جرت حروب بأفريقية من بلاد المغرب، وذلك أنه لما مات أبو فارس عبد العزيز، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبى عبد الله، ولى عمه أبا الحسن على بن أبي فارس بجاية وأعمالها، فلما مات المنتصر، وقام من بعده أخوه أبو عمرو عثمان بن أبي عبد الله، امتنع عمه أبو الحسن من مبايعته، ورأى أنه أحق منه، ووافقه فقيه بجاية منصور بن علي بن عثمان وله عصبة وقوة، فاستبد بأمر بجاية وأعمالها، فسار أبو عمرو من تونس في جمع كبير لقتاله، فالتقيا قريبًا من تبسة وتحاربا، فانهزم أبو الحسن إلى بجاية، ورجع أبو عمرو إلى تونس، ثم خرج أبو الحسن من بجاية، وضم إليه عبد الله بن صخر من شيوخ إفريقية، ونزل بقسنطينة وحصرها وقاتل أهلها مدة، فسار إليه أبو عمرو من تونس في جمع كبير، فلما قرب منه سار أبو الحسن عائدًا إلى جهة بجاية، فتبعه أبو عمرو حتى لقيه وقاتله، فانهزم أبو عمرو بعدما قتل أبو الحسن عدةً من أصحابه، وعاد كل منهما إلى بلده، فلما كان في هذه السنة أعمل أبو عمرو الحيلةَ في قتل عبد الله بن صخر حتى قتله، وحُمِل رأسه إليه بتونس، ففَتَّ ذلك في عضد أبي الحسن، ثم جهز أبو عمرو العساكر من تونس في إثر ذلك، فنازلت العساكر بجاية عدة أيام، حتى خرج الفقيه منصور بن علي إلى قائد العسكر، وعقد معه الصلح ودخل به إلى بجاية، وعبر الجامع وقد اجتمع به الأعيان، وجاء أبو الحسن ووافق على الصلح، وأن تكون الخطبة لأبي عمرو، ويكون هو ببجاية في طاعته، وترجع العساكر عن بجاية إلى تونس، فلما تم عقد الصلح أقيمت الخطة باسم أبي عمرو، وعادت العساكر تريد تونس، فبلغهم أن أبا عمرو خرج من تونس نحوهم لقتال أبي الحسن، فأقاموا حتى وافاهم، ووقف على ما كان من أمر الصلح، فرضي به، وأخذ في العود إلى جهة تونس، فورد عليه الخبر بأن أبا الحسن خاف على نفسه من أهل بجاية، فخرج ليلًا حتى نزل جبل عجيسة، فأقر عساكرَه حيث ورد عليه الخبر، وسار جريدة في ثقاته، ودخل مدينة بجاية، فسُرَّ أهلها بقدومه، وزينوا البلد، فرتب أحوالها واستخلف بها أصحابه، وعاد إلى معسكره، واستدعي شيوخ عجيسة، فأتاه طائفة منهم فأرادهم على تسليم أبى الحسن إليه، وبذل لهم المال، فأبوا أن يسلموه، فتركهم وعاد إلى تونس، فكثُرَ جمع أبي الحسن بالجبل، وأقام به مدة، ثم خاف من عجيسة أن تغدر به، ولم يأمنهم على نفسه، فسار ونزل جبل عياض قريبًا من الصحراء.
هو السلطان القان معين الدين شاه رخ ابن الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، سلطان هراة، وسمرقند، وشيراز، وما والاها من بلاد العجم وغيرها. مَلَك البلاد بعد ابن أخيه خليل بن أميران شاه بن تيمورلنك، فإنَّه لما مات والده الطاغية تيمورلنك بأهنكران شرقي سمرقند، وثب خليلٌ على الأمر وتسلطن، وبلغ شاه رخ هذا الخبر في هراة، فجمع ومشى إليه، ووقعت بينهما حروب وخطوب إلى أن ملك شاه رخ، واستقَلَّ بممالك العجم وعراقة، وعظُمَ أمره وهابته الملوك، وحُمِدَت سيرتُه، وشُكِرت أفعاله، وقَدِمَت رسله إلى البلاد المصرية مرارًا عديدة, وراسلته ملوكُ مصر، إلى أن تسلطَنَ الملك الأشرف برسباي، وقع بينهما وحشة بسبب طلب شاه رخ أن يكسوَ البيت الشريف، فأبى الأشرفُ برسباي وخشَّن له الجواب. وترددت الرسلُ بينهما مرارًا، واحتجَّ شاه رخ أنه نذر أن يكسو البيت الشريف، فلم يلتفت الأشرفُ إلى كلامه، ورد قصَّاده إليه بالخيبة. ولَمَّا آل المُلك إلى المَلِك الظاهر جقمق، أذن له بكسوتها, واستمرَّت الصحبةُ بين الملك الظاهر جقمق وبين شاه رخ إلى أن مات شاه رخ في سنة 851. تولى الملك بعده حفيدُه علاء الدولة بن باي سنقر، نصبته جدتُه لأبيه كهرشاه خاتون، أرادت بولاية علاء الدولة، وعدم ولايتها ولَدَها ألوغ بك صاحب سمرقند، أن يكون الأمرُ إليها. فلما سمع ألوغ بك ذلك عزَّ عليه، وحشد ومشى إلى والدته كهرشاه وإلى ابن أخيه علاء الدولة بن باي سنقر، ووقع له معهما أمور وحوادث، ثم قُتِلَ ألوغ بك, واستمرت الفتنة بين بني تيمور. ولم يعُدْ بيت تيمور صالحًا للحكم بعد موت شاه رخ وقتْلِ ولده ألوغ بك صاحب سمرقند. كان شاه رخ ملكًا عادلًا ديِّنًا خَيِّرًا، فقيهًا متواضعًا، محبَّبًا لرعيته، غير محجوب عنهم، لم يسلك طريقة والده الطاغية تيمورلنك- لعنه الله وقبَّحه- كان يحب أهل العلم والصلاح، ويكرِمُهم ويقضي حوائجَهم. وكان متضعفًا في بدنه، يعتريه مرضُ الفالج فلا يزال يتداوى منه. وكان يحبُ السَّماع الطيب، وله حظٌّ منه، بل كان يَعرِفُ يضرب بالعود، وكان ينادمه الأستاذ عبد القادر بن الحاج غيبى ويختصُّ به، وكان له حظ من العبادة وله أوراد هائلة، لم يزل غالبَ أوقاته على طهارة كاملة، مستقبِلَ القبلة والمصحفُ بين يديه، وكان مَسيكًا لا يصرف المالَ إلا لحقه.
