:

هو الأميرُ الكبيرُ المَهيبُ سَيفُ الدين أبو سعيد تنكز نائِبُ السلطنة بالشام، جُلِبَ إلى مصر وهو حَدَثٌ، فنشأ بها، وكان أبيض يميل إلى السمرة، رشيق القَدِّ، مليح الشَّعر، خفيف اللحية قليل الشَّيب، حَسَن الشَّكلِ، جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، فاشتراه الأمير حسام الدين لاجين، فلما قُتِلَ لاجين في سلطنته صار من خاصكية السلطان الناصر، وشهد معه وقعة وادي الخزندار ثم وقعة شقحب، سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وصحيح مسلم. تولى نيابةَ السلطان بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة 712 وتمكَّن في النيابة, وسار بالعساكِرِ إلى ملطية فافتتحها وعظُمَ شأنُه وهابه الأمراءُ بدمشق ونوَّاب الشام، وأمِنَ الرعايا به ولم يكُنْ أحدٌ من الأمراء ولا من أربابِ الجاه يَقدِرُ يظلِمُ أحدًا ذِمِّيًّا أو غيره خوفًا منه؛ لبطشه وشِدَّة إيقاعه, ثمَّ تغير السلطان الناصر على تنكز, وكان سَبَبُ تغير الحال بينهما- مع أن السلطان متزوج من بنته وأراد كذلك تزويجَ ولديه من بناته- لَمَّا قَتَل تنكز جماعةً من النصارى بسَبَبِ افتعالهم الحريقَ بدمشق، عَنَّف عليه السلطان، وأن في ذلك سببًا لقتل المسلمين في القُسطنطينية، وزاد الأمرَ أنَّه أمَرَه بإحضار الأموال المتحَصَّلة من جرَّاء هذه الحادثة وأن يجهِّزَ بناتِه، فاعتذر تنكز بانشغالِه بعمارةِ ما أكَلَه الحريقُ وأنَّه أنفق تلك الأموالَ في ذلك، وزاد الأمرَ كذلك سعايةُ بعض الحاسدين عليه لدى السلطانِ حتى أمر السلطان بإحضارِه إلى مصر، فخرج جيشٌ من مصر لإحضاره من دمشقَ، وكان تنكز قد عرف بالأمرِ، فخرج وأخرج أموالَه وأهله، فوصلَ إليه الأمراء من القاهرةِ وعَرَّفوه مرسومَ السلطان وأخَذوه وأركبوه إكديشًا- حصانًا غير أصيل يُستخدَم في حمل الآلات والعدَّة- وساروا به إلى نائب صفد، وأمر طشتمر بتنكز فأُنزِلَ عن فرسه على ثوب سرج، وقيده قرمجي مملوكُه، وأخذه الأمير بيبرس السلاح دار، وتوجَّه به إلى الكسوة، فحدث له إسهالٌ ورِعدةٌ خيفَ عليه منه الموتُ، وأقام بها يومًا وليلة، ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة, وفي يومِ الثلاثاء سابِعَ المحرم وصل الأمير سيف الدين تنكز نائِبُ الشام وهو متضَعِّفٌ، بصحبة الأمير بيبرس السلاح دار، وأُنزِلَ من القلعة بمكانٍ ضَيقٍ حَرَجٍ، وقَصَد السلطان ضَرْبَه بالمقارعِ، فقام الأميرُ قوصون في الشفاعة له حتى أجيبَ إلى ذلك، وبعث إليه السلطان يُهَدِّدُه حتى يعترف بما له من المالِ، ويَذكُر من كان موافِقًا على العصيان من الأمراء، فأجاب تنكز بأنَّه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعةً عنده لأيتامِ بكتمر الساقي، وأنكر أن يكون خرجَ عن الطاعة، فأمر السلطانُ في الليلِ فأُخرِجَ مع ابن صابر المقَدَّم وأمير جندار، وحُمِلَ في