هو الخليفة العباسي المعتضد بالله داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، في يوم الأحد رابع ربيع الأول كانت وفاته بعد مرض تمادى به أيامًا، وحضر السلطان الملك الظاهر جقمق الصلاة عليه بمصلاة المؤمني، ودُفن بالمشهد النفيسي، وكانت خلافته تسعة وعشرين سنة وأيامًا، ثم في يوم الخميس ثامن ربيع الأول كانت مبايعة الخليفة أمير المؤمنين سليمان ابن الخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بالخلافة، بعد وفاة أخيه المعتضد داود، بعهدٍ منه إليه، ولُقِّب بالمستكفي بالله أبي الربيع سليمان.
وُلِد كرم محمَّد زُهدي في المنيا عام 1952م، وكان عضوًا سابقًا في مجلِسِ شُورى الجماعةِ الإسلاميَّةِ في مصرَ، سُجِنَ منذُ اغتيالِ الرَّئيسِ المصريِّالأسبَقِ أنور السَّادات عام 1981، وقضى في السِّجنِ 22 عامًا.
تَرَك رئاسةَ مجلس شورى الجماعةِ الإسلاميَّةِ بعدَ ثورةِ 25 يناير، وأصبح من أعضائِه فقط. قاد كرم زُهدي عمليَّةَ مُراجعاتِ السُّجونِ للتخَلِّي عن حملِ السِّلاحِ والصِّراعِ مع الدَّولةِ. وقدَّم اعتذارًا عن العمليَّاتِ التي تبَنَّتْها الجماعةُ الإسلاميَّةُ.
وتوفِّيَ داخِلَ مُستشفى الإسكندريَّةِ الجامعيِّ عن عُمرِ 69 عامًا. وصُلِّيت عليه صلاةُ الجِنازةِ بمسجِدِ صلاحِ الدِّينِ.
حدوث حَدَثَت زَلزلةٌ عَظيمةٌ ببغداد ارتَجَّت لها الأَرضُ سِتَّ مَرَّاتٍ، وفيها كان مَوتٌ ذَرِيعٌ في الحيواناتِ، بحيث أنَّ بعضَ الرُّعاةِ بخُراسان قام وقتَ الصباحِ لِيَسرَحَ بِغَنَمِه فإذا هُنَّ قد مِتْنَ كُلُّهُنَّ، وجاء سَيْلٌ عَظيمٌ وبَرَدٌ كِبارٌ أَتلَفَ شَيئًا كَثيرًا من الزُّروعِ والثِّمارِ بخُراسان.
كان من قضاء الله عز وجل وما قدَّره في آخر أيام مهرجان كبير عند أهل غرناطة حيث يجتمع فيه جُل أهل غرناطة من رجال ونساء وصبيان وشيوخ وكهول وكثير من أهل القرى حول غرناطة للنزهة، فاجتمعوا في السبيكة من الحمراء وما حولها وامتلأت تلك المواضع بالخلق الكثير، وأقبلت الفرسان وصاروا يتألفون في السبيكة وذلك وقت الضحى، فبينما الناس كذلك في المهرجان إذا بسحابة عظيمة قد أنشأها الله تعالى في السماء فأرعدت وأبرقت وانتشرت من ساعتها بقدرة مكوِّن الأشياء على السبيكة وما قرب منها وعلى غرناطة وما حولها وعلى وادي هداره، وجاءت بمطر عظيم ولم يزل المطر يزداد ويعظم ويكثر حتى صار كالأنهار العظيمة وجاءت السيول من كل ناحية وعظُم أمرها وعاين الناس الهلاكَ مِن عِظَم ما رأوا من شدة المطر وكثرة السيول من كل ناحية، واحتمل السيل الطرق وما حولها وانقطع الناس وحال السيل بينهم وبينها، فكان لا يُسمع إلا بكاء الصبيان وضجيج النسوان وأصوات الرجال بالدعاء إلى الله تعالى والابتهال، إلى أن ارتفع المطر وجاء وادي هداره الذي يشق غرناطة بسيل عظيم احتمل ما على ضفتيه من الأشجار العظام من الجوز واللوز وغير ذلك من الأشجار العظام الثابتة في الأرض، ودخل البلد واحتمل ما على ضفتيه من الدور والحوانيت والمساجد والفنادق ودخل الأسواق، وهدم البناء المشيد ولم يبقَ من القناطير إلا الأقواس، وذهب بكل ما كان عليها من البنيان، ثم جاء السيل بتلك الأشجار العظام التي اقتلعت فتراكمت في البلد في آخر قنطرة منه، فسُدَّت مجاري الوادي فتراكم السيل والشجر في قلب البلد، وعاين الأهالي الهلاكَ ودخل السيل تياره والقيسارية حتى دخل بعض حوانيتها، ووصل إلى رحبة الجامع الأعظم وإلى القراقين والصاغة والحدادين وغير ذلك من الأسواق والدور، فلطف الله تعالى بعباده فنفض السيل بقوة تراكمه بالقنطرة والسور وخرج ذلك كله خارج البلد، وكان هذا اليوم من أعظم الأيام شاهد فيه كل من رآه قدرة القادر القهار الملك العلام سبحانه وتعالى، ولم يسمع المعمَّرون بمثل ذلك اليوم.