أمر السلطان محمد الفاتح بإنشاء جامِعِه في موقع كنيسة بيزنطة القديمة التي دمَّرها الصليبيون أثناء الحملة الصليبية الرابعة، وسمي الجامعُ باسم جامع الفاتح نسبةً إليه، وأمر كذلك أن يُبنى بجانب مسجده ثماني مدارس، على كل جانب من جوانب المسجد أربعة مساجد يتوسَّطُها صَحنٌ فسيح، وفيها يقضي الطالبُ المرحلة الأخيرة من دراسته، وأُلحقت بهذه المدارس مساكِنُ للطلبة ينامون فيها ويأكلون فيها طعامَهم، ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وكان الموسمُ الدراسي على طول السنة في هذه المدارس، وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة، وكان يشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى، متبحرًا في أسماء الكتب والمؤلِّفين، وكان المشرف على المكتبة يعير الطلبة والمدرسين ما يطلبونَه من الكتب بطريقةٍ منظمة دقيقة ويسجل أسماء الكتب المستعارة في دفتر خاص، وهذا الأمين مسؤول عن الكتب التي في عهدته، ومسؤول عن سلامة أوراقها، وتخضع هذه المكتبة للتفتيش كل ثلاثة أشهر على الأقل، وكانت مناهج هذه المدارس تتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص، وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضًا، ثم صار الوزراء والعلماء من أصحاب الثروات يتنافسون في إنشاء المعاهد والمدارس والمساجد والأوقاف الخيرية، وكان الفاتح مهتمًّا باللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن الكريم، كما أنها من اللغات العلمية المنتشرة في ذلك العهد، وليس أدلَّ على اهتمام الفاتح باللغة العربية من أنه طلب إلى المدرسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في علم اللغة، كالصحاح، والتكملة، والقاموس، وأمثالها، ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإكثار من نشر المكاتب العامة، وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم. كان السلطان محمد الفاتح مغرمًا ببناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات، والخانات والحمامات، والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة، وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات، وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاءً ورونقًا، واهتم بالعاصمة إسلامبول اهتمامًا خاصًّا، وكان حريصًا على أن يجعلها حاضرة العلوم والفنون، وكثر العمران في عهد الفاتح وانتشر، واهتم بدُور الشفاء ووضع لها نظامًا مثاليًّا في غاية الروعة والدقة والجمال؛ فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب، ثم زيد إلى اثنين من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحَّال- طبيب عيون- وجراح وصيدلي، وجماعة من الخدم والبوابين، ويشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ويجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وألا تصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفًا بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان، ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم!
لَمَّا كانت روسيا ليس لها عمارةٌ بالبحر الأسود استقدمت أساطيلَها من بحر البلطيك واستعانت بسفن من إنكلترا والفلمنك والبنادقة، واستأجرت ضباطًا ورجالًا لها، فأقبل هذا الأسطول إلى البحر الأبيض ومَرَّ بسواحل مورة، وأمَدَّ رجال الثورة هناك بالمال والسلاح. فلما رأت فرنسا تغلغل روسيا في البحر الأبيض كرهت ذلك جدًّا، وعرضت على الدولة العثمانية النجدةَ فقَبِلتْها، فحضر أحد مهندسيها واسمه البارون (توت) ليساعد مهندسي الترك على ترميم القلاع وبناء الاستحكامات، وعرضت إسبانيا مساعدتها على أن تمنَحَها امتيازات تجارية، فأبى الترك ذلك، وظهر عجز الجيش العثماني في تعليماته ونظاماته أمامَ الجيوش الأوروبية التي كانت قد خطت خطواتٍ واسعةً في سبيل النظام العسكري. أما الأسطولُ الروسي بالبحر الأبيض المتوسط فإن خطره لَمَّا استشرى هناك أرسلت إليه الدولةُ أسطولها تحت قيادة حسين باشا الجزائري ففاز عليه، ثم تقدَّمت سفينتُه لأسرِ سفينة الأميرال الروسي الذي كان يعاونُه كبار رجال البحر من الإنكليز، فأسرع الأميرال بالانتقال إلى سفينة أخرى وأشعل في السفينةِ التي تركها النارَ فاحترقت، وأصيب القبودان حسين باشا بجروجٍ اقتضت أن يُنقَلَ إلى البر، ثم إن القائد العام حسام الدين باشا أمر أن تدخُلَ العمارة إلى ميناء جشمة، وكانت ميناء ضيقة، فنصحه القبودان حسين باشا بأن ذلك لا يجوزُ وربما أفضى إلى ضياع الأسطول كله فلم يُصْغِ إليه. فلما رأى قواد الأسطول الروسي أنَّ العمارة العثمانية دخلت ذلك الميناء حصروها وصَفُّوا بقيةَ السفن وأمروها بالضرب، وساقوا الحرَّاقات للهجوم على السفن العثمانية، فوقعت العمارة العثمانية في حالةٍ سيئة فأُحرِقَت جميعُها إلا سفينتين كبيرتين وخمس سفن صغيرة. فلما شفي حسين باشا الجزائري من جراحِه عاد إلى الأستانة، وطلب من الصدر أن يأذن له في فتح جزيرة ليمنوس التي استولى عليها الروسُ برجال ينتخِبُهم من الفدائيين، فأذن له فانتخب أربعة آلاف رجل، فذهب بهم ونزل في سفن مأجورة حتى نزلوا جميعًا بالجزيرة، فأوقعوا بالروس حتى أجلَوهم عنها. وانتصرت الجيوشُ العثمانية على الروس أيضًا عند طرابزون وكرجستان. ثم أُسندت قيادة السفن لحسين باشا الجزائري لِما اشتُهِر عنه من الحزم والدربة، فأخذ الأسطولَ العثماني وخرج لقتال الأسطولِ الروسي في البحر الأبيض فاضطره للهربِ. أما عساكر روسيا فقد تقدمت بعد أن انتصرت على الجيوش العثمانية في عِدَّة مواقِعَ، واستولت على قلاع إسماعيل وكلي وبندر وآق كيرمان. فاضطرت الدولةُ للجِدِّ في حشد الجنود، ولكن كانت النمسا وبروسيا أسرعَ منها في الوساطة، فرفضت روسيا هذه الوساطةَ وطلبت أن تتفِقَ مع الأتراك مباشرةً، وعرضت مطالِبَ فرفضتها تركيا، فرجعت الحرب إلى ما كانت عليه فاستولت روسيا على قلاع ماجين وطولجي وإيساقجي، ودخلت جنودُها بلاد القرم واستولت على قلاع طومان وكرج وكفه وكرزلوه، فهاجر كثير من التتار إلى الأناضول.
