دعت الحُكومةُ الأندونيسيَّةُ إلى عقدِ مؤتمر للأديان في جاكرتا عام 1387هـ / 1967م فلبَّى الدعوةَ مَن وُجِّهت إليهم، وعُقِدَ المؤتمر في دار المجلس الاستشاري الأعلى ووجَّه فيه الرئيسُ سوهارتو نداءً إلى أتباع الأديان؛ كي يركِّزَ كُلٌّ منهم اهتمامَه التامَّ على مهمة تصعيد مستوى الوعيِ الدينيِّ في أبناء طائفته، وأن يحرصوا على الحيلولة دونَ أن تُحِسَّ طائفة من الطوائف أنَّها مُعَرَّضة لدعايات طائفة أخرى ومُستهدَفة لنشاطها، وقدَّم الجانبُ الإسلامي في المؤتمر أسلوبًا للتراضي، وقد صِيغَ في مشروع ميثاق بين الأديان ملبيًّا نداءَ الرئيس سوهارتو، ولكِنَّ الجانب النصراني -سواء كان الكاثوليكي أو البروتستانتي- قد قابل ذلك المشروعَ بالرَّفض التام، على الرغم من أنَّ النصارى أقلِّيَّة وقد سُوُّوا بالأكثرية المُطلَقة!
كان الأفضلُ أمير الجيوش بمصر قد أنفذ مملوكًا لأبيه -لَقَبه سعد الدولة، ويعرف بالطواشي- إلى الشام لحرب الفرنج، فلقِيَهم بين الرملة ويافا، ومقَدَّم الفرنج يعرف ببغدوين، تصافوا واقتتلوا، فحملت الفرنج حملةً صادقة، فانهزم المسلمون، فلما كانت هذه الوقعة انهزم سعد الدولة، فتردى به فرسه فسقط ميتًا، وملك الفرنجُ خيمتَه وجميعَ ما للمسلمين. فأرسل الأفضلُ بعده ابنَه شرف المعالي في جمعٍ كثير، فالتقوا هم والفرنج بالقرب من الرملة، فانهزم الفرنج، وقُتِل منهم مقتلةٌ عظيمة، وعاد من سلم منهم مغلولين، فلما رأى بغدوين شدة الأمر، وخاف القتل والأسر؛ ألقى نفسه في الحشيش واختفى فيه، فلما أبعد المسلمون خرج منه إلى الرملة. وسار شرف المعالي بن الأفضل من المعركة، ونزل على قصر بالرملة، وبه سبعمائة من أعيان الفرنج، وفيهم بغدوين، فخرج متخفيًا إلى يافا، وقاتل ابن الأفضل من بقي من الفرنج خمسة عشر يومًا، ثم أخذهم، فقتل منهم أربعمائة صبرًا، وأسر ثلاثمائة إلى مصر. ثم اختلف أصحابُه في مقصدهم، فقال قوم: نقصِدُ بيت المقدس ونتملَّكُه، وقال قوم: نقصد يافا ونملكها، فبينما هم في هذا الاختلاف إذ وصل إلى الفرنج خلق كثير في البحر قاصدين زيارة البيت المقدس، فندبهم بغدوين للغزوِ معه، فساروا إلى عسقلان، وبها شرف المعالي فلم يكن يقوى بحربهم، فلطف الله بالمسلمين، فرأى الفرنجُ البحرية حصانة عسقلان، وخافوا البيات، فرحلوا إلى يافا، وعاد ولد الأفضل إلى أبيه، فسيَّرَ رجلًا يقال له تاج العجم في البر، وهو من أكبر مماليك أبيه، وجهز معه أربعة آلاف فارس، وسيَّر في البحر رجلًا يقال له القاضي ابن قادوس، في الأسطول على يافا، ونزل تاج العجم على عسقلان، فاستدعاه ابن قادوس إليه ليتفقا على حرب الفرنج، فقال تاج العجم: ما يمكنني أن أنزل إليك إلا بأمر الأفضل، ولم يحضر عنده ولا أعانه، فأرسل ابن قادوس إلى قاضي عسقلان وشهودها وأعيانها، وأخذ خطوطهم بأنه أقام على يافا عشرين يومًا، واستدعى تاج العجم فلم يأتِه ولا أرسل رجلًا، فلما وقف الأفضل على الحال أرسل من قبض على تاج العجم وأرسل رجلًا لقبه جمال الملك، فأسكنه عسقلان، وجعله متقَدِّم العساكِرِ الشامية.