سار الشَّريفُ غالب بن مساعد شريفُ مكَّةَ بالعساكِرِ العظيمة من الباديةِ والحاضرة وأهلِ مِصرَ والمغاربة؛ سار في عددٍ عظيمٍ وعُدَّة وكمية هائلة من المدافِعِ والآلاتِ وتوجَّه إلى بلد رنية ونازل أهلَها وحاصَرَها، ودمَّرَ فيها نخيلًا وزروعًا ووقع بينه وبين أهلِها قِتالٌ شديدٌ قُتِل فيه من عسكرِ الشريف غالبٍ عدَّةُ قتلى، وأقام محاصِرَها عشرين يومًا، ثم ارتحل منها إلى بيشة، ونازل أهلَها وحصل بينهم قتالٌ، وكان له في البلد بطانةٌ فمالوا معه فظَفِرَ بها ودخلوا في طاعتِه وأقام عليها أيامًا، وكان قبل حصارِه بلد رنية وبيشة أغار على قبائِلِ قحطان وأخذ عليهم إبلًا كثيرة وأمتعةً، وقتل عِدَّةَ قتلى منهم. يقول الشوكاني عن قتال الشريف غالب لدولة نجد: "كثيرًا ما يجمع الشريف غالب الجيوشَ ثم يغزو أرضَ نجد فيصِلُ أطرافَها فيَبلُغُنا أنه يقوم لحَربِه طائفةٌ يسيرةٌ من أطراف البلاد فيهزمونه ويعود إلى مكةَ، وآخِرُ ما وقع منه ذلك سنة 1212 فإنه جمع جيشًا كثيرًا وغزا نجدًا وأوقع ببعض البلاد الراجعةِ إلى سُلطانِ نجد المذكور، فلم يشعُرْ إلا وقد دهَمَه جيشٌ لا طاقةَ له به، أرسله صاحِبُ نجدٍ، فهزمه واستولى على غالب جيشِه قتلًا وأسرًا، بل جاءت الأخبارُ بأنَّه لم يسلَمْ مِن جيش الشريفِ إلَّا طائفةٌ يسيرة، وقُتِل جماعة من أشراف مكةَ في المعركة، وتمَّت الهزيمة إلى مكة، ولو ترك الشريفُ ذلك واشتغل بغيرِه، لكان أولى له؛ فإنَّ من حارب مَن لا يقوى لحَربِه جَرَّ إليه البلوى، فإنَّ صاحِبَ نجد تبلُغُ عنه قوةٌ عظيمة لا يقوم لمثلها الشريف؛ فقد سَمِعنا أنه قد استولى على بلاد الحَسا والقطيفِ وبلاد الدواسر وغالب بلاد الحجاز، ومن دخل تحت حوزتِه أقام الصَّلاةَ والزكاةَ والصيامَ وسائِرَ شعائر الإسلامِ، ودخل في طاعتِه مِن عرب الشام الساكنين ما بين الحجازِ وصعدة غالبُهم، إمَّا رغبةً وإمَّا رهبةً، وصاروا مقيمين لفرائِضِ الدين بعد أن كانوا لا يعرفونَ مِن الإسلام شيئًا ولا يقومون بشيءٍ مِن واجباتِه إلَّا مجرَّد التكلُّم بلفظ الشهادتين على ما في لفظِهم بها من عِوَجٍ، وبالجملة فكانوا جاهليةً جَهلاءَ كما تواترت بذلك الأخبارُ إلينا، ثم صاروا الآن يصلُّون الصلواتِ لأوقاتِها ويأتون بسائِرِ الأركانِ الإسلاميَّةِ على أبلَغِ صِفاتِها"
عالمُ الرَّافِضةِ، صاحِبُ التَّصانيفِ: أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ محمد بن القاضي النعمان البغدادي الكَرْخي بن محمد المغربي، المعروفُ بابنِ المعَلِّم أو الشَّيخ المُفيد شيخ الإماميَّة الرَّوافض، والمُصَنِّف لهم، والمُحامي عن حوزتِهم، صاحِب فُنونٍ وبحوثٍ وكلام، واعتزالٍ وأدبٍ. قال الذهبي: "ذكَرَه ابن أبي طي في "تاريخ الإماميَّة"، فأطنب وأسهب، وقال: كان أوحَدَ في جميعِ فُنونِ العلم: الأصلينِ، والفِقه، والأخبار، ومعرفة الرِّجال، والتفسير، والنحو، والشعر". كانت له وَجاهةٌ عند ملوك الأطرافِ، وكان مَجلِسُه يَحضُرُه خَلقٌ كَثيرٌ مِن العُلَماءِ مِن سائر الطوائِفِ، وكان من جُملةِ تلاميذِه الشَّريفُ الرَّضِيُّ، والمرتضى، له تصانيفُ؛ منها: الإرشادُ، والرسالة المُقنِعة، والإعلام فيما اتَّفَقَت عليه الإماميَّة من الأحكامِ وغيرها. كان يُناظِرُ أهلَ كُلِّ عقيدةٍ مع ما له من العَظَمةِ في الدَّولة البُويهيَّة، والرُّتبة الجَسيمة عند الخُلَفاء، وكان قويَّ النَّفسِ، كثيرَ البِرِّ، عظيمَ الخُشوعِ، كثيرَ الصَّلاة والصَّوم، يَلبَسُ الخَشِنَ من الثياب، وكان مُديًما للمطالعةِ والتَّعليمِ، ومن أحفَظِ الناس. قيل: "إنَّه ما ترك للمُخالفينَ كِتابًا إلَّا وحَفِظَه، وبهذا قَدَرَ على حَلِّ شُبَهِ القَومِ، وكان مِن أحرَصِ النَّاسِ على التَّعليم؛ يدورُ على المَكاتبِ وحوانيتِ الحاكَةِ، فيتلَمَّحُ الصبيَّ الفَطِنَ، فيستأجرُه من أبويه- يعني فيُضِلُّه- وبذلك كَثُر تلامِذتُه". ربما زاره عَضُدُ الدَّولة، وكان يقضي حوائجَه ويقول له: اشفَعْ تُشَفَّع، وكان يقومُ لتلامذتِه بكُلِّ ما يحتاجونَ إليه. وكان الشَّيخُ المفيد ربعةً نحيفًا، أسمرَ، وما استغلَقَ عليه جوابٌ إلَّا فَزِعَ إلى الصلاة، ثم يسألُ اللهَ فيُيَسِّرُ له الجواب. عاش ستًّا وسبعين سنة، وصَنَّف أكثَرَ من مِئَتي مُصَنَّف، وشَيَّعَه ثمانون ألفًا، وكانت جنازتُه مشهودة. قال الذهبي: "بلَغَت تواليفُه مِئَتين، لم أقِفْ على شيءٍ منها، ولله الحَمدُ"
اجتمع القضاةُ بالشيخِ تقي الدين ابن تيميَّة في دار الأوحدي من قلعةِ الجبل بمصر، وطال بينهما الكلامُ ثمَّ تفَرَّقا قبل الصلاة، والشيخُ تقيُّ الدين مُصَمِّمٌ على عدم الخروجِ من السجن، فلما كان يومُ الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأوَّل جاء الأميرُ حسام الدين مهنا بن عيسى مَلِك العرب إلى السجنِ بنَفسِه وأقسم على الشيخِ تقي الدين ليخرجَنَّ إليه، فلما خرجَ أقسَمَ عليه ليأتيَنَّ معه إلى دار نائبِ السلطانِ الأميرِ سيف الدين سلار المغولي، فاجتمعَ به بعضُ الفقهاء بدار سلار وجَرَت بينهم بحوثٌ كثيرة، ثم فَرَّقَت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغربِ وبات الشيخ تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يومَ الأحد بمرسومِ السلطان جميعَ النهار، ولم يحضُرْ أحدٌ من القضاة بل اجتمع من الفقهاءِ خلقٌ كثير، أكثَرُ من كل يوم، منهم الفقيه نجم الدين بن رفع، وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان، وجماعة من الفقهاء، وطلبوا القضاةَ فاعتذروا بأعذار، بعضُهم بالمرض، وبعضُهم بغيره؛ لمعرفتهم بما ابنُ تيميَّة منطوٍ عليه من العلومِ والأدلَّةِ، وأنَّ أحدًا من الحاضرين لا يطيقُه، فقَبِلَ عذرَهم نائِبُ السلطنةِ ولم يكَلِّفْهم الحضورَ بعد أن رسم السلطانُ بحضورهم أو بفَصلِ المجلس على خير، وبات الشيخُ عند نائب السلطنة، وجاء الأميرُ حسام الدين مهنا يريد أن يستصحِبَ الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فأشار سلار بإقامةِ الشيخِ بمصر عنده ليرى الناسُ فَضلَه وعِلمَه، وينتَفِعَ الناسُ به ويشتغلوا عليه، فكتب الشيخُ كتابًا إلى الشام يتضَمَّنُ ما وقع له من الأمورِ.
في صفر حضر السلطان إلى دمشق وأمر باعتقال الأمير شيخ المحمودي نائبها ومعه الأمير يشبك الشعباني وحُبِسا بالقلعة، وأما الأمير جركس المصارع فهرب، ووكل بهما الأمير منطوق ولكنهما استطاعا أن يستميلاه، فهربوا جميعًا من القلعة، فأرسل وراءهم ولكن لم يُقتَل إلا منطوق، واستطاع يشبك وجركس وشيخ التغلُّبَ على حمص، ثم لما رحل السلطان عن دمشق وترك عليها الأمير بكتمر شلق، ثم لما كانت ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر طرق الأمير شيخ - ومعه يشبك وجركس المصارع- دمشق، ففرَّ من كان بها من الأمراء وملك شيخ دمشق، وقبض على جماعة، وولى وعزل، ونادى بالأمان، وأخذ خيول الناس، وصادر جماعة، فورد الخبر في يوم الأربعاء الحادي عشر، بأن بكتمر شلق نزل بعلبك في نفر قليل، فسار يشبك وجركس في عسكر، فمضى بكتمر إلى جهة حمص، فوافاهم الأمير نوروز بجمع كبير على كروم بعلبك، فكانت بينهما وقعة قُتِل فيها يشبك وجركس المصارع في طائفة، وقبض نوروز على عدة ممن معهما، فلما بلغ ذلك الأمير شيخ سار من دمشق على طريق جرود في ليلة الجمعة الثالث عشر، وهي الليلة التي تلي يوم الوقعة، ودخل نوروز دمشق يوم السبت الرابع عشر بغير ممانع.