كان الآشوريون -وهم نصارى نساطرة- يقيمون في ولاية "وان" شرقيَّ الأناضول، وعاشوا تحت ظِلِّ الدولة الإسلامية آمنينَ على دمائِهم وأعراضِهم وأموالِهم، فلما اندلعت الحربُ العالمية الأولى، واستولى الروسُ على "وان" أغرَوا الآشوريِّينَ بالتمَرُّد على العثمانيين، وأمدُّوهم بالمالِ والسلاح، ولَمَّا انسحبت روسيا من "وان" بعد قيام الشيوعيَّةِ وجدت الدولةُ العثمانيةُ نفسَها مضطرةً للفَتكِ بهم؛ لِمَا أظهَروه من الخيانة والتمرُّدِ والقتل، ففَرَّ مَن استطاع منهم إلى إيران، ثمَّ عَمِلت بريطانيا على نقلِهم إلى العراق وأقاموا لهم مخيَّمات في ديالي وبعقوبة، ثم قاموا في العراق بإحداثِ عِدَّةِ فِتَن، منها فتنة سوق العتمة في محرم 1342 / 15 آب 1923م، وأخرى في رمضان من نفس العام، وهمَّت القبائل بالفتكِ بهم، فحمتهم بريطانيا، وألزمت الحكومة بإعطائهم الأراضيَ وإعفائِهم من الضرائِبِ، فأخذوا أكثَرَ ممَّا يستحقون، وعُين الضابط الإنجليزي فايكر لإسكانهم وله مطلقُ الحرية، ثم جاء إلى العراق نقيبٌ إنجليزي يُدعى هرمز رسام ادَّعى أنه نسطوري أصلُه من الموصِل، فأخذ يتجوَّلُ بين النساطرة الآشوريين ويحَرِّضُهم على طلب الانفصال عن العراق، وأسَّس جمعية لجنة إنقاذ الأقليات العراقية غير المسلِمة، وحاول الآشوريون عرقلةَ دخول العراق للأمَمِ المتحدة؛ لأنَّ بريطانيا ستتخلَّى عنهم حينَها، فأصبح بطريق الآشوريين "مار شمعون" يطالِبُ بسلطةٍ واسعةٍ على قومِه إداريًّا، ودعا قومَه للتمَرُّد، واستدعت الحكومةُ العراقية مار شمعون ونصحَتْه بالكَفِّ عن هذه الأفكارِ، فلم يمتَنِعْ، فمُنِعَ من العودة للمَوصِل؛ مما أثار الأوساطَ النصرانية كافةً، وكان الملك فيصل في لندن فأبرق منها بالسَّماحِ له بالعودة دون قيودٍ؛ وذلك بناءً على طلب بريطانيا منه ذلك، ولكِنَّ الحكومة لم تستجبْ ودُعِيَ بعض وجوه الآشوريين لعَقدِ مؤتمر، ولكن الآشوريين أعلنوا أنهم يريدون الانتقالَ إلى سوريا تحت حماية فرنسا، فانتقل ما يقارب من 1350 رجلًا، وأخبرت العراق فرنسا أنَّها لا تسمح بعودةِ أيِّ رجل من هؤلاء، إلَّا أن الفرنسيين أعلموا الحكومةَ العراقية في 11 ربيع الثاني 1352هـ أنهم قرَّروا إعادتهم، فأعادوهم بالسلاحِ، وبدؤوا التحرُّكَ للعراق فلاقَتْهم القوات العراقية فحصل اشتباكٌ قُتِلَ من الآشوريين ما يزيدُ على الألف، وقام النساطرة في الداخل باعتداءاتٍ على السكَّان، واضطر الملكُ فيصل للعودة من أوربا، وحاولت عُصبةُ الأمم التدخُّلَ، واندلعت الثورةُ الآشورية في عمومِ العراق في 14 من ربيع الثاني، فتشَكَّلت الوفودُ واللجان العالمية وكَثُرت الاحتجاجات وترجيات الأُمَم؛ لاستقبال المظلومين، وكل ذلك بدافع العصبية الدينية النصرانية، حتى انتهت أزمتُهم بحماية إنجلترا لهم، وإعادة تسكينِهم وتعويضِهم.
لمَّا تَمَّتْ بَيعةُ العَقبةِ أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن كان معه بالهِجرةِ إلى المدينةِ، فخرجوا أَرسالًا، كان مِنَ السَّابقين للهِجرةِ بعدَ العَقبةِ الثَّانيةِ مُصعبُ بنُ عُميرٍ, ثمَّ عامرُ بنُ رَبيعةَ حَليفُ بن بني عَدِيِّ بنِ كعبٍ، معه امرأتُه ليلى بنتُ أبي حَثْمَةَ بنِ غانمٍ، ثمَّ عبدُ الله بنُ جَحْشٍ بأهلِهِ وأخيهِ عبدِ بنِ جَحْشٍ أبي أحمدَ، وكان ضَريرًا، وكان منزلُهما ومنزلُ أبي سَلمةَ بقُباءٍ في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، فلمَّا هاجر جميعُ بني جَحْشٍ بنِسائهِم فعَدا أبو سُفيانَ على دارِهم فتَمَلَّكَها، فذكر ذلك عبدُ الله بنُ جَحْشٍ لمَّا بَلَغَهُ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تَرضى يا عبدَ الله أن يُعطِيَك الله بها دارًا في الجنَّةِ خيرًا منها؟ قال: بلى. قال: فذلك لك". فلمَّا افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكَّةَ كَلَّمَهُ أبو أَحمدَ في دارِهم، فأبطأَ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال النَّاسُ لأبي أَحمدَ: يا أبا أَحمدَ، إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَكرهُ أن تَرجِعوا في شيءٍ أُصيبَ منكم في الله، فأَمْسَكَ عن كلامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وكان بنو غَنْمِ بنِ دُودانِ أهلَ إسلامٍ قد خرجوا كُلُّهم إلى المدينةِ، ثمَّ خرج عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، وعيَّاشُ بنُ أبي رَبيعةَ في عِشرين راكبًا فقَدِموا المدينةَ، وكان هشامُ بنُ العاصِ بنِ وائلٍ قد أَسلمَ، وواعد عُمَرَ بنَ الخطَّابِ أن يُهاجِرَ معه، وقال: تَجِدُني أو أَجِدُك عند أَضاءةِ بني غِفارٍ، ففَطِنَ لهشامٍ قومُه فحبسوه عن الهِجرةِ. ثمَّ إنَّ أبا جهلٍ والحرثَ بنَ هشامٍ خرجا حتَّى قَدِما المدينةَ ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمكَّةَ، فكَلَّما عيَّاشَ بنَ أبي رَبيعةَ وكان أخاهُما لِأُمِّهِما وابنَ عَمِّهِما، وأَخبراهُ أنَّ أمَّهُ قد نَذرتْ أن لا تَغسِلَ رأسَها ولا تَسْتَظِلَّ حتَّى تَراهُ، فَرَقَّتْ نَفْسُهُ وصدَّقهُما وخرج راجعًا معهُما، فكَتَّفاهُ في الطَّريقِ وبلغا به مكَّةَ، نهارًا مُوثَقًا، ثمَّ قالا: يا أهلَ مكَّةَ هكذا فافعلوا بسُفهائِكُم كما فعلنا بسَفيهِنا هذا. فحَبَساهُ بها إلى أن خَلَّصَهُ الله تعالى بعد ذلك بدُعاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم له في قُنوتِ الصَّلاةِ: "اللَّهمَّ أَنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، وسَلمةَ بنَ هشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي رَبيعةَ". ولمَّا أراد صُهيبُ بنُ سِنانٍ الهِجرةَ قال له كُفَّارُ قُريشٍ: أَتَيْتَنا صُعلوكًا حَقيرًا فكَثُرَ مالُك عندنا، وبلغتَ الذي بلغتَ، ثمَّ تُريدُ أن تَخرُجَ بمالِك ونَفسِك، لا والله لا يكونُ ذلك. فقال لهم صُهيبٌ: أَرأيتُم إن جَعلتُ لكم مالي أَتُخَلُّون سَبيلي؟ قالوا: نعم، فقال: فإنِّي قد جَعلتُ لكم، فبلغ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "رَبِحَ صُهيبٌ، رَبِحَ صُهيبٌ". ثمَّ تتابع المهاجرون بالهِجرةِ إلى المدينةِ إلى أن هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
حُنينُ: وادٍ إلى جَنبِ ذي المَجازِ، قريبٌ مِنَ الطَّائفِ، وبينه وبين مكَّةَ بضعةَ عشرَ مِيلًا مِن جِهَةِ الشرائع والسيل الكبير، وقِيلَ سُمِّيَ بِحُنَيْنٍ؛ نِسبَةً إلى رَجلٍ يُدعَى: حُنينَ بنَ قابِثَةَ بنِ مَهْلائِيلَ.
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أقامَ بمكَّةَ 19 يومًا، حتَّى جاءَتْ هَوازِنُ وثَقيفٌ فنزلوا بحُنينٍ يُريدون قِتالَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمَعوا قبلَ ذلك حين سَمِعوا بمَخرجِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ المدينةِ، وهُم يَظنُّون أنَّه إنَّما يُريدُهم، فلمَّا أَتاهُم أنَّه قد نزَل مكَّةَ، أخَذوا في الاسْتِعدادِ لِمُواجهَتِه، وقد أَرادوها مَوقِعَةً حاسِمةً، فحَشدوا الأموالَ والنِّساءَ والأَبناءَ حتَّى لا يَفِرَّ أَحدُهم ويَترك أهلَهُ ومالَهُ، وكان يَقودُهم مالكُ بنُ عَوفٍ النَّضْريُّ، واسْتنفَروا معهم غَطَفانَ وغيرَها. فاسْتعَدَّ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم لِمُواجَهتِهم، فاسْتَعارَ مِن يَعْلى بنِ أُميَّةَ ثلاثين بَعيرًا وثلاثين دِرْعًا، واسْتَعارَ مِن صَفوانَ بنِ أُميَّةَ مائةَ دِرْعٍ، واسْتعمَل عَتَّابَ بنَ أَسِيدِ بنِ أبي العاصِ أَميرًا على مكَّةَ، وقد ثبَت في الصَّحيحين أنَّ الطُّلقاءَ قد خرَجوا معه إلى حُنينٍ. واسْتقبَل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بجَيشِه وادِيَ حُنينٍ في عَمايَةِ الصُّبْحِ، وانْحَدروا فيه، وعند دُخولِهم إلى الوادي حَملوا على هَوازِنَ فانْكشَفوا، فأَكَبَّ المسلمون على ما تَركوهُ مِن غَنائِمَ، وبينما هُم على هذه الحالِ اسْتقبَلَتْهُم هَوازِنُ وأَمطَرتْهُم بِوابِلٍ مِنَ السِّهامِ، ولم يكنْ المسلمون يَتوقَّعون هذا فضاقَتْ عليهم الأَرضُ بما رَحُبَتْ، فوَلَّوْا مُدْبِرين لا يَلْوِي أحدٌ على أحدٍ، وانْحازَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم ذاتَ اليَمينِ وهو يقولُ: (أين النَّاسُ؟ هَلُمُّوا إليَّ، أنا رسولُ الله، أنا رسولُ الله، أنا محمَّدُ بنُ عبدِ الله). وأمَر الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عَمَّهُ العبَّاسَ -وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوتِ- أن يُنادِيَ النَّاسَ بالثَّباتِ، وخَصَّ منهم أصحابَ بَيعةِ الرِّضوانِ، فأَسرَعوا إليه، ثمَّ خَصَّ الأَنصارَ بالنِّداءِ، ثمَّ بني الحارثِ بنِ الخَزرجِ، فطاروا إليه قائِلِين: لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ. ودارت المَعركةُ قَويَّةً ضِدَّ هَوازِنَ، وقال الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عندما رأى المَعركةَ تَشْتَدُّ: (هذا حين حَمِيَ الوَطيسُ). ثمَّ أخَذ حَصَياتٍ -أو تُرابا- فرَمى به وُجوهِ الكُفَّارِ وهو يقولُ: (شاهَتِ الوُجوهُ). فما خلَق الله تعالى منهم إنسانًا إلَّا مَلأَ عَينَيْهِ تُرابًا بتلك القَبضةِ، فوَلَّوْا مُدْبِرين، والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (انْهزَموا ورَبِّ محمَّدٍ)، وفي رِوايةٍ أُخرى: (انْهزَموا ورَبِّ الكَعبةِ, انْهزَموا ورَبِّ الكَعبةِ). وقد رُوِيَ: أنَّ قَتْلى بني مالكٍ مِن ثَقيفٍ لِوَحدِها قد بلَغ 70 قَتيلًا، وقُتِلَ بأَوْطاسٍ مِن بني مالكٍ 300، وقُتِلَ خُلَقٌ كَثيرٌ مِن بني نَصرِ بنِ مُعاوِيَةَ ثمَّ مِن بني رِئابٍ، ورُوِيَ: أنَّ سَبْيَ حُنينٍ قد بلَغ 6000 مِنَ النِّساءِ والأَبناءِ. بينما قُتِلَ مِنَ المسلمين أربعةٌ.
كان سُليمان بن عبدِ الملك كُلَّما فَتَح قُتيبةُ بن مُسلِم فَتْحًا في عَهدِ الوَليد يقول لِيَزيد بن المُهَلَّب: ألا تَرَى إلى ما يَفتَح الله على قُتيبَة؟ فيقول يَزيدُ: ما فَعَلَت جُرجان التي قَطَعَت الطَّريقَ، وأَفْسَدت قُومِس ونَيْسابور. ويقول أَيضًا: هذه الفُتوح لَيسَت بِشَيءٍ، الشَّأنُ هي جُرجان. فلمَّا وَلَّاهُ سُليمانُ خُراسانَ لم يكن لِيَزيد هِمَّة غَير جُرجان، فسار إليها في مائةِ ألف مِن أَهلِ الشَّام والعِراق وخُراسان سِوَى المَوالِي والمُتَطَوِّعَة، ولم تكُن جُرجان يَومئذٍ مَدينَة إنَّما هي جِبالُ ومَخارِم وأَبواب يقوم الرَّجُلُ على بابٍ منها فلا يُقْدِم عليه أَحَدٌ. فابْتَدَأَ بقُهِسْتان فحاصَرَها، وكان ذلك، فإذا هُزِمُوا دَخَلوا الحِصْنَ. فخَرَجوا ذات يَومٍ وخَرَج إليهم النَّاسُ فاقْتَتَلوا قِتالًا شديدًا، فحَمَل محمَّدُ بن سَبْرَة على تُرْكِيٍّ قد صَدَّ النَّاسَ عنه فاخْتَلَفا ضَرْبَتينِ، فثَبُتَ سَيفُ الترُّكي في بَيْضَة ابنِ أبي سَبْرَة، وضَرَبَه ابنُ أبي سَبْرَة فقَتَلَه، ورَجَع وسَيفُه يَقطُر دَمًا وسَيفُ الترُّكي في بَيْضَتِه، فنَظَر النَّاسُ إلى أَحسَن مَنظَرٍ رَأَوْهُ. وخَرَج يَزيدُ بعدَ ذلك يَومًا يَنظُر مَكانًا يَدخُل منه عليهم، وكان في أربعمائة مِن وُجوهِ النَّاسِ وفُرسانِهم، فلم يَشعروا حتَّى هَجَم عليهم التُّركُ في نحو أربعةِ آلاف فقاتَلوهُم ساعَة، وقاتَلَ يَزيدُ قِتالًا شديدًا، فسَلِمُوا وانْصَرَفوا، وكانوا قد عَطِشُوا، فانْتَهوا إلى الماءِ فشَرِبوا، ورَجَع عنهم العَدُوُّ. ثمَّ إنَّ يَزيدَ أَلَحَّ عليهم في القِتال وقَطَع عنهم المَوادَّ حتَّى ضَعُفوا وعَجَزوا. فأَرسَل صُول دِهْقان قُهِسْتان إلى يَزيدَ يَطلُب منه أن يُصالِحَه ويُؤَمِّنَه على نَفسِه وأَهلِه ومالِه لِيَدفَع إليه المَدينَة بما فيها، فصالَحَه ووَفَّى له، ودَخَل المَدينَة فأَخَذ ما كان فيها مِن الأَموالِ والكُنوزِ والسَّبْيِ ما لا يُحصَى، وقَتَل أَربعةَ عَشر ألف تُرْكِي صَبْرًا، وكَتَب إلى سُليمان بن عبدِ الملك بذلك، ثمَّ خَرَج حتَّى أَتَى جُرجان، وكان أَهلُ جُرجان قد صالَحَهم سَعيدُ بن العاص، وكانوا يَجْبُون أَحيانًا مائة ألف، وأَحيانًا مائتي ألف، وأَحيانًا ثلاثمائة ألف، ورُبَّما أَعطوا ذلك ورُبَّما مَنَعوه، ثمَّ امْتَنَعوا وكَفَروا فلم يُعْطوا خَراجًا، ولم يَأْتِ جُرجانَ بعدَ سَعيدٍ أَحَدٌ ومَنَعوا ذلك الطَّريق، فلم يكُن يَسلُك طَريقَ خُراسان أَحَدٌ إلَّا على فارِس وكَرْمان. وبَقِيَ أَمرُ جُرجان كذلك حتَّى وَلِيَ يَزيدُ خُراسان وأَتاهُم فاسْتَقبَلوه بالصُّلْح وزادوه وهابوه، فأَجابَهم إلى ذلك وصالَحَهم. وقد أَصابَ يَزيدُ بجُرجان تاجًا فيه جَوْهَر، فقال: أَتَرَوْنَ أَحدًا يَزهَد في هذا؟ قالوا: لا. فدَعا محمَّد بن واسِع الأزدي فقال: خُذْ هذا التَّاجَ. قال: لا حاجَة لي فيه. قال: عَزَمْتُ عليك. فأَخَذه، فأَمَر يَزيدُ رَجُلًا يَنظُر ما يَصنَع به، فلَقِيَ سائِلًا فدَفَعَه إليه، فأَخَذ الرَّجُلَ السَّائِلَ وأَتَى به يَزيدَ وأَخبَره، فأَخَذ يَزيدُ التَّاجَ وعَوَّضَ السَّائِلَ مالًا كَثيرًا.
