وقع الطَّلَبُ على الأمراء الذين كانوا مع بدر الدين بيدرا في قَتلِ السلطان الأشرف، فأوَّلُ من وُجِدَ منهم الأميرُ سيف الدين بهادر رأسُ نوبة، والأميرُ جمال الدين أقش الموصلي الحاجب، فضُرِبَت أعناقُهما وأُحرِقَت أبدانُهما في المجاير ثامِنَ يوم سلطنة الناصر، ثمَّ أخذ بعدهما سبعة أمراء: وهم حسام الدين طرنطاي الساقي، ونوغاي السلاح دار، وسيف الدين الناق الساقي السلاح دار، وسيف الدين أروس الحسامي السلاح دار، وعلاء الدين ألطبغا الجمدار، وأقسنقر الحسامي، وناصر الدين محمد بن خوجا، ثم قُبِضَ على قوش قرا السلاح دار، وذلك في العشرين من المحرم فسُجِنوا بخزانة البنود من القاهرة، وتولى بيبرس الجاشنكير عقوبتَهم ليُقِرُّوا على من كان معهم، ثم أُخرِجوا يوم الاثنين الثامن عشر، وقُطِعَت أيديهم بالساطور على قرم خشب بباب القلعة، وسُمروا على الجمال وأيديهم معلَّقة، وشقُّوا بهم- ورأس بيدرا على رمح قدامهم- القاهرةَ ومصرَ، واجتمع لرؤيتِهم من العالَم ما لا يمكِنُ حصرُه، بحيث كادت القاهرة ومصر أن تُنهَبا، ومَرُّوا بهم على أبوابِ دُورِهم، فلما جازوا على دار علاء الدين الطنبغا خرجت جواريه حاسراتٍ يَلطِمنَ، ومعهن أولادُه وغِلمانُه قد شَقُّوا الثياب وعَظُم صياحُهم، وكانت زوجتُه بأعلى الدار، فألقت نفسَها لتقع عليه فأمسَكْنْها جواريها، وهي تقولُ: ليتني فداك، وقَطَّعَت شعرَها ورمَتْه عليه فتهالك النَّاسُ من كثرةِ البكاءِ رحمة لهم، واستمَرُّوا على ذلك أيامًا: فمنهم من مات على ظهور الجمال، ومنهم من فُكَّت مساميرُه وحُمِلَ إلى أهلِه ثمَّ أُخِذَ مَرَّةً ثانية وأعيد تسميرُه فمات، هذا وجواري المَلِك الأشرف وسيال حواشيه قد لَبِسنَ الحِدادَ وتذرَّعنَ السخام، وطفن في الشوارع بالنواحات يُقِمن المأتم، فلم يُرَ بمصر أشنع من تلك الأيام، ثم أُخِذَ بعد ذلك الأمير سيف الدين قجقار الساقي فشُنِقَ بسوق الخيل، ولم يوقف لقراسنقر ولا للاجين على خبرٍ البتةَ، ثم في أواخر رمضان ظهر الأميرُ حسام الدين لاجين، فاعتذر له عند السلطانِ فقَبِلَه وخَلَع عليه وأكرَمَه، وأنه لم يكن قتَلَه باختيارِه.
ورد الخبَرُ بأن متمَلِّكَ قُبرُص اتَّفق مع جماعة من ملوك الفرنج على عمارةِ ستين سفينة لغزو دمياط، فجمع السلطانُ الناصر بن قلاوون الأمراءَ وشاوَرَهم، فاتَّفَقوا على عمل جسرٍ مادٍّ مِن القاهرة إلى دمياط خوفًا من نزولِ الفرنج أيَّامَ النيل، وندب لذلك الأمير جمال الدين أقوش الرومي الحسامي، وأمر ألا يراعي أحدًا من الأمراءِ في تأخيرِ رجالِ بلاده، ورسَمَ للأمراء أن يُخرِجَ كُلٌّ منهم الرجالَ والأبقار، وكتب إلى الولاةِ بالمساعدة والعمل، وأن يخرُجَ كُلُّ والٍ برِجاله، وكان أقوش مَهيبًا عبوسًا قليلَ الكلام، له حُرمةٌ في قلوب الناس، فلم يصل إلى فارس كور حتى وجد ولاةَ العَمَل قد نصبوا الخِيَم وأحضروا الرجالَ، فاستدعى المهندسينَ ورَتَّب العمل، فاستقَرَّ الحال على ثلاثمائة جرَّافة بستمائة رأس بقر وثلاثين ألف رجل، وأحضر إليه نوَّابُ جميع الأمراء، فكان يركب دائمًا لتفقُّد العمل واستحثاث الرِّجال، بحيث إنَّه فقد بعضَ الأيام شادي الأمير بدر الدين الفتاح ورجالَه، فلما أتاه بعد طَلَبِه ضَرَبه نحو الخمسمائة عصاةً، فلم يغِبْ عنه بعد ذلك أحَدٌ، ونكَّلَ بكثيرٍ مِن مشايخ العربان، وضَرَبهم بالمقارعِ وخَزَم آنافَهم وقطَعَ آذانهم، ولم يكَدْ يسلَمُ منه أحد من أجناد الأمراءِ ومنشدي البلاد، وما زال يجتَهِدُ في العمل حتى أُنجِزَ الجسر في أقَلَّ مِن شهر، وكان ابتداؤُه من قليوب وآخره بدمياط، يسيرُ عليه الراكِبُ يومين، وعَرضُه من أعلاه أربعُ قَصَبات، ومن أسفَلِه ستُّ قصبات، يمشي ستة فرسان صَفًّا واحدًا، وعَمَّ النفع به، فإنَّ النيل كان في أيام الزيادة يعلو حتى تنقَطِعَ الطُّرُقاتُ ويمتَنِعَ الوصول إلى دمياط، وحضَرَ بعد فراغه الأميرُ أقوش إلى القاهرة، وخُلِعَ عليه وشُكِرَت هِمَّتُه، ووقع الاتفاقُ على عمل جسر آخَرَ بطريق الإسكندرية، ونُدِبَ لعمله الأمير سيف الدين الحرمكي، فعمر قناطِرَ الجيزة إلى آخر الرمل تحت الهَرَمين، وكانت تهَدَّمت، فعم النفعُ بعمارتِها.