حراقة –سفينة- بالنيل إلى الإسكندرية، فقَتَلَه بها إبراهيم بن صابر المقَدَّم في يوم الثلاثاء خامس عشر ودفنوه بالإسكندرية، وقد جاوز الستينَ، ثم نقل من الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعةِ ابنتِه زوجة السُّلطانِ الناصر، فأَذِنَ في ذلك وأرادوا أن يُدفَنَ بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يُمكِنْ، فجيء به إلى تربته بدمشق وقيل: كانت وفاتُه بقلعة إسكندرية مسمومًا، وتأسَّفَ الناسُ عليه كثيرًا، وطال حُزنُهم عليه، وفي كل وقتٍ يتذكَّرون ما كان منه من الهَيبةِ والصيانةِ والغَيرةِ على حريمِ المسلمينَ ومحارم الإسلام، ومن إقامتِه على ذَوي الحاجاتِ وغَيرِهم؛ يشتَدُّ تأسفهم عليه. ويُذكَرُ أنَّ لتنكز هذا أوقافًا كثيرة، من ذلك مرستان بصفد، وجامع بنابلس وعجلون، وجامع بدمشق، ودار الحديث بالقدس ودمشق، ومدرسة وخانقاه بالقدس، ورباط وسوق موقوف على المسجد الأقصى، وتُتبِّعَت أموال تنكز، فوجِدَ له ما يجِلُّ وَصفُه واشتملت جملةُ ما بيع له على مائتي ألف دينار، فكان جملةُ العين ستمائة ألف دينار وأربعمائة دينار، ومع ذلك كان له أعمالٌ جدية في دمشق فأزال المظالمَ، وأقام منارَ الشَّرعِ، وأمَرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأزال ما كان بدمشق وأعمالها من الفواحِشِ والخانات والخَمَّارات، وبالغ في العقوبةِ على ذلك حتى قَتَل فيه، وغيرها من عمارة المدارس والأوقاف والمساجد.

العام الهجري : 664 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1266
تفاصيل الحدث:

اهتم السلطانُ الظاهر بيبرس بأمر صفد، وأحضر العساكِرَ المجردة، ورحَّل الأمير بكتاش الفخري أميرَ سلاح بالدهليز السلطاني ونزل على صفد، وتبعه الأميرُ البندقدار والأميرُ عز الدين أوغان في جماعة، وحاصروها، هذا والسلطانُ مقيم على عكا حتى وافته العساكرُ، وعمل عدةَ مجانيقَ، ثم رحل والعساكِرُ لابسة، وساق إلى قربِ باب عكا، ووقفَ على تل الفضول، ثم سار إلى عين جالوت، ونزل على صفد يوم الاثنين ثامن شهر رمضان وحاصرها، فقدم عليه رسول متملك صور ورسل الفداوية، ورسول صاحب بيروت ورسول صاحب يافا، ورسل صاحب صهيون، وصار السلطان يباشر الحصارَ بنَفسِه، وقَدِمَت المجانيق من دمشق إلى جسر يعقوب وهو منزلة من صفد ثم نصبت المجانيقُ فرمي بها في السادس عشر، وصار السلطان يلازم الوقوف عندها وهي ترمي، وأتت العساكِرُ من مصر والشام، فنزلوا على منازلهم وفي ثاني يوم عيد الفطر: وقع الزحفُ على صفد، ودفع الزراقون النفطَ، ووعد السلطان الحجَّارين أنه من أخذ أول حجر كان له مائة دينار، وكذلك الثاني والثالث إلى العشرة، وأمر حاشيته بألا يشتغلوا بخدمته، فكان بين الفريقين قتال عظيم استُشهِدَ فيه جماعة، وكان الواحد من المسلمين إذا قُتِلَ جَرَّه رفيقه ووقف موضِعَه، وتكاثرت النقوبُ ودخل النقَّابون