قَدِمَ يوسفُ الكيمياوي إلى مِصرَ في يوم الخميس سابعَ عشر رمضان، وكان من خبَرِ هذا الرجل أنه كان نصرانيًّا من أهل الكرك فأسلم، ومضى إلى دمشقَ بعدما خَدَع بمدينة صفد الأميرَ بهادر التقوى حتى انخدع له وأتلَفَ عليه مالًا جزيلًا، فلما ظهَرَ له أمْرُه سَجَنه مُدَّةً، ثم أفرج عنه، فاتصَلَ يوسف بالأمير تنكز نائب الشام، وقَصَد خديعته فلم ينخَدِعْ له، وأمر والي دمشق بشَنقِه، فصاح وقال: أنا جيت للسُّلطانِ حتى أملأَ خِزانَتَه ذهبًا وفِضَّة، فلم يجِدْ تنكز بدًّا من إرساله إلى السلطان، فقَيَّده وأركَبَه البريدَ مع بعض ثقاتِه، وكتب بخَبَرِه وحَذَّر منه، فلما اجتمع يوسفُ بالسلطان مال إلى قَولِه، وفَكَّ قَيدَه، وأنزله عند الأمير بكتمر الساق وأجرى عليه الرواتِبَ السَّنِيَّة، وأقام له عِدَّةً مِن الخدم يتولَّون أمره، وخلع عليه، وأحضر له ما طلَبَ من الحوائج لتدبيرِ الصَّنعةِ، حتى تمَّ ما أراده، فحضر يوسف بين يدي السلطان، وقد حضر الفخر ناظِرُ الجيش والتاج إسحاق وابن هلال الدولة والأمير بكتمر الساقي في عِدَّةٍ من الأمراء، والشيخ إبراهيم الصائغ وعِدَّة من الصواغ، فأوقدوا النَّارَ على بوطقة قد مُلِئَت بالنُّحاسِ والقصدير والفضة حتى ذاب الجميعُ، فألقى عليه يوسفُ شيئًا من صنعته، وساقوا بالنَّارِ عليها ساعةً، ثم أفرغوا ما فيها فإذا سبيكةُ ذَهَبٍ كأجوَدِ ما يكونُ، زِنَتُها ألفُ مثقالٍ، فأعجَبَ السلطانَ ذلك إعجابًا كثيرًا، وسُرَّ سرورًا زائدًا، وأنعم على يوسف بهذه الألفِ مِثقالٍ، وخلع عليه خِلعةً ثانية، وأركبه فرسًا مُسرَجًا مُلَجَّمًا بكنبوش حرير، وبالغ في إكرامِه، ومكَّنَه من جميع أغراضه، فاتصل به خُدَّام السلطان، وقَدَّموا له أشياء كثيرة مستحسنة، فاستخَفَّ عُقولَهم حتى ملكها بكَثرةِ خُدَعِه، فبذلوا له مالًا جزيلًا، ثم سَبَك يوسف للسلطان سبيكةً ثانية من ذهب، فكاد يطيرُ به فرحًا، وصار يستحضِرُه بالليل ويحادِثُه، فيزيده طَمَعًا ورغبة فيه، فأذِنَ له أن يركب من الخيولِ السُّلطانيَّة ويمضي حيث شاء من القاهرةِ ومصر، فركب وأقبَلَ على اللهو، وأتاه عِدَّةٌ من الناس يسألونَه في أخذِ أموالهم، طمعًا في أن يُفيدَهم الصَّنعةَ أو يُغنيهم منها، فمَرَّت له أوقاتٌ لا يتهيَّأُ لكلِّ أحَدٍ مِثلُها مِن طِيبتِها، ثم إنَّه سأل أن يتوجَّه إلى الكرك لإحضارِ نبات هناك، فأركبه السلطانُ البريد، وبعث معه الأميرَ طقطاي مُقَدَّم البريدية، بعدما كتب إلى نائب غَزَّة ونائب الكرك بخدمتِه وقضاء ما يُرسَم به والقيام بجميع ما يحتاجُ إليه من ديوان الخاص، فمضى يوسفُ إلى الكرك وأبطأ خبَرُه، ثم قَدِمَ وقد ظهر كَذِبُه للسلطان، فضَيَّق عليه وحبسه في القاهرة، ثم إنَّه في عام 731 هرب من السجنِ ثمَّ بعد عدة أشهر وُجِدَ في أحميم فمَثُلَ بين يدي السلطان فسأله عن المال، فقال: عَدِمَ مني، فسأله السلطانُ عن صناعته فقال: كُلُّ ما كنتُ أفعَلُه إنما هو خِفَّةُ يدٍ، فعوقب عُقوبةً شديدة بالضرب، ثم حُمِلَ إلى خزانة شمائل سجن أرباب الجرائم بجوار باب زويلة من القاهرة، فمات ليلة الأحد خامس عشر ذي الحجة، فسُمِّرَ وهو ميت وطيف به القاهرة على جملٍ في يوم الأحَدِ.
