لمَا خلا بالُ السلطان الظاهر بيبرس من هَمِّ المَلِك المغيث صاحب الكرك، توجَّهَ بكليته إلى الفرنجِ؛ فإنَّهم كانوا قد شرعوا في التعَلُّل وطلبوا زرعين- وهي قرية في سهل زرعين بصفد- فأجابَهم السلطان بأنكم تعوَّضتُم عنها في الأيام الناصرية ضِياعًا من مرج عيون، وهم لا يزدادونَ إلا شكوى، وآخِرَ الحال طلب الفرنجُ من والي غزة كتابًا بتمكينِ رُسُلِهم إذا حضروا، فكتب لهم الكتابَ، وتواصلت بعد ذلك كتُبُهم، ووردت كتبُ النواب بشكواهم، وأنهم اعتمدوا أمورًا تفسِخُ الهدنة فلمَّا صار السلطان في وسط بلادِهم وردت عليه كتُبُهم، هذا وقد أمَرَ السلطان ألا ينزِلَ أحد في زرع الفرنجِ ولا يُسَيِّب فرسًا، ولا يؤذي لهم ورقةً خضراء، ولا يتعَرَّض إلى شيء من مواشيهم ولا إلى أحد من فلَّاحيهم، وكانت كتبهم أولًا تَرِدُ بندمهم على الهدنة وطلَبِهم فَسْخَها، فلما قرب السلطانُ منهم صارت تَرِدُ بأنهم باقون على العَهدِ مُتمَسِّكون بأذيال المواثيق، وفي اليوم الذي قُبِضَ فيه على الملك المغيث، أمَرَ السلطان بإحضار بيوت الفرنجيَّة، وقال: ما تقولون؟ قالوا: نتمَسَّك بالهدنة التي بيننا، فقال السلطان: لم لا كان هذا قبلَ حُضورنا إلى هذا المكان، وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من المَلِك الصالح إسماعيل لإعانةِ مملكة الشام، وطاعةِ مَلِكِها ونصرته والخروجِ في خدمته، وإنفاقِ الأموال في نجدتِه، وقد صارت بحمد الله مملكةُ الشام وغيرها لي، وما أنا محتاج إلى نصرتكم ولا إلى نجدَتِكم، ولم يبقَ لي عدو أخافه، فرُدُّوا ما أخذتموه من البلاد، وفكُّوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك، فلما سمع رسل الفرنج هذه المقالةَ بُهِتوا، وقالوا: نحن لا ننقُضُ الهدنة، وإنما نطلُبُ مَراحِمَ السلطان في استدامتِها، ونحن نزيل شكوى النواب، ونخرجُ مِن جميع الدعاوى ونفُكُّ الأسرى، ونستأنف الخِدمةَ، فقال السلطان: كان هذا قبل خروجي من مصرَ، في هذا الشتاءِ وهذه الأمطارِ، ووصول العساكرِ إلى هنا، وانفَصَلوا على هذه الأمور، فأمر السلطانُ بإخراجهم وألَّا يَبِيتوا في الوطاق، ووجَّه الأمير علاء الدين طيبرس إلى كنيسة الناصرة، وكانت أجلَّ مواطِنِ عباداتهم ويزعُمونَ أنَّ دينَ النصرانية ظهَرَ منها، فسار إليها وهدمها، فلم يتجاسَرْ أحدٌ من الفرنج أن يتحَرَّك، ثمَّ وجه السلطانُ الأمير بدر الدين الأيدمري في عسكر إلى عكا، فساروا إليها واقتَحَموا أبوابها وعادوا، ثم ساروا ثانيًا، وأغاروا على مواشي