إليها، ودخل السلطانُ معهم، وبذل السلطانُ في هذا اليوم من المال والخِلَع كثيرًا، ونصب خيمةً فيها حكماء وجرائحية وأشربة ومآكل، فصار من يُجرَحُ من العُربان والفقهاء والفقراء وغيرهم يُحضَرُ إليها، وفي ثامنه: كانت بين الفريقين أيضًا مَقاتِلُ، وفي ليلة الرابع عشر: اشتد الزحف من الليل إلى وقت القائلة، فتفرق الناس من شدة التعب، فغضب السلطانُ من ذلك وأمر خواصَّه بالسَّوقِ إلى الصاواوين وإقامة الأمراء والأجداد بالدبابيس، وقال المسلمون على هذه الصورة، وأنتم تستريحون!! فأقيموا، وقبَضَ السلطان على نيف وأربعين أميرًا، وقيَّدَهم وسجَنَهم بالزردخاناه-خزانة السلاح-، ثم شفع فيهم فأطلَقَهم وأمرهم بملازمةِ مواضِعِهم، وضُرِبَت الطبلخاناه- الطبول والأبواق- واشتد الأمر إلى أن طلب الفرنجُ الأمان، فأمَّنَهم السلطان على ألا يخرجوا بسلاحٍ ولا لَأْمةِ حَربٍ ولا شيءٍ مِن الفضيات، ولا يُتلِفوا شيئًا من ذخائر القلعة بنارٍ ولا هدم، وأن يُفتَّشوا عند خروجهم، فإن وُجِدَ مع أحد منهم شيء من ذلك انتقَضَ العهد، ولم تزل الرسُلُ تتردد بينهم إلى يوم الجمعة الثامن عشر، ثم طلعت السناجق –رماح- الإسلاميَّة، وكان لطلوعها ساعةٌ مشهودة، هذا والسلطان راكِبٌ على باب صفد حتى نزل الفرنجُ كُلُّهم، ووقفوا بين يديه فرسم بتفتيشِهم، فوجد معهم ما يناقض الأمانَ من السلاح والفضيات، ووجد معهم عِدَّةً من أسرى مسلمين أخرجوهم على أنهم نصارى، فأخذ ما وجد معهم وأُنزِلوا عن خيولهم، وجُعِلوا في خيمةٍ ومعهم من يحفظهم، وتسَلَّمَ المسلمون صفد، وولى السلطانُ قلعَتَها الأميرَ مجد الدين الطوري، وجعل الأميرَ عز الدين العلائي نائب صفد، فلما أصبح حضر إليه النَّاسُ، فشكر اجتهادَهم واعتذر إليهم مما كان منه إلى بعضِهم، وإنه ما قصَدَ إلَّا حَثَّهم على هذا الفتح العظيم، وقال: من هذا الوقتِ نتحالَلُ، وأمَرَهم فركبوا، وأُحضِرَت خيالة الفرنج وجمعٌ من صفد، فضُرِبَت أعناقهم على تل قرب صفد حتى لم يبق منهم سوى نفرينِ، أحدهما الرسول، فإنه اختار أن يقيمَ عند السلطان ويُسلِم، فأسلم وأقطَعَه السلطانُ إقطاعًا وقَرَّبَه، والآخَرُ تُرِكَ حتى يخبِرَ الفرنج ممَّا شاهده، وصَعِدَ السلطانُ إلى قلعة صفد، وفَرَّق على الأمراء العُدَد الفرنجية والجواري والمماليك، ونَقَل إليها زردخاناه من عنده، وحمل السلطانُ على كتفه من السلاح إلى داخل القلعة، فتشَبَّه به الناس ونقلوا الزردخاناه في ساعةٍ واحدة، واستدعى السلطانُ الرجال من دمشق للإقامةِ بصفد، وقرر نفقةَ رجال القلعة في الشهرِ مبلغ ثمانين ألف درهم نقرةً واستخدم على سائر بلاد صفد، وعَمِلَ بها جامعًا في القلعة وجامعًا بالربض ووقفَ على المجنون نصف وربع الحباب، وللربع الآخر على الشيخ إلياس، ووقف قريةً منها على قبر خالد بن الوليد بحمص، وفي السابع عشر: رحل السلطان من صفد إلى دمشق.