ظهر رجلٌ بظاهر البصرة زعمَ أنَّه عليُّ بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يكنْ صادِقًا، وإنما كان أجيرًا من عبد القيس، واسمُه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأمُّه قرَّة بنت علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة، وأصلُه من قرية من قرى الريِّ، والتَفَّ عليه خلقٌ من الزنج الذين يكسحونَ السِّباخ، فعبَرَ بهم دجلةَ فنزل الديناري، وكان يزعُمُ لبعضِ من معه أنَّه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتولُ بناحية الكوفة، وكان يدَّعي أنه يحفظُ سورًا من القرآن في ساعةٍ واحدة جرى بها لسانُه لا يحفَظُها غيره في مدَّة دهرٍ طويل، وهنَّ سبحان والكهف وص وعمَّ، وزعم أنَّه فكَّر يومًا وهو في البادية إلى أيِّ بلدٍ يسير فخوطِبَ من سحابة أن يقصِدَ البصرة فقصَدَها، فلمَّا اقترب منها وجد أهلَها متفرِّقينَ على شُعبَتين، سعدية وبلالية، فطَمِعَ أن ينضَمَّ إلى إحداهما فيستعينَ بها على الأخرى فلم يقدِرْ على ذلك، فارتحل إلى بغداد فأقام بها سنةً، وانتسب بها إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعُمُ بها أنَّه يعلم ما في ضمائِرِ أصحابه، وأنَّ الله يُعلِمُه بذلك، فتَبِعَه على ذلك جهلةٌ من الطَّغامِ، وطائفةٌ من الرَّعاعِ العوامِّ, ثم عاد إلى أرض البصرة في رمضان فاجتمع معه بشَرٌ كثيرٌ، ولكِنْ لم يكُنْ معهم عُدَدٌ يُقاتِلونَ بها فأتاهم جيشٌ من ناحية البصرة فاقتَتلوا جميعًا، ولم يكنْ في جيشه هذا الخارجي سوى ثلاثة أسياف، وأولئك الجيشُ معهم عَددٌ وعُدَدٌ ولَبُوسٌ، ومع هذا هزمَ أصحابُ الزنجي ذلك الجيشَ، وكانوا أربعةَ آلاف مقاتل، ثم مضى نحو البصرةِ بمن معه فأهدى له رجلٌ من أهل جبى فرسًا فلم يجِدْ لها سرجًا ولا لجامًا، وإنما ألقى عليها حبلًا وركِبَها، ثم صادرَ رجلًا وتهدَّده بالقتل فأخذ منه مئةً وخمسين دينارا وألف درهم، وكان هذا أوَّلَ مال نهبه من هذه البلاد، وأخَذَ من آخر ثلاثةَ براذين، ومِن موضعٍ آخرَ شيئًا من الأسلحة والأمتعة، ثم سار في جيشٍ قليل السلاح والخيول، ثم جرت بينه وبين نائبِ البصرة وقعاتٍ مُتعددةً يَهزِمُهم فيها، وفي كل مرة يقوى ويعظُم أمرُه ويزداد أصحابُه ويكثُر جيشُه، وهو مع ذلك لا يتعَرَّض لأموال الناس ولا يؤذي أحدًا، وإنما يُريدُ أخْذَ أموال السلطان. وقد انهزم أصحابُه في بعض حروبه هزيمةً عظيمة ثم تراجعوا إليه واجتَمعوا حولَه، ثمَّ كَرُّوا على أهل البصرة فهزموهم وقَتلوا منهم خلقًا وأسَروا آخرين، وكان لا يؤتى بأسيرٍ إلَّا قتله ثم قوِيَ أمرُه وخافه أهلُ البصرة، وبعث الخليفةُ إليها مددًا ليقاتلوا صاحِبَ الزنج قبَّحَه الله، ثم أشار عليه بعضُ أصحابه أن يهجُم بمن معه على البصرةِ فيَدخُلوها عَنوةً فهَجَّن آراءهم وقال: بل نكونُ منها قريبًا حتى يكونوا هم الذين يطلبونَنا إليها ويخطبونَنا عليها.
سار طغرلبك إلى خوارزم فحصرها وملكها واستولى عليها، وانهزم شاه ملك بين يديه، واستصحَبَ أموالَه وذخائِرَه، ومضى في المفازةِ إلى دهستان، ثم انتَقَل عنها إلى طبس، ثمَّ إلى أطراف كرمان، ثمَّ إلى عمال التيز ومكران، فلمَّا وصَلَ إلى هناك عَلِمَ خلاصَه ببُعدِه، وأمِنَ في نفسه، ثمَّ خرجَ طغرلبك من خراسانَ إلى الريِّ بعد فراغِه مِن خوارزم، وجرجان، وطبرستان، فلمَّا سَمِعَ أخوه إبراهيمُ ينال بقدومِه سار إليه فلَقِيَه، وتسَلَّم طغرلبك الريَّ منه، وتسَلَّمَ غيرَها من بلد الجبل وسار إبراهيمُ إلى سجستان، وأخذ طغرلبك أيضًا قلعةَ طبرك من مجدِ الدَّولة بن بُوَيه، وأقام عنده مُكَرَّمًا، وأمَرَ طغرلبك بعمارةِ الرَّيِّ وكانت قد خَرِبَت، ثمَّ ساروا إلى قزوين، فامتنعَ عليه أهلُها، فزحف إليهم ورماهم بالسِّهامِ والحجارة، فلم يَقدِروا أن يَقِفوا على السورِ، وقُتِلَ مِن أهل البلد برشق، وأخذ ثلاثَمِئَة وخمسين رجلًا، فلمَّا رأى كامرو ومرداويج بن بسو ذلك خافوا أن يملِكَ البلد عَنوةً ويَنهَب، فمنعوا الناسَ مِن القتال، وأصلحوا الحالَ على ثمانينَ ألف دينار، وصار صاحبُها في طاعته، ثمَّ إنه أرسل إلى كوكتاش وبوقا وغيرهما من أمراء الغز، الذين تقَدَّم خروجُهم، يُمَنِّيهم ويدعوهم إلى الحضورِ في خدمته، وأرسل طغرلبك إلى ملك الديلمِ يدعوه إلى الطاعة، ويطلُبُ منه مالًا، ففعل ذلك، وحَمَل إليه مالًا وعُروضًا، وأرسل أيضًا إلى سلار الطرم يدعوه إلى خدمتِه، ويطالبُه بحمل مِئَتي ألفِ دينار، فاستَقَرَّ الحالُ بينهما على الطاعةِ وشَيءٍ مِن المال. وأرسلَ سَريَّةً إلى أصبهان، وبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدَّولة، فأغارت على أعمالِها وعادت سالِمةً، وخرج طغرلبك من الريِّ، وأظهر قصدَ أصبهان، فراسلَه فرامرز، وصانَعَه بمالٍ، فعاد عنه وسار إلى همذان فمَلَكَها من صاحِبِها كرشاسف بن علاء الدَّولة، ثمَّ عاد إلى الريِّ، واستناب بهمذان ناصرًا العَلويَّ، وسَيَّرَ طغرلبك طائفةً من أصحابِه إلى كرمان مع أخيه إبراهيم ينال، بعد أن دخل الريَّ، وقيل إنَّ إبراهيمَ لم يقصِدْ كرمان، وإنَّما قصد سجستان، وكان مُقَدَّم العساكِرِ التي سارت إلى كرمان غيره، فلما وصلوا إلى أطراف كرمان نَهَبوا، ولم يُقدِموا على التوغُّلِ فيها، فلم يَرَوا من العساكِرِ مَن يَكُفُّهم، فتوسَّطوا ومَلَكوا عِدَّةَ مواضعَ منها ونَهَبوها، فبلغ الخبَرُ إلى الملك أبي كاليجار، صاحِبِها، فسَيَّرَ وزيرَه مُهذَّب الدَّولة في العساكِرِ الكثيرة، فخرجت الغزُّ إلى الجِمالِ والبغال والميرة ليأخُذوها، وسَمِعَ مهذَّب الدَّولة ذلك، فسيَّرَ طائفةً مِن العسكر لمنعِهم، فتواقعوا واقتَتلوا، وتكاثرَ الغز، فسَمِعَ مُهَذَّب الدَّولة الخبَرَ، فسار في العساكِرِ إلى المعركة، وهم يقتَتِلون، وقد ثبَتَت كل طائفة لصاحبتِها واشتَدَّ القتال، فلما وصل مهذَّب الدَّولة إلى المعركة انهزم الغُزُّ وتركوا ما كانوا ينهَبونَه، ودخلوا المفازةَ، وتَبِعَهم الديلم إلى رأسِ الحدِّ، وعادوا إلى كرمان فأصلحوا ما فسَدَ منها.
كان دبيس بن صدقة صاحب الحلة المزيدية قد أطلق عفيفًا خادِمَ الخليفة المسترشد بالله، وكان مأسورًا عنده، وحمَّله رسالة فيها تهديد للخليفة بإرسال قسيم الدولة البرسقي صاحب الموصل إلى قتاله، وتقويته بالمال، وأن السلطان كَحَل أخاه، وبالغ في الوعيد، ولبس السواد، وجزَّ شعره، وحلف لينهبَنَّ بغداد، ويخرِّبها، فاغتاظ الخليفة لهذه الرسالة وغضب، وتقدم إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس؛ فبرز في رمضان سنة 516، وتجهز الخليفة، وبرز من بغداد، واستدعى العساكر، وأرسل دبيس إلى نهر ملك فنهب، وعمل أصحابه كلَّ عظيم من الفساد، فوصل أهله إلى بغداد، فأمر الخليفة فنودي ببغداد لا يتخلَّف من الأجناد أحد، ومن أحبَّ الجندية من العامة فليحضُر، فجاء خلق كثير، ففَرَّق فيهم الأموال والسلاح. فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسألُه الرضا عنه، فلم يُجِب إلى ذلك، وأُخرِجَت خيام الخليفة في العشرين من ذي الحجة سنة 516، ودخلت هذه السنة، فنزل الخليفة مُستهَلَّ المحرم، بالحديثة، وجعل دبيس أصحابه صفًّا واحدًا: ميمنة، وميسرة، وقلبًا، وجعل الرجَّالة بين أيدي الخيالة بالسلاح، وكان قد وعد أصحابه بنهب بغداد، وسبي النساء، فلما تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس، وبين أيديهم الإماءُ يَضرِبن بالدفوف، والمخانيث بالملاهي، ولم يُرَ في عسكر الخليفة غيرُ قارئ ومُسَبِّح وداع، فقامت الحرب على ساق، فلما اختلط الناس خرج الكمين على عسكر دبيس، فانهزموا جميعهم وألقوا أنفُسَهم في الماء، فغرق كثير منهم، وقُتل كثير، ولما رأى المسترشد بالله اشتداد الحرب جرَّد سيفه وكبر وتقدم إلى الحرب، فلما انهزم عسكر دبيس وحُمِلت الأسرى بين يدي الخليفة أمر أن تُضرَب أعناقهم صبرًا، وعاد الخليفةُ إلى بغداد، فدخلها يوم عاشوراء من هذه السنة. وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه وأدركته الخيل، ففاتها وعبر الفرات، واختفى خبرُه بعد ذلك، وأُرجِف عليه بالقتل، ثم ظهر أمرُه أنه قَصَد غزية من عرب نجد، فطلب منهم أن يحالِفوه، فامتنعوا عليه فرحل إلى المنتفق، واتفق معهم على قصد البصرة وأخْذِها، فساروا إليها ودخلوها، ونهبوا أهلَها، وقتل الأمير "سخت كمان" مقدَّم عسكرها، وأُجلِيَ أهلها، فأرسل الخليفة إلى البرسقي يعاتبه على إهمالِه أمر دبيس، حتى تمَّ له من أمر البصرة ما أخربها، فتجهز البرسقي للانحدار إليه، فسمع دبيس ذلك ففارق البصرة، وسار على البر إلى قلعة جعبر، والتحق بالفرنج، وحضر معهم حصار حلب، وأطمعهم في أخذِها، وقال لهم: إن أهلها شيعة، وهم يميلون إليَّ لأجل المذهب، فمتى رأوني سلَّموا البلد إليَّ. فلم يظفروا بها، فعادوا عنها، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل بن السلطان محمد، وأقام معه، وحَسَّن له قَصْدَ العراق.