الفرنجِ، وأحضروا منها شيئًا كثيرًا إلى المخَيَّم، ثم ركب السلطان وجَرَّد من كل عشرة فارسًا، واستناب الأميرَ شجاع الدين الشبلي المهمندار- من يقوم بضيافة الرسل الواردين على السلطان- في الدهليز السلطاني، وساق من منزلة الطور نصف الليل، فصبَّحَ عكَّا وأطاف بها من جهة البر، وندب جماعةً لحصار برج كان قريبًا منه فشرعوا في نقبه، وأقام السلطانُ على ذلك إلى قريبِ المغرب وعاد، وكان قصدُه بذلك كشْفَ مدينة عكا؛ فإنَّ الفرنج كانوا يزعمونَ أن أحدًا لا يجسُرُ أن يقرب منها، فصاروا ينظرُونَ من أبواب المدينة ولا يستطيعون حركة، ولما عاد السلطان إلى الدهليز ركب لما أصبح، وأركب ناس معه، وساق إلى عكا، فإذا الفرنجُ قد حفروا خندقًا حول تل الفضول، وجعلوا معاثر في الطريق، ووقفوا صفوفًا على التلِّ، فلما أشرف السلطانُ عليهم رتَّب العسكرَ بنفسه، وشرع الجميعُ في ذكرِ الله وتهليلِه وتكبيرِه، والسلطان يحثُّهم على ذلك حتى ارتفعت أصواتهم، وللوقت رُدِمَت الخنادقُ بأيدي غلمان العساكِرِ وبمن حضر من الفقراءِ المجاهدين، وصَعِد المسلمون فوق تل الفُضول، وقد انهزم الفرنجُ إلى المدينة، وامتَدَّت الأيدي إلى ما حول عكا من الأبراج فهُدِمَت، وحُرِقَت الأشجارُ حتى انعقد الجوُّ من دخانها، وساق العسكرُ إلى أبوابِ عكا، وقَتَلوا وأسروا عِدَّةً مِن الفرنجِ، والسلطان قائمٌ على رأس التل يعملُ في أخذِ رأي المدينة، والأمراءُ تحمِلُ على الأبواب واحدًا بعد واحد، ثم حملوا حملةً واحدة ألقوا فيها الفرنجَ في الخنادق، وهلك منهم جماعةٌ في الأبواب، فلما كان آخرُ النهار ساق السلطانُ إلى البرج الذي نُقب، وقد تعلَّقَ حتى رُمِيَ بين يديه، وأُخِذَ منه أربعةٌ من الفرسان ونيف وثلاثون راجلًا، وبات السلطان على ذلك، فلما أصبح عاد على بلاد الفرنجِ وكشفها مكانًا مكانًا، وعبر على الناصرةِ حتى شاهد خرابَ كنيستِها وقد سوَّى بها الأرض، وصار إلى الصفَّة التي بناها قبالة الطور، فوافاها ليلًا وجلس عليها، وأحضر الشموع التي بالمنجنيقات ونصب عليها خمسة، ورحل السلطان من الطور يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة، وسار إلى القدسِ فوافاه يوم الجمعة عشرة، وكشف أحوال البلدِ وما يحتاج إليه المسجِدُ من العمارة، ونظر في الأوقاف وكتب بحمايتِها، ورتَّبَ برسم مصالح المسجد في كل سنة خمسة آلاف درهم وأمر ببناء خان خارج البلد، ونقل إليه من القاهرة باب القصر المعروف بباب العيد، ونادى بالقدس ألا ينزل أحدٌ في زرع.
