قال ابنُ كَثيرٍ في تَفسيرِ قولِه تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} هذا كان يومَ حَمراءِ الأسدِ، وذلك أنَّ المشركين لمَّا أصابوا ما أصابوا مِن المسلمين -أي يومَ أُحُدٍ-كَرُّوا راجِعين إلى بلادِهم، فلمَّا استَمرُّوا في سَيْرهِم تَنَدَّمُوا لِمَ لا تَمَّموا على أهلِ المدينةِ وجعلوها الفَيْصلةَ. فلمَّا بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَدَبَ المسلمين إلى الذِّهابِ وراءَهُم ليُرْعِبَهم ويُرِيَهُم أنَّ بهِم قُوَّةً وجَلَدًا، ولم يأذنْ لأَحَدٍ سِوَى مَن حضر الوَقعةَ يومَ أُحُدٍ، سِوَى جابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه فانْتدبَ المسلمون على ما بهِم مِنَ الجِراحِ والإثْخانِ طاعةً لله عزَّ وجلَّ ولِرسولِه صلى الله عليه وسلم. عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّها قالت في قولِه تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} قالت لِعُروةَ: يا ابنَ أُختي، كان أَبَواكَ منهم: الزُّبيرُ، وأبو بكرٍ، لمَّا أصابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما أصابَ يومَ أُحُدٍ، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يَرجِعوا، قال: «مَن يَذهبُ في إثْرِهِم» فانْتدَبَ منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكرٍ، والزُّبيرُ". قال ابنُ كُثيرٍ عَقِبَ ذِكرِ هذا الحديثِ: (وهذا السِّياقُ غريبٌ جِدًّا، فإنَّ المشهورَ عند أصحابِ المغازي أنَّ الذين خرجوا مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى حَمراءِ الأسدِ كُلُّ مَن شَهِدَ أُحُدًا، وكانوا سبعمائةٍ، قُتِلَ منهم سبعون، وبَقِيَ الباقون). والظَّاهرُ أنَّه لا تَخالُف بين قولي عائشةَ وأصحابِ المغازي؛ لأنَّ معنى قولِها: فانْتدَبَ لها سبعون. أنَّهم سبَقوا غيرَهُم، ثمَّ تلاحَق الباقون.
وموقعُ حمراءِ الأسدِ على بُعْدِ ثمانيةِ أَميالٍ مِنَ المدينةِ.
غزا الناصِرُ مدينة طُلَيطلة غَزاتَه الثانيةَ التي فُتِحَ فيها عليه، وكان أهل طليطلة لَمَّا أخذهم الحصار، واشتَدَّ عليهم التَّضييق، ولازمهم القُوَّادُ، استنجدوا بالمشركين، ورَجَوا نصرهم لهم، فلم يغنوا عنهم فتيلًا، ولا كشَفوا عنهم عذابًا، ولا جَلَبوا إليهم إلَّا خِزيًا وهوانا. وخرج القُوَّادُ المُحاصِرون لهم إلى الكَفَرة، فهزموهم وفَرَّقوا جموعهم، وانصرفوا مُوَلِّينَ على أعقابهم، خاذلينَ لِمن انتصر بهم، ورجا الغِياثَ مِن قِبَلِهم، فلما يئس أهلُ طُلَيطِلة أن ينصُرَهم أحدٌ مِن بأس الله الذي عاجَلَهم، وانتقامِه الذي طاوَلَهم، عاذوا بصَفحِ أمير المؤمنين، وسألوه تأمينَهم، وضَرَعوا إليه في اغتفارِ ذنوبهم، فخرج لاستنزالِ أهل طليطلة، وتوطيدِ طاعتِه فيها، وإحكامِ نَظَرِه بها، ثم أمَّنَ أهلَ طُلَيطِلة، وخرجوا إلى العسكَرِ، ونالوا المرافِقَ فيه، وابتاعوا المعايشَ التي طال ما أجهَدَهم عدَمُها، ومنَعَهم الحصارُ منها؛ فعَرَفوا غِبطةَ ما صاروا إليه من الأمنِ بعد الخوفِ، والسَّعةِ إثرَ الضِّيقِ، والانبساطِ بعد طول الانقباضِ، ثم ركب الناصرُ إلى طليطلة في اليومِ الثاني مِن نُزولِه بمَحَلَّتِه عليها، ودخَلها وجال في أقطارها, فرأى مِن حصانتِها، وشَرَفِ قاعدتِها، وانتظامِ الجبال داخِلَ مدينتها، وامتناعِها من كل الجهاتِ بواديها ووَعْرِها، وطِيبِ هوائها وجَوهرِها، وكثرة البشَرِ بها، ما أكثَرَ له من شكْرِ الله عزَّ وجَلَّ على ما منَحَه فيها، وسهَّلَ له منها، وعلم أنَّه لولا ما أخذ به مِن الجِدِّ والعزمِ في أمرها، لَمَا مُلِكَت مع حصانتِها ومَنعتِها, ولِما اعتاده أهلُها من مداخلة المشركينَ ومُوالاتهم، والاستمداد على الخُلَفاء بهم، فكم أعيَتْ طُلَيطِلة الملوكَ، وامتنعت من العساكِرِ، ثم بنى فيها بناءً مُحكَمًا مُتقَنًا؛ ليكونَ مُستقَرًّا للقُوَّادِ الملازمينَ فيها، وملأها رجالًا وعُدَّةً وسِلاحًا. وركب إليها النَّاصِرُ، وأمر بهَدمِ ما وجب هدمُه في المدينة، وترَدَّد عليها ثمانيةَ أيَّامٍ حتى أكمَلَ فيها ما دَبَّرَه، واطمأنت بأهلِ المدينة الدار، ثم قفل الناصِرُ من طليطلة إلى قرطبة، ودخلها لعشرٍ بقين من شعبان، وقد استتَمَّ في غزاته ستة وثلاثين يومًا.