أبو عبد الله محمد بن عبدالله بن تومرت المصمودي، الهرغي، الخارج بالمغرب. لقَّبه أتباعه بالمهدي، وهو زعيم الموحِّدين ومؤسس دولتهم، قال الذهبي عنه: "المدعي أنه علوي حَسَني، وأنه الإمام المعصوم المهدي، محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن جابر بن يحيى بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب. رحل من السوس الأقصى شابًّا إلى المشرق، فحجَّ وتفقَّه، وحصَّل أطرافًا من العلم، وكان أمَّارًا بالمعروف نهَّاءً عن المنكر، قويَّ النفس، زعرًا شُجاعًا، مَهيبًا قوالًا بالحق، عمَّالًا على المُلك، غاويًا في الرياسة والظهور، ذا هيبة ووقار، وجلالة ومعاملة وتألُّه، انتفع به خلق، واهتدوا في الجملة، وملكوا المدائن، وقهروا الملوك. أخذ عن: الكيا الهراسي، وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر الطرطوشي، وجاور سنةً. وكان لهِجًا بعلم الكلام، خائضًا في مزالِّ الأقدام، ألَّف عقيدة لقَّبها (بالمرشدة) فيها توحيد وخير بانحراف، فحمل عليها أتباعه، وسمَّاهم الموحِّدين، ونبز مَن خالف (المرشدة) بالتجسيم، وأباح دمه -نعوذ بالله من الغي والهوى- وكان خَشِن العيشِ فقيرًا، قانعا باليسير، مقتصرًا على زي الفقر، لا لذة له في مأكل ولا منكح،ولا مال، ولا في شيءٍ غير رياسة الأمر، حتى لقي الله تعالى. لكنه دخل -والله- في الدماء لنيل الرياسة المُرْدِية. وكان غرامُه في إزالة المنكر والصدع بالحق، وكان يتبسَّم إلى من لقيه. وله فصاحةٌ في العربية والبربرية، وكان يُؤذى ويُضرَب ويَصبِر، فقَدِمَ المهدية وعليها يحيى بن باديس، فنزل بمسجد مُعلَّق، فمتى رأى منكرًا أو خمرًا كسَّر وبدَّد، فالتفَّ عليه جماعة، واشتغلوا عليه، فطلبه ابنُ باديس، فلما رأى حاله وسمع كلامه، سأله الدعاء، فقال: أصلحك اللهُ لرعيتك. وسار إلى بجاية، فبقي ينكر كعادته، فنُفي، فذهب إلى قرية ملالة، فوقع بها بعبد المؤمن وكان أمرد عاقلًا، فقال: يا شابُّ، ما اسمك؟ قال: عبد المؤمن. قال: الله أكبر، أنت طلبتي، فأين مقصدك؟ قال: طلب العلم. قال: قد وجدتَ العِلمَ والشرف، اصحَبْني. ونظر في حِليتِه، فوافقت ما عنده, وكان في صحبته الفقيه عبد الله الونشريسي، وكان جميلًا نحويًّا، فاتفقا على أن يُخفيَ عِلمَه وفصاحته، ويتظاهرَ بالجَهلِ واللَّكنِ مدةً، ثم يجعَلَ إظهار نفسه معجزةً، ففعل ذلك، ثم عمد إلى ستة من أجلاد أتباعه، وسار بهم إلى مراكش، وهي لابن تاشفين، فأخذوا في الإنكار، فخوَّفوا المَلِك منهم، لكنه لم يسمع منهم لما رأى فيه الديانة", حدثت بينه وبين المرابطين معارك، وكان على مقربة من مراكش، وقد مرض ابن تومرت بعد هذه الوقعة وتوفي في مدينة تينملل من بلاد السوس، وكان مرشحه للخلافة بعده عبد المؤمن.
هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ القاضي: أبو بكر مُحمَّدُ بنُ عبد اللهِ بنِ مُحمَّد المعافري ابنُ العربيِّ الإشبيليُّ الأندلسيُّ المالكيُّ، صاحِبُ التَّصانيفِ, الحافِظُ المشهورُ مِن عُلَماءِ الأندلس، وُلِدَ ونشأ وتعلَّمَ بإشبيليَّة, كانت ولادتُه سنة 468, ثمَّ لَمَّا استولى المرابطونَ عليها رحل مع أبيه إلى المَشرِق, ثمَّ رجع إلى الأندلُسِ بعد أن دَفَنَ أباه في رِحلتِه إلى المشرق, ثم عاد مِن قُرطبةَ إلى مراكش وسُجِنَ فيها, ولَمَّا أُطلِقَ سَراحُه عاد إلى الأندلُسِ مَرَّةً أخرى. صَنَّفَ ابنُ العربيِّ وجَمَع، وبرَع في فُنونِ العِلمِ، وكان فصيحًا بليغًا خَطيبًا, واشتهر اسمُه، وكان رئيسًا مُحتَشِمًا وافِرَ الأموالِ، بحيث أنشأَ على إشبيليَّةَ سُورًا مِن ماله الخاصِّ، وهو أوَّلُ مَن أدخل بالأندلُسِ إسنادًا عاليًا، وعِلمًا جَمًّا, وكان ثاقِبَ الذِّهنِ، عَذْبَ المَنطِقِ، كريمَ الشمائلِ، كامِلَ السُّؤددِ، ولِيَ قَضاءَ إشبيليَّةَ، فحُمِدَت سياستُه، وكان ذا شِدَّةٍ وسَطوةٍ، فعُزِلَ وأقبَلَ على نَشرِ العِلمِ وتدوينِه, ذكَرَه ابنُ بشكوال فقال: "هو الحافِظُ المُستَبحِر، خِتامُ عُلَماءِ الأندلُسِ، وآخِرُ أئمَّتِها وحُفَّاظها، لَقِيتُه بمدينةِ إشبيليَّةَ ضَحوةَ يوم الاثنين لِلَيلتَينِ خَلَتا من جمادى الآخرة سنة 516 فأخبَرَني أنَّه رحل إلى المشرق مع أبيه يومَ الأحد مُستهَلَّ شَهرِ ربيع الأول سنة 485 وأنَّه دخل الشَّامَ ولَقِيَ بها أبا بكر مُحَمَّدَ بنَ الوليد الطرطوشي، وتفَقَّه عنده، ودخل بغدادَ وسمِعَ بها مِن جماعةٍ مِن أعيانِ مَشايخِها، ثمَّ دخَلَ الحِجازَ فحَجَّ في موسمٍ سنة 489، ثمَّ عاد إلى بغدادَ وصَحِبَ بها أبا بكرٍ الشاشيَّ وأبا حامدٍ الغزالي وغيرَهما مِن العُلَماءِ والأُدَباء، ثمَّ صَدَرَ عنهم، ولَقِيَ بمصر والإسكندريَّةٍ جماعةً مِن المحدِّثينَ فكَتَبَ عنهم واستفاد منهم وأفادهم، ثمَّ عاد إلى الأندلس سنة 493، وقَدِمَ إلى إشبيليَّةَ بعِلمٍ كَثيرٍ لم يُدخِلْه أحدٌ قبلَه مِمَّن كانت له رِحلةٌ إلى المشرق. وكان مِن أهلِ التفَنُّنِ في العلومِ والاستبحارِ فيها والجَمعِ لها، مُقَدَّمًا في المعارِفِ كُلِّها، مُتكَلِّمًا في أنواعِها، نافِذًا في جميعِها، حريصًا على أدائها ونَشرِها، ثاقِبَ الذِّهنِ في تمييزِ الصَّوابِ منها، ويجمَعُ إلى ذلك كُلِّه آدابَ الأخلاقِ مع حُسنِ المعاشرةِ ولِينِ الكَنَفِ وكثرةِ الاحتمالِ، وكَرَمِ النَّفسِ وحُسنِ العَهدِ وثَباتِ الوُدِّ. واستُقضِيَ ببلدةٍ فنَفَعَ اللهُ به أهلَها لصرامتِه وشِدَّتِه ونفوذِ أحكامِه، وكانت له في الظَّالِميَن سَوْرة مرهوبة، ثمَّ صُرِفَ عن القضاء، وأقبَلَ على نَشرِ العِلمِ وبَثِّه". قال الذهبي: "كان أبوه أبو مُحمَّدٍ مِن كِبار أصحابِ أبي محمَّد بن حزم الظاهريِّ بخلاف ابنِه القاضي أبي بكر؛ فإنَّه مُنافِرٌ لابنِ حَزمٍ، مُحِطٌّ عليه بنَفسٍ ثائرةٍ" ولابن العربي تصانيفُ عديدةٌ، منها، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، وله أحكامُ القُرآنِ، والنَّاسِخُ والمنسوخ في القرآن، والمحصول في عِلْم الأصول، وله عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، وغَيرُها من الكتب. توفِّيَ في طريقه في المغيلة بالقُربِ مِن فاس عند رجوعِه مِن مراكش، ونُقِلَ إلى فاس، ودُفِنَ بمقبرة الجيَّاني.