في يومِ الجمعة ثالثَ عَشرَ ذي القعدة تجمَّعَت الغوغاء من زعر العامة بأراضي اللوق خارج القاهرة للشلاق، فقُتِلَ بينهم واحد منهم، فركب والي القاهرة الشريفُ بَكتمُر، وأركب معه الأميرَ علاء الدين علي بن كَلَفت الحاجب، والأمير أقبغا اليوسفي الحاجب، وقصد المشالقينَ، ففروا منهم، وبَقِيَ من هناك من النظَّارة، فضرب عِدَّةً منهم بالمقارع، فتعَصَّبت العامة، ووقفوا تحت القلعةِ في يوم الثلاثاء، وأصبحوا يوم الأربعاء الثامن عشر كذلك، وهم يستغيثونَ ويضجُّون بالشكوى من الوالي، فأُجيبوا بأن السلطان يَعزِلُ عنكم هذا الواليَ فأبوا إلا أن يُسَلِّمَه إليهم هو والحاجبين، وكان الوالي قد ركب على عادته بُكرةَ النهار يريد القلعة، فرجمته العامَّةُ حتى كاد يَهلِكَ فالتجأ منهم بالإسطبل، وظَلَّ نهاره فيه، والعامَّةُ وقوفٌ تحت القلعة إلى قريب العصر، وكلما أمروا بأن يَمضُوا أبَوا ولَجُّوا، فركب إليهم الوالي في جمعٍ موفور من مماليك الأمير بَكتمُر المومني، أمير آخور، ومن الأوجاقية، فثارت العامَّةُ ورجمتهم رجمًا متداركًا حتى كَسَروهم كسرةً قبيحة، فركِبَت المماليك السلطانية، والأوجاقية وحَمَلوا على العامة، وقتلوا منهم جماعةً، وقَبَضوا على خلائِقَ منهم، وركب الأمير ألجاي اليوسفي، وقَسَّم الخطط والحارات على الأمراء والمماليك، وأمرهم بوضع السيف في الناس، فجرت خطوبٌ شنيعة، قتل فيها خلائِقُ ذهبت دماؤهم هدرًا، وأُودِعَت السجونَ منهم طوائِفُ، وامتدت أيدي الأجنادِ إلى العامَّةِ حتى إنَّه كان الجنديُّ يدخل إلى حانوت البياع من المتعَيِّشينَ ويَذبَحُه ويمضي، وحكى بعضُهم أنَّه قَتَل بيده في هذه الواقعة من العامة سبعة عشر رجلًا، وكانت ليلةُ الخميس التاسع عشر من ليالي السوءِ، وأصبح الناسُ وقد بلغ السلطانَ الخَبَرُ، فشَقَّ عليه وأنكره، وقال للأمير بكتمر المومني عَجَّلت بالأضحية على الناس وتوعَّده، فرجف فؤادُه ونَحَب قَلْبُه، وقام فلم يزَلْ صاحِبَ فراش حتى مات، وأمر السلطانُ بالإفراج عن المسجونين، ونُودِيَ بالأمان، وفَتْح الأسواق، ففُتِحَت وقد كان الناس قد أصبحوا على تخوفٍ شديدٍ لِما مَرَّ بهم في الليلِ.
هو منطاش الأشرفي نسبةً إلى الأشرف شعبان بن حسين، كان اسمُه تمربغا، ويقال له أخو تمربيه، وكانت لتمربيه منزلةٌ من الأشرف، وتنقل منطاش إلى أنْ ولاه الظاهر برقوق نيابةَ السلطنة بملطية في سنة 788 فجمع كثيرًا من التركمان وأظهر العِصيانَ وانضوى إليه كثيرٌ مِن الأشرفيَّة الذين شَرَّدَهم برقوق لَمَّا تسَلْطَنَ في البلادِ، فلما بلغ الظاهِرَ ذلك جهَّزَ إليه عسكَرَ حلب مع أربعة أمراء من مقَدَّمي الألوف بالقاهرة، فانضوى منطاش إلى برهان الدين صاحب سيواس فحوصر، ثم آل الأمر إلى رجوع العسكر وقد فر منطاش، واتفق أنَّ الناصريَّ عصى على برقوق وكاتبَ نواب البلاد، فوافقوه فراسَلَ منطاش فجمع من أطاعَه، وحضر إلى حلب وذلك سنة 91 فجهَّزَه الناصري إلى حماة فمَلَكَها إلى أن قَدِمَ الناصري بالعسكر، فتوجهوا إلى القاهرة واستولى الناصريُّ على المملكة وأعاد السلطان حاجي، واستقر منطاش أميرًا كبيرًا، ثم استولى منطاش على المملكة، فطاش وكان أهوجَ كثيرَ العطايا، كما قيل نهابًا وهَّابًا، فاعتقل الناصِرَ والجوباني وغيرَهما بالإسكندرية، وفي غضون ذلك بعد دخول سنة 92 بلغه أن الظاهرَ برقوق خلَصَ مِن سجن الكرك وانضَمَّ إليه جماعة، فجهز العسكر وتوجَّه إلى جهته، فوقعت لهم الوقعة الشهيرة، فانهزم منطاش واحتوى الظاهِرُ على المملكةِ وعلى غالب من كان معه مِن رؤوس المملكة, وفي سنة 93 توجه منطاش من جهة العمق إلى أن وصل إلى قربِ دمشق، ولما لم يحصُلْ للعسكر السلطاني منه غَرَضٌ رجعوا إلى أوطانهم، ونازل منطاش دمشقَ فجَهَّزَ له الناصريُّ من هزمه، فتوجه إلى بلاد نعير فأقام عنده ثم راسَلَ الظاهِرُ نعيرًا في أمر منطاش واسترضاه ورَدَّ عليه إمرتَه، وأوسَعَ له في الوعدِ، فغدر بمنطاش وقَبَضَ عليه وجَهَّزَه إلى حلب فاعتقل بقلعَتِها إلى أن جاء الأمرُ بقَتلِه وتجهيز رأسِه، ففُعِلَ به ذلك في سنة 795 وطِيفَ برأسِه بالقاهرةِ، ثم عُلِّقَ على باب زويلة، وكان شجاعًا قَتَّالًا عاليَ الهِمَّة كثيرَ البَذلِ، أهلك جميعَ ما كان الظاهِرُ حَصَّلَه من الأموال في أيسَرِ مُدَّةٍ.
في سابع جمادى الأولى استُدعِيَ بطرك النصارى، وقد اجتمع القضاة ومشايخ العلم عند السلطان، فأُوقِفَ على قدميه، ووُبِّخ وقُرِّع، وأنكر عليه ما بالمسلمين من الذلِّ في بلاد الحبشة، تحت حكم الحطي متملِّكِها، وهُدِّد بالقتل، فانتدب له محتسب القاهرة صدر الدين أحمد بن العجمي وأسمعه المكروه له من أجل تهاون النصارى فيما أُمروا به من التزام الذلة والصغار في ملبسهم وهيأتهم، وطال الخطابُ في معنى ذلك إلى أن استقر الحال على ألَّا يباشر أحد من النصارى في ديوان السلطان، ولا عند أحد من الأمراء، ولا يخرج أحد منهم عمَّا يُلزمون به من الصَّغار، ثم طلب السلطان الأكرم فضائل النصراني كاتب الوزير، وكان قد سُجِنَ منذ أيام، فضربه بالمقارع وشَهَره بالقاهرة، عُريانًا بين يدي المحتَسِب، وهو ينادي عليه: هذا جزاء من يباشر من النصارى في ديوان السلطان، ثم سُجِن بعد إشهاره، فانكفَّ النصارى عن مباشرة الديوان ولزموا بيوتهم، وصغَّروا عمائِمَهم، وضيَّقوا أكمامهم، والتزم اليهود مثل ذلك، وامتنعوا جميعهم من ركوب الحمير في القاهرة، فإذا خرجوا من القاهرة ركبوا الحمير عَرضًا، وأنف جماعة من النصارى أن يفعلوا ذلك، وبذلوا جهدهم في السعي لإبطاله، فلما لم يجابوا إلى عودهم إلى ما كانوا عليه، تتابع عدةٌ منهم في إظهار الإسلام، وصاروا من ركوب الحمير إلى ركوبِ الخيول المسوَّمة، والتعاظم على أعيان أهل الإسلام، والانتقام منهم بإذلالِهم، وتعويق معاليمِهم ورواتِبِهم، حتى يخضعوا لهم، ويتردَّدوا إلى دورهم، ويلحُّوا في السؤال لهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونادى المحتسب في شوارع القاهرة ومصر بأن النصارى واليهود لا يمرون في القاهرة إلا مشاةً غيرَ ركَّاب، وإذا ركبوا خارج القاهرة فليركبوا الحمير عرضًا، ولا يلبَسوا إلا عمائم صغيرة الحجم، وثيابًا ضيقةَ الأكمام، ومن دخل منهم الحمَّام فليكُنْ في عنُقِه جَرَس، وأن تلبس نساءُ النصارى الأُزُرَ الزُّرْقَ، ونساءُ اليهود الأزُرَ الصُّفْرَ، فضاقوا بذلك، واشتدَّ الأمر عليهم، فسَعَوا في إبطاله سعيًا كبيرًا، فلم ينالوا غرضًا، وكبست عليهم الحمامات، وضُرِب جماعة منهم لمخالفته، فامتنع كثير منهم عن دخول الحمَّام، وعن إظهار النساءِ في الأسواق.
كان من قضاء الله عز وجل وما قدَّره في آخر أيام مهرجان كبير عند أهل غرناطة حيث يجتمع فيه جُل أهل غرناطة من رجال ونساء وصبيان وشيوخ وكهول وكثير من أهل القرى حول غرناطة للنزهة، فاجتمعوا في السبيكة من الحمراء وما حولها وامتلأت تلك المواضع بالخلق الكثير، وأقبلت الفرسان وصاروا يتألفون في السبيكة وذلك وقت الضحى، فبينما الناس كذلك في المهرجان إذا بسحابة عظيمة قد أنشأها الله تعالى في السماء فأرعدت وأبرقت وانتشرت من ساعتها بقدرة مكوِّن الأشياء على السبيكة وما قرب منها وعلى غرناطة وما حولها وعلى وادي هداره، وجاءت بمطر عظيم ولم يزل المطر يزداد ويعظم ويكثر حتى صار كالأنهار العظيمة وجاءت السيول من كل ناحية وعظُم أمرها وعاين الناس الهلاكَ مِن عِظَم ما رأوا من شدة المطر وكثرة السيول من كل ناحية، واحتمل السيل الطرق وما حولها وانقطع الناس وحال السيل بينهم وبينها، فكان لا يُسمع إلا بكاء الصبيان وضجيج النسوان وأصوات الرجال بالدعاء إلى الله تعالى والابتهال، إلى أن ارتفع المطر وجاء وادي هداره الذي يشق غرناطة بسيل عظيم احتمل ما على ضفتيه من الأشجار العظام من الجوز واللوز وغير ذلك من الأشجار العظام الثابتة في الأرض، ودخل البلد واحتمل ما على ضفتيه من الدور والحوانيت والمساجد والفنادق ودخل الأسواق، وهدم البناء المشيد ولم يبقَ من القناطير إلا الأقواس، وذهب بكل ما كان عليها من البنيان، ثم جاء السيل بتلك الأشجار العظام التي اقتلعت فتراكمت في البلد في آخر قنطرة منه، فسُدَّت مجاري الوادي فتراكم السيل والشجر في قلب البلد، وعاين الأهالي الهلاكَ ودخل السيل تياره والقيسارية حتى دخل بعض حوانيتها، ووصل إلى رحبة الجامع الأعظم وإلى القراقين والصاغة والحدادين وغير ذلك من الأسواق والدور، فلطف الله تعالى بعباده فنفض السيل بقوة تراكمه بالقنطرة والسور وخرج ذلك كله خارج البلد، وكان هذا اليوم من أعظم الأيام شاهد فيه كل من رآه قدرة القادر القهار الملك العلام سبحانه وتعالى، ولم يسمع المعمَّرون بمثل ذلك اليوم.
كلف ملك البرتغال مانويل الأول فاسكو دي جاما القيامَ برحلة للبحث عن طريق آخر يوصل بالهند دون المرور على بلاد المسلمين، فقام فاسكو بالسير جنوبًا بمحاذاة السواحل الغربية ووصل إلى رأس الزوابع في جنوب أفريقيا وسماها رأس الرجاء الصالح، ثم استدار شمالًا إلى السواحل الشرقية فوصل إلى موزمبيق وماليندي، وكانوا قد التقوا بسفن عربية أدهشتهم صناعتها، وكذلك أدوات الملاحة التي مع بحاريها من بوصلة وخرائط والمزاول، فأراد الاستفادة منهم للوصول إلى الهند، وكان من أبرز نتائجِ هذا الاكتشاف إضعافُ المسلمين اقتصاديًّا بانقطاع مرور التجارة ببلادهم بين الشرق والغرب؛ مما أدى إلى تدهورِ اقتصاد الدولة المملوكية، وكان أحدَ أسباب سقوطِها. أما ما أُشيع من أن ابن ماجد أرشد قائد الأسطول البرتغالي فاسكو دي غاما إلى طريق الهند، فهو باطل؛ قال أحمد علاونة: "هو قول باطل مدارُه على النهروالي في كتابه (البرق اليماني في الفتح العثماني)، وقد ذكر هذه الأسطورةَ بعد ثمانين سنة من حدوثها، ولم يذكر أيُّ مؤرخ بعد النهروالي هذه الأسطورةَ، ثم جاء المستشرق فران عام 1922 ونفخ فيها من روحه، وتابعه عليها كثيرون، منهم الزِّرِكْلي". وقد أورد العلاونة بعضَ الأدلةِ على بطلان إرشاد ابن ماجد لدي غاما، منها: أ / أن ابن ماجد أرشد دي غاما وهو سكران، وهذا غير معقول أن يطمَئِنَّ قائدٌ عسكري لفاقد الوعي ليدُلَّه على طريق محفوف بالمخاطر. ب/ لم تكن لابن ماجد خبرة في الساحل الأفريقي. ج/ لم يَرِدْ ذكرُ هذه الحادثة في أيٍّ من أعمال ابن ماجد النثرية والشعرية. د/ كان ابن ماجد يَعرِفُ حقَّ المعرفة نوايا البرتغاليين وما يضمرونه من شر للمسلمين. هـ/ لا يوجد مؤرخ برتغالي ممن عاصروا دي غاما وعُنُوا بتاريخ رحلاته، أو ممن جاؤوا على أثارهم ذكروا أحمد بن ماجد. و/ عاصر وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي عددٌ من المؤرخين العرب، ومنهم من عاصر ابن ماجد، ولم يذكر أيٌّ منهم صلةَ ابن ماجد بالبرتغاليين.ا.