كَثُرَت الفِتَنُ ببغداد بين الشِّيعةِ من أَهلِ الكَرخِ وغَيرِها من المَحالِّ مِن أَهلِ السُّنَّةِ، وقُتِلَ بينهم عَددٌ كَثيرٌ، واستَولَى أَهلُ المَحالِّ على قِطعَةٍ كَبيرةٍ من نَهرِ الدَّجاجِ، فنَهَبوها، وأَحرَقوها، فنَزل شِحْنَةُ بغداد -المسؤول عن ضبط بغداد- وهو خمارتكين النائبُ عن كوهرائين، على دِجلَة في خَيْلِه ورَجِلِه، لِيَكُفَّ الناسَ عن الفِتنةِ، فلم يَنتَهوا، وكان أهلُ الكَرخِ يَجرُون عليه وعلى أَصحابِه الجِراياتِ والإقاماتِ، وفي بعضِ الأيامِ وَصَلَ أَهلُ بابِ البَصرَةِ إلى سُويقَةِ غالبٍ، فخَرجَ مِن أَهلِ الكَرخِ مَن لم تَجرِ عادَتُه بالقِتالِ، فقاتَلوهُم حتى كَشَفوهُ،. فرَكِبَ خَدَمُ الخَليفةِ، والحُجَّابُ، والنُّقَباءُ، وغَيرُهم من أَعيانِ الحَنابِلَةِ، إلى خمارتكين، وساروا معه إلى أَهلِ الكَرخِ، فقَرأَ عليهم كِتابًا من الخَليفةِ يَأمُرهم بالكَفِّ، ومُعاوَدَةِ السُّكونِ، وحُضورِ الجَماعةِ والجُمعةِ، والتَّدَيُّنِ بمَذهبِ أَهلِ السُّنَّةِ، فأجابوا إلى الطاعةِ، فبينما هم كذلك أَتاهُم الصَّارِخُ من نَهرِ الدَّجاجِ بأن السُّنَّةَ قد قَصَدوهُم، والقِتالُ عندهم، فمَضوا مع خمارتكين، ومُنِعوا من الفِتنَةِ، وسَكَنَ الناسُ، وكَتَبَ سُنَّةٌ مِن أَهلِ الكَرخِ على أَبوابِ مَساجِدِهم: "خَيرُ الناسِ بعدَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبو بكرٍ ثم عُمَرُ ثم عُثمانُ ثم عَلِيٌّ، ومِن عند هذا اليومِ ثارَ شِيعَةٌ من أَهلِ الكَرخِ، وقَصَدوا شارعَ ابنِ أبي عَوفٍ ونَهَبوهُ، ورَفعَ العامَّةُ الصُلبانَ وهَجَموا على الوَزيرِ في حُجرَتِه، وأَكثَروا من الكَلامِ الشَّنيعِ، وقُتِلَ ذلك اليومَ رَجلٌ هاشِميٌّ مِن أَهلِ بابِ الأزج بسَهمٍ أَصابَهُ، فثارَ العامَّةُ هناك بعَلَوِيٍّ كان مُقِيمًا بينهم، فقَتَلوهُ وحَرَقوهُ، وجَرَى مِن النَّهْبِ، والقَتْلِ، والفَسادِ أُمورٌ عَظيمةٌ، فأَرسلَ الخَليفةُ إلى سَيفِ الدَّولةِ صَدَقةَ بنِ مزيد، فأَرسلَ عَسكرًا إلى بغداد، فطَلَبوا المُفسِدين والعَيَّارِين، فهَرَبوا منهم، فهُدِمَت دُورُهم، وقُتِلَ منهم ونُفِيَ وسَكنَت الفِتنةُ، وأَمِنَ الناسُ.
لَمَّا ملك الفرنجُ مدينة صور طمعوا وقَوِيَت نفوسهم، وتيقَّنوا الاستيلاءَ على بلاد الشام، واستكثروا من الجموع، ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، فأطمعهم طمعًا ثانيًا، لا سيما في حلب، وقال لهم: إن أهلها شيعة، وهم يميلون إليَّ لأجل المذهب، فمتى رأوني سلموا البلد إلي، وبذل لهم على مساعدته بذولًا كثيرة، وقال: إنني أكون هاهنا نائبًا عنكم ومطيعًا لكم، فساروا معه إليها وحصروها، وقاتلوا قتالًا شديدًا، ووطَّنوا نفوسهم على المقام الطويل، وأنهم لا يفارقونها حتى يملكوها، وبَنَوا البيوت لأجل البرد والحر، فلما رأى أهلها ذلك ضَعُفت نفوسهم، وخافوا الهلاك، وظهر لهم من صاحِبِهم تمرتاش الوهنُ والعجزُ، وقَلَّت الأقوات عندهم، فلما رأوا ما دفعوا إليه من هذه الأسباب أعملوا الرأي في طريق يتخلَّصون به، فرأوا أنه ليس لهم غيرُ قسيم الدولة البرسقي، صاحب الموصل، فأرسلوا إليه يستنجدونه ويسألونه المجيءَ إليهم ليسلِّموا البلد إليه. فجمع عساكره وقصدهم، وأرسل إلى من بالبلد، وهو في الطريق، يقول: إنني لا أقدر على الوصول إليكم، والفرنج يقاتلونَكم، إلَّا إذا سلمتم القلعة إلى نوَّابي، وصار أصحابي فيها، فإنني لا أدري ما يُقَدِّرُه الله تعالى إذا أنا لقيتُ الفرنج، فإن انهزمنا منهم وليست حلب بيدِ أصحابي حتى أحتمي أنا وعسكري بها، لم يبقَ منا أحد، وحينئذ تؤخَذُ حلب وغيرها، فأجابوه إلى ذلك، وسلَّموا القلعة إلى نوابه، فلما استقروا فيها، واستولوا عليها، سار في العساكر التي معه، فلما أشرف عليها رحل الفرنجُ عنها، وهو يراهم، فأراد مَن في مقدمة عسكره أن يحمِلَ عليهم، فمنَعَهم هو بنفسه، وقال: قد كُفِينا شَرَّهم، وحَفِظْنا بلدنا منهم، والمصلحةُ تركُهم حتى يتقرَّر أمر حلب ونُصلِحَ حالها، ونُكثر ذخائرها، ثم حينئذ نقصِدُهم ونقاتِلُهم. فلما رحل الفرنجُ خرج أهل حلب ولقُوه، وفرحوا به، وأقام عندهم حتى أصلح الأمورَ وقَرَّرها.
رحَلَ صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكِرِه جميعِها إلى بلاد الفرنج يريدُ حَصرَ الكرك، والاجتماع مع نور الدين محمود والاتِّفاق على قصد بلاد الفرنج من جِهَتينِ، كل واحد منهما في جهة بعسكرِه، وسبب ذلك أنَّ نور الدين لَمَّا أنكر على صلاح الدين عَودَه من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قَصْدَ مصر وأخْذَها منه، أرسل يعتذر، ويَعِدُ من نفسه بالحركةِ على ما يقَرِّرُه نور الدين، فاستقَرَّت القاعدة بينهما أنَّ صلاح الدين يخرجُ مِن مصر ونور الدين يسيرُ من دمشق، فأيُّهما سبق صاحبَه يقيمُ إلى أن يصِلَ الآخَرُ إليه، وتواعدا على يومٍ معلومٍ يكون فيه وصولُهما، فسار صلاح الدين عن مصر؛ لأن طريقه أصعَبُ وأبعَدُ وأشَقُّ، ووصل إلى الكرك وحصره، وأمَّا نور الدين فإنه لَمَّا وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مِصرَ فَرَّقَ الأموال، وحصَّل الأزواد وما يحتاج إليه، وسار إلى الكرك فوصَلَ إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان. فلما سمع صلاحُ الدين بقُربِه خافه هو وجميعُ أهله، واتَّفَق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين؛ لأنهم علموا أنَّه إن اجتمعا كان عزلُه على نور الدين سهلًا. فلما عاد أرسل الفقيهُ عيسى إلى نور الدين يعتَذِرُ عن رحيله، بأنه كان قد استخلف أباه نجمَ الدين أيوب على ديار مصرَ، وأنَّه مريض شديد المرض، ويخاف أن يَحدُثَ عليه حادث الموت، فتخرج البلاد عن أيديهم، وأرسل معه من التُّحَف والهدايا ما يجِلُّ عن الوصف؛ فجاء الرسولُ إلى نور الدين وأعلَمَه ذلك، فعظم عليه وعَلِمَ المراد من العَود، إلَّا أنه لم يُظهِر للرسول تأثرًا، بل قال له: حِفظُ مِصرَ أهَمُّ عندنا مِن غيرنا، وسار صلاح الدين إلى مصرَ فوجد أباه قد قضى نحْبَه.
غزا أبو يوسُفَ يعقوبُ بنُ عبد المؤمن، صاحِبُ بلاد المغرب والأندلس، بلادَ الفِرنجِ بالأندلُسِ، وسبَبُ ذلك أنَّ ألفونسو مَلِك الفرنج بها، ومَقَرُّ مُلكِه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوبَ كتابًا فحواه أنَّه يريد الإغارةَ على البلادِ والقَتلَ، وأنَّه لا مانع له من ذلك ويستهزئُ بقوة المسلمين ويتَّهِمُهم بالضَّعفِ مع أنَّهم- أي المسلمين- مأمورون بالجهاد، حتى لو كان العدوُّ ضِعفَ العَدَد، واستهزأ بالمَلِك أبي يوسف يعقوب، فلمَّا وصل كتابُه وقرأه يعقوبُ، كتب في أعلاه هذه الآية: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37]، وأعاده إليه، وجمع العساكِرَ العظيمةَ من المسلمينَ وعبَرَ المجاز إلى الأندلس، وقيل: كان سبَبُ عبوره إلى الأندلس أن يعقوبَ لَمَّا قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بَقِيَ طائفة من الفرنج لم تَرْضَ الصلح، فلما كان الآن جَمَعت تلك الطائفة جمعًا من الفرنجِ، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقَتَلوا وسَبَوا وغَنِموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثًا شديدًا، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكِرَ، وعبَرَ المجاز إلى الأندلس في جيشٍ يضيقُ عنهم الفضاء، فسَمِعَت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيَهم ودانيهم، فالتقوا تاسِعَ شعبان شماليَّ قُرطبةَ عند قلعة رياح، بمكانٍ يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فكانت الدائرة أولًا على المسلمين، ثمَّ عادت على الفرنج، فانهزموا أقبحَ هزيمةٍ، وانتصر المسلمون، وغَنِمَ المسلمون منهم شيئًا عظيمًا، ولَمَّا انهزم الفرنج اتَّبَعهم أبو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعةَ رياح، وساروا عنها من الرُّعبِ والخوف، فمَلَكَها وجعل فيها واليًا وجندًا يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية، وأما ألفونسو فإنه لما انهزم حَلَقَ رأسَه، ونكَّسَ صليبَه، ورَكِبَ حمارًا، وأقسَمَ أنْ لا يركب فرسًا ولا بغلًا حتى تُنصَرَ النَّصرانيَّة.
انهزم منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، ومضى هاربًا، فقُتِلَ، وسَبَبُ ذلك أنَّه كان قد ملكَ البلاد، وقتل إيدغمش فأُرسلَ إليه من الديوان الخليفي رسولٌ ينكِرُ ذلك عليه، وكان قد أوحش الأمير أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان، فأرسل الخليفةُ إليه يحَرِّضُه على منكلي ويَعِدُه النصرةَ، وأرسل أيضًا إلى جلال الدين الإسماعيلي، صاحِبِ قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم، ألموت وغيرها، يأمرُه بمساعدة أوزبك على قتال منكلي، واستقرت القواعد بينهم على أن يكون للخليفةِ بعضُ البلاد، ولأوزبك بعضُها، ويعطى جلال الدين بعضَها، فلما استقَرَّت القواعد بينهم على ذلك جهَّزَ الخليفة عسكرًا كثيرًا، وجعل مُقَدَّمَهم مملوكَه مُظفَّر الدين سنقر، الملقب بوجه السبع، فساروا إلى همذان، فاجتمعت العساكرُ كلها فانزاح منكلي من بين أيديهم وتعلَّق بالجبال، وتبعوه، فنزلوا بسفحِ جبل هو في أعلاه بالقرب من مدينة كرج، وضاقت الميرة والأقوات على العسكر الخليفي جميعِه ومن معهم، فحَمَلوا عليه، فلم يثبُت أوزبك، ومضى منهَزِمًا، فعاد أصحابُ منكلي وصَعِدوا الجبَلَ، وعاد أوزبك إلى خيامِه، فطَمِعَ منكلي حينئذ، ونزل من الغدِ في جميع عسكرِه، واصطَفَّت العساكر للحرب، واقتتلوا أشدَّ قتال يكون، فانهزم منكلي وصعد الجبل، واستولى عسكرُ الخليفة وأوزبك على البلاد، فأعطى جلال الدين، ملك الإسماعيلية، من البلاد ما كان استقَرَّ له، وأخذ الباقي أوزبك، فسَلَّمَه إلى أغلمش مملوكِ أخيه. أمَّا منكلي فإنَّه مضى منهزمًا إلى مدينة ساوة، وبها شحنة هو صديقٌ له، فأرسل إليه يستأذنُه في الدخول إلى البلد، فأذن له، وخرج إليه فلقيه وقبَّل الأرضَ بين يديه، وأدخله البلد، وأنزله في داره، ثم أخذ سلاحَه، وأراد أن يقيِّدَه ويُرسِلَه إلى أغلمش، فسأله أن يقتُلَه هو ولا يرسلَه، فقتله، وأرسل رأسَه إلى أوزبك، وأرسله أوزبك إلى بغداد، وكان يومُ دخولها يومًا مشهودًا, ولم يتمَّ فرحة الخليفة ذلك اليوم لموت ولَدِه وولي عهده أبو الحسَنِ علي.
لَمَّا ثبت الفرنج في دمياط بثُّوا سراياهم في القرى يقتلون ويأسرون، فعظُم الخطب واشتدَّ البلاء، وندب السلطانُ الملك الكامل الناسَ وفَرَّقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستصرخون النَّاسَ لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج، وشرع الكاملُ في بناء الحور –خيام من جلد أبيض- والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورةِ، وجهَّزَ الفرنج من حصل في أيديهم من أسارى المسلمين في البحرِ إلى عكا وبرزوا من مدينةِ دمياط يريدون أخذَ مصرَ والقاهرة، فنازلوا السلطان تجاه المنصورة، واجتمع الناسُ من أهل مصر وسائر النواحي ما بين أسوان إلى القاهرة، ونودِيَ بالنفير العام، وألَّا يبقى أحد, وذكروا أن مَلِكَ الفرنج قد أقطع ديارَ مصر لأصحابه, وأنزل الكامِلُ على ناحية شار مساح ألفي فارس، في آلاف من العربان، ليحولوا بين الفرنج وبين مرادِهم، وسارت الشواني- ومعها حراقة كبيرة- إلى رأس بحر المحلة، وعليها الأميرُ بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرةُ عن الفرنج من البر والبحر، وقَدِمَت النجدات للملك الكافي من بلاد الشام، وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدَدَ الفرنج على دمياط فوافى دمياط منهم طوائفُ لا يحصى لهم عدد فلما تكاملَ جمعُهم بدمياط خرجوا منها، وقد زُيِّنَ لهم سوءُ عمَلِهم أن يملكوا أرض مصر، ويستولوا منها على مماليكِ البسيطة كلها، فلما قدمت النجدات من المسلمين هال الفرنجَ ما رأوا، وكان قدومُ هذه النجدات في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة، وتتابع قدوم النجدات حتى بلغ عدد فرسان المسلمين نحو الأربعين ألفًا، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة- سفن حربية ضخمة- وأسروا منهم ألفين ومائتي رجل، ثم ظفروا أيضًا بثلاث قطائع فتضعضع الفرنجُ لذلك، وضاق بهم المقام، وبعثوا يسألون في الصُّلحِ.
بعد أن انتهى السلطان الظاهر بيبرس من أمر طرابلس وعاد إلى حماة واجتمعت فيه أمراؤه، فأصبح أول شهر رمضان والسلطان مغير على أنطاكية، وأطافت العساكرُ بها من كل جانب، فتكمَّلوا بخيامهم في ثالثه، وبعث السلطان إلى الفرنج يدعوهم وينذرهم بالزحف عليهم، وفاوضهم في ذلك مدة ثلاثة أيام وهم لا يجيبونَ، فزحف عليهم وقاتلهم قتالًا شديدا، وتسَوَّر المسلمون الأسوار من جهة الجبل بالقرب من القلعة، ونزلوا المدينة ففر أهلُها إلى القلعة، ووقع النهبُ والقتل والأسر في المدينة، فلم يُرفَعِ السيف عن أحد من الرجال وكان بها فوقَ المائة ألف، وأحاط الأمراءُ بأبواب المدينة حتى لا يفِرَّ منها أحد، واجتمع بالقلعة من المقاتلة ثمانيةُ آلاف سوى النساء والأولاد، فبعثوا يطلبونَ الأمان فأمِّنوا، وصَعِدَ السلطان إليهم ومعه الحبال، فكُتِّفوا وفُرِّقوا على الأمراء، والكتَّاب بين يدي السلطان ينزلون الأسماءَ، وكانت أنطاكية للبرنس بيموند بن بيموند، وله معها طرابلس، وهو مقيم بطرابلس وكتبت البشائرُ بالفتح إلى الأقطار الشامية والمصرية والفرنجية، وسلمَ السلطان القلعة إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار- ممسك خزانة المال- والأمير بدر الدين بيسري الشمسي، وأمر بإحضار المغانم لتقتسم، وركب وأبعد عن الخيام وحَمَل ما غَنِمَه وما غنمته مماليكُه وخواصه، وأقام السلطان يومين وهو يباشر القِسمةَ بنفسه، وما ترك شيئًا حتى قسَّمَه ثم ركب السلطان إلى القلعة وأحرقها، وعم بالحريقِ أنطاكية، فأخذ الناسُ من حديد أبوابها ورصاص كنائسِها ما لا يوصف كثرةً، وأقيمت الأسواق خارج المدينة، فقَدِمَ التجَّار من كل جهة، وكان بالقرب من أنطاكية عدَّةُ حصون، فطلب أهلُها الأمان، فتوجه إليهم الأمير بيليك الأشرفي وتسلمها في الحادي عشر، وأسر من فيها من الرجال، ورحل السلطان من أنطاكية إلى شيزر، ثم سار السلطانُ من حمص إلى دمشق، فدخلها في السادس عشر والأسرى بين يديه.
وفي يومِ الجُمُعةِ العاشِرَ من شعبان قُرِئَ بالجامع الكتابُ السلطانيُّ الوارِدُ باعتقال شيخ الإسلامِ ابن تيمية، وهذه الواقِعةُ سَببُها فُتيا وُجِدَت بخطِّه في السَّفَرِ وإعمالِ المطِيِّ إلى زيارةِ قُبورِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقبورِ الصالحين، وفي يوم الأربعاء مُنتصَفَ شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي في حبسِ جماعةٍ مِن أصحاب الشيخِ تقي الدين ابن تيمية في سِجنِ الحكم، وذلك بمرسومِ نائب السلطنة وإذنِه له فيه، فيما تقتضيه الشريعةُ في أمرهم، وعُزِّرَ جماعة منهم على دوابَّ، ونودي عليهم ثمَّ أُطلِقوا، سوى شمسِ الدين محمد بن قيِّم الجوزيَّة؛ فإنَّه حُبِسَ بالقلعة، وفي يوم الاثنين عند العصر سادس عشر شعبان تم اعتقال الشيخ الإمام العالم العلَّامة تقيُّ الدين ابن تيمية بقلعة دمشق، حضَرَ إليه من جهة نائب السلطنة تنكز وابن الخطيري أحد الحجاب بدمشق، وأخبراه أنَّ مرسومَ السلطان ورد بذلك، وأحضرا معهما مركوبًا لِيَركَبَه، وأظهر السرورَ والفرح بذلك، وقال: أنا كنت منتَظِرًا لذلك، وهذا فيه خير كثيرٌ ومصلحة كبيرة، وركبوا جميعًا من داره إلى بابِ القلعة، وأُخلِيَت له قاعة وأجري إليها الماءُ ورُسِمَ له بالإقامةِ فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدُمُه بإذن السلطانِ، ورُسِمَ له ما يقومُ بكفايته، والسَّبَبُ في كل ذلك هو أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية حَرَّم إعمالَ المطِيِّ لزيارة القبورِ بناءً على قَولِه صلَّى الله عليه وسلم: ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ)) ثم إنَّ مُناوئي الشيخ وأعداؤه أشاعوا عنه أنَّه يقول بحُرمةِ زيارة القبور عمومًا، والشيخُ كما هو معلوم من فتاويه وكُتُبِه أنَّه لا يقولُ بحُرمةِ الزيارةِ مُطلقًا إنَّما يقول: يحرُمُ شَدُّ الرَّحلِ والسَّفَرُ لأجلِ زيارة القبور، أمَّا زيارتها من غير سَفَرٍ ولا شَدِّ رَحلٍ فيقولُ بسُنِّيَّتِه.
قُتِلَ ياسور أحَدُ ملوك المغول وقتَ رَميِ الجمرات، وكان من خَبَرِه أنَّ مَلِكَ الشرق أبا سعيد بن خربندا المغولي لما قُتِل جوبان أراد إقامةَ ياسور لأنه من عظماء القان التتر، فخُوِّفَ من شجاعته، وأنَّ جوبان كان يريد إقامتَه في الملك، فنَفَر منه أبو سعيد، ثم إنَّه استأذنه في الحَجِّ فأَذِنَ له، وقام له بما يليقُ به، ثم طلب أبو سعيد من المجدِ السلامي وكتب إلى السلطانِ يُعَرِّفُه بأمر ياسور، ويخوِّفُه منه أن يجتَمِعَ عليه المغول، ويسألُه قَتْلَه، فدفع السلامي كتاب أبي سعيد إلى مملوكِه قطلوبك السلامي فقَدِمَ على السلطان أول ذي القعدة من السنة الماضية، فأركَبَه السلطان النجيبَ في عاشِرِه إلى مكة، ومعه كتابٌ إلى الأمير برسبغا الحاجب وقد حَجَّ من مصر بطَلَبِ الشريف رُمَيثة وموافقته سرًّا على قتل ياسور، فقَدِمَ قطلوبك مكة أول ذي الحجة، فلم يوافِقْ رُمَيثة على ذلك، واعتذر بالخوفِ، فأعد برسبغا بعضَ نجابته من العُربان لذلك، ووعده بما ملأ عينَه، فلما قضى الحاجُّ النُّسُكَ من الوقوف والنحر، ورَكِبَ ياسور في ثاني يوم النحر لرميِ الجمار، ركب برسبغا أيضًا فعندما قارب ياسور الجَمرةَ وثب عليه النجاب، وضَرَبه فألقاه إلى الأرضِ، وهرب نحو الجَبَل، فتبعه مماليكُ برسبغا وقتلوه أيضًا، خشيةً مِن أن يَعتَرِفَ عليه، فاضطرب حجَّاجُ العراق وركبت فرسانُهم وأخذوا ياسور قتيلًا في دمائه، وساروا إلى برسبغا منكرينَ ما حلَّ بصاحِبِهم، فتبرَّأَ برسبغا من ذلك وأظهر الترحُّمَ عليه، وقَرَّر عندهم أن هذا الذي قتَلَ هو مَن له عليه ثأرٌ أو أحَدُ غرمائه، وإنكم كُفِيتُم أمْرَه، فإني أخذتُ لكم بثأرِه وقَتْلِ قاتله "، فانصرفوا عنه وفي نفوسِهم منه شيء، وما زالوا له بالمرصاد وهو منهم محتَرِزٌ منهم حتى افترق ركبُ الحاجِّ العراقيين من المصريِّين بالمدينة النبوية، فأمِنَ برسبغا على نفسِه.
اجتمَعَ جماعةٌ من رؤوس النصارى في كنيستِهم وجَمَعوا من بينهم مالًا جزيلًا فدَفَعوه إلى راهبينِ قَدِما عليهما من بلاد الروم، يُحسِنانِ صَنعةَ النِّفطِ، اسم أحدِهما ملاني، والآخر عازر، فعملا كحطًا من نفط، وتلطَّفا حتى عملاه لا يظهَرُ تأثيرُه إلا بعد أربع ساعات وأكثر من ذلك، فوُضِعا في شقوق دكاكين التجَّار بسوق الرجال في عدَّة دكاكين من آخِرِ النهار، بحيث لا يشعُرُ أحَدٌ بهما، وهما في زي المُسلِمينَ، فلما كان في أثناء الليل لم يشعُرِ النَّاسُ إلا والنَّارُ قد عَمِلَت في تلك الدكاكين حتى تعلَّقَت في درابزينات المأذنة الشرقيَّة المتَّجِهة للسوق المذكور، وأحرَقَت الدرابزينات، وجاء نائب السلطنة تنكز والأمراء أمراء الألوف، وصَعِدوا المنارة وهي تشتَعِلُ نارا، واحترسوا عن الجامِعِ فلم ينَلْه شيءٌ من الحريق ولله الحمد والمنة، وأمَّا المئذنة فإنها تفَجَّرت أحجارُها واحترقت السقَّالات التي تدُلُّ السلالم وأعيدَ بناؤها بحجارةٍ جُدُدٍ، وهي المنارة الشرقية التي جاء في الحديثِ أنَّه يَنزِلُ عليها عيسى بن مريم، والمقصودُ أنَّ النصارى بعد ليالٍ عَمَدوا إلى ناحية الجامع من المغرب إلى القيسارية بكمالِها، وبما فيها من الأقواس والعُدَد، وتطاير شَرَرُ النار إلى ما حول القيسارية- السوق الكبير- من الدُّورِ والمساكن والمدارِس، واحترق جانِبٌ من المدرسة الأمينية إلى جانب المدرسة المذكورة وما كان مقصودُهم إلَّا وصول النار إلى مَعبَد المسلمين، فحال اللهُ بينهم وبين ما يرومون، وجاء نائبُ السلطنة والأمراء وحالوا بين الحريقِ والمسجِدِ، جزاهم اللهُ خَيرًا، ولَمَّا تحقق نائِبُ السَّلطنةِ أنَّ هذا مِن فِعلِهم أمَرَ بمَسكِ رؤوس النصارى فأَمسَكَ منهم نحوًا من ستين رجلًا، فأُخِذوا بالمُصادَرات والضَّربِ والعقوبات وأنواع المَثُلاتِ، ثمَّ بعد ذلك صُلِبَ منهم أزيدُ مِن عَشرةٍ على الجمال، وطاف بهم في أرجاءِ البلاد وجَعلوا يتماوتون واحِدًا بعد واحد، ثمَّ أُحرِقوا بالنارِ حتى صاروا رمادًا لَعَنَهم اللهُ.
في السابِعِ والعشرين من جمادى الأولى ورَدَ الخبَرُ إلى دمشق بأن الفرنجَ استحوذوا على مدينة صفد، قدموا إليها في سبعة مراكب وقتلوا طائفةً مِن أهلها ونهبوا شيئًا كثيرًا وأسَرُوا أيضًا، وهجموا على الناس وقت الفجرِ يوم الجمعة، وقد قَتَل منهم المسلمون خلقًا كثيرًا وكَسَروا مركبًا من مراكبهم، وجاء الفرنجُ في عشية السبت قبل العصر، وقَدِمَ الوالي وهو جريحٌ مُثقَلٌ، وأمر نائِبَ السلطنة عند ذلك بتجهيز الجيش إلى تلك الناحية، فساروا تلك الليلة ولله الحمد، وتقَدَّمهم حاجب الحجاب وتحدَّر إليه نائب صفد الأمير شهاب الدين بن صبح، فسبق الجيشُ الدمشقيُّ، ووجد الفرنجَ قد برزوا بما غَنِموا من الأمتعة والأسارى إلى جزيرةٍ تِلقاءَ صيدا في البحر، وقد أسر المسلمونَ منهم في المعركة شيخًا وشابًّا من أبناء أشرافهم، وهو الذي عاقهم عن الذَّهاب، فراسلهم الجيشُ في انفكاك الأُسارى من أيديهم، فبادرهم عن كلِّ رأس بخمسمائة فأخذوا من ديوان الأسارى مبلغ ثلاثين ألفًا، ولم يبقَ معهم- ولله الحمد- أحَدٌ، واستمر الصبيُّ من الفرنج مع المسلمين، وأسلم ودفَعَ إليهم شيخ الجريح، وعطش الفرنج عطشًا شديدًا، وأرادوا أن يرووا من نهر هناك فبادرهم الجيش إليه، فمنعوهم أن ينالوا منه قطرة واحدةً، فرحلوا ليلة الثلاثاء منشمرينَ بما معهم من الغنائم، وبُعِثَت رؤوس جماعة من الفرنج ممَّن قتِلَ في المعركة فنُصِبَت على القلعة بدمشق، وجاء الخبَرُ في هذا الوقت بأن إيناس قد أحاط بها الفرنج، وقد أخذوا الربيضَ وهم محاصِرونَ القلعة، وفيها نائب البلد، وذكروا أنهم قتلوا خلقًا كثيرًا من أهلها وذهب صاحِبُ حلب في جيشٍ كثيف نحوَهم، وفي يوم السبت رابع جمادى الآخرة قَدمَ رؤوس من قتلى الفرنج على صيدا، وهي بضعٌ وثلاثون رأسًا، فنُصِبَت على شرافات القلعة، ففرح المسلمون بذلك، ولله الحمد.