رسم السلطانُ المَلِكُ الأشرَفُ أنَّ الأشرافَ بالديارِ المِصريَّة والبلاد الشامية كُلَّهم يَسِمونَ عمائِمَهم بعلامةٍ خَضراءَ بارزةٍ للخاصَّةِ والعامَّةِ؛ إجلالًا لحَقِّهم وتعظيمًا لقَدْرِهم؛ ليُقابَلوا بالقَبولِ والإقبالِ، ويَمتازوا عن غَيرِهم من المُسلِمينَ، فوقع ذلك ولَبِسَ الأشرافُ العمائِمَ الخُضرَ، فقال الأديبُ شَمسُ الدين محمد بن إبراهيم الشهير بالمزين، في هذا المعنى:
أطرافُ تيجانٍ أتَت مِن سُندُسٍ
خُضرٍ كأعلامٍ على الأشرافِ
والأشرفُ السُّلطانُ خَصَّصَهم بها
شرفًا لنَعرِفَهم من الأطرافِ
وقال في ذلك الأديبُ شمس الدين محمد بن أحمد بن جابر الأندلسي:
جعلوا لأبناءِ الرَّسولِ علامةً
إنَّ العلامةَ شأنُ مَن لم يُشهَرِ
نورُ النبُوَّةِ في كريمِ وُجوهِهم
يُغني الشَّريفَ عن الطرازِ الأخضَرِ
في هذه السنة عزل سليمان باشا صاحَبَ العراقِ حمودَ بن ثامر عن ولاية المنتفق، وولَّى عليهم ثويني بن عبد الله، وكان ثويني قد قصد البصرةَ ونزل سفوان الماء المعروف قربَ البصرة، فاجتمع إليه قبائِلُ من عُربان المنتفق, فسار إليه حمود بن ثامر بمن تَبِعه من المنتفق وأهل الزبير وغيرهم, فنازله وحصل بينهما قتالٌ شديد انهزم ثويني فأخذ حمود ومن تبعه محلَّه ومتاعه وخيامه، وقُتِل من رجالِه عِدَّةُ قتلى, فهرب ثويني بعدها إلى الدورق بلاد كعب، وذلك في سنة 1204هـ, ثم خرج من الدورق وقصد بني خالد واستنصرهم واستنجدهم، وكان رئيسُهم يومئذ زيدَ بن عريعر، فلم يجِدْ فيهم نفعًا، فسار الى الدرعيَّة وألفى عبد العزيز فأكرمَه غاية الإكرام وأعطاه خيلًا وإبلًا ودراهمَ، ثم رجع إلى الكويت، وقصد العراقَ فرمى بنفسِه على سلمان باشا فعفا عنه، وأقام عنده مدَّةً يحاولُه أن يوليه على المنتفق، ويسير إلى نجد ليخربَها ويقتُل أهلها، فوقع ذلك في ظنِّ صاحب العراق، وسعى في ذلك كثيرُ الجالين من أهل نجد في الزبير والبحرين والكويت وغيره، وكاتبوا باشا بغداد وحرَّضوه وزيَّنوا له ذلك, وكاتبه كثيرٌ من الرؤساء والعلماء لا سيَّما محمد بن فيروز؛ فإنه الذي يحكم ذلك ويبذُلُ جُهدَه، وذكروا لباشا بغداد أنَّه لا ينجع في هذا الأمر الخطير والخطب الكبير إلا ثويني، وكتبوا له كثيرًا من الكَذِب والزور والبهتان في أتباعِ الدَّعوةِ، ولم يدْرِ الباشا أنَّ هذا التدبير لقصدِ أنفُسِهم، وقال له ثويني: أنا الذي أخربُ ديارهم، وأسلبُ أعمارَهم، فأمره الباشا بالمسير وسار معه عساكِرُ كثيرة من عسكر الباشا، ومِن عقَيل بغداد وآل بعيج والزقاريط وغيرهم، وجعله واليًا على المنتفق، وعزل حمودَ بنَ ثامر.