لما تسلَّم السلطان عبد المجيد الأول بن محمود الثاني الحُكمَ، وهو ما يزال دون الثامنةَ عشرة من عمرِه، كان صِغَرُ سِنِّه هذا فرصةً لبعض الوزراء التغريبيين لإكمال ما بدأه والِدُه الراحل من إصلاحاتٍ على الطريقة الأوروبية، والتمادي في استحداثِ الوسائل الغربية، ومن هؤلاء الوزراءِ الذين ظهروا في ثيابِ المصلحين ومُسوحِ الصادقين (مصطفى رشيد باشا) الذي كان سفيرًا للدولة في (لندن) و (باريس)، ووصل إلى منصِبِ وزير الخارجية في أواخِرِ عَهدِ السلطان محمود الثاني، وكانت باكورةُ إصلاحاته استصدارَ مرسوم من السلطان عُرِفَ بـ (خط شريف جلخانة) أي: المرسوم المتوَّج بخط السلطان، الذي صدر عن سراي الزهر عام 1839م، وبدأ عهدٌ جديد يسمَّى عهد التنظيمات الخيرية العثمانية، التي كان من بينها احترامُ الحريات العامة والممتَلَكات والأشخاص، بصرف النظَرِ عن معتقَداتِهم الدينية، ونصَّ فيه على مساواة جميع الأديانِ أمام القانون، ولم يلقَ الخط الشريف أو الدستور الذي سانده مصطفى رشيد وقِلَّةٌ من المحيطين به ترحيبًا أو تأييدًا من الرأيِ العام العثماني المُسلِم؛ فأعلن العُلَماءُ استنكارَهم وتكفيرهم لمصطفى رشيد باشا، واعتبروا الخطَّ الشريف منافيًا للقرآنِ الكريم في مُجمَلِه، وبخاصة في مساواته للنصارى بالمسلمين، ورأوا أنَّ ذلك -وبغضِّ النظر عن النواحي الدينية- سيؤدِّي إلى إثارة القلاقل بين رعايا السلطان. وكان الهدفُ بالفعل هو ما خَطَّطَت له الحركةُ الماسونية، وهو إثارةُ الشعور القومي لدى الشعوبِ النصرانية ضِدَّ الدولة العثمانية، وبهذا المرسومِ طُعنت عقيدةُ الولاء والبراء في الصَّميمِ، ونُحِّيَت جملةٌ من أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلَّقُ بأهلِ الذمَّةِ وعَلاقاتِ المسلمين مع غيرهم، وحينما رأى المسلمون أنَّ الدولة تساوي بهم النصارى واليهودَ، وتستبدل بالشريعةِ الحنيفةِ قوانينَ النصارى، وتخلَعُ الأزياء القديمة الشريفة لتتَّخِذَ زيَّ النصارى، وأحسُّوا كذلك أنَّ حكومة رشيد لا تكادُ تأتي أمرًا إلا راعت فيه خاطِرَ النصارى وحَرَصت أن لا تمسَّهم بأذًى أو تنالَهم بضَيمٍ- نفروا من ذلك نفورًا عظيمًا، ولم يجِدِ السلطان ورجالُ دولته من بدٍّ في إسقاطِه وعَزْلِه أمام مظاهِرِ السَّخَطِ الشعبي، وخَوْفهم من وثوبِ المسلمينَ وثَورتِهم.
تعتبر هذه الهجمة هي الحملة الصليبية الخامسة على المسلمين؛ حيث اجتمع رأي الفرنج على الرحيل من عكا إلى مصر، والاجتهاد في تملُّكِها، فأقلعوا في البحر، وأرسَوا على دمياط، في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الأول سنة 515 على بر جيزة دمياط، وصار الفرنجُ في غربي النيل، فأحاطوا على معسكَرِهم خندقًا، وبنوا بدائره سورًا، وأخذوا في محاربة أهل دمياط، وعملوا آلات ومرمات، وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، حتى يتمكَّنوا من البلد، والملك العادل يجهِّز عساكر الشام شيئًا بعد شيء إلى دمياط، حتى صار عند الكامل من المقاتلة ما لا يكاد ينحصر عددُه، هذا والعادل بمرج الصفر، فبينا هو في الاهتمام بأمر الفرنج، إذ ورد عليه الخبر بأخذ الفرنج برج السلسلة بدمياط، فمَرِضَ من ساعته، فرحل من المرج إلى عالقين، وقد اشتد مرضه، فمات في سابع جمادى الآخرة يوم الخميس من هذه السنة، وكان الكاملُ قد بعث إلى الآفاق سبعين رسولًا، يستنجد أهل الإسلام على قتال الفرنج، فقَدِمَت النجدات من حماة وحلب، إلا أنه لما قدم على المعسكر موت العادل وقع الطمعُ في الملك الكامل، وثار العربُ بنواحي أرض مصر، وكثر خلافهم واشتد ضَرَرُهم، وصار من الخلاف ما حرض الفرنجَ على التحرك، فضعفت نفوس الناس لأنَّه السلطان حقيقة، وأولاده وإن كانوا ملوكًا إلا أنه يحكُمُهم، والأمر إليه، وهو ملك البلاد، فاتفق موته والحالُ هكذا من مقاتلة العدو، وكان من جملة الأمراء بمصر أميرٌ يقال له عماد الدين أحمد بن علي، ويعرف بابن المشطوب، وهو من الأكراد الهكارية، وهو أكبر أميرِ بمصر، وله لفيف كثير، وجميع الأمراء أرادوا أن يخلعوا الملكَ الكامل من المُلك ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصيرَ الحكم إليهم عليه وعلى البلاد، فبلغ الخبر إلى الكامل، ففارق المنزلة التي كان فيها ليلًا جريدة، وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح، فنزل عندها، وأصبح العسكَرُ وقد فقدوا سلطانهم، فركب كل إنسان منهم هواه، ولم يقف الأخ على أخيه، ولم يقدروا على أخذِ شَيءٍ من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلَّا اليسير الذي يخِفُّ حمله، وتركوا الباقيَ بحاله من ميرة، وسلاح، ودواب، وخيام وغير ذلك، ولحقوا بالكامِلِ، وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد، فلم يروا من المسلمين أحدًا على شاطئِ النيل كجاري عادتهم، فبقوا لا يدرون ما الخبر، حتى أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقته، فعبروا النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازعٍ ولا ممانع، فغَنِموا ما في معسكر المسلمين، فكان عظيمًا يُعجِز العادِّين. وكاد الملك الكامل يفارق الديار المصرية؛ لأنه لم يثق بأحد من عسكره، فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الملك المعظم عيسى وصل إلى أخيه الكامل بعد الهزيمة بيومين، والناسُ في أمر مريج، فقَوِيَ به قلبه، واشتد ظهرُه، وثبت جنانه، وأقام بمنزلته، وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام، فاتصل بالملك الأشرف وصار من جندِه، قال ابن خلكان: "فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط اجتمعت العربُ على اختلاف قبائلها، ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط، وقطعوا الطريق، وأفسدوا، وبالغوا في الإفسادِ، فكانوا أشدَّ على المسلمين من الفرنج، وكان أضرَّ شيءٍ على أهل دمياط أنَّها لم يكن بها من العسكر أحدٌ؛ لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدُوَّ عنها، فأتتهم هذه الحركة بغتة، فلم يدخلها أحدٌ من العسكر، وكان ذلك من فِعلِ ابن المشطوب؛ لا جَرَم لم يمهِلْه الله، وأخذه أخذةً رابيةً"، أحاط الفرنج بدمياط، وقاتلوها برًّا وبحرًا، وعملوا عليهم خندقًا يمنعهم من يريدهم من المسلمين، وهذه كانت عادتهم، وأداموا القتال. اشتد قتالُ الفرنج، وعَظُمَت نكايتهم لأهل دمياط، كان فيها نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراضُ، وغلت عندهم الأسعار، وامتلأت الطرقاتُ من الأموات، وعدمت الأقوات، وسئموا القتالَ وملازمته؛ لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتِهم، وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتالَ بينهم مناوبة، ومع هذا فقد صبروا صبرًا لم يُسمَع بمِثلِه، وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض، ودام الحصارُ عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة 616، فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلَّتِهم، وتعذر القوت عندهم، فسَلَّموا البلد إلى الفرنج في هذا التاريخ، بالأمان، فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة. وعندما أخذ الفرنج دمياط وضعوا السيَف في الناس، فلم يُعرَف عدد من قتل لكثرتهم، ورحل السلطانُ بعد ذلك بيومين، ونزل قبالة طلخا، على رأس بحر أكوم ورأس بحر دمياط، وخيَّم بالمنزلة التي عرفت بالمنصورة وحَصَّن الفرنج أسوار دمياط، وجعلوا جامِعَها كنيسةً.
كثُرَ تنافرُ الأمراء واختلافهم، وانقطع نوروز، وجكم الجركسي الظاهري، وقنباي، عن الخدمة، ودخل شهر رمضان وانقضى، فلم يحضروا للهناء بالعيد، ولا صلَّوا صلاة العيد مع السلطان، فلما كان يوم الجمعة ثاني شوال ركبوا للحرب، فنزل السلطان من القصر إلى الإسطبل عند سودن طاز، وركب نوروز وجكم وقنباي، وقرقماس الرماح، ووقعت الحربُ من بكرة النهار إلى العصر، ورأس الأمراءَ نوروز وجكم، وخصمهم سودن طاز، فلما كان آخر النهار بعث السلطان بالخليفةِ المتوكل على الله وقضاة القضاة الأربع إلى الأمير الكبير نوروز في طلب الصلح، فلم يجد بدًّا من ذلك، وترك القتال، وخلع عنه آلة الحرب، فكفَّ الأمير جكم الدوادار أيضًا عن الحرب، وعد ذلك مكيدةً من سودن طاز، فإنه خاف أن يغلِبَ ويُسَلِّمَه السلطان إلى الأمراء، فأشار عليه بذلك حتى فعله، فتمَّت مكيدته بعدما كاد أن يؤخذ؛ لقوة نوروز وجكم