وصَلَت رسُلُ مَلِك الهند بهَديَّة فيها فصان ياقوت، ومعهم كتابٌ يتضَمَّنُ السلام والمودَّة، وأنَّهم لم يكونوا يَعرِفونَ الإسلامَ حتى أتاهم رجلٌ عَرَّفَهم ذلك، وذكرَ لهم أنَّ ولاية المَلِك لا بُدَّ أن تكون من الخليفةِ، وسأل مَلِكُ الهند أن يُكتَبَ له تقليدٌ مِن جهة الخليفة بولايةِ مَملكةِ الهند ليكونَ نائبًا عن السلطانِ بتلك البلاد، وأن يَبعَثَ السُّلطانُ إليهم رجلًا يعَلِّمُهم شرائِعَ الإسلام من الصَّلاةِ والصيامِ ونحو ذلك، فأُكرِمَت الرسُلُ، وطلب من الخليفةِ أن يكتُبَ تقليدًا لمُرسِلِهم بسلطنة الهند، فكُتِبَ له تقليدٌ جليلٌ، ورَسَم بسَفَرِ ركن الدين الملطي شيخِ الخانكاه الناصريَّة بسرياقوس مع الرُّسُل.
وصلت عساكِرُ مِصرَ العُبَيديَّة إلى حَلَب في جمعٍ كثيرٍ فحَصَروها، وبها مُعِزُّ الدَّولة أبو علوان ثمال بن صالح الكلابي، فجمع جمعًا كثيرًا بلغوا خمسةَ آلاف فارس وراجل، فلمَّا نزلوا على حلب خرج إليهم ثمال وقاتلهم قِتالًا شديدًا صبَرَ فيه لهم إلى الليل، ثم دخل البلدَ، فلمَّا كان الغد اقتتلوا إلى آخِرِ النهار، وصبر أيضًا ثمال، وكذلك أيضًا اليوم الثالث، فلما رأى المصريُّونَ صَبْرَ ثمال، وكانوا يظنُّونَ أنَّ أحدًا لا يقوم بين أيديهم رحلوا عن البلد، فاتَّفَق أن جاء مطر عظيمٌ تلك الليلة لم يَرَ النَّاسُ مثله، وجاءت المدودُ إلى منزل، فبلغ الماءُ ما يقارب قامتين، ولو بَقُوا لغرقوا، لكنهم رحلوا إلى الشامِ الأعلى.
خرج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمداني، وكان خروجُه بنواحي الموصِل بقريةٍ تُسمَّى بَافَخَّارى، قريب من الموصل على دجلة، فخرج إليه عسكرُ الموصِل، وعليها الصقر بن نجدة، فالتقَوا واقتَتلوا وانهزم عسكرُ الموصِل على الجِسر، وأحرق الخوارجُ أصحابُ حسَّان السوقَ هناك ونهبوه. ثم إنَّ حسانَ سار إلى الرقَّةِ ومنها إلى البحر ودخل إلى بلد السِّند، وكانت الخوارجُ مِن أهل عمان يُدخِلونَهم ويَدَعونهم، فاستأذَنَهم في المصير إليهم، فلم يجيبوه، فعاد إلى الموصِل، فخرج إليه الصقرُ أيضًا والحسَنُ بن صالح بن حسان الهمداني وبلال القيسي، فالتقَوا فانهزم الصقرُ وأُسِرَ الحسنُ بن صالح وبلال، فقتَل حسانُ بلالًا واستبقى الحسنَ؛ لأنَّه من همدان، ففارقه بعضُ أصحابه لهذا، وكان حسانُ قد أخذ رأيَ الخوارج عن خالِه حفصَ بنِ أشيم، وكان من علماء الخوارجِ وفُقَهائِهم، ولَمَّا بلغ المنصورَ خروجُ حَسَّان، قال: خارجيٌّ مِن همدان؟ قالوا: إنَّه ابن أخت حفص بن أشيم. فقال: فمن هناك؟ وإنَّما أنكر المنصورُ ذلك؛ لأن عامَّة همدان شيعةٌ لعليٍّ، وعزمَ المنصورُ على إنفاذ الجيوش إلى الموصِل والفَتكِ بأهلها، فأحضرَ أبا حنيفة، وابنَ أبي ليلى، وابنَ شبرمة، وقال لهم: إنَّ أهل الموصل شَرَطوا إليَّ أنَّهم لا يَخرُجون عليَّ، فإن فعلوا حلَّت دماؤهم وأموالهم، وقد خرجوا. فسكتَ أبو حنيفة وتكلَّم الرجُلانِ وقالا: رعِيَّتُك، فإنْ عَفَوتَ فأهلُ ذلك أنت، وإن عاقبتَ فبما يستحقُّون. فقال لأبي حنيفة: أراك سكتَّ يا شيخُ؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أباحوك ما لا يملِكونَ، أرأيتَ لو أنَّ امرأةً أباحَت فرجَها بغير عقدِ نكاحٍ ومِلكِ يمينٍ، أكان يجوزُ أن تُوطأَ؟! قال: لا! وكفَّ عن أهل الموصل، وأمرَ أبا حنيفةَ وصاحِبَيه بالعودة إلى الكوفةِ.