العام الهجري : 841 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1438
تفاصيل الحدث:

هو السلطانُ الملك الأشرف سيف الدين أبي النصر برسباي الدقماقي الظاهري، سلطان الديار المصرية، جركسي الأصل، اشتراه الأمير دقماق المحمدي الظاهري نائب ملطية، وأقام عنده مدة، ثم قدَّمه إلى الملك الظاهر برقوق, وهو السلطان الثاني والثلاثون من ملوك دولة الترك المماليك، والثامن من الجراكسة بالديار المصرية، وقد تولى السلطنة بمصر سنة 825 وفتح مدينة قبرص وأنشأ بمصر مدرسة وجامعًا بسرياقوس, كان سلطانًا جليلًا سياسيًّا مدبِّرًا، عاقلًا شهمًا متجمِّلًا في مماليكه وخيوله، وكانت صفتُه أشقر طوالًا نحيفًا رشيقًا منوَّر الشيبة بهيَّ الشكل، غير سبَّاب ولا فحَّاش في لفظه، حَسنَ الخُلقِ، ليِّنَ الجانب، حريصًا على إقامة ناموس الملك، يميل إلى الخير، يحب سماع تلاوة القرآن العزيز، حتى إنه رتب عدة أجواق تُقرأُ عنده في ليالي المواكب بالقصر السلطاني دوامًا. وكان يكرم أرباب الصلاح ويُجِلُّ مقامهم، وكان يكثر من الصوم صيفًا وشتاء؛ فإنه كان يصوم في الغالب يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر، يديم على ذلك. وكان يصوم أيضًا أول يوم في الشهر وآخر يوم فيه، مع المواظبة على صيام يومي الاثنين والخميس في الجمعة، حتى إنه كان يتوجه في أيام صومه إلى الصيد ويجلس على السماط وهو صائم، ويُطعِمُ الأمراء والخاصكية بيده، ثم يَغسِلُ يديه بعد رفع السِّماط كأنه واكل القوم. وكان عبدًا صالحًا ديِّنًا خيِّرًا لا يتعاطى المُسكِرات، ولا يحب من يفعل ذلك من مماليكه وحواشيه. وكان يحب الاستكثار من المماليك، حتى إنه زادت عدة مماليكه المشتروات على ألفي مملوك، لولا ما أفناهم طاعون سنة ثلاث وثلاثين، ثم طاعون سنة إحدى وأربعين هذا، فمات فيهما من مماليكه خلائق. وكان يميل إلى جنس الجراكسة على غيرهم في الباطن، يَظهَرُ ذلك منه في بعض الأحيان، وكان لا يحبُّ أن يشهر عنه ذلك؛ لئلا تنفر الخواطر منه؛ فإن ذلك مما يُعاب به على الملوك، وكانت مماليكه أشبه الناس بمماليك الملك الظاهر برقوق في كثرتهم، وأيضًا في تحصيل فنون الفروسية، ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبوبكري. لَمَّا تولى الأشرف برسباي نيابةَ حلب لم يقطع يدَ أحد بحلب، ولا قَتَل أحدًا، وحماها وبلادها بالحال, وفي يوم الثلاثاء رابعه عَهِدَ السلطان الأشرف برسباي إلى ولده المقام الجمالي يوسف، ثم جلس الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داود، وقضاة القضاة الأربعة على مراتبهم، والأمير الكبير جقمق العلائي أتابك العساكر، ومن تأخَّر من أمراء الألوف، والمباشرون، ما عدا كاتب السر فإنه شديد المرض، ثم قام القاضي زين الدين عبد الباسط وفتح باب الكلام في عهد السلطان من بعد وفاته لابنه المقام الجمالي بالسلطنة، وقد حضر أيضًا مع أبيه، فاستحسن الخليفة ذلك وأشار به، فتقدَّم القاضي شرف الدين الأشقر بالعهد إلى بين يدي السلطان، فأشهد السلطان على نفسه بأنه عهد إلى ولده الملك العزيز جمال الدين أبي المحاسن يوسف من بعد وفاته بالسلطة، فأمضى الخليفة العهد، وشهد بذلك القضاة، ثم ظل المرض يتزايد بالسلطان إلى أن خارت قواه وأصبح يهذي أحيانًا حتى لما كان شهر ذي الحجة مات عصر يوم السبت ثالث عشر، وفي الحال حضر الخليفة والقضاة الأربعة والأمير الكبير جقمق العلائي وسائر أمراء الدولة، وسلطَنوا المقام الجمالي يوسف، ولقبوه بالملك العزيز يوسف جمال الدين أبي المحاسن وعمره يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، ثم أخذ الأمراء في تجهيز السلطان، فجُهِّز وغُسِّل وكُفِّن بحضرة الأمير إينال الأحمدي الفقيه الظاهري برقوق أحد أمراء العشرات بوصية السلطان له، وهو الذي أخرج عليه كلفة تجهيزه وخرجته من مال، كان الأشرف دفعه إليه في حياته، وأوصاه أن يحضر غسله وتكفينه ودفنه، ولما انتهى أمْرُ تجهيز الملك الأشرف حُمِل من الدور السلطانية إلى أن صُلِّي عليه بباب القلعة من قلعة الجبل، وتقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر، ثم حُمِل من المصلى على أعناق الخاصكية والأمراء الأصاغر، إلى أن دفن بتربته التي أنشأها بالصحراء خارج القاهرة، وكانت جنازته مشهودة بخلاف جنائز الملوك، ولم يقع في يوم موته اضطراب ولا حركة ولا فتنة، ونزل إلى قبره قُبَيل المغرب، وكانت مدة سلطنته بمصر سبع عشرة سنة تَنقُص أربعة وتسعين يومًا.