عليه، وبات الناس في هدوء، فلما كان يوم السبت الغد ركب الخليفة وشيخ الإسلام البلقيني، وحلَّفوا الأمراء بالسمع والطاعة للسلطان، وإخماد الفتنة، فطلع الأمير نوروز إلى الخدمة في يوم الاثنين خامسه، وخُلِعَ عليه، وأُركِبَ فرسًا خاصًّا بسرج، وكنفوش ذهب، وطلع الأمير جكم في ثامنه وهو خائف، ولم يطلع قنباي، ولا قرقماس، وطُلِبا فلم يُوجَدا، وجُهِّز إليهما خلعتان، على أن يكون قنباي نائبًا بحماة، وقرقماس حاجبًا بدمشق، ونزل جكم بغير خِلعة حنقًا وغضبًا، فما هو إلا أن استقر في داره، ونزل إليه سرماش رأس نوبة، وبشباي الحاجب بطلب قنباي، ظنًّا أنه اختفى ليلبس الخلعة بنيابة حماة، فأنكر أن يكون عنده وصرفهما، وركب من ليلته بمن معه من الأمراء والمماليك وأعيانهم قمش الخاصكي الخازندار، ويشبك الساقي، ويشبك العثماني، وألطبغا جاموس، وجانباي الطيبي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي الدوادار، وصاروا كلهم على بركة الحبش خارج مصر، ولحق به الأمير قنباي، وقرقماس الرماح، وأرغز، وغنجق، ونحو الخمسمائة من مماليك السلطان، وأقاموا إلى ليلة السبت عاشره، فأتاهم الأمير نوروز، والأمير سودن من زاده رأس نوبة، والأمير تمربغا المشطوب، في نحو الألفين، فسُرَّ بهم، وأقاموا جميعًا إلى ليلة الأربعاء، وأمرُهم يزيد ويقوى بمن يأتيهم من الأمراء والمماليك، فنزل السلطان من القصر في ليلة الأربعاء الرابع عشر إلى الإسطبل عند سودن طاز، وركب بكرةَ يوم الأربعاء فيمن معه، وسار من باب القرافة بعد ما نادى بالعرض، واجتمع إليه العسكر كله، وواقع جكم ونوروز، وكسرهما، وأسَرَ تمربغا المشطوب، وسودن من زاده، وعلى بن أينال، وأرغر، وفرَّ نوروز وجكم في عدة كبيرة يريدون بلاد الصعيد، وعاد السلطان ومعه الأمير سودن طاز إلى القلعة مُظفَّرًا منصورًا، وبعث بالأمراء المأسورين إلى الإسكندرية في ليلة السبت السابع عشر، وانتهى نوروز وجكم إلى منية القائد وعادوا إلى طموه، ونزلوا على ناحية منبابه من بر الجيزة تجاه القاهرة، فمنع السلطان المراكبَ أن تعديَ بأحدٍ منهم في النيل، وطلب الأمير يشبك الشعباني من الإسكندرية، فقدم يوم الاثنين التاسع عشر إلى قلعة الجبل، ومعه عالم كبير ممن خرج إلى لقائه، فباس الأرض ونزل إلى داره، وفي ليلة الثلاثاء عِشرينه: ركب الأمير نوروز نصف الليل، وعدى النيل، وحضر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس الأتابك، وكان قد تحدَّث هو والأمير إينال باي بن قجماس له مع السلطان، حتى أمنه ووعده بنيابة دمشق، وكان ذلك من مكر سودن طاز، فمشى ذلك عليه، حتى حضر فاختلَّ عند ذلك أمر جكم وتفرَّق عنه من معه، وفرَّ عنه قنباي وصار فريدًا، فكتب إلى الأمير بيبرس الأتابك يستأذنه في الحضور، فبعث إليه الأمير أزبك الأشقر رأس نوبة، والأمير بشباي الحاجب، وقدما به ليلة الأربعاء في الحادي والعشرين إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، فتسلَّمه عدوه الأمير سودن طاز وأصبح وقد حضر يشبك وسائر الأمراء للسلام عليه، فلما كانت ليلة الخميس الثاني والعشرين قُيِّدَ وحمل في الحراقة -سفينة- إلى الإسكندرية، فسُجِن بها حيث كان الأمير يشبك مسجونًا، وفي يوم الخميس هذا خرج المحمَلُ وأمير الحاج نكباي الأزدمري، أحد أمراء الطبلخاناه، وكان قد ألبس الأمير نوروز تشريف نيابة دمشق في بيت الأمير بيبرس يوم الأربعاء، فقُبِض عليه من الغد يوم الخميس، وحُمل إلى باب السلسلة، وقُيِّد وأخرج في ليلة الجمعة الثالث والعشرين إلى الإسكندرية، فسُجِن بها أيضًا، وغضب الأميران بيبرس وإينال باي، وتركا الخدمة السلطانية أيامًا، ثم أُرضيا، واختفى الأميران قانباي وقرقماس، فلم يُعرَف خبرهما.
خرج إلى هذه الغزاةِ عبد الرحمن بن محمَّد، وتقدَّمَ حتى حلَّ على نهرِ دوبر وتوالت عليه العساكرُ من كل ناحية، فرتَّبَها ثم تقَدَّم، فاحتل بفج برذنش، وكانت عليه أربعة حصون، فتغلب العسكرُ عليها، وغنم المسلمون جميعَ ما فيها وخربوها، ثم انتقل من موضعٍ إلى موضع، لا يمُرُّ بمسكنٍ إلَّا خرَّبه، ولا موضِعٍ إلا حَرَقه، حتى اتصلَ ذلك في جميع بلادهم، ولم يبقَ لرذريق صاحب القلاع، ولا أردمير صاحب توفة، ولا لعندشلب صاحب برجية، ولا لغومس صاحب مسانقة، حِصنٌ من حصونهِم إلا وعَمَّه الخراب. ثم قصدَ الملاحة، وكانت من أجلِّ أعمال رذريق؛ فحطَّمَ ما حواليها وعفا آثارَها، ثم تقدَّمَ يوم الخروج على فج المركويز؛ فصَدَّ العسكر عنه، وتقدَّم رذريق بحشوده وعسكرِه، فحلَّ على الخندق المجاور للمركويز، وكان رذريق قد عانى توعيرَه أعوامًا، فسخَّرَ فيه أهل مملكتِه، وقطعه من جانب الهضبةِ، فارتفع جرفه، وانقطع مسلكُه، فنزل عبدالرحمن ابن الأمير محمد على وادي إبره بالعسكرِ، وعبَّأ عبد الملك للقتال؛ وعبأ المشركون، وجعلوا الكمائنَ على ميمنة الدرب وميسرته، وناهض المسلمون جموعَ المشركين بصدورهم؛ فوقع بينهم جِلادٌ شديد، وصدق المسلمون اللِّقاء، فانكشف الأعداءُ عن الخندق، وانحازوا إلى هضبةٍ كانت تليه، ثم نزل عبد الرحمن ابن الأمير محمد، ونصب فسطاطَه، وأمر الناس بالنزولِ، وضرب أبنيتهم، ثمَّ نهض المسلمون إليهم فصَدَقوهم القتال، وضرب اللهُ في وجوه المشركين ومنَحَ المسلمين أكتافَهم، فقتلوا أشَدَّ القتل، وأُسِرَ منهم جموعٌ، واستمرُّوا في الهزيمة إلى ناحية الأهزون، واقتحَموا نهر إبره باضطرارٍ في غير مخاضة، فمات منهم خلقٌ كثير غرقًا، وكان القتل والأسر فيهم من ضحى يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجبٍ إلى وقت الظهر، وسلَّمَ الله المسلمين ونصَرَهم على المشركين، وكان قد لجأ منهم إلى الوعر والغياض- عندما أخذتهم السيوفُ- جموعٌ، فتُتُبِّعوا وقُتلوا، ثم هُتِك الخندقُ وسُوِّيَ حتى سَهُل، وسلَكَه المُسلِمونَ غيرَ خائفين ولا مضغطين، وأعظم الله المنة للمسلمين بالصنعِ الجميل، والفتح الجليل، والحمد لله رب العالمين. وكان مبلغُ ما حيز من رؤوس الأعداء في تلك الوقيعة عشرينَ ألف رأس وأربعمائة رأس واثنين وسبعين رأسًا.
كان الحاكِمُ العُبَيديُّ صاحِبُ مِصرَ يواصِلُ الرُّكوبَ وتتصَدَّى له العامَّةُ، فيَقِفُ عليهم ويسمَعُ منهم. وكان النَّاسُ في ضنكٍ مِن العَيشِ معه. فكانوا يدسُّونَ إليه الرِّقاعَ المختومةَ بالدُّعاءِ عليه والسَّبِّ له ولأسلافِه، حتى إنَّهم عَمِلوا تمثالَ امرأةٍ مِن كاغد بخُفٍّ وإزارٍ ثمَّ نَصَبوها له، وفي يَدِها قصَّةً. فأمَرَ بأخْذِها مِن يَدِها، ففتَحَها فرأى فيها العظائمَ، فقال: انظُروا مَن هذه. فإذا هي تمثالٌ مَصنوعٌ. فتقَدَّمَ بطَلَبِ الأمراءِ والعُرَفاء فحَضَروا، فأمَرَهم بالمصيرِ إلى مِصرَ لِنَهبِها وحَرقِها بالنَّارِ وقَتلِ أهلِها, فتوجَّهوا لذلك، فقاتل المصريونَ عن أنفُسِهم بحَسَبِ ما أمكَنَهم. ولحِقَ النَّهبُ والحريقُ الأطرافَ والنواحيَ التي لم يكُنْ لأهلِها قُوَّةٌ على امتناعٍ، ولا قدرةٌ على دفاعٍ. واستَمَرَّت الحربُ بين العبيدِ والرَّعيَّة ثلاثةَ أيام، وهو يركَبُ ويُشاهِدُ النَّارَ، ويَسمَعُ الصِّياح. فيَسأل عن ذلك، فيُقال له: العَبيدُ يَحرِقونَ مِصرَ. فيتوجَّعُ ويقولُ: مَن أمَرَهم بهذا؟ لعَنَهم اللهُ, فلما كان في اليومِ الثَّالثِ اجتمَعَ الأشرافُ والشُّيوخُ إلى الجامِعِ ورَفَعوا المصاحِفَ، وعَجَّ الخَلقُ بالبُكاءِ والاستغاثةِ بالله. فرَحِمَهم الأتراكُ وتقاطَروا إليهم وقاتَلوا معهم. وأرسلوا إلى الحاكِمِ يقولونَ له: نحن عبيدُك ومماليكُك، وهذه النَّارُ في بلَدِك وفيه حَرَمُنا وأولادُنا، وما عَلِمْنا أنَّ أهلَها جَنَوا جنايةً تَقتَضي هذا، فإن كان باطِنٌ لا نَعرِفُه عَرِّفْنا به، وانتَظِرْ حتى نُخرِجَ عيالَنا وأموالَنا، وإن كان ما عليه هؤلاء العَبيدُ مُخالِفًا لرأيِك أطلِقْنا في مُعامَلتِهم بما نعامِلُ به المُفسِدينَ. فأجابهم: إنِّي ما أردتُ ذلك ولا أَذِنتُ فيه، وقد أَذِنتُ لكم في الإيقاعِ بهم، وأرسل للعبيدِ سِرًّا بأنْ كونوا على أمْرِكم، وقَوَّاهم بالسِّلاحِ، فاقتَتَلوا وعاودوا الرِّسالةَ: إنَّا قد عَرَفْنا غَرَضَك، وإنَّه إهلاكُ البَلدِ، ولَوَّحوا بأنَّهم يَقصِدونَ القاهرةَ، فلما رآهم مُستَظهرينَ، رَكِبَ حِمارَه ووقف بين الفَريقينِ، وأومأ إلى العَبيدِ بالانصرافِ، وسَكَنَت الفتنةُ، وكان قَدْرُ ما أُحرِقَ مِن مِصرَ ثُلُثَها، ونُهِبَ نِصفُها. وتتَبَّع المِصريونَ مِن أَسَرَ الزَّوجاتِ والبَناتِ، فاشتَرَوهنَّ مِن العَبيدِ بعد أن اعتُدِيَ عليهنَّ، حتى قَتَل جماعةٌ أنفُسَهنَّ مِن العارِ. ثمَّ زاد ظُلمُ الحاكِمِ، وعَنَّ له أن يَدَّعي الرُّبوبيَّةَ، كما فعَلَ فِرعونُ، فصار قَومٌ مِن الجُهَّالِ إذا رأوه يقولونَ: يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت.
انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج، تحت حصن الأكراد، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة، وسببُها أن نور الدين جمع عساكِرَه ودخل بلاد الفرنج، ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد، محاصرًا له عازمًا على قصد طرابلس ومحاصرتها، فبينما الناس يومًا في خيامِهم وسط النهار، لم يَرُعْهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حِصن الأكراد، وذلك أن الفرنجَ اجتمعوا واتَّفَق رأيهم على كبسة المسلمين نهارًا، فإنَّهم يكونون آمنين، فركبوا من وقتهم، ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم، وساروا مُجِدِّين، فلم يشعر بذلك المسلمون إلا وقد قَرُبوا منهم، فأرادوا منعهم، فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونَه الحال، فرهقهم الفرنج بالحملةِ، فلم يثبت المسلمون، وعادوا يطلُبون معسكر المسلمين، والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معًا إلى العسكَرِ النوري، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخْذ السلاح، إلا وقد خالطوهم، فأكثروا القتلَ والأسر، وكان أشدَّهم على المسلمين الدوقس الرومي؛ فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم، فلم يُبقوا على أحد، وقَصَدوا خيمةَ نور الدين وقد ركب فيها فرسَه ونجا بنفسه، ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين المعركة أربعةُ فراسخ، وتلاحق به مَن سَلِم من العسكر، وقال له بعضهم: ليس من الرأي أن تُقيم هاهنا؛ فإن الفرنج ربما حمَلَهم الطمع على المجيء إلينا، فنؤخَذَ ونحن على هذه الحال؛ فوبَّخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألفُ فارس لقيتُهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظِلُّ بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلامِ، ثم أرسل إلى حلب ودمشق، وأحضرَ الأموال والثياب والخيام، والسلاح والخيل، فأعطى اللباسَ عِوَضَ ما أخذ منهم جميعه، فعاد العسكر كأن لم تُصِبْه هزيمة، وكلُّ من قتل أعطى أقطاعَه لأولاده، وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمينَ على قصد حمص بعد الهزيمة لأنَّها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعَلْ هذا إلا وعنده قوة يمنعُنا بها، ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلحَ، فلم يُجِبهم، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادِهم.