تَزوَّج الخَليفةُ المُقتَدِي بابنةِ السُّلطانِ ملكشاه فاشتَرطَت عليه أن لا يُبقِي تَحتَه لا زَوجةً ولا سُرِّيَّةً إلا هي وَحدَها، فأُجِيبَت رَغبتُها. فنُقِلَ جِهازُها إلى دارِ الخِلافَةِ على مائةٍ وثلاثين جَمَلًا مُجَلَّلَةً بالدِّيباجِ الرُّوميِّ، وكان أَكثرَ الأحمالِ الذهبُ والفِضَّةُ وعلى أربعٍ وسبعين بَغْلًا مُجَلَّلَةً بأَنواعِ الدِّيباجِ المَلَكِيِّ، وأَجراسُها وقَلائدُها من الذهبِ والفِضَّةِ، وكان على سِتَّةٍ منها اثنا عشر صُندوقًا من فِضَّةٍ لا يُقَدَّر ما فيها من الجَواهرِ والحُلِيِّ، وبين يدي البِغالِ ثلاثةٌ وثلاثون فَرَسًا من الخَيْلِ الرَّائقَةِ، عليها مَراكِبُ الذهبِ مُرَصَّعَةً بأَنواعِ الجَوهَرِ، ومَهْدٌ عَظيمٌ كَثيرُ الذَّهبِ، وسار بين يدي الجِهازِ سعدُ الدولةِ كوهرائين، والأَميرُ برسق، وغيرُهما، ونَثَرَ أَهلُ نَهرِ معلى عليهم الدَّنانيرَ والثِّيابَ، وكان السُّلطانُ قد خَرجَ عن بغدادَ مُتَصَيِّدًا، ثم أَرسلَ الخَليفةُ الوَزيرَ أبا شُجاعٍ إلى تركان خاتون، زَوجَةِ السُّلطانِ، وبين يَديهِ نحو ثلاثمائة مَوْكِبِيَّةٍ، ومِثلُها مَشاعِلُ، ولم يَبقَ في الحَريمِ دُكَّانٌ إلَّا وقد أُشعِل فيها الشَّمعةُ والاثنتانِ وأكثرُ من ذلك، وأَرسلَ الخَليفةُ مع ظُفَر خادمِه مَحِفَّةً لم يُرَ مِثلُها حُسْنًا، وقال الوَزيرُ لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أَميرُ المؤمنين يقول: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وقد أَذِنَ في نَقلِ الوَديعَةِ إلى دارِه. فأَجابَت بالسَّمعِ والطَّاعةِ، وحَضَرَ نِظامُ المُلْكِ فمَن دُونَه مِن أَعيانِ دَولةِ السُّلطانِ، ثم جاءَت الخاتون ابنةُ السُّلطانِ بعدَ الجَميعِ، في مَحِفَّةٍ مُجَلَّلَةٍ، عليها من الذهبِ والجَواهرِ أكثرُ شيءٍ، وقد أَحاطَ بالمَحِفَّةِ مائتا جاريةٍ من الأتراكِ بالمَراكبِ العَجيبةِ، وسارَت إلى دارِ الخِلافةِ، وكانت ليلةً مَشهودَةً لم يُرَ ببغدادَ مِثلُها، فلمَّا كان الغَدُ أَحضرَ الخَليفةُ أُمراءَ السُّلطانِ لِسِماطٍ أَمَرَ بِعَمَلِهِ وخَلَعَ عليهم كُلِّهم، وعلى كلِّ مَن له ذِكْرٌ في العَسكرِ، وأَرسلَ الخِلَعَ إلى الخاتون زَوجةِ السُّلطانِ، وإلى جَميعِ الخَواتين.