لما أحرز العثمانيون الانتصاراتِ العديدةَ في المُدَد القصيرة، خاف ملوك أوروبا وخاصة ملك المجر الذي استغاث بالبابا والملوك، فأعلنها البابا حربًا صليبية دعا إليها الملوكَ؛ فاستجاب دوق بورغونيا شرق فرنسا، وأمراء النمسا وبافاريا قرب ألمانيا، وفرسان القديس يوحنا الذين كانوا يومها بمالطة، فسار الجميع يقودُهم ملك المجر "سيجموند الأول"، وبلغ قوامهم 120 ألف جندي مجتازين نهر الدانوب، وحاصروا مدينة نيكوبلي شمالي بلغاريا، وفاجأهم الجيش العثماني بقيادة السلطان بايزيد الأول ومعه مائتا ألف مقاتل، ومعه أيضًا أمير الصرب اصطفان بن لازار، ومعه كثير من الشعوب النصرانية الخاضعة للحماية العثمانية، فكان اللقاءُ بين الجيشين يوم 23 ذي القعدة سنة 800 (27 سبتمبر سنة 1396)، وقاتلهم قتالًا عنيفًا كانت نتيجتها انتصار العثمانيين على الجيوش المتألِّبة عليهم، وأسر كثير من أشراف فرنسا، منهم الكونت دي نيفر نفسه، وقُتِل أغلبهم وأُطلِقَ سراح الباقي، والكونت دي نيفر بعد دفع فداء اتُّفِق على مقداره. ويُقال إن السلطان بايزيد لما أطلق سراح الكونت دي نيفر وكان قد ألزم بالقَسَم على ألا يعود لمحاربته قال له: إني أجيز لك ألَّا تحفظ هذا اليمين؛ فأنت في حِلٍّ من الرجوع لمحاربتي؛ إذ لا شيء أحب إلي من محاربة جميع مسيحيي أوروبا والانتصار عليهم!! هذا وقد شدَّد الحصار بعد ذلك على مدينة القسطنطينية، ولولا إغارة تيمورلنك المغولي على بلاد آسيا الصغرى لتمكَّن السلطان بايزيد من فتحها، لكن الأمور مرهونة بأوقاتها، فاكتفى بإبرام الصلح مع ملكها هذه المرة بشرط دفع عشرة آلاف ذهب سنويًّا من عملة وقتها، وأن يجيز للمسلمين أن يبنوا بها جامعًا لإقامة شعائر الدين الحنيف، وأن تُقام لهم محكمة شرعية للنظر في قضايا المستوطِنين بها منهم.
تدفقت بعض القبائل المغربية وخاصة قبائل لمطة إلى الضفة اليسرى لنهر النيجر عند مدينة دندي، وسيطرت هذه القبائل على الزرَّاع من أهل صنغي الذين رحَّبوا بهم ليحموهم من الصيادين الذين كانوا يعتدون عليهم، ونجح هؤلاء الوافدون الجدد في تكوين أسرة حاكمة استفادت من علاقاتها التجارية مع غانة وشمال أفريقيا، وكان لهذه العلاقة أثر بعيد في تحويل ملوك صنغي إلى الإسلام وانتشاره في غربي قارة أفريقيا. كانت صنغاي في بداية أمرها دويلة صغيرة تحت حكم مالي غرب نهر النيجر في المنطقة الواقعة شمال بنين وغربي نيجيريا، ثم انتقلت مع نهر النيجر إلى الشمال وانتقلت معها عاصمتها، فكانت في البداية في دندي ثم كوكيا ثم رأى ملوك الصنغاي أن ينقلوا حاضرة ملكهم إلى جاو لتكون على مقربة من طرق القوافل الرئيسية, ولما كانت الصنغاي تحت حكم مالي قد قدمت رهائن لضمان بقاء خضوعها، ولكن لم يلبث الرهائن وهما ولدا الملك صنغاي زايا سبيًا- وولداه هما علي كولن وسليمان نار- وكانا طفلين يوم أخذا كرهائن، ثم لما كَبِرا استطاعا الفرار من مالي ووصلا إلى جاو وأنقذا مدينتهما من الحامية المالية، وأسَّسا مملكة جديدة أخذت تتوسع على حساب مملكة مالي التي بدأ الضعف يدب فيها، وكان علي كولن أول ملوك الدولة الجديدة، لكنه مات فخلفه أخوه سليمان نار، ثم عادت مملكة صنغاي تتبع اسميًّا لمالي، ولكن ما زال أمر الصنغاي يقوى، وقام ملكهم محمد دوغو بحملة ضد مالي واستطاع أن يتخلص من سيطرة الماليين عليهم، ثم خلفه ابنه سني علي الذي يعد مؤسس مملكة صنغاي المنفصلة؛ حيث احتل مدينة تومبكتو وطرد الطوارق منها، كما أخضع منطقة النيجر كلها مستوليًا على مدينة جني باسطًا نفوذه على منطقة ياتنغا مقر قبائل الموش، فكان هذا العمل إعلان قيام مملكة صنغاي المنفصلة.