سار الشَّريفُ غالب بن مساعد شريفُ مكَّةَ بالعساكِرِ العظيمة من الباديةِ والحاضرة وأهلِ مِصرَ والمغاربة؛ سار في عددٍ عظيمٍ وعُدَّة وكمية هائلة من المدافِعِ والآلاتِ وتوجَّه إلى بلد رنية ونازل أهلَها وحاصَرَها، ودمَّرَ فيها نخيلًا وزروعًا ووقع بينه وبين أهلِها قِتالٌ شديدٌ قُتِل فيه من عسكرِ الشريف غالبٍ عدَّةُ قتلى، وأقام محاصِرَها عشرين يومًا، ثم ارتحل منها إلى بيشة، ونازل أهلَها وحصل بينهم قتالٌ، وكان له في البلد بطانةٌ فمالوا معه فظَفِرَ بها ودخلوا في طاعتِه وأقام عليها أيامًا، وكان قبل حصارِه بلد رنية وبيشة أغار على قبائِلِ قحطان وأخذ عليهم إبلًا كثيرة وأمتعةً، وقتل عِدَّةَ قتلى منهم. يقول الشوكاني عن قتال الشريف غالب لدولة نجد: "كثيرًا ما يجمع الشريف غالب الجيوشَ ثم يغزو أرضَ نجد فيصِلُ أطرافَها فيَبلُغُنا أنه يقوم لحَربِه طائفةٌ يسيرةٌ من أطراف البلاد فيهزمونه ويعود إلى مكةَ، وآخِرُ ما وقع منه ذلك سنة 1212 فإنه جمع جيشًا كثيرًا وغزا نجدًا وأوقع ببعض البلاد الراجعةِ إلى سُلطانِ نجد المذكور، فلم يشعُرْ إلا وقد دهَمَه جيشٌ لا طاقةَ له به، أرسله صاحِبُ نجدٍ، فهزمه واستولى على غالب جيشِه قتلًا وأسرًا، بل جاءت الأخبارُ بأنَّه لم يسلَمْ مِن جيش الشريفِ إلَّا طائفةٌ يسيرة، وقُتِل جماعة من أشراف مكةَ في المعركة، وتمَّت الهزيمة إلى مكة، ولو ترك الشريفُ ذلك واشتغل بغيرِه، لكان أولى له؛ فإنَّ من حارب مَن لا يقوى لحَربِه جَرَّ إليه البلوى، فإنَّ صاحِبَ نجد تبلُغُ عنه قوةٌ عظيمة لا يقوم لمثلها الشريف؛ فقد سَمِعنا أنه قد استولى على بلاد الحَسا والقطيفِ وبلاد الدواسر وغالب بلاد الحجاز، ومن دخل تحت حوزتِه أقام الصَّلاةَ والزكاةَ والصيامَ وسائِرَ شعائر الإسلامِ، ودخل في طاعتِه مِن عرب الشام الساكنين ما بين الحجازِ وصعدة غالبُهم، إمَّا رغبةً وإمَّا رهبةً، وصاروا مقيمين لفرائِضِ الدين بعد أن كانوا لا يعرفونَ مِن الإسلام شيئًا ولا يقومون بشيءٍ مِن واجباتِه إلَّا مجرَّد التكلُّم بلفظ الشهادتين على ما في لفظِهم بها من عِوَجٍ، وبالجملة فكانوا جاهليةً جَهلاءَ كما تواترت بذلك الأخبارُ إلينا، ثم صاروا الآن يصلُّون الصلواتِ لأوقاتِها ويأتون بسائِرِ الأركانِ الإسلاميَّةِ على أبلَغِ صِفاتِها"
سار عُقبةُ بن نافعٍ بعدَ أن وَلَّاهُ يَزيدُ أفريقيا في عَسكرٍ عَظيمٍ حتَّى دخَل مَدينةَ باغايَة وقد اجْتَمع بها خَلْقٌ كثيرٌ مِن الرُّومِ، فقاتَلوهُ قِتالًا شَديدًا وانْهزَموا عنه، وقَتَلَ فيهم قَتلًا ذَريعًا، وغَنِمَ منهم غَنائمَ كثيرةً، ودخَل المُنْهزِمون المدينةَ وحاصَرهُم عُقبةُ. ثمَّ كَرِهَ المُقامَ عليهم فسار إلى بلاد الزَّابِ، وهي بِلادٌ واسعةٌ فيها عِدَّةُ مُدُنٍ وقُرىً كثيرةٍ، فقصَد مَدينَتَها العُظْمى واسْمُها أَرَبَة، فامْتَنع بها مَن هناك مِن الرُّوم والنَّصارى، وهرَب بعضُهم إلى الجِبالِ، فاقْتَتَل المسلمون ومَن بالمدينةِ مِن النَّصارى عِدَّةَ دَفَعاتٍ، ثمَّ انْهزَم النَّصارى وقُتِلَ كثيرٌ مِن فِرسانِهم، ورحَل إلى تاهرت. فلمَّا بلَغ الرُّومَ خَبرُه اسْتَعانوا بالبَرْبَر فأجابوهم ونَصروهُم، فاجتمعوا في جَمْعٍ كثيرٍ والْتَقوا واقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا، واشْتَدَّ الأمرُ على المسلمين لِكَثرةِ العَدُوِّ، ثمَّ إن الله تعالى نَصرَهُم فانهَزمَت الرُّومُ والبَرْبَر وأَخذَهُم السَّيفُ، وكَثُرَ فيهم القَتلُ، وغَنِمَ المسلمون أَموالَهم وسِلاحَهُم. ثمَّ سار حتَّى نزل على طَنْجَة فَلَقِيَهُ بَطْرِيقٌ مِن الرُّومِ اسمُه يليان، فأَهْدَى له هَدِيَّةً حَسنةً ونزَل على حُكمِه، ثمَّ سأله عن الأندلُسِ فعَظُمَ الأمرُ عليه، فسأله عن البَرْبَر، فقال: هم كَثيرون لا يَعلَم عددَهُم إلَّا الله، وهم بالسُّوسِ الأَدْنى، وهم كُفَّارٌ لم يَدخلوا في النَّصرانيَّة، ولهم بَأسٌ شَديدٌ. فسار عُقبةُ إليهم نحوَ السُّوسِ الأَدْنى، وهي مَغرِبُ طَنْجَة، فانتهى إلى أوائلِ البَرْبَر، فلقوه في جَمعٍ كثيرٍ، فقَتَلَ فيهم قَتلًا ذَريعًا، وبعَث خَيْلَه في كُلِّ مكانٍ هربوا إليه، وسار هو حتَّى وصَل إلى السُّوسِ الأقصى، وقد اجتمع له البَرْبَر في عالمٍ لا يُحْصَى، فلَقِيَهم وقاتَلهُم وهَزمَهُم، وقَتَلَ المسلمون فيهم حتَّى مَلُّوا وغَنِموا منهم وسَبَوْا سَبْيًا كثيرًا، وسار حتَّى بلَغ ماليان ورأى البَحرَ المُحيطَ، فقال: يا رَبِّ، لولا هذا البَحرُ لمَضيْتُ في البِلادِ مُجاهدًا في سَبيلِك. ثمَّ عاد فنَفَرَ الرُّومُ والبَرْبَر عن طَريقِه خَوفًا منه، فلمَّا وصَل إلى مدينة طُبْنَة أَمَرَ أصحابَه أن يَتقدَّموا فَوْجًا فَوْجًا ثِقَةً منه بما نال مِن العَدُوِّ، وأنَّه لم يُبْقِ أحدًا يَخشاهُ، وسار إلى تَهُوذَة لِيَنظُرَ إليها في نَفَرٍ يَسيرٍ، فلمَّا رآه الرُّومُ في قِلَّةٍ طَمِعوا فيه، فأغلقوا بابَ الحِصْنِ وشَتَموهُ وقاتَلوهُ وهو يَدعوهُم إلى الإسلامِ فلم يَقبَلوا منه.
عاد جلال الدين بن خوارزم شاه من كرمان، إلى تفليس، وسار منها إلى مدينة آني، وهي للكرج، وبها إيواني مقدَّم عساكر الكرج فيمن بقي معه من أعيان الكرج، فحصره وسيَّرَ طائفةً مِن العسكر إلى مدينة قرس، وهي للكرج أيضًا، وكلاهما من أحصَنِ البلاد وأمنَعِها، فنازلهما وحصَرَهما، وقاتل من بهما، ونصَبَ عليهما المجانيقَ، وجدَّ في القتال على مدينتي آني وقرس، وبالغ الكرج في حفظِهما والاحتياطِ لهما لخوفِهم منه أن يفعَلَ بهما ما فعل بأشياعِهم مِن قبلُ بمدينة تفليس، وأقام عليهما إلى أن مضى بعضُ شوال، ثم ترك العسكَرَ عليهم يحصرونَهم وعاد إلى تفليس، وسار من تفليس مجدًّا إلى بلاد أبخاز وبقايا الكرج، فأوقعَ بمن فيها، فنهب وقتل وسبى، وخرَّب البلادَ وأحرقها، وغَنِمَ عساكرُه ما فيها، وعاد منها إلى تفليس، أما خلاط فإنَّ جلال الدين عاد من مدينة آني إلى تفليس ودخل بلاد أبخاز، وكان رحيلُه مكيدةً؛ لأنَّه بلغه أن النائِبَ عن الملك الأشرف، وهو الحاجب حسام الدين علي بمدينة خلاط، قد احتاط واهتم بالأمر وحفظ البلد لقُربِه منه، فعاد إلى تفليس ليطمَئِنَّ أهل خلاط ويتركوا الاحتياطَ والاستظهارَ ثم َّيقصِدَهم بغتة؛ وسار مجدًّا فوصل الخبَرُ إليهم قبل وصوله بيومين، ووصل جلالُ الدين فنازل مدينة ملازكرد يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة، ثم رحل عنها؛ فنازل مدينة خلاط يوم الاثنين خامس عشر ذي القعدة، فلم ينزل حتى زحف إليها، وقاتل أهلها قتالًا شديدًا، فوصل عسكرُه سور البلد، وقُتِلَ بينهم قتلٌ كثير، ثم زحف إليها مرة ثانية، وقاتل أهل البلد قتالًا عظيمًا، فعَظُمت نكايةُ العسكر في أهل خلاط، ووصلوا إلى سور البلد، ودخلوا الربضَ الذي له، ومدوا أيديَهم في النهب وسبي الحريم، فلمَّا رأى أهل خلاط ذلك تذامروا، وحَرَّضَ بعضهم بعضًا، فعادوا إلى العسكَرِ فقاتلوهم فأخرجوهم من البلد، وقُتِل بينهم خلق كثير، وأسر العسكرُ الخوارزمي من أمراء خلاط جماعةً، وقُتِلَ منهم كثيرٌ، ثمَّ إن جلال الدين استراح عدَّة أيام، وعاود الزحفَ مثل أول يوم، فقاتلوه حتى أبعدوا عسكره عن البلد، ثم أقام عليها إلى أن اشتَدَّ البرد، ونزل شيءٌ من الثلج، فرحل عنها يوم الثلاثاء لسبعٍ بَقِين من ذي الحجة من السنة، وكان سببُ رحيله مع خوف الثلج ما بلغه عن التركمان الإيوانية من الفسادِ ببلاده.
هو الملك الظاهر برقوق أبو سعيد أولُ من ملك مصر من الجراكسة، وَلِيَ سلطانها سنة 784 وبنى المدرسة البرقوقية بمصر بين القصرين. ثم خُلِع، ثم أعيد إلى أن مات سنة 801؛ ففي يوم الثلاثاء خامس شهر شوال ابتدأ مرض السلطان الظاهر برقوق، وذلك أنه ركب للعب الكرة بالميدان في القلعة على العادة، فلما فَرَغ منه قدم إليه عسل نحل ورد من كختا، فأكل منه ومن لحم بلشون، ودخل إلى قصوره، فعكف على شرب الخمر، فاستحال ذلك خلطًا رديًّا لزم منه الفراش من ليلة الأربعاء، وتنوَّع مرضه حتى أُيس منه لشدة الحمى، وضَعْف القوى، فأرجفت بموته في يوم السبت تاسعه، واستمَرَّ أمره يشتد إلى يوم الأربعاء الثالث عشر، فشنع الإرجاف، وغُلِّقت الأسواق، فلما أصبح يوم الخميس استدعى الخليفةُ المتوكل على الله أبا عبد الله محمدًا، وقضاة القضاة وسائر الأمراء الأكابر والأصاغر وجميع أرباب الدولة إلى حضرة السلطان، فحَدَّثهم في العهد لأولاده، فابتدأ الخليفة بالحَلِف للأمير فرج ابن السلطان أنَّه هو السلطان بعد وفاة أبيه، ثم حلف بعده القضاة والأمراء، ثم مات بعد منتصف ليلة الجمعة خامس عشر شوال، وقد تجاوز الستين سنة، منها مدةُ حكمه بديار مصر منذ صار أتابك العساكر عوضًا عن الأمير طشتمر العلاي الدوادار، إلى أن جلس على تخت السلطة أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، ومنذ تسلطن إلى أن مات ست عشرة سنة وأربعة أشهر وسبعة وعشرون يومًا، منها سلطته إلى أن خُلِع ست سنين وثمانية أشهر وعشرون يومًا، وسلطته منذ أعيد إلى أن مات تسع سنين وثمانية أشهر، والفترة بينهما ثمانية أشهر وتسعة أيام، ومدةُ حكمه أتابكًا وسلطانًا إحدى وعشرون سنة وعشرة أشهر وستة عشر يومًا، اجتمع بالقلعة الأمير الكبير أيتمش وسائر الأمراء وأرباب الدولة، واستدعى الخليفة وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام البلقيني، ومن عادته الحضور، فلما تكاملوا بالإسطبل السلطاني أُحضِرَ فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وخطب الخليفة وبايعه بالسلطة، وقلَّده أمور المسلمين، فقَبِل تقليده، وأُحضِرَت خِلعة سوداء أُفيضت على فرج، ونُعِت بالملك الناصر، ومضى حتى جلس على التخت بالقصر، وقبَّل الأمراءُ كُلُّهم له الأرضَ على العادة، وألبس الخليفة التشريفَ وكان عمره يومها قرابة الثلاث عشرة سنة.
حضر لمصر في هذه السنة جاك بن ملك قبرص بعد أن توفِّيَ والده ونصبوا على عرش قبرص أخته عوضًا عنه، قيل: لأنه ولَدُ زنا، وقيل غير ذلك، ثم بقي في مصرَ على أمل أن يوليه السلطان عرش قبرص, وحضر كذلك جماعة من قبرص نيابة عن أخته وهي تطلب كذلك أن تبقى هي الملكة, وفي يوم الثلاثاء سادس شعبان وقع في مصر أمرٌ شنيع بسبب هذا الأمر، وهو أن السلطان جمع أعيان الفرنج القبارصة في الملأ بالحوش السلطاني، وأراد بقاء الملكة صاحبة قبرص على عادتها، وخلَعَ على قصَّادها أعيان الفرنج، واستقَرَّ تغري بردي الطياري مُسفرها، وعلى يده تقليدُها وخِلعتُها، وكان الفرنجي جاك أخوها حاضر الموكب، وقد جلس تحت مقدمي الألوف، فعز عليه ولاية أخته وإبقاؤها على ملك الأفقسية من جزيرة قبرص مع وجوده، فقام على قدميه واستغاث وتكلَّم بكلام معناه أنه قد جاء إلى مصر، والتجأ إلى السلطان، ودخل تحت كنَفِه، وله عنده هذه المدة الطويلة، وأنه أحقُّ بالملك من أخته، وبكى، فلم يسمع السلطان له، وصمَّم على ولاية أخته، وأمره بالنزول إلى حيث هو سكَنُه، فما هو إلا أن قام جاك وخرج من باب الحوش الأوسط، ثم خرج بعده أخصامُه حواشي أخته، وعليهم الخِلَعُ السلطانية، فمَدَّت الأجلاب أيديها إلى أخصام جاك من الفرنج، وتناولوهم بالضربِ والإخراق، وتمزيق الخِلَع، واستغاثوا بكلمة واحدة: أنهم لا يريدون إلا تولية جاك هذا مكان والِدِه، وعظُمَت الغوغاء، فلم يسع السلطان إلا أن أذعن في الحال بعزلِ الملكة وتولية جاك، فتولى جاك على رغم السلطانِ، بعد أن أمعن المماليك الأجلاب في سبِّ الأمير بردبك الدوادار الثاني، وقالوا له: أنت إفرنجي وتحامي للفرنج، فاستغاث بردبك، ورمى وظيفة الدوادارية، وطلب الإقالة من المشي في الخدمة السلطانية، فلم يسمع له السلطان، وفي الحال خُلِعَ على جاك، ورسم بخروج تجريدة من الأمراء إلى غزو قبرص، تتوجَّهُ مع جاك إلى قبرص، ثم في يوم الثلاثاء السابع عشر شوال سافر المجاهدون في بحر النيل إلى ثغر دمياط ومعهم جاك هذا ليساعدوه على تولي الملك مكان أخته، ثم في يوم الجمعة الثالث والعشرين محرم من السنة التالية حضر البعض من هناك وأخبر أنهم ساروا على ظهر البحر الملح يريدون السواحل الإسلامية، فهبت ريح عظيمةٌ شتَّتَت شملهم، وتوجهوا إلى عدة جهات بغير إرادة، وترك بجزيرة جماعة من المماليك السلطانية ومماليك الأمراء قوة لجاك صاحب قبرص.
لما بايع أهلُ مراكش أبا فارس بن أحمد المنصور الذهبي السعدي، عزم أخوه زيدان على النهوض إليه، فخرج من فاس يؤمُّ بلاد الحوز، واتصل الخبَرُ بأبي فارس فجهَّز لقتال أخيه زيدان جيشًا كثيفًا وأمَّر عليهم ولده عبد الملك، فقيل له: إن زيدان رجلٌ شجاع عارفٌ بمكايد الحرب وخُدَعه، وولدك عبد الملك لا يقدِرُ على مقاومته، فلو سرَّحت أخاك محمد الشيخ المأمون لقتالِه كان أقرب للرأي؛ لأن أهل الغرب لا يقاتلونَه؛ لأنه كان خليفةً عليهم مُدَّةً، فهُم آنَسُ به من زيدان، فأَطلق أبو فارس أخاه المأمونَ من السجن وأخذ عليه العهودَ والمواثيق على النصحِ والطاعة وعدمِ شَقِّ العصا، ثم سرَّحه في ستمائة من جيش المتفرِّقة الذين كان المنصور جمعَهم ليبعث بهم إلى كاغو من أعمال السودان، وقال له ولأصحابه: جِدُّوا السير الليلةَ؛ كي تُصبحوا بمحلة جؤذر على وادي أم الربيع، فلما انتهى الشيخ إلى محلة جؤذر وعلم الناسُ به هُرِعوا إليه واستبشروا بمَقدَمِه، ثم كانت الملاقاةُ بينه وبين السلطان زيدان بموضعٍ يقال له حواتة عند أم الربيع، ففرَّ عن زيدان أكثرُ جيشه إلى المأمون وحنُّوا إلى سالف عهدِه وقديمِ صحبتِه، فانهزم زيدان لذلك، ورجع أدراجَه إلى فاس فتحصَّنَ بها، وكان أبو فارس قد تقدَّم إلى أصحابه في القبضِ على الشيخ متى وقعت الهزيمةُ على زيدان، فلما فر زيدان انعزل الشيخُ فيمن انضمَّ إليه من جيشِ أهل الغرب وامتنع على أصحابِ أبي فارس فلم يقدِروا منه على شيءٍ، وانتعش أمرُه واشتدَّت شوكتُه، ثم سار إلى فاس يقفو أثرَ السلطان زيدان، ولما اتصل بزيدان خبرُ مجيئه إليه راود أهل فاس على القيامِ معه في الحصارِ والذبِّ عنه والوفاء بطاعته التي هي مقتضى بيعتِهم التي أعطَوا بها صفقتَهم عن رضًا منهم، فامتنعوا عليه وقلبوا له ظَهرَ المِجَنِّ، وأعلنوا بنصر الشيخ المأمون وبيعته لقديم صحبتِهم له، ولما آيسَ زيدان من نصرهم وقد أرهقه الشيخُ المأمون في جموعِه، خرج من فاس بحشَمِه وثِقلِه ناجيًا بنفسه وتبِعَه جمعٌ عظيم من أصحاب الشيخ فلم يقدروا منه على شيءٍ، وذهب إلى تلمسان فأقام بها، وأما الشيخ فإنه لما وصل إلى فاس تلقَّاه أهلها ذكورًا وإناثًا وأظهروا الفرحَ بمَقدَمِه، فدخلها ودعا لنفسِه فأجيبَ واستبَدَّ بمُلكِها، ثم أمرَ جيش أهل مراكش أن يرجِعوا إلى بلادهم، فانقلبوا إلى صاحبِهم مُخفِقين.
كان محمد علي باشا والي مصر يطمَعُ أن يوسِّعَ أملاكَه ويرغَبُ في ضَمِّ الشام إليه، ولَمَّا فَرَّ عددٌ من الهاربين من التجنيد إلى الشام والتجؤوا إلى عبد الله باشا والي عكَّا، ومنهم من هرب من الضرائب الفادحة، فتذرَّع محمد علي بهذه الذريعة للدُّخول إلى الشام، وكان قد راسل الخليفةَ بنيَّتِه، ولكِنَّ الخليفةَ لم يوافِقْه على ذلك، ولكِن محمد علي لم يصغِ إليه، بل أرسل جيشًا بريًّا بقيادة ابنه إبراهيم، وسيَّرَ حملةً بحرية في جمادى الأولى من عام 1247هـ. أما البرية التي سبقَتْها فقد استطاعت احتلالَ غَزَّة ويافا والقدس ونابلس والتقتا في حيفا، ثم سار إبراهيمُ وحاصر عكا برًّا وبحرًا، فكلَّف الخليفةُ عثمان باشا والي حلب بقتالِ إبراهيم، فسار إليه فترك إبراهيمُ الحصارَ لقوَّةٍ صغيرة، وسار لملاقاتِه، فالتقيا قرب حمص فهزَمَه إبراهيم، ورجع إبراهيم للحصارِ حتى تمكن من دخول عكَّا، ثم انطلق شمالًا، ويُذكَرُ أنَّه قد أعلن نصارى بلاد الشام بأنَّ إبراهيم باشا صديق لهم، وأبدوا استعدادًا تامًّا لمساعدته، كما أن ابراهيم باشا قد ألغى كافة القيود المفروضة على النصارى واليهود فقط في كل بلدٍ سيطر عليه تحت دعوى المساواةِ والحرية، ثم سير الخليفة جيشًا آخر لقتال إبراهيم بقيادة حسين باشا، ولكنه هُزِمَ أيضًا، فدخل المصريون حلب وتراجع حسين باشا حتى تحصَّن في ممرِّ بيلان -الطريق الطبيعي للأناضول. وعلى الرغم من أن جيشَ إبراهيم باشا قد تمكَّن من هزيمة الجيش العثماني واستطاع أن يستكمِلَ سيطرته على الشام إلَّا أن العثمانيين قد تمكَّنوا من إثارة الأهالي ضِدَّ ابراهيم باشا، مستغلِّين العديدَ من الأسباب، سواء كانت دينية، أو اقتصادية، خصوصًا بعد أن ضيَّق إبراهيم باشا الخناقَ على المسلمين في حين مَنَحَ حرياتٍ واسعةً للنصارى واليهود، لقد فتح إبراهيم باشا البابَ على مصراعيه لدخول البَعَثات التبشيرية الفرنسية والأمريكية، وألغى كافَّةَ القوانين الاستثنائية وجميعَ ما كان يسري على النصارى وَحدَهم، ويَعتَبِر بعضُ الكتَّاب أن عام 1249هـ / 1834م عامَ تحوُّلٍ تاريخي؛ حيث عاد اليسوعيون، وتوسَّعت البَعَثات الأمريكية، وتمَّ نَقلُ مطبعة الإرسالية الأمريكية من مالطة إلى بيروت، وأُسِّسَت مدرسة للبنات في بيروت على يد "إيلي سميث" وزوجته، وزُوِّدَت بعض الأديرة بمطابِعَ أخرى في إطار حرص الدول الأوروبية على حَصرِ المطابِعِ في يد المسيحيين فقط؛ حتى تتمكَّنَ من تحقيق أهدافِها، في ظِلِّ عَجزِ المسلمين عن امتلاكِ وسيلة التعبير عن آرائِهم، أو نشر أفكارهم في هذا المجال!!
هو محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم آغا القوللي الملقَّب بعزيز مصر، مؤسِّسُ الأسرة العَلَوية وحاكم مصر، من مواليد قوالة على الساحل المقدوني 1769م، كان عمه يشغل منصب (متسلم - أو نائب والي) وفي ديوان عمِّه هذا تمرَّس محمد علي بالأعمال والمعاملات من غيرِ أن يحظى بتربيةٍ مدرسية صحيحة. حتى إذا بلغ العشرين كان قد نجح في تجارةِ التبغ وعقد الصفقاتِ فيها، والتبغ مادةُ التجارة الرئيسية في بلده الأم. وظهرت عليه أمارات النزوع إلى السلطة وقوة الشخصية منذ نعومةِ أظفاره. وعندما غزا نابليون مصر أرسل السلطان سليم الثالث بِضعَ سُفُن حاملة جنودًا إلى مصر في صيف سنة 1799. كان على عمِّ محمد علي أن يبعثَ إلى مصر أيضا بكتيبةٍ مؤلفة من ثلاثمائة رجل، فعهد إلى ابنِه الصغير بقيادتِها، وعيَّن محمد علي مستشارًا لابنه. ولم تكد الكتيبةُ تَصِلُ إلى مصر حتى تولَّى محمد علي القيادةَ الفعليةَ، وأظهر في المعارك التي قادها ضِدَّ الفرنسيين من الكفاءةِ القيادية ما أهَّلَه للوثوب بقفزةٍ واحدة إلى منصِبِ القيادة العامة في سنة 1801م، وفي سنة 1805 أصبح حاكِمَ مصر بدون منازِعٍ، مستعينًا على بلوغ مأربه بشيوخِ الأزهر. ووافق السلطانُ على تعيينه واليًا على مصر. ومنحه لقبَ باشا. وأظهر من الغَيرة على الدين والرَّغبة في الجهاد والعمل لبناء مصر، ما جعله يستحوِذُ على محبة أهل مصر الذين التَفُّوا حوله وساندوه. خاض محمد علي في بداية فترة حكمه حربًا داخليَّةً ضِدَّ المماليك والإنجليز إلى أن خضعت له مصرُ بالكليَّة، ثم خاض حروبًا بالوكالةِ عن الدولة العثمانية في جزيرة العرب ضِدَّ الوهَّابيين وضِدَّ الثوار اليونانيين الثائرين على الحكم العثماني في المورة، كما وسَّع دولته جنوبًا بضمه للسودان. خلال فترة حكمِه لمصر استطاع أن ينهض بمصر عسكريًّا وتعليميًّا وصناعيًّا وزراعيًّا وتجاريًّا؛ مما جعل من مصرَ دولةً ذات ثقل في تلك الفترة، حتى أصبح ينافس الدولةَ العثمانية نفسَها؛ فقد خاض حروبًا ضِدَّها حتى دخل الأناضول وكاد يُسقِطُ الدولة العثمانية، ولكن أُخمِدَت حركتُه لتعارضها مع مصالحِ الدُّوَل الغربية التي أوقفت محمد علي وأرغمَتْه على التنازل عن معظم الأراضي التي ضَمَّها. وبسبب المشاكل في آخرِ عهد محمد علي الناجمة عن كثرة حروبِه مع خصومِه وغَرَقِ مِصرَ بالديون تخلَّى عن الحكم لابنه إبراهيم باشا في شعبان من سنة 1264هـ ثمَّ لم يعمَّرْ بعدها كثيرًا حتى توفِّيَ في رجب من هذا العامِ.
في شهر ذي الحجة من سنة اثنتي عشرة وثمانمائة قاتل (الأمير شيخ المحمودي) نوروزًا ودمرداش، سبعة أشهر وحاصرهما بحماة، ووقع بينهم في هذه المدة المذكورة حروب وخطوب يطول شرحها، وقُتِل بينهم خلائق لا تُحصى، واشتد الأمر على نوروز وأصحابه بحماة، وقلَّت عندهم الأزواد وقاسوا شدائد حتى وقع الصلح بينه وبين الأمير شيخ، وذلك عندما سمعوا بخروج الملك الناصر فرج إلى البلاد الشامية، وخاف نوروز إن ظفر به الملك الناصر لا يبقيه، فاحتاج إلى الصلح، وحلف كل من نوروز والأمير شيخ لصاحبه، وأما السلطان الملك الناصر فإنه أخذ في التجهيز إلى السفر نحو البلاد الشامية، وعَظُم الاهتمام في أول محرم هذه السنة، وأما الأمير شيخ فإنه لما بلغه خروج السلطان من الديار المصرية لم يَثبُت، وداخَلَه الخوف، وخرج من دمشق في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الأول بعساكره ومماليكه، وتبعه الأمير جانم نائب حماة، فدخل بكتمر جلق إلى الشام من الغد في يوم السابع والعشرين -على حين غفلة- حتى يطرق الأمير شيخًا، ففاته الأمير شيخ بيوم واحد، لكنه أدرك أعقابه وأخذ منهم جماعةً، ونهب بعض أثقال الأمير شيخ، ثم دخل السلطان الملك الناصر إلى دمشق بعد عشاء الآخرة من ليلة الخميس الثامن والعشرين، وقد ركب من بحيرة طبرية في عصر يوم الأربعاء على جرائد الخيل ليكبسَ الأمير شيخًا، ففاته بيسير، وكان الأمير شيخ قد أتاه الخبر وهو جالس بدار السعادة من دمشق، فركب من وقته وترك أصحابه، ونجا بنفسه بقماش جلوسه، فما وصل إلى سطح المزة إلا وبكتمر جلق داخل دمشق؟ ومر الأمير شيخ على وجهه منفردًا عن أصحابه، ومماليكه وحواشيه في أثره، والجميع في أسوأ ما يكون من الأحوال، وسار السلطان بعساكره إلى جهة حلب حتى وصلها في قصد الأمير شيخ ونوروز بمن معهما من الأمراء، ثم كتب السلطان لنوروز والأمير شيخ يخيِّرُهما، إما الخروج من مملكته، أو الوقوف لمحاربته، أو الرجوع إلى طاعته، فأجابه الأمير شيخ بأنه ليس بخارج عن طاعته، ويعتذر عن حضوره بما خامر قلبه من شدة الخوف والهيبة عندما قبض عليه السلطان مع الأتابك يشبك الشعباني في سنة 810، وأنه قد حلف لا يحارب السلطان ما عاش، من يوم حلفه الأمير الكبير تغري بردي في نوبة صرخد، وكرَّر الاعتذار عن محاربته لبكتمر جلق، حتى قال: وإن كان السلطان ما يسمح له بنيابة الشام على عادته، فينعم عليه بنيابة أبلستين، وعلى الأمير نوروز بنيابة ملطية، وعلى يشبك بن أزدمر بنيابة عينتاب، وعلى غيرهم من الأمراء ببقية القلاع؛ فإنهم أحق من التركمان المفسدين في الأرض، فلم يرضَ السلطان بذلك، وصمَّم على الإقامة ببلاد الشام، وبينما السلطان بحلب ورد عليه الخبر بأن الأمير شيخًا ونوروزًا وصلا عينتاب، وسارا على البرية إلى جهة الشام، فركب السلطان مسرعًا من حلب على حين غفلة في الثالث والعشرين شهر رجب ببعض عساكره، وسار حتى دخل دمشق في أربعة أيام، وأما الأمير شيخ ونوروز، فإنهما لما سار السلطان عن أبلستين خرجا من قيسارية بمن معهم، وجاؤوا إلى أبلستين فمنعهم أبناء دلغادر وقاتلوهم، فانكسروا منهم وفروا إلى عينتاب، فلما قربوا من تل باشر تمزقوا، وأخذت كل طائفة جهة من الجهات، فلحق بحلب ودمشق منهم عدة وافرة، واختفى منهم جماعة، ومرَّ الأمير شيخ ونوروز بحواشيهما على البرية إلى تدمر فامتاروا منها، ومضَوا مسرعين إلى صرخد وتوجَّهوا إلى البلقاء ودخلوا بيت المقدس، ثم توجهوا إلى غزة وأقاموا بها حتى أخرج السلطان إليهم بكتمر جلق على عسكر كبير، فسار إلى زرع، ثم كتب للسلطان يطلب نجدة، فأخرج إليه السلطان من دمشق بعسكر هائل من الأمراء والمماليك السلطانية، فلما وصل بكتمر جلق بمن معه من الأمراء إلى غزة، وبلغه توجه الأمير شيخ ونوروز إلى جهة مصر، إلى أن وصلوا إلى مصر في يوم الأحد ثامن شهر رمضان ودخل معهم إلى القاهرة خلائق من الزعر، وبني وائل -من عرب الشرقية - والأمير سعيد الكاشف هو معزول، وأصبح الأمير شيخ أقام رجلًا في ولاية القاهرة فنادى بالأمان، ووعد الناس بترخيص الأسعار، وبإزالة المظالم، فمال إليه جمع من العامة، وأقاموا ذلك اليوم، وملكوا مدرسة الملك الأشرف شعبان التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناة السلطانية، هذا والقتال مستمر بينهم وبين أهل القلعة، ثم طلبوا من الأمراء الذين بالقلعة فتح باب القلعة لهم، قالوا: ما لنا غرض في النهب، وإنما نريد أن نأخذ ابن أستاذنا -يعنون بابن أستاذنا: الأمير فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج- فقال كافور الزمام: وأيش أصاب السلطان حتى تأخذوا ولده؟ فقالوا: لو كان السلطان حيًّا ما كنا هاهنا -يعنون أنهم قتلوا السلطان، وساروا إلى الديار المصرية ليسلطنوا ولده- فلم يمش ذلك على كافور ولا على غيره، وطال الكلامُ بينهم في ذلك، فلم يلتفت كافور إلى كلامهم، فهددوه بإحراق الباب، فخاف وبدأ يماطلهم؛ لعلمه بمجيء العسكر المصري من الشام، وبينما كافور الزمام في مدافعتهم لاحت طلائع العسكر السلطاني لمن كان الأمير شيخ أوقفه من أصحابه يرقبهم بالمآذن بقلعة الجبل، وقد ارتفع العجاج، وأقبلوا سائقين سوقًا عظيمًا جهدهم، فلما بلغ الأمير شيخ وأصحابه ذلك لم يثبتوا ساعةً واحدةً، وركبوا من فورهم ووقفوا قريبًا من باب السلسلة، فدهمهم العسكر السلطاني فولَّوا هاربين نحو باب القرافة، والعسكر في أثرهم، فكبا بالأمير شيخ فرسُه عند سوق الخيم بالقرب من باب القرافة، فتقنطر من عليه، فلم يستطع النهوض ثانيًا؛ لعظم روعه وسرعة حركته، فأركبه بعضُ أمراء آخوريته وركب الأمير شيخ ولحق بأصحابه، فمروا على وجوههم على جرائد الخيل، وتركوا ما أخذوه من القاهرة، وأيضًا ما كان معهم، وساروا على أقبح وجه بعد أن قبض عسكر السلطان على جماعة من أصحاب الأمير شيخ، ودخل الأمير بكتمر جلق بعساكره، وأرسل الأمير سودون الحمصي فاعتقل جميع من أمسك من الشاميين، وأخذ يتتبَّعُ من بقي من الشامية بالقاهرة، ثم نادى في الوقت بالأمان، وقدم عليه الخبر في ليلة الأربعاء حادي عشر من شهر رمضان بأن الأمير شيخًا نزل إطفيح وأنهم افترقوا فرقتين؛ فرقة: رأسها الأمير نوروز الحافظي، ويشبك بن أزدمر، وسودون بقجة، وفرقة: رأسها الأمير شيخ المحمودي، وسودون تلي المحمدي، وسودون قراصقل، وكل فرقة منهما معها طائفة كبيرة من الأمراء والمماليك، وأنهم لما وصلوا إلى الشوبك دفعهم أهلها عنها، فساروا إلى جهة الكرك وبها سودون الجلب، فتضرعوا له حتى نزل إليهم من قلعة الكرك، وتلقاهم وأدخلهم مدينة الكرك، وأنهم استقروا بالكرك، واستمر السلطان بدمشق إلى يوم سابع عشر ذي القعدة، وخرج منها إلى قبة يلبغا، ورحل من الغد بأمرائه وعساكره يريد الكرك بعدما تحقق نزول الأمراء بالكرك، وأما الأمير شيخ ونوروز وجماعتهما، فإنهم أقاموا بالكرك أيامًا، واطمأنوا بها، ثم أخذوا في تحصينها، وأما السلطان الملك الناصر فإنه سار من مدينة دمشق حتى نزل على مدينة الكرك في يوم الجمعة الرابع والعشرين ذي القعدة، وأحاط بها ونصَب عليها الآلات، وجَدَّ في قتالها، وحصرها وبها الأمير شيخ ونوروز وأصحابهما، واشتدَّ الحصار عليهم بالكرك، وأخذ الملك الناصر يلازم قتالهم حتى أشرفوا على الهلاك والتسليم، ثم أخذ الأمير شيخ ونوروز والأمراء يكاتبون الأمير تغري بردي ويتضرعون إليه، وهو يتبرَّم من أمرهم والكلام في حقهم، ويوبخهم بما فعله الأمير شيخ مع بكتمر جلق بعد حَلِفِه في واقعة صرخد، فأخذ الأمير شيخ يعتذر ويحلف بالأيمان المغلظة أن بكتمر جلق كان الباغي عليه والبادئ بالشر، وأنه هو دفع عن نفسه لا غير، وأنه ما قَصْدُه في الدنيا سوى طاعة السلطان، ولا زالوا حتى تكلم تغري بردي مع السلطان في أمرهم، ثم تردَّدت الرسل بينهم وبين السلطان أيامًا حتى انعقد الصلح، على أن يكون تغري بردي نائب الشام، وأن يكون الأمير شيخ نائب حلب، وأن يكون الأمير نوروز نائب طرابلس، وكان ذلك بإرادة الأمير شيخ ونوروز، فإنهما قالا: لا نرضى أن يكون بكتمر جلق أعلى منا رتبة بأن يكون نائب الشام، ونحن أقدم منه عند السلطان، فإن كان ولا بد، فيكون الأمير الكبير تغري بردي في نيابة الشام، ونكون نحن تحت أوامره، ونسير في المهمات السلطانية تحت سنجقه، وأما بكتمر ودمرداش فلا، وإن فعل السلطان ذلك لا يقع منا بعدها مخالفة أبدًا، ولما بلغ الأمراء والعساكر هذا القول أعجبهم غاية الإعجاب، وقد ضجر القوم من الحصار، وملوا من القتال، فلا زالوا بالسلطان حتى أذعن ومال إلى تولية تغري بردي نيابة الشام، وكان السلطان قد شرط على الأمراء شروطًا كثيرة فقبلوها، على أن يكون تغري بردي نائب دمشق.
لَمَّا كان في مستهَلِّ شَهرِ ربيع الآخر نزل السلطانُ من قلعة الجبل وعَدَّى إلى بر الجيزة ليتوجه إلى الصيدِ بالبحيرة، بعد أن ألزم الأمراءَ أن يجعلوا- في الشواني التي نجز عملها برسم الغُزاة- العِدَد والسلاحَ والرجالَ على هيئة القِتالِ؛ لِيَنظُرَ السلطان والنَّاس، ثم سار السلطان والأتابك يلبغا بالعساكِرِ مِن بر الجيزة يريدون البحيرةَ حتى نزلوا في ليلة الأربعاء سادسَ شهر ربيع الآخر بالطرانة وباتوا بها، وكانت مماليكُ يلبغا قد نَفِرَت قلوبُهم منه؛ لكثرةِ ظُلمِه وعَسفِه وتنوُّعِه في العذاب لهم على أدنى جُرمٍ، فاتفق جماعةٌ من مماليك يلبغا تلك الليلة على قَتْلِه من غير أن يُعلِموا المَلِكَ الأشرفَ هذا بشَيءٍ مِن ذلك، وركبوا عليه نِصفَ الليل، ورؤوسُهم من الأمراء: آقبغا الأحمدي الجلب، وأسندمر الناصري، وقجماس الطازي، وتغري برمش العلائي، وآقبغا جاركس أمير سلاح، وقرابغا الصرغتمشي، في جماعةٍ مِن أعيان اليلبغاوية، ولَبِسوا آلة الحرب وكبَسوا في الليل على يلبغا بخيمتِه بغتةً وأرادوا قتله، فأحسَّ بهم قبل وصولِهم إليه، فركِبَ فَرَس النوبةِ بخواصِّه من مماليكه، وهرب تحت الليل، وعَدَّى النيل إلى القاهرة، ومنع سائرَ المراكب أن يعدُّوا بأحد، واجتمع عنده من الأمراء طيبغا حاجِبُ الحجَّاب، وأيبك البدري أمير آخور، وجماعة الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمَّا مماليك يلبغا فإنَّهم لَمَّا عَلِموا بأن أستاذهم نجا بنَفسِه وهرب، اشتدَّ تخَوُّفُهم من أنَّه إذا ظَفِرَ بهم بعد ذلك لا يُبقي منهم أحدًا، فاجتمع الجميعُ بمن انضاف إليهم من الأمراءِ وغيرِهم وجاؤوا إلى المَلِك الأشرَفِ شعبان وهو بمُخَيَّمِه أيضًا بمَنزِلِه بالطرانة وكَلَّموه في مُوافَقَتِهم على قتالِ يلبغا فامتنع قليلًا ثم أجاب لِما في نفسه من الحزازةِ مِن حَجْرِ يلبغا عليه، وعدم تصَرُّفه في المملكة، وركِبَ السلطان بمماليك يلبغا وخاصكيَّته، فأخذوه وعادوا به إلى جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائِقُ من مماليك يلبغا وعساكر مصر، وساروا حتى وصلوا إلى ساحِلِ النيل ببولاق التكروري تجاه بولاق والجزيرة الوسطى، فأقام المَلِكُ الأشرف ببولاق التكروري يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة، فلم يجدوا مراكِبَ يعدون فيها، وأما يلبغا فإنَّه لما علم أن الملك الأشرف طاوع مماليكَه وقَرَّبهم، أنزل من قلعة الجبل آنوك ابنَ الملك الأمجد حسين أخي الملك الأشرف شعبان وسَلْطَنَه ولَقَّبَه بالملك المنصور، وذلك بمُخَيَّمِه بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانيَّة تجاه بولاق التكروري، حيث الملك الأشرف نازلٌ بمماليك يلبغا بالبر الشرقي والأشرف بالبر الغربي، فسَمَّتْه العوامُ سُلطان الجزيرة، ثمَّ في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامي والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصَيَّدان بالعباسة وانضافا بمن معهما إلى يلبغا فقَوِيَ أمره بهما، وعَدَّى إليه أيضًا جماعة من عند الملك الأشرف، وهم: الأمير قرابغا البدري، والأمير يعقوب شاه، والأمير بيبغا العلائي الدوادار، والأمير خليل بن قوصون، وجماعة من مماليك يلبغا الذين أمَّرَهم مثل: آقبغا الجوهري، وكمشبغا الحموي، ويلبغا شقير، في آخرين، واستمَرَّ الأتابك يلبغا وآنوك بجزيرة الوسطى، والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق التكروري، إلى أن حضر إلى الأشرفِ شَخصٌ يُعرَفُ بمحمد ابن بنت لبطة رئيس شواني السلطان، وجَهَّز للسلطانِ مِن الغربان التي عَمَّرَها برسم الغزاة نحو ثلاثينَ غُرابًا برجالها وكَسَر بروقها، وجعلها مثل الفلاةِ لأجلِ التَّعدية، فنزل فيها جماعةٌ مِن الأمراء ومن مماليك يلبغا ليعَدُّوا فيها إلى الجزيرة، فرمى عليهم يلبغا بمكاحِلِ النفط، وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسهام فيردونَهم على أعقابِهم، وأخذ يلبغا ومن معه يرمون أيضًا النِّفطَ والنشاب، والأشرفيَّة لا يلتفتون إلى ذلك، بل يزيدونَ في سب يلبغا ولَعْنه وقتاله، وأقاموا على ذلك إلى عَصرِ يوم السبت، وقد قَوِيَ أمر الملك الأشرف وضَعُفَ أمر يلبغا، ثم اتفق رأيُ عساكر الملك الأشرف على تعدية المَلِك الأشرف من الورَّاق، فعدى وقتَ العَصرِ من الوراق إلى جزيرة الفيل وتتابعَتْه عساكره، فلما صاروا الجميعُ في بر القاهرة، وبلغ ذلك يلبغا، هرب الأمراءُ الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاؤوا إلى الملك الأشرف وقَبَّلوا الأرض بين يديه، فلمَّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة، ووقف بسوقِ الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبقَ معه غير طيبغا حاجِبِ الحجَّاب الذي كان أولًا أستاداره، فوقف يلبغا ساعةً ورأى أمْرَه في إدبار، فنزل عن فَرَسِه بسوق الخيل تجاه باب الميدان، وصلَّى العصر، وحلَّ سَيْفَه وأعطاه للأميرِ طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصَدَ بَيتَه بالكبش فرجمته العوامُّ مِن رأس سويقة منعم إلى أن وصل حيثُ اتجه، وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعةِ الجَبَلِ في آخر نهار السبت، وأرسل جماعةً منِ الأمراء إلى يلبغا، فأخذوه من بيتِه ومعه طيبغا