قُتِلَ شَمسُ الدين محمَّد بن عبد الملك المعروف بابنِ المُقَدَّم يومَ عَرَفة بعَرَفاتٍ، وهو أكبَرُ الأمراء الصلاحية، وسبَبُ قتله أنَّه لما فتَحَ المُسلِمونَ بيت المقدس طَلَب إذنًا من صلاحِ الدين ليحُجَّ ويُحرِمَ مِن القدس، ويجمَعَ في سنةٍ بين الجِهادِ والحَجِّ وزيارة الخليل- عليه السلام- وما بالشام من مشاهِدِ الأنبياء، وبين زيارةِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، فأَذِنَ له, وكان قد اجتمَعَ تلك السنة من الحُجَّاج بالشام الخَلقُ العظيم من بلاد العراق، والموصل، وديار بكر، والجزيرة، وخلاط، وبلاد الروم، ومصر وغيرها؛ لِيَجمعوا بين زيارة بيت المقدس ومكَّة، فجُعِلَ ابنُ المقدم أميرًا عليهم، فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين، ووقفوا في تلك المشاعِرِ، فلما كان عَشيَّةُ عرفةَ تجهَّزَ هو وأصحابُه ليسيروا مِن عَرَفات، فأمَرَ بضَربِ كوساته- قطعتان من نحاس تشبهان الترس الصغير، يُدَقُّ بأحدها على الآخَرِ بإيقاعٍ مخصوصٍ- التي هي أمارة الرحيل، فضربها أصحابُه، فأرسل إليه أميرُ الحاجِّ العراقي، وهو مجبر الدين طاش تكين، ينهاه عن الإفاضةِ مِن عرفات قبله، ويأمُرُه بكَفِّ أصحابه عن ضَربِ كوساته، فأرسل إليه: إني ليس لي معك تعَلُّقٌ؛ أنت أمير الحاجِّ العراقي، وأنا أميرُ الحاجِّ الشاميِّ! وكلٌّ منا يفعَلُ ما يراه ويختاره، وسار ولم يقف، ولم يسمعْ قَولَه، فلما رأى طاش تكين إصرارَه على مخالفَتِه رَكِبَ في أصحابه وأجناده، وتَبِعَه من غوغاء الحاجِّ العراقي وبطاطيهم، وطاعتهم، والعالم الكثير، والجم الغفير، وقصدوا حاجَّ الشام مهولين عليهم، فلمَّا قَرُبوا منهم خرج الأمرُ مِن الضبط، وعَجَزوا عن تلافيه، فهَجَم طماعة العراقِ على حاجِّ الشامِّ وفتَكوا فيهم، وقَتَلوا جماعةً ونُهِبَت أموالُهم وسُبِيَت جماعةٌ مِن نسائهم، إلا أنَّهن رُدِدنَ عليهم، وجُرِحَ ابنُ المقدم عِدَّةَ جراحات، وكان يكُفُّ أصحابَه عن القتال، ولو أذِنَ لهم لانتصف منهم وزاد، لكِنَّه راقب اللهَ تعالى، وحُرمةَ المكان واليوم، فلما أُثخِنَ بالجراحاتِ أخذه طاش تكين إلى خيمته، وأنزله عنده ليُمَرِّضَه ويستدرِكَ الفارِطَ في حَقِّه، وساروا تلك الليلةَ مِن عرفات، فلما كان الغدُ مات بمِنًى، ودُفِنَ بمَقبرةِ المُعلَّى.
دخلت سنة سبع وثمانين والسلطان بالخروبة على حصارِ الفرنج، وقَدِمَت عساكر المسلمين من الشرق ومِن بقية البلاد، فرَحَل من الخروبة لاثنتي عشرة بقيت من ربيع الأول إلى تل كيسان وتتابع مجيءُ العساكر. وكملت أبراجُ الفرنج الثلاثة، التي بَنَوها تجاه عكا في مدة سبعة أشهر، وكانت غايةً في القوة والمتانة والارتفاع حتى علت على أسوار البلد، وامتلأت بالعَدَد والعُدَّة، وطَمُّوا كثيرا من الخندق، وضايقوا البلد. واشتَدَّ خَوفُ المسلمين، واشتدت الحربُ بين الفريقين، حتى تمكَّن المسلمون مِن حَرقِ الأبراج الثلاثة بمن فيها من الفرسان، ثم خرج أهل عكا منها، فنَظَّفوا الخندق، وسَدُّوا الثغر، وغَنِموا ما كان في الأبراجِ مِن الحديد، فتَقَوَّوا به، والفرنجُ في غاية الذهول مِمَّا حدث لأبراجهم الثلاثة. وكان بين أسطولِ المصريين وبين مراكب الفرنج عِدَّة معارك، قُتِلَ فيها كثير من الفرنج. ودخل مَلِك الألمان بجيوشه إلى حدود بلاد الإسلام، وقد فَنِيَ منهم كثير، فواقَعَهم عز الدين قلج بن أرسلان السلجوقي، فانكسر منهم، فلَحِقَ به الفرنج إلى قونية وهاجَموها، وأحرقوا أسواقَها، وساروا إلى طرسوس يريدون بيت المقدس، واسترجاع ما أخَذَه منهم السلطان صلاح الدين الأيوبي من البلاد والحصون، فمات بها ملك الألمان, وقام مِن بَعدِه ابنه، فسار إلى أنطاكية. وندب السلطانُ كثيرًا مِمَّن كان معه على حربِ عكا إلى جهة أنطاكية، ووقع فيمن بَقِيَ معه مرض كثير، وأمَرَ بتخريب أسوار طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل، فخرب ذلك كله، ونَقَل من كان فيها إلى بيروت وطمع الفرنجُ في السلطان لقِلَّةِ من بقي معه، فركبوا لحَربِه, فكانت للمسلمين معهم حربٌ، انكسر فيها الفرنجُ إلى خيامهم، وقُتِلَ منهم آلاف، فوَهَنَت قواهم. غيرَ أن المدد أتاهم، ونَصَبوا المجانيقَ على عكا، فتحول السلطانُ إلى الخروبة، وسار ابنُ ملك الألمان عن أنطاكية إلى طرابلس في جيوشِه، وركب منها البحرَ إلى عكا، فوصَلَ إليها سادس رمضان، فأقام عليها إلى أن هَلَك ثاني عشر ذي الحجة، بعدما حارب المسلمينَ، فلم ينَلْ منهم كبيرَ غَرَض. ودخل الشتاءُ وقد طالت مدة- البيكار- الحرب، وضجِرَت العساكر من كثرة القتال، فرحل صاحِبُ سنجار وصاحِبُ الجزيرة وصاحِبُ الموصل.