جرت فتنةٌ مهولة ببغدادَ بين الناس وبين الرَّافضة، وقُتِلَ عدة من الفريقين، وعَظُم البلاء، ونهب الكرخ، فحنق ابن العلقمي الوزير الرافضي، وكاتَبَ هولاكو، وطَمَّعَه في العراق، فجاءت رسُلُ هولاكو إلى بغدادَ، وفي الباطِنِ معهم فرماناتٌ لغير واحد، وَصَلت جواسيس هولاكو إلى وزير الخليفة العباسي المستعصم بالله مؤيد الدين محمد بن العلقمي الرافضي ببغداد، وتحَدَّثوا معه ووعدوا جماعةً مِن أمراء بغداد مواعيدَ، والخليفةُ لا يدري ما يتمُّ، وأيَّامُه قد ولت ثم قَوِيَ قَصدُ هولاكو بن طولو بن جنكيزخان بغداد، وبعث يطلبُ الضيافةَ مِن الخليفة فكَثُرَ الإرجافُ ببغداد، وخرج الناسُ منها إلى الأقطار، ونزل هولاكو تجاهَ دار الخلافة وملك ظاهِرَ بغداد، وقتل من الناسِ عالَمًا كثيرًا.
لما توفِّيَ أبو عبد الله محمد السعدي حاكِمُ المغرب اجتمع الناسُ على بيعة ابنه ووليِّ عهده السلطان أبي العباس الأعرج من سائر الآفاق، وآتوه طاعتهم عن رضًا منهم، فاستقام أمره وصرف عزمه إلى تمهيد البلاد واقتناء الأجناد، وتعبئة الجيوش إلى الثغور وشن الغارات على العدو في الآصال والبكور، في أحواز تيلمست وآسفي وغيرهما. وكان النصارى قد خيَّموا بشاطئ البحر وعاثُوا في تلك السواحل فأجلاهم عنها وطهَّر تلك البقاع من رِجسِهم، وأراح أهلَها مِن شؤمهم ونحسِهم، وهنا بَعُدَ صيتُه وانتشر في البلاد ذِكرُه، وهُرِع الناسُ إليه من كل جانب، ودخلت في طاعته سائرُ البلاد السوسية، فعند ذلك كاتَبه أمراء هنتاتة ملوك مراكش يخطبون أمرَه ويرومون الدخولَ في طاعته، فأجاب داعيَهم، وانتقل إلى مراكش فدخلها واستولى عليها.
الدكتور مصطفى كمال محمود حُسين آل محفوظ، وُلِد عامَ (1921م)، وكان توأمًا لأخٍ توفِّي في العامِ نفسِه، وهو طبيبٌ وكاتبٌ من مواليدِ شبين الكوم بمحافظة المنوفية، درس الطبَّ وتخرَّج عامَ (1953م)، ولكنه تفرَّغ للكتابةِ والبحثِ عامَ (1960م)، تزوَّج مرَّتَين، وانتهى كلا الزواجَين بالطلاق. ألَّف (89) كتابًا، منها الكتبُ العلميةُ والدينيَّةُ والفلسفية والاجتماعيةُ والسياسيَّةُ والحِكاياتُ والمَسرَحياتُ وقَصَص الرِّحْلاتِ، بالإضافة إلى برنامَجِه التلفزيونيِّ (العلم والإيمان). له عددٌ من الكتبِ فيها كثير من الشَّطَحات والفلسفات التَّشكيكيَّةِ، منها: كتاب (الله والإنسان) وكتاب (الشفاعة) وكتاب (محاولة لفهمٍ عصري للقرآن)، وقد أُصيب بجلطةٍ مُخِّيَّة عامَ (2003م) وعاش مُنعزلًا وحيدًا، وتُوفِّي بعد معاناةٍ طويلةٍ مع المرض ظلَّ خلالَها طريحَ الفراشِ.
هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العامِلُ، القُدوةُ سيد القراء: أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، من طبقات الشافعية, ولد سنة 538 ببلدة شاطبة- وهي مدينة كبيرة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء- كان الشاطبي يتوقد ذكاءا، مع الورع والتقوى والتأله والوقار. وهو مصنِّف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يُسبَق إليها ولا يُلحَق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كلُّ ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير. قال عنها ابن خلكان: " الشاطبي هو صاحب القصيدة التي سمَّاها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعِدَّتُها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتًا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقَلَّ مَن يشتَغِلُ بالقراءات إلا ويُقَدِّمُ حِفظَها ومعرفتها، وهي مشتَمِلةٌ على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها". وله قصيدة دالية في خمسمائة بيت مَن حَفِظَها أحاط علمًا بكتاب التمهيد لابن عبد البر. كما له الباعُ الأطول في فن القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث. قرأ القرآن الكريم ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، ورحل إلى بلنسية، فقرأ القراءات على أبي الحسن بن هذيل. وقراءة بالسبع على غيرهما, فقد كان عالِمًا بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرًا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبَرَّزًا فيه، وكان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تُصحَّحُ النسخُ من حفظه، ويُملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدَ في علم النحو واللغة، عارفًا بعلم الرؤيا، حَسَن المقاصِدِ. كان دَيِّنًا خاشعًا ناسكًا كثير الوقار، لا يتكَلَّمُ فيما لا يعنيه. يجتَنِبُ فُضولَ الكلام ولا ينطقُ إلا على طهارةٍ في هيئةٍ حَسَنةٍ وتخَشُّع واستكانة، وكان يعتَلُّ العلةَ الشديدةَ فلا يشتكي ولا يتأوَّه. انتقل من بلده إلى مصر، قال السخاوي: "سببُ انتقاله من بلده أنَّه أريد على الخطابة، فاحتج بالحَجَّ، وترك بلده، ولم يعُدْ إليه تورُّعًا مما كانوا يُلزِمونَ الخُطَباء مِن ذِكرِهم الأمراءَ بأوصافٍ لم يَرَها سائغة، وصَبَرَ على فقرٍ شديد". سمع بمصرَ من السِّلَفي، وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته في مصر، فأجاب على شروطٍ، فتصَدَّر وعَظُمَ شأنه، وبَعُدَ صِيتُه، وانتهت إليه رياسةُ الإقراء بمصر، وقد انتفع به وبعِلمِه خَلقٌ كثير. زار بيت المقدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاتُه بها في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضليَّة، وله أولاد رووا عنه، منهم أبو عبد الله محمد, وهذا الإمام الشاطبي صاحب الشاطبية يختلف عن الشاطبي صاحب المُوافقات الذي توفي سنة 970.
هي رُقَيَّةُ بنتُ سَيِّدِ البَشرِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهي زوجُ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضِي الله عنهما، وكانت رُقَيَّةُ أوَّلًا عند عُتْبَةَ بنِ أبي لَهبٍ، فلمَّا بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَمَرَ أبو لَهبٍ ابنَهُ بِطلاقِها، فتَزوَّجها عُثمانُ وهاجر بها إلى الحَبشةِ. ولمَّا نَدَبَ رسولُ الله النَّاسَ للخُروجِ لاعتراضِ قافلةِ أبي سُفيانَ أَمَرَ عُثمانَ أن يَبقى عند رُقَيَّةَ يُمَرِّضُها ويَعتَني بها، وكان هذا هو سببُ تَخَلُّفِهِ، وقد أَسهمَ له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كما أَسهمَ لمن حضَر بدرًا، ثم ما لَبِثَتْ رُقَيَّةُ في مَرضِها حتَّى تُوفِّيتْ رضي الله عنها.
هي عائشةُ الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيق رضي الله عنها، تَزوَّجها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَ خَديجةَ في مكَّة؛ ولكن لم يَدْخُلْ بها إلَّا في المدينةِ بعدَ الهِجرَةِ، لها مِن الفضائلِ الكثيرُ، نزلت بَراءتُها مِن السَّماءِ بآياتٍ تُتْلَى إلى يومِ القِيامَة، توفِّيت في المدينةِ النَّبَوِيَّةِ وأَوْصَتْ أن تُدْفَنَ ليلًا، وصلَّى عليها أبو هُريرةَ، ونزَل في قَبرِها خمسةٌ ودُفِنَت في البَقيعِ، وكانت مِن أَفْقَهِ النِّساءِ، فجَزاها الله خيرًا عن الإسلامِ والمسلمين ورضي الله عنها وأرضاها، وكانت مِن المُكْثِرين في الرِّاويَةِ عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولها اسْتِدْراكاتٌ على الصَّحابَةِ مَعروفة.