في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فمَلَكَها ومعه العساكر النورية، وسَبَبُ ذلك تمكُّن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنةً وتسَلَّموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعةً من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكَموا المسلمين حكمًا جائرًا، ورَكِبوهم بالأذى العظيم، فعَمِلوا أيضًا على تجهيز الجيوش لتمَلُّك مصر كلها، وشرعوا يتجهَّزون ويُظهِرون أنَّهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين محمود بهم شرع يجمَعُ عساكِرَه، وأمَرَهم بالقدوم عليه، وجَدَّ الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها، ونازلوا مدينة بلبيس، ومَلَكوها قهرًا مستهَلَّ صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسَبَوا، وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعَدوهم النصرة، فقَوِيَ جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا على القاهرة عاشِرَ صَفَر وحصروها، فخاف الناسُ منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحمَلَهم الخوف منهم على الامتناعِ، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونَه وبذلوا جُهدَهم في حفظه، وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلَها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن يُنهَب البلد، فانتقلوا، وبقُوا على الطرق، ونُهِبَت المدينة وافتقرَ أهلُها، وذهبت أموالُهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفًا أن يملِكَها الفرنج، فبَقِيَت النار تحرقها أربعة وخمسين يومًا، وأرسل حاكمُ مصر العاضد العبيدي إلى نور الدين يستغيثُ به، ويُعَرِّفُه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، فشرع في تسيير الجيوش، وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضَيَّقوا على أهلها، وشاوِر هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضَعُف عن ردهم، فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يَذكُرُ له مودته ومحبته القديمة له، وأنَّ هواه معه؛ لخوفه من نور الدين والعاضد، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يُعَجَّل البعض، ويُمهَل البعض فاستقرت القاعدةُ على ذلك، وجعل شاوِر يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصَّل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وهم في خلالِ هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكونَ أسدُ الدين مقيمًا عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضًا خارجًا عن الثُّلث الذي لهم، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدًّا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصرَ رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادِهم بخُفَّي حُنَين خائبين مما أمَّلوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضَربِ البشائر في البلاد، وبَثَّ رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحًا جديدًا لمصر، وحفظًا لسائر بلاد الشام وغيرها، فأمَّا أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامِه بالعاضدية، وفرح به أهلُ مصر، وأُجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة.
هو العلَّامةُ فيلسوف الوقت، أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن شيخ المالكيَّة أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي. حفيدُ العلَّامة ابن رشد الفقيه المتوفى سنة 520، وُلِدَ سنة عشرين قبل وفاة جده العلامة بشهر واحد. درس الفقه والأصول حتى برَعَ فيه وأقبل على عِلمِ الكلام والفلسفة وعلوم الأوائل، حتى صار يُضرَبُ به المثَلُ فيها. واشتغل بالطبِّ والرياضيات. كان ذكيًّا رَثَّ البَزَّة، قَوِيَّ النفس، أوحَدَ زمانه في علم الفقه والخلاف. نُفِيَ إلى بلاد المغرب بسبب اشتغالِه بالفلسفة، وله كُتُب في الفقه والأصول واللغة، كان شديدَ الإعجاب بأرسطو. ألفَّ ابن رشد كتابًا رَدَّ فيه على كتابِ الغزالي (تهافُت الفلاسفة) مدافعًا فيه عن آراء الفلاسفة، وله كتابُ جوامع كتب أرسطوطاليس، وله في الطب كتاب الكليَّات في وظائف الجسم ومنافعها، وكتاب شرح أرجوزة ابن سينا في الطب، وله كتب أخرى في الفقه، مثل التحصيل، وله الكتاب المشهور بداية المجتهد ونهاية المقتصد، قال عنه الذهبي: "كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، عَلَّلَ فيه ووَجَّه، ولا نعلَمُ في فنه أنفَعَ منه، ولا أحسَنَ مَساقًا"، وله كتابُ الكشف عن الأدلة في عقائد الملة، الذي رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية. نقل الذهبي عن ابن الأبار الأندلسي أنه قال: "لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعِلمًا وفَضلًا. قال: وكان متواضِعًا، منخفِضَ الجناح، عُنِيَ بالعلم حتى حُكِيَ عنه أنه لم يترك النظَرَ والقراءة مذ عَقِلَ إلَّا ليلة وفاة أبيه وليلة عُرسِه، وأنه سوَّدَ فيما صَنَّف وقَيَّد, واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الأوائل، فكانت له فيها الإمامةُ دون أهل عصره. وكان يُفزَعُ إلى فُتياه في الطب كما يُفزَعُ إلى فتياه في الفقه، مع الحظِّ الوافِرِ مِن العربية, وقيل: كان يحفَظُ ديوان حبيب والمتنبي". قال الذهبي: قال ابن بشكوال: "كان ابن رشد فقيهًا عالِمًا، حافِظًا للفقهِ، مُقَدَّمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرًا بأقوالهم، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسةِ في العلم والبراعة والفهم، مع الدِّينِ والفضل والوَقار والحلم، والسَّمت الحَسَن والهَدْي الصالح" وليَ قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث، فحُمِدَت سيرته وعَظُم قَدْرُه. قال شيخ الشيوخ تاج الدين: "لَمَّا دخلتُ إلى البلاد سألتُ عنه، فقيل: إنه مهجورٌ في داره من جهةِ المنصور يعقوب الموحدي، ولا يدخُلُ أحَدٌ عليه، ولا يخرج هو إلى أحَدٍ. فقيل: لم ؟ قالوا: رُفِعَت عنه أقوالٌ رَدِيَّة، ونُسِبَ إليه كثرةُ الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل. ومات وهو محبوسٌ بداره بمراكش ". اعتقله السلطانُ المنصور يعقوب وأهانه، ثم أعاده إلى الكرامةِ، استدعاه واحتَرَمه وقَرَّبَه، حتى تعدى به الموضِعَ الذي كان يجلِسُ فيه الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي، ثم بعد ذلك نَقِمَ عليه لأجل الحِكمة واشتغالِه بالفلسفة, ومات محبوسًا بداره بمراكش، ومات السلطان المنصورُ بعده بشهر.