كان أوَّلَ مَن أظهرَ إسلامَه سبعةٌ: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعمَّارٌ، وأمُّهُ سُميَّةُ، وصُهيبٌ، وبلالٌ، والمقدادُ، فأمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمنعهُ الله بعمِّه أبي طالبٍ، وأمَّا أبو بكرٍ فمنعهُ بقومِه، وأما سائرهُم فأخذهُم المشركون فألبسوهُم أَدراعَ الحديدِ وصَهروهُم في الشَّمسِ، فما منهُم إلَّا مَن واتاهُم فيما أرادوا وأَوْهَمهُم بذلك إلَّا بلالًا، فإنَّه هانتْ عَليهِ نفسُه في الله عزَّ وجلَّ، وهان على قومِه فأخذوه، وأعطوه الوِلدانَ، فجعلوا يطوفون به في شِعابِ مكَّة، وهو يقولُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ. فجعلوا في عُنقهِ حبلًا، ودفعوه إلى الصِّبيانِ يلعبون بهِ، حتَّى أثَّر في عُنقهِ، وكان بلالٌ لبعضِ بني جُمَحٍ، وكان الذي يتولَّى كِبْرَ تَعذيبهِ أُميَّةُ بنُ خَلفٍ، فكان يُخرجهُ إذا حَمِيَتِ الظَّهيرةُ، فيَطرَحهُ على ظَهرهِ في بَطحاءِ مكَّة، ثمَّ يأمرُ بالصَّخرةِ العظيمةِ فتوضعُ على صدرهِ. ثمَّ يقولُ له: لا تزالُ هكذا حتَّى تموتَ أو تكفرَ بمحمَّدٍ وتعبدَ اللَّاتَ والعُزَّي. فيقولُ وهو في هذا العذابِ والبلاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وكأنَّما كان يزيدُه عذابُه وبلاؤُه إيمانًا فوق إيمانٍ، ورقَّ له أبو بكرٍ حين رآهُ يومًا في هذا الهوانِ الشَّديدِ، فاشتراهُ وأعتقهُ، وأعتقَ معه سِتًّا ممَّن كانوا يُعذَّبون على الإسلامِ.
قَدِمَ إلى أرض عجلون شخص يُسمَّى عثمان بن أحمد بن عثمان بن محمود بن محمد بن علي بن فضل بن ربيعة، يعرف بابن ثقالة، من فقهاء دمشق، وادعى أنه السفياني، وظهر بقرية الجيدور وحلَّف أهل البلاد وأقطع الإقطاعات، وأمَّر عدة من الناس، وقال: أنا السلطان الملك الأعظم السفياني، فاجتمع عليه خلق كثير؛ من عرب وترك وعشير، بألوية خضر إلى وادي إلياس من جبل عوف بمعاملة عجلون، وبثَّ كتُبَه، ووقَّع عليها تحت البسملة السفياني، ونصها: إلى حضرة فلان أن يجمع فرسان هذه الدولة السلطانية، الملكية، الإمامية، الأعظمية، الربانية، المحمدية، السفيانية، أعلاها الله تعالى وشرَّفها، وأنفذها في الآفاق، وصرَّفها، ويحضروا بخيلهم ورجالهم وعددهم، مهاجرين إلى الله ورسوله، ومجاهدين في سبيل الله تعالى، ومقاتلين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، والاعتماد على العلامة الشريفة أعلاه أعلاها الله تعالى. ثم دخل أرض عجلون في تاسع ربيع أول، بعسكر كبير، فيه سلاح دارية، وطبر دارية، فأقطع الإقطاعات، وكتب على القصص، يكتب كما يكتب السلطان، فقَبَّل الناس الأرض بين يديه في ساعة واحدة، وهم زيادة على خمسمائة رجل، في وقتٍ واحد معًا، وخُطِب له على منبر عجلون، فقيل: السلطان الملك الأعظم السفياني، ونادى ببلاد عجلون أن مغلَّ هذه السنة يسامح به الناس فلا يؤخذُ منهم منه، وفيما بعدها يؤخَذُ منهم العشر فقط، ويترك أخذ الخراج وأخذ المكس، فإن حكم التركِ قد بَطَل، ولم يبقَ إلا حكم أولاد الناس، فثار عند ذلك غانم الغزاوي به، وجهز إليه طائفة طرقوه وهو بالجامع وقاتلوه، وقبضوا عليه، وعلى ثلاثة من أصحابه، بعدما ركب وقاتلهم، فاعتُقل الأربعة بقلعة عجلون، وكتب بالخبر إلى السلطان، فنقله إلى قلعه صفد، واعتقله بها.