الحاجِبُ، وطلعوا به إلى القلعةِ بعد المغرب، فسُجِنَ بها إلى بعدِ عشاء الآخرة، فلما أُذِّنَ للعشاء جاء جماعةٌ من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء، وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من القلعةِ، فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فَرَسًا ليركَبَه، فلما أراد الركوب ضَرَبه مملوكٌ مِن مماليكه يسمَّى قراتمر فأرمى رأسَه، ثم نزلوا عليه بالسيوفِ حتى هَبَروه تهبيرًا، وأخذوا رأسَه وجعلوها في مِشعَلِ النار إلى أن انقَطَع الدم، فلما رآه بعضُهم أنكره وقال: أخفيتُموه، وهذه رأسُ غَيرِه فرفعوه من المِشعَل، ومَسَحوه ليُعَرِّفوه أنَّه رأس يلبغا بسلعةٍ كانت خلفَ أذنه، فعند ذلك تحقَّقَ كُلُّ أحد بقتله، وأخذوا جثَّتَه فغَيَّبوها بين العروستين، فجاء الأميرُ طشتمر الدوادار فأخذ الرأسَ منهم في الليل، واستقصى على الجثَّةِ حتى أخذها، وحَطَّ الرأس على الجثة، وغَسَّلها وكفَّنَها وصلى عليه في الليل، ودفنه بتربتِه التي أنشأها بالصحراء بالقربِ مِن تربة خوند طغاى أم آنوك زوجة الناصر محمد بن قلاوون.
هو السُّلطانُ الأشرف شعبان بن حسين الناصر بن المنصور قلاوون. بويِعَ للمَلِكِ الأشرف شعبان بعد عزل الملك المنصور، وله من العُمُرِ قَريبُ العشرين. كان الملِكُ الأشرف شعبان قد توعَّكَ، ومع ذلك أصر بالسَّفَرِ إلى الحج هذا العام وسافر وهو متوَعِّك، فلما كان يوم السبت ثالث ذي القعدة اتَّفق طشتمر اللفاف، وقرطاي الطازي، وأسندمر الصرغتمشي، وأينبك البحري، وجماعة من المماليك السلطانية، وجماعة من مماليك الأسياد أولادِ السلطان الملك الأشرف، وجماعةٌ من مماليك الأمراء المسافرين صحبة السلطان الملك الأشرف، ولَبِسوا السلاح، واتَّفَق معهم من بالأطباق من المماليك السلطانية، وهجم الجميعُ على القلعة، فدقُّوا الباب وقالوا: أعطونا سيدي أمير علي (هو ابنُ السلطان الأشرف) فقال لهم اللالا: مَن هو كبيرُكم حتى نسَلِّمَ لهم سيدي عليًّا وأبى أن يسَلِّمَهم سيدي عليًّا، وكثُرَ الكلام بينهم ومثقال الزمام يُصَمِّمُ على منع تسليم الأمير علي لهم، فقالوا له: السلطان الملك الأشرف مات، ونريد أن نُسلطِنَ وَلَدَه أمير علي، فلم يلتَفِتْ مثقال إلى كلامهم، فلما عَلِمَ المماليك ذلك، طلعوا جميعًا وكَسَروا شباك الزمام المطِلَّ على باب الساعات، ودخلوا منه ونهبوا بيتَ الزمام وقماشه، ثم نزلوا إلى رحبة باب الستارة ومسكوا مثقالًا الزَّمَّام وجلبان اللالا وفتحوا البابَ، فدخلت بقيَّتُهم وقالوا: أخرِجوا الأمير علي، حتى نُسلطِنَه؛ فإنَّ أباه توفِّيَ إلى رحمة الله تعالى فدخل الزمام على رَغمِ أنفه، وأخرج لهم الأميرَ عليًّا، فأُقعِدَ في باب الستارة، ثم أُحضِرَ الأمير أيدمر الشمسي فبوسوه الأرض للأمير علي، ثم أركبوا الأميرَ علي على بعض خيولهم وتوجَّهوا به إلى الإيوان الكبير، وأرسلوا خلفَ الأمراء الذين بالقاهرة، فركبوا إلى سوق الخيلِ، وأبوا أن يَطلَعوا إلى القلعة، فأنزلوا الأميرَ علي إلى الإسطبل السلطاني حتى رآه الأمراءُ، فلما رأوه طلعوا وقَبَّلوا له الأرض وحلفوا له، غيرَ أن الأمير طشتمر الصالحي وبلاط السيفي ألجاي الكبير وحطط رأس نوبة النوب لم يوافِقوا ولا طلعوا، فنزل إليهم المماليك ومسكوهم وحَبَسوهم بالقصر، وعَقَدوا للأمير علي بالسلطنةِ ولَقَّبوه بالملك المنصور، ثم نادوا بالديار المصرية بالأمان والبَيعِ والشراء، بعد أن أخذوا خُطوطَ سائر الأمراء المقيمين بمصر، فأقاموا ذلك النهارَ، وأصبحوا يوم الأحد رابع ذي القعدة من سنة 778 وهم لابسون آلة الحرب، واقفون بسوق الخيل، يتكَلَّمون في إتمامِ أمْرِهم، وأمَّا المَلِكُ الأشرف فإنه رجع إلى مصر بسَبَبِ كَسرتِه من مماليكه بالعقبة، حيث طلب المماليكُ السلطانية العليق، فقيلَ لهم اصبروا إلى منزلة الأزلم، فغَضِبوا وامتنعوا من أكلِ السماط عصرَ يوم الأربعاء واتفقوا على الركوبِ، فلما كانت ليلة الخميس ركبوا على السلطانِ ورؤوسُهم الأمير طشتمر العلائي، ومبارك الطازي، وصراي تمر المحمدي، وقطلقتمر العلائي الطويل، وسائر مماليك الأسياد، وأكثر المماليك السلطانية، فلما بلغ السلطانَ أمرُهم ركب بأمرائه وخاصكيته وتواقعوا فانكسر السلطان وهرب هو ومن كان معه من الأمراء، وصار السلطان بهؤلاء إلى قبة النصر خارج القاهرة، ثم توجه السلطان ويلبغا الناصري إلى القاهرةِ ليختفيَ بها، فقُتل الأمراء الذين كانوا معه في الحال، وحَزُّوا رؤوسهم، وأتَوا بها إلى سوق الخيل، ففرح بذلك بقيَّةُ الأمراء الذين هم أصلُ الفتنة، وعلموا أن الأشرف قد زال مُلكُه، فتوجه السلطان الأشرف تلك الليلة من عند أستادار يلبغا الناصري إلى بيت آمنة زوجة المشتولي فاختفى عندها، فقلق عند ذلك الأمراءُ الذين أثاروا الفتنة وخافوا عاقبةَ ظهور الأشرف، وبينما هم في ذلك في آخر نهار الأحد يوم قُتِلَ الأمراء المذكورين بقبة النصر، وقبل أن يمضِيَ النهار، جاءت امرأةٌ إلى الأمراء وذَكَرَت لهم أن السلطان مختفٍ عند آمنة زوجة المشتولي في الجودرية-إحدى الحارات- فقام ألطنبغا من فوره ومعه جماعةٌ وكبسوا بيت آمنة، فهرب السلطانُ واختفى في بادهنج البيت- المنفذ الذي يجيء منه الريح- فطلعوا فوجدوه في البادهنج وعليه قماش النساء، فمسكوه وألبَسُوه عُدَّة الحرب، وأحضروه إلى قلعة الجبل، فتسَلَّمه الأمير أينبك البدري وخلا به، وأخذ يقَرِّرُه على الذخائر، فأخبره الملك الأشرف بها، وقيل: إن أينبك ضربه تحت رجليه عِدَّةَ عِصِيٍّ، ثم أصبحوا في يوم الاثنين وخَنَقوه، وتولى خَنْقَه جاركس شاد عمائر ألجاي اليوسفي، فأعطى جاركس إمرة عشرة واستقَرَّ شاد عمائر السلطان، ثم بعد خنق الملك الأشرف لم يدفنوه، بل أخذوه ووضعوه في قُفَّة وخيطوا عليها ورَمَوه في بئر، فأقام بها أيامًا إلى أن ظَهَرت رائحته، فاطلع عليه بعضُ خُدَّامه من الطواشية، ثم أخرجوه ودفنوه عند كيمان السيدة نفيسة، وذلك الخادِمُ يَتبَعُهم مِن بُعدٍ حتى عرف المكان، فلما دخل الليلُ أخذ جماعة من إخوته وخَدَمِه ونقلوه في تلك الليلة من موضع دفنه ودفنوه بتربة والدته خوند بركة بمدرستها التي بخط التبانة في قُبَّةٍ وحده، بعد أن غسلوه وكفَّنوه وصلوا عليه، وكانت مدة سلطنة الملك الأشرف أربع عشرة سنة وشهرين وعشرين يومًا، ومات وعمره أربع وعشرون سنة، فلما كان يوم الخميس ثامِنَ ذي القعدة وذلك بعد قتل الملك الأشرف شعبان بثلاثة أيام، اجتمع الأمراءُ القائمون بهذا الأمر بالقلعة، واستدعوا الخليفةَ ومن كان بمصر من القضاة ونوَّاب من هو غائب من القضاة بالقدس، وحضر الأميرُ آقتمر الصاحبي نائب السلطنة بالديار المصرية، وقعد الجميعُ بباب الآدر الشريفة من قلعة الجبل، وجدَّدوا البيعة بالسلطنة للملك المنصور علي ابن الأشرف شعبان بعد قَتْلِ أبيه، وقَبِلَ له البيعة آقتمر الصاحبي، ولَبَّسوه السوادَ؛ خِلعةَ السلطنة، وكان عمرُ السلطان الملك المنصور يوم تَسَلْطَنَ نحو سبع سنين تخمينًا.
لمَّا رَأى المُشركون أنَّ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد تَجهَّزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذَّراريَّ والأطفالَ والأموالَ إلى الأوسِ والخزرجِ في يَثْرِبَ، أصابتهُم الكآبةُ والحزنُ، وساوَرهُم القلقُ والهَمُّ، فاجتمع طواغيتُ مكَّةَ في دارِ النَّدوَةِ لِيتَّخِذوا قرارًا حاسمًا في هذا الأمرِ. وكان اجتماعُهُم بعدَ شَهرينِ ونصفِ تقريبًا مِن بَيعةِ العَقبةِ، وتوافد إلى هذا الاجتماعِ جميعُ نُوَّابِ القبائلِ القُرشيَّةِ؛ لِيتَدارسوا خُطَّةً حاسِمةً, تَكفُلُ القضاءَ سريعًا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ودَعوتِهِ, ولمَّا جاءوا إلى دارِ النَّدوةِ حَسْبَ الميعادِ، اعترضهُم إبليسُ في هَيئةِ شيخٍ جليلٍ، ووقف على البابِ، فقالوا: مَن الشَّيخُ؟ قال: شيخٌ مِن أهلِ نجدٍ, سمِع بالذي اتَّعَدْتُم له فحضر معكم لِيسمعَ ما تقولون، وعسى ألَّا يُعْدِمَكُم منه رأيًا ونُصْحاً. قالوا: أجلْ، فادْخُلْ. فدخل معهم. وبعد أن تَكامل الاجتماعُ, ودار النِّقاشُ طويلًا. قال أبو الأَسودِ: نُخرِجُهُ مِن بين أَظْهُرِنا ونَنْفيهِ مِن بلادِنا، ولا نُبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أَصلَحنا أَمْرَنا, وأُلْفَتَنا كما كانت. قال الشيخُ النَّجديُّ: لا والله ما هذا لكم برأيٍ، ألم تَرَوْا حُسْنَ حَديثهِ، وحَلاوةَ مَنْطِقِهِ، وغَلَبَتْهُ على قلوبِ الرِّجالِ بما يأتي به، والله لو فعلتُم ذلك ما أَمِنْتُم أن يَحِلَّ على حَيٍّ مِن العربِ، ثمَّ يَسيرُ بهِم إليكم - بعد أن يَتَّبِعوهُ - حتَّى يَطأَكُم بهِم في بلادِكُم، ثمَّ يفعلُ بكم ما أراد، دَبِّروا فيه رأيًا غيرَ هذا. قال أبو البَخْتريِّ: احْبِسوه في الحديدِ وأَغلِقوا عليه بابًا، ثمَّ تَربَّصوا به ما أصاب أمثالَهُ مِن الشُّعراءِ الذين كانوا قبله - زُهيرًا والنَّابِغةَ - ومَن مضى منهم، مِن هذا الموتِ، حتَّى يُصيبَهُ ما أصابهم. قال الشَّيخُ النَّجديُّ: لا والله ما هذا لكم برأيٍ، والله لَئِن حَبَستُموه -كما تقولون- لَيَخرُجنَّ أَمرُهُ مِن وراءِ البابِ الذي أغلقتُم دونَه إلى أصحابهِ، فلأَوْشَكوا أن يَثِبوا عليكم، فيَنزِعوه مِن أَيديكُم، ثمَّ يُكاثِروكُم به حتَّى يَغلِبوكُم على أَمرِكُم، ما هذا لكم برأيٍ، فانظروا في غيرِهِ. بعد ذلك تَقدَّم كبيرُ مُجرِمي مكَّةَ أبو جهلِ بنِ هشامٍ بِاقتِراحٍ آثمٍ وافق عليه جميعُ مَن حضر, قال أبو جهلٍ: والله إنَّ لي فيه رأيًا ما أَراكُم وقعتُم عليه بعدُ. قالوا: وما هو يا أبا الحكمِ؟ قال: أَرى أن نَأخُذَ مِن كُلِّ قَبيلةٍ فَتًى شابًّا جَليدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينا، ثمَّ نُعطي كُلَّ فَتًى منهم سَيفًا صارمًا، ثمَّ يَعمِدوا إليه، فيَضرِبوه بها ضربةَ رجلٍ واحدٍ فيَقتُلوه، فنَستَريحَ منه، فإنَّهم إذا فعلوا ذلك تَفرَّق دَمُهُ في القبائلِ جميعًا، فلمْ يَقدِرْ بنو عبدِ منافٍ على حربِ قومِهم جميعًا، فَرَضوا مِنَّا بالعَقْلِ، فَعَقَلْناهُ لهم. قال الشَّيخُ النَّجديُّ: القولُ ما قال الرَّجلُ، هذا الرَّأيُ الذي لا رأيَ غيرُهُ. ووافقوا على هذا الاقتراحِ الآثمِ بالإجماعِ.