في هذه السَّنةِ أظهر المأمونُ أوَّلَ بِدَعِه الشنيعةِ، فأمر مناديًا ينادي: بَرِئَت الذمَّةُ ممَّن ذكر معاويةَ بنَ أبي سفيان بخيرٍ أو فضَّلَه على أحدٍ مِن الصَّحابة، وينادي: إنَّ أفضَلَ الخَلقِ بعد رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليُّ بنُ أبي طالب. وقيل: كان المأمون يبالِغُ في التشيُّعِ، لكنَّه لم يتكلَّمْ في الشَّيخينِ بسُوءٍ، بل كان يترضَّى عنهما ويعتقِدَ إمامتَهما.
خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الطَّائفِ، وهي تَبعُد عن مكَّة نحوَ سِتِّينَ مِيلًا، سارها ماشِيًا على قَدميهِ جِيئةً وذِهابًا، ومعه مولاهُ زيدُ بنُ حارثةَ، وكان كُلَّما مَرَّ على قَبيلةٍ في الطَّريقِ دعاهُم إلى الإسلامِ، فلمْ تُجبْ إليهِ واحدةٌ منها, فلمَّا انتهى إلى الطَّائفِ عَمَدَ إلى رُؤسائِها فدعاهُم فلمْ يَستجيبوا له, فأقام بين أهلِ الطَّائفِ عشرةَ أيَّامٍ، لا يَدَعُ أحدًا مِنْ أشرافهِم إلا جاءهُ وكَلَّمهُ، فقالوا: اخرُجْ من بلادِنا. وأَغْرَوْا به سُفهاءَهُم، فلمَّا أراد الخُروجَ تَبِعَهُ سُفهاؤهُم وعَبيدهُم يُسِبُّونَهُ ويُصيحونَ بهِ، حتَّى اجتمع عَليهِ النَّاسُ، فوقَفوا له سِمَاطَيْنِ [أي صَفَّيْنِ] وجعلوا يَرمونهُ بالحِجارةِ، وبكِلماتٍ مِنَ السَّفَهِ، ورَجموا عَراقيبَهُ، حتَّى اخْتَضَبَ نَعلاهُ بالدِّماءِ. وكان زيدُ بنُ حارثةَ يَقِيهِ بِنفسهِ حتَّى أصابهُ شِجَاجٌ في رَأسهِ، ولم يزلْ بهِ السُّفهاءُ كذلك حتَّى أَلجأوهُ إلى حائطٍ لعُتبةَ وشَيبةَ ابنيْ رَبيعةَ على ثلاثةِ أميالٍ مِنَ الطَّائفِ, ورجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طريقِ مكَّة بعدَ خُروجهِ مِنَ الحائطِ كَئيبًا مَحزونًا، كَسيرَ القلبِ، فلمَّا بلغ قَرْنَ المنازلِ بعث الله إليه جبريلَ ومعه مَلَكُ الجبالِ، يَسْتَأْمِرُهُ أنْ يُطْبِقَ الأَخْشَبَيْنِ على أهلِ مكَّة, فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أنْ يُخرجَ الله عزَّ وجلَّ من أصلابهِم مَنْ يَعبدُ الله عزَّ وجلَّ وحدَه لا يُشركُ بهِ شيئًا). وفي هذا الجوابِ الذي أَدلى بهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم تَتجلَّى شَخصيَّتُه الفَذَّةُ، وما كان عَليهِ من خُلُقٍ عَظيمٍ.