في سنة ثلاث وثمانين غزا شهاب الدين الغوري بلد الهند، وانهزم أمامَ أحد ملوكها وبَقِيَ إلى الآن في نفسه غَضَبٌ عظيمٌ على الجند الغورية الذين انهزموا، فألزَمَهم من الهوان، حتى هذه السَّنة فخرج من غزنة وقد جمع عساكِرَه وسار منهم يطلُبُ عَدُوَّه الهندي الذي هزمه تلك النوبةَ، قال ابن الأثير: " لما وصل الغوري إلى برشاوور تقَدَّمَ إليه شيخ من الغورية كان يدُلُّ عليه، فقال له: قد قَرُبنا من العدو، وما يعلَمُ أحد أين نمضي، ولا من نَقصِدُ، ولا نَرُدُّ على الأمراء سلامًا، وهذا لا يجوز فِعلُه. فقال له السلطان: اعلَمْ أنَّني منذ هزمني هذا الكافِرُ، ما نمت مع زوجتي، ولا غيَّرْتُ ثياب البياضِ عني، وأنا سائِرٌ إلى عدوي، ومعتَمِدٌ على الله تعالى لا على الغوريَّة، ولا على غيرهم، فإن نَصَرَني الله سبحانه ونَصَرَ دينَه، فمِن فَضلِه وكَرَمِه، وإن انهَزَمْنا فلا تطلبوني فيمن انهَزَم، ولو هَلكْتُ تحت حوافِرِ الخيل, فقال له الشيخ: سوف ترى بني عَمِّك من الغورية ما يفعلونَ، فينبغي أن تكَلِّمَهم وتَرُدَّ سلامهم. ففعل ذلك وبَقِيَ أمراء الغورية يتضَرَّعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعَلُ" ثم سار إلى أن وصل إلى موضع المصافِّ الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عِدَّةَ مواضِعَ مِن بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهَّزَ وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقِيَ بين الطائفتين مرحلةٌ عاد شهاب الدين وراءه والكافِرُ في أعقابه أربع منازل، وتمَّ على حاله عائدًا إلى أن بَقِيَ بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافِرُ في أثره يتبعه، حتى لحقه قريبًا من مرندة فجَرَّدَ شهاب الدين من عسكَرِه سبعين ألفًا، وقال: أريدُ هذه الليلة تدورونَ حتى تكونوا وراء عسكَرِ العدو، وعند صلاة الصبحِ تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية، ففعلوا ذلك، وطلع الفجرُ، ومن عادة الهنود أنَّهم لا يبرحون مِن مضجعهم إلى أن تطلُعَ الشَّمسُ، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكَرُ المسلمين من كل جانب، والقَتلُ قد كَثُرَ في الهنود، والنصرُ قد ظهر للمسلمين، فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرسًا له سابقًا، وركب ليهرُبَ، فقال له أعيان أصحابه: إنَّك حلفت لنا أنَّك لا تُخَلِّينا وتهرُب، فنزل عن الفرس وركِبَ الفيل ووقَفَ مَوضِعَه، والقتالُ شديد، والقَتلُ قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمونَ إليه وأخذوه أسيرًا، وحينئذ عَظُمَ القتلُ والأسر في الهنود، ولم ينجُ منهم إلا القليلُ، وغَنِمَ المُسلِمونَ مِن الهنود أموالًا كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعةَ عشر فيلًا، فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحِصنِ الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.
في الوقتِ الذي نجح فيه ابنُ رشيد في بسطِ نفوذِه ليشمَلَ بلادَ الوشم وسدير كان محمدُ بن سعود ينازِعُ عَمَّه الإمامَ عبد الله على الحُكمِ، بحُجَّةِ أنَّه الوريثُ الشرعيُّ لوالِدِه، فدارت بينهما عدةُ معارك انتهت في هذه السنة بتغَلُّبِ أبناء سعود على عَمِّهم عبد الله، ودخلوا الرياض واعتقلوا عمَّهم عبد الله وسَجَنوه.