فتح نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم من الفرنج؛ وسببُ ذلك أن نور الدين لَمَّا عاد منهزمًا من البقيعة، تحت حصن الأكراد، مِن قبلُ، واتَّفَق مسير بعض الفرنج مع مَلِكِهم في مصر، فأراد أن يقصِدَ بلادهم ليعودوا عن مصرَ، فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل وديار الجزيرة، وإلى فخر الدينِ قرا أرسلان، صاحبِ حصن كيفا، وإلى نجمِ الدين ألبي، صاحبِ ماردين، وغيرِهم من أصحاب الأطراف يستنجِدُهم؛ فأما قطب الدين فإنه جمعَ عسكَرَه وسار مجِدًّا، وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه؛ وأما نجم الدين فإنه سيَّرَ عسكرًا، فلما اجتمعت العساكرُ سار نحو حارم فحصرها ونصبَ عليها المجانيق وتابَعَ الزحف إليها، فاجتمع من بقيَ بالساحل من الفرنج، فجاؤوا في حَدِّهم وحديدِهم، ومُلوكِهم وفُرسانِهم، وقِسِّيسِيهم ورهبانهم، وأقبلوا إليه مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلون، وكان المُقَدَّم عليهم البرنس بيمند: صاحب أنطاكية، وقمص: صاحب طرابلس وأعمالِها، وابن جوسلين، وهو من مشاهير الفرنج، والدوك، وهو مُقَدَّم كبيرٌ من الروم، وجمعوا الفارِسَ والراجِلَ، فلمَّا قاربوه رحلَ عن حارم إلى أرتاح؛ طمعًا أن يَتبَعوه فيتمَكَّنَ منهم؛ لبُعدِهم عن بلادِهم إذا لَقُوه، فساروا، فنزلوا على غمر ثم عَلِموا عجزَهم عن لقائه، فعادوا إلى حارم، فلما عادوا تَبِعَهم نورُ الدين في أبطال المسلمينَ على تعبئةِ الحرب، فلما تقاربوا اصطفُّوا للقتال، فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنةِ المسلمين، وفيها عسكَرُ حلب وصاحِبُ الحصن، فانهزم المسلمون فيها، وتبِعَهم الفرنج، فقيل كانت تلك الهزيمةُ من الميمنة على اتِّفاق ورأيٍ دَبَّروه، فكان الأمرُ على ما دبَّروه؛ فإن الفرنج لَمَّا تبعوا المنهزمين عطف زينُ الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلًا وأسرًا، وعاد خيَّالتهم، ولم يُمعِنوا في الطلَبِ خوفًا على راجِلِهم، فعاد المنهَزِمون في آثارهم، فلما وصل الفرنجُ رأوا رجالهم قتلى وأسرى، فسُقِطَ في أيديهم، ورأوا أنهم قد هلكوا وبَقُوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فاشتدَّت الحربُ، وقامت على ساق، وكثُرَ القتل في الفرنج، وتمَّت عليهم الهزيمة، فعدل حينئذ المسلمون من القتل إلى الأسر، فأسَروا ما لا يُحَدُّ، وفي جملة الأسرى صاحِبُ أنطاكية، والقمص، صاحب طرابلس، وكان شَيطانَ الفرنج، وأشَدَّهم شكيمةً على المسلمين، والدوك مقدم الروم، وابن جوسلين، وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل. ثم سار إلى حارم فملكها في شهر رمضان من السنة، وبثَّ سراياه في أعمال أنطاكية، فنَهَبوها وأسروا أهلها، وباع البرنس بمال عظيم وأسرى من المسلمين.
في سنة ثلاث وثمانين غزا شهاب الدين الغوري بلد الهند، وانهزم أمامَ أحد ملوكها وبَقِيَ إلى الآن في نفسه غَضَبٌ عظيمٌ على الجند الغورية الذين انهزموا، فألزَمَهم من الهوان، حتى هذه السَّنة فخرج من غزنة وقد جمع عساكِرَه وسار منهم يطلُبُ عَدُوَّه الهندي الذي هزمه تلك النوبةَ، قال ابن الأثير: " لما وصل الغوري إلى برشاوور تقَدَّمَ إليه شيخ من الغورية كان يدُلُّ عليه، فقال له: قد قَرُبنا من العدو، وما يعلَمُ أحد أين نمضي، ولا من نَقصِدُ، ولا نَرُدُّ على الأمراء سلامًا، وهذا لا يجوز فِعلُه. فقال له السلطان: اعلَمْ أنَّني منذ هزمني هذا الكافِرُ، ما نمت مع زوجتي، ولا غيَّرْتُ ثياب البياضِ عني، وأنا سائِرٌ إلى عدوي، ومعتَمِدٌ على الله تعالى لا على الغوريَّة، ولا على غيرهم، فإن نَصَرَني الله سبحانه ونَصَرَ دينَه، فمِن فَضلِه وكَرَمِه، وإن انهَزَمْنا فلا تطلبوني فيمن انهَزَم، ولو هَلكْتُ تحت حوافِرِ الخيل, فقال له الشيخ: سوف ترى بني عَمِّك من الغورية ما يفعلونَ، فينبغي أن تكَلِّمَهم وتَرُدَّ سلامهم. ففعل ذلك وبَقِيَ أمراء الغورية يتضَرَّعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعَلُ" ثم سار إلى أن وصل إلى موضع المصافِّ الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عِدَّةَ مواضِعَ مِن بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهَّزَ وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقِيَ بين الطائفتين مرحلةٌ عاد شهاب الدين وراءه والكافِرُ في أعقابه أربع منازل، وتمَّ على حاله عائدًا إلى أن بَقِيَ بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافِرُ في أثره يتبعه، حتى لحقه قريبًا من مرندة فجَرَّدَ شهاب الدين من عسكَرِه سبعين ألفًا، وقال: أريدُ هذه الليلة تدورونَ حتى تكونوا وراء عسكَرِ العدو، وعند صلاة الصبحِ تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية، ففعلوا ذلك، وطلع الفجرُ، ومن عادة الهنود أنَّهم لا يبرحون مِن مضجعهم إلى أن تطلُعَ الشَّمسُ، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكَرُ المسلمين من كل جانب، والقَتلُ قد كَثُرَ في الهنود، والنصرُ قد ظهر للمسلمين، فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرسًا له سابقًا، وركب ليهرُبَ، فقال له أعيان أصحابه: إنَّك حلفت لنا أنَّك لا تُخَلِّينا وتهرُب، فنزل عن الفرس وركِبَ الفيل ووقَفَ مَوضِعَه، والقتالُ شديد، والقَتلُ قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمونَ إليه وأخذوه أسيرًا، وحينئذ عَظُمَ القتلُ والأسر في الهنود، ولم ينجُ منهم إلا القليلُ، وغَنِمَ المُسلِمونَ مِن الهنود أموالًا كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعةَ عشر فيلًا، فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحِصنِ الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.
فتح جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة تفليس من الكرج في ثامن ربيع الأول، وقد كانت الحرب بينه وبينهم من السنة الماضية، وقد انهزموا منه، ثم عاد إلى تبريز بسبب الخلاف الواقع فيها، فلما استقرَّ الأمر في أذربيجان عاد إلى بلد الكرج هذه السنة، فقصد بلادَهم، وقد عادوا فحشدوا وجمعوا من الأمم المجاورة لهم اللان واللكز وقفجاق وغيرهم، فاجتمعوا في جمعٍ كثير لا يحصى، فطمعوا بذلك، فلَقِيَهم وجعل لهم الكمينَ في عدة مواضع، والتَقَوا واقتَتَلوا، فولى الكرج منهزمين وأخذتهم سيوفُ المسلمين من كل جانبٍ، فلم ينجُ منهم إلا اليسيرُ الشاذُّ الذي لا يعبأ به، وأمر جلال الدين عسكَرَه ألَّا يُبقوا على أحدٍ، وأن يقتلوا من وجدوا، فتبعوا المنهزمين يقتلونهم، وأشار عليه أصحابُه بقصد تفليس دار مُلكِهم، فقال: لا حاجة لنا إلى أن نقتُلَ رجالَنا تحت الأسوار، إنَّما إذا أفنيت الكرج أخذت البلاد صفوًا عفوًا، ولم تزل العساكرُ تَتبَعُهم وتستقصي في طلبِهم إلى أن كادوا يفنونَهم، فحينئذ قصد تفليس ونزل بالقرب منها، وسار في بعض الأيامِ في طائفة من العسكر، وقصدها لينظُرَ إليها، ويبصر مواضِعَ النزول عليها، وكيف يقاتِلُها، فلما قاربها كمن أكثرُ العسكر الذي معه في عدة مواضع، ثم تقدَّم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس، فلمَّا رآه من بها من الكرج طَمِعوا فيه لقِلَّةِ من معه، ولم يعلموا بمن معه، فظهروا إليه فقاتلوه، فتأخر عنهم، فقويَ طَمَعُهم فيه لقِلَّةِ من معه، فظنُّوه منهزمًا، فتبعوه، فلما توسطوا العساكِرَ خرجوا عليهم ووضعوا السيف فيهم، فقُتِل أكثَرُهم، وانهزم الباقون إلى المدينة فدخلوها، وتبعهم المسلمون، فلمَّا وصلوا إليها نادى المسلمون من أهلها بشعار الإسلام، وباسمِ جلال الدين، فألقى الكرج بأيديهم واستسلموا؛ لأنهم كانوا قد قتل رجالهم في الوقعات السابقة، فقل عددُهم، وملئت قلوبُهم خوفًا ورعبًا، فملك المسلمون البلد عَنوةً وقهرًا بغير أمان، وقُتِلَ كلُّ من فيه من الكرج، ولم يبق على كبير ولا صغير إلا من أذعن بالإسلام، وأقرَّ بكلمتي الشهادة، فإنَّه أبقى عليه، وأمرهم فتختَّنوا وتركهم، ونهب المسلمون الأموال، وسَبَوا النساء واستَرَقُّوا الأولاد، ووصل إلى المسلمين الذين بها بعض الأذى من قتلٍ ونهب وغيره، وتفليس هذه من أحصَنِ البلاد وأمنعها، وهي على جانبي نهر الكر، وهو نهر كبير، ولقد جلَّ هذا الفتح وعظُمَ مَوقِعُه في بلاد الإسلامِ وعند المسلمين؛ فإنَّ الكرجَ كانوا قد استطالوا عليهم، وفعلوا بهم ما أرادوا، فكانوا يقصِدونَ أيَّ بلاد أذربيجان أرادوا، فلا يمنَعُهم عنها مانع، ولا يدفَعُهم عنها دافعٌ.