غزا ابنُ كيغلغ الرومَ مِن طرسوس، فأصاب من الرومِ أربعةَ آلافِ رأسٍ سبيًا ودوابَّ ومتاعًا، ودخل بِطْرِيقٌ من بطارقةِ الروم في الأمانِ وأسلم، كما غزا ابنُ كيغلغ شكند، وافتتح اللهُ عليه، وسار إلى الليس، فغنموا نحوًا من خمسينَ ألفَ رأسٍ، وقتلوا مقتلةً عظيمة من الروم، وانصرفوا سالِمينَ، وكاتَبَ أندرونقس البطريقُ المكتفيَ بالله يطلُبُ منه الأمان، وكان على حربِ أهلِ الثغور من قِبَل ملك الروم، فأعطاه المكتفي ما طلَب، فخرج ومعه مائتا أسيرٍ مِن المسلمين كانوا في حِصنِه، وكان ملكُ الرومِ قد أرسل للقَبضِ عليه، فأعطى المسلمينَ سلاحًا وخرجوا معه، فقَبَضوا على الذي أرسَلَه مَلِكُ الروم ليقبضَ عليه ليلًا، فقتلوا ممن معه خلقًا كثيرًا، وغَنِموا ما في عسكَرِهم، فاجتمعت الرومُ على أندرونقس ليحاربوه، فسار إليهم جمعٌ من المسلمين ليخَلِّصوه ومن معه من أسرى المسلمين، فبلغوا قونية، فبلغ الخبَرُ إلى الروم، فانصرفوا عنه، وسار جماعةٌ من ذلك العسكر إلى أندرونقس، وهو بحِصنِه، فخرج ومعه أهلُه إليهم، وسار معهم إلى بغداد، وأخرب المسلمونَ قونيةَ.
أمر المهديُّ ببناء القصورِ في طريق مكَّة، وأمر بتوسيعِ القُصور التي كان بناها السفَّاح، كما قام بتجديد الأميال والبِرَك ومصانع المياه، وحفر الرَّكايا؛ كلُّ ذلك تسهيلًا للمسافرينَ في طُرُقِهم، كما أمرَ أن تُقصَّرَ كُلُّ المنابرِ إلى قَدْرِ ارتفاعِ مِنبرِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يُزادَ على ذلك.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةَ بَشيرِ بنِ سعدٍ الأَنصاريِّ إلى بني مُرَّةَ بِناحِيةِ فَدَكٍ، في ثلاثين رجلًا. وخرَج إليهم واسْتاقَ الشَّاءَ والنَّعَمَ، ثمَّ رجَع فأَدْركَهُ الطَّلَبُ عند اللَّيلِ، فرَمَوْهُم بالنَّبْلِ حتَّى فَنِيَ نَبْلُ بَشيرٍ وأصحابِه، فقُتِلوا جميعًا إلَّا بَشيرًا، فإنَّه حُمِلَ وبه رَمَقٌ إلى فَدَكٍ، فأقام عند يَهودَ حتَّى بَرَأَتْ جِراحُهُ، فرجَع إلى المدينةِ.
هو عاصِمُ بن بَهْدَلَة أبي النُّجودِ، أَحَدُ القُرَّاء السَّبعَة، وهو مِن صِغارِ التَّابعين، لَقِيَ عاصِمٌ بعضَ صَحابَة رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأَخَذ عنهم، كالحارِث بن حَسَّان البَكري الذُّهلي رضي الله عنه، ورِفاعَة بن يَثْرِبي التَّميمي رضي الله عنه، انتَهَت إليه رِئاسَةُ الإقْراء بالكوفَة بعدَ أبي عبدِ الرَّحمن السُّلَمي في مَوضِعه، جَمَع بين الفَصاحَة والإتقانَ والتَّحريرَ والتَّجويدَ، وكان أَحسنَ النَّاسِ صَوتًا بالقُرآن، والقِراءَة المَشهورَة اليوم في أَكثرِ الأمصارِ هي عن حَفْص عن عاصِم هذا، تُوفِّي في الكوفَة.