مات المَلِكُ المسعود يوسف بن الملك الكامل بمكة، وكانت مدة ملكه باليمن أربع عشرة سنة، وهو آخر ملوك بني أيوب ببلاد اليمن، وترك المسعود ابنًا يقال له صلاح الدين يوسف، ولُقِّب بالملك المسعود، لقبَ أبيه، وبقي يوسف هذا حتى مات في سلطنة عَمِّه الملك الصالح نجم الدين أيوب، صاحب مصر، ثم ولي ابنُه موسى بن يوسف بن يوسف بن الكامل مملكة مصر، ولُقِّبَ بالأشرف، وكان المسعود قد استخلف على اليمن نورَ الدين علي بن رسول التركماني، فتغلَّبَ عليها، وبعث إلى الملك الكامل عدةَ هدايا، وقال: أنا نائب السلطان على البلاد، فاستمَرَّ ملك اليمن في عقبه بعد ذلك.
هو ملك التتار، وصاحِبُ العراق والجزيرة وخراسان وغير ذلك، أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكيزخان, ويقال: اسمه أباقا، كان مقدامًا شجاعًا، عالي الهمة، لم يكن في إخوتِه مِثلُه، وهو على دينِ التتار لم يدخل في الإسلام، وكان ذا رأيٍ وحزم وخبرةٍ بالحرب، ولما توجَّه أخوه منكوتمر بالعساكِرِ إلى الشام لم يكن ذلك بتحريضِه، بل أشير عليه فوافق. قال الذهبي: "كان كافِرَ النفس، سفاكًا للدماء، قتل في الروم خلقًا كثيرًا؛ لكونهم دخلوا في طاعة الملك الظاهرِ، وفرحوا بمجيئه إليهم، وقد نفذ الملك الظاهر إليه رسُلَه وهديه" قال ابن عبد الظاهر في السيرة: "وصِفَتُه أنه شاب أسمر أكحل، ربع القامة، جهوري الصوت، فيه بحة يسيرة، عليه قباء نفطي رومي، وسراقوج بنفسجي، تزوج زوجةَ أبيه ألجي خاتون وهي كهلة" هلك أباقا بنواحي همذان عن نحو خمسين سنة، منها مدة ملكه سبع عشرة سنة، وقام في الملك بعده أخوه تكدار بن هولاكو، الذي اعتنق الإسلامَ بعد ذلك وتسمَّى بأحمد ولَقَّب نفسه بالسلطان فانقلبت بعد ذلك سياسةُ الدولة الإيلخانية ناحية بلاد الإسلام، وكان قد أرسل رسالة إلى السلطان قلاوون يُعلِمُه بإسلامه وما قام به من بناء المساجد والمدارس والأوقاف وتجهيز الحُجَّاج، وطلب منه كذلك العمَلَ على اجتماع الكلمة لإخماد الحروب والفِتَن والتحالُفِ ضدَّ الصليبيينَ.
هو الحُسين بن منصور بن محمى الحلَّاج أبو مغيث، ويقالُ أبو عبد الله، كان جَدُّه مَجوسيًّا اسمُه محمى من أهل فارس، ونشأ بواسط، ويقال بتُستر، ودخل بغداد وتردَّدَ إلى مكة وجاور بها في وسطِ المسجدِ في البَردِ والحَرِّ، مكث على ذلك سنواتٍ متفرقةً، وكان يصابِرُ نَفسَه ويُجاهدُها، وقد صَحِبَ جماعةً من سادات المشايخ الصوفيَّة، كالجُنَيد بن محمد، وعمرِو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري، قال الخطيبُ البغدادي: "والصوفيَّةُ مختَلِفون فيه، فأكثَرُهم نفى أن يكونَ الحلَّاج منهم، وأبى أن يَعُدَّه فيهم، وقَبِلَه مِن متقَدِّميهم أبو العبَّاس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصَحَّحوا له حالَه، ودوَّنوا كلامَه، حتى قال ابن خفيف: الحُسين بن منصور عالمٌ ربَّاني، وقال الخطيب: والذين نَفَوه من الصوفية نسبوه إلى الشَّعبذة في فِعلِه، وإلى الزَّندقة في عقيدتِه، وله أصحابٌ يُنسَبون إليه، ويَغلُونَ فيه. وكان للحلاجِ حُسنُ عبارة، وحَلاوةُ منطقٍ، وشعرٌ على طريقةِ التصوُّفِ"، فأمَّا الفقهاء فحُكِيَ عن غيرِ واحدٍ من العلماء والأئمة إجماعُهم على قتلِه، وأنَّه قُتِل كافِرًا، وكان كافرًا مُمخرَقًا مُمَوِّهًا مشعبِذًا، وبهذا قال أكثَرُ الصوفيةِ فيه، وقال سفيان بن عيينة: "من فسَدَ مِن عُلَمائنا كان فيه شبَهٌ من اليهود، ومن فسدَ مِن عُبَّادِنا كان فيه شبَهٌ من النصارى، ولهذا دخلَ على الحلَّاجِ الحُلولُ والاتِّحادُ، فصار من أهل الانحلالِ والانحرافِ"، وقد روِيَ من وجهٍ أنَّه تقلَّبَت به الأحوالُ وترَدَّدَ إلى البلدان، وهو في ذلك كلِّه يُظهِرُ للناس أنَّه من الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وصحَّ أنَّه دخل إلى الهند وتعلَّمَ بها السحرَ، وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهلُ الهند يكاتِبونَه بالمُغيثِ- أي أنَّه مِن رجالِ المُغيث - ويكاتِبُه أهل تركستان بالمقيتِ، ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزَّاهد، وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلَّاج الأسرار، ومما يدلُّ على أنه كان ذا حلولٍ في بدء أمره أشياءُ كثيرة، منها شعرُه في ذلك، فمن ذلك قولُه: "جبلت روحَك في روحي كما * يجبل العنبرُ بالمسك الفنق فإذا مسَّكَ شيءٌ مَسَّني * وإذا أنت أنا لا نفترق. وقوله: مُزِجَت روحُك في روحي كما * تُمزَجُ الخمرة بالماء الزلال، فإذا مسَّكَ شيءٌ مسَّني * فإذا أنت أنا في كلِّ حال"، وقد كان الحلاج يتلوَّنُ في ملابسِه، فتارةً يلبَسُ لباس الصوفية وتارة يتجَرَّدُ في ملابس زريَّة، وقد اتفق علماءُ بغداد على كُفرِ الحلَّاج وزندقتِه، وأجمعوا على قَتلِه وصَلبِه. حين أُحضِرَ الحَلَّاجُ في المرة الأولى سُئل عنه أبو بكر محمَّد بن داود الظاهريُّ- قبل وفاة- فقال: "إن كان ما أنزل اللهُ على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم حقًّا فما يقولُه الحلَّاجُ باطِلٌ" وكان شديدًا عليه، وقال أبو بكر الصولي: "قد رأيت الحلَّاجَ وخاطبتُه، فرأيته جاهلًا يتعاقلُ، وغبيًّا يتبالَغُ، وخبيثًا مُدَّعِيًا، وراغبًا يتزهَّدُ، وفاجِرًا يتعَبَّدُ"، قال الخطيب البغدادي وغيرُه في صفةِ مَقتَلِ الحَلَّاج: كان الحلَّاجُ قد قَدِمَ آخَرَ قَدْمةٍ إلى بغداد فصَحِبَ الصوفية وانتسب إليهم، وكان الوزيرُ إذ ذاك حامِدَ بن العباس، فبلغَه أنَّ الحلَّاجَ قد أضلَّ خَلقًا من الحَشَم والحُجَّاب في دار السلطان، ومِن غِلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملةِ ما ادَّعاه أنَّه يحيي الموتى، وأن الجِنَّ يخدُمونه ويُحضِرونَ له ما شاء ويختار ويشتهيه. وقال: إنَّه أحيا عدَّةً مِن الطيرِ"، وذُكِرَ لعلي بن عيسى أنَّ رجلًا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتِبُ يعبُدُ الحلَّاج ويدعو الناسَ إلى طاعتِه، فطلبه فكبَسَ منزِلَه فأخذه فأقَرَّ أنَّه من أصحاب الحلَّاج، ووجد في منزله أشياءَ بخَطِّ الحلَّاج مكتوبةً بماءِ الذهب في ورقِ الحريرِ مُجَلَّدة بأفخَرِ الجلود، ووجد عنده سفطًا فيه من رجيعِ الحلاجِ وعَذرتِه، وبولِه وأشياء من آثاره، وبقيَّة خبز من زاده، فطلب الوزيرُ من المقتدر أن يتكَلَّمَ في أمر الحلاج ففَوَّضَ أمرَه إليه، فاستدعى بجماعةٍ مِن أصحاب الحلَّاج فتهددهم فاعترفوا له أنَّه قد صح عندهم أنَّه إله مع الله، وأنَّه يحيي الموتى، وأنَّهم كاشَفُوا الحلاجَ بذلك ورَمَوه به في وجهِه، فجحَدَ ذلك وكذَّبهم وقال: "أعوذُ بالله أن أدَّعيَ الربوبيَّة أو النبوَّة، وإنما أنا رجلٌ أعبُدُ اللهَ وأكثرُ له الصوم والصلاة وفِعلَ الخير، لا أعرف غيرَ ذلك، وجعل لا يزيدُ على الشهادتين والتوحيدِ، ويكثر أن يقولَ: سبحانك لا إلهَ إلا أنت، عَمِلتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فاغفِرْ لي؛ إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت"، وكانت عليه مدرعةٌ سوداءُ، وفي رجليه ثلاثة عشر قيدًا، والمدرعة واصِلةٌ إلى ركبتيه، والقيودُ واصلةٌ إلى رُكبَتَيه أيضًا، وكان قبل احتياط الوزيرِ حامد بن العباس عليه في حُجرةٍ مِن دار نصر القشوري الحاجب، مأذونًا لِمَن يدخلُ إليه، وكان يسمِّي نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمَّد بن أحمد الفارسي، وجُمِعَ له الفقهاء فأجمعوا على كُفرِه وزندقته، وأنه ساحِرٌ مُمخرقٌ، ورجع عنه رجلانِ صالحانِ ممَّن كان اتبَعَه، أحدُهما: أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخرُ يقال له الدبَّاس، فذكَرا من فضائحِه وما كان يدعو النَّاسَ إليه مِن الكَذِب والفُجورِ والمَخرَقة والسحر شيئًا كثيرًا، وكذلك أُحضِرَت زوجةُ ابنه سليمان فذكَرَت عنه فضائحَ كثيرة، من ذلك أنَّه أراد أن يغشاها وهي نائمةٌ فانتبهت، فقال: قومي إلى الصَّلاةِ؟ وإنما كان يريدُ أن يطأها، وأمَرَ ابنتها بالسجودِ له، فقالت: أوَيسجُدُ البشَرُ لبشرٍ؟ فقال: نعم، إلهٌ في السماء وإلهٌ في الأرض، ثمَّ أمرها أن تأخذَ مِن تحت باريَّة هنالك ما أرادت، فوجدت تحتها دنانيرَ كثيرةً مبدورة، ولما كان آخِرُ مجلسٍ مِن مجالسه أُحضِرَ القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجيءَ بالحلَّاجِ، وقد أحضِرَ له كتابٌ مِن دورِ بعضِ أصحابِه، وفيه: من أراد الحجَّ ولم يتيسَّرْ له، فليبنِ في داره بيتًا لا ينالُه شيءٌ مِن النجاسة ولا يُمكِّن أحدًا من دخولِه، فإذا كان في أيَّامِ الحَجِّ، فليصم ثلاثةَ أيَّامٍ ولْيَطُفْ به كما يُطاف، فلما أخرجوه للصَّلبِ مشى إليه وهو يتبختَرُ في مشيته وفي رِجلَيه ثلاثةَ عشر قيدًا، وجعل ينشُدُ ويتمايل ثم قال: (يستعجِلُ بها الذين لا يؤمنونَ بها والذين آمنوا مشفِقونَ منها ويعلمون أنَّها الحقُّ) ثم لم ينطِقْ بعد ذلك حتى فُعِلَ به ما فُعِل، قالوا: ثم قُدِّمَ فضُرِبَ ألفَ سَوطٍ ثمَّ قطعت يداه ورِجلاه، وهو في ذلك كلِّه ساكتٌ ما نطق بكلمةٍ، ولم يتغيَّرْ لونُه، ويقال إنه جعل يقولُ مع كل سوطٍ: أحدٌ أحدٌ، ومنهم من قال: بل جَزِع عند القتلِ جَزعًا شديدًا وبكى بكاءً كثيرًا، فالله أعلم، قال أبو عمر بن حيويه: "لَمَّا أُخرِجَ الحُسَينُ بن منصور الحلَّاج ليُقتَل مَضَيتُ في جملة الناسِ، ولم أزل أزاحِمُ حتى رأيتُه فدنوت منه، فقال لأصحابه: لا يَهولنَّكم هذا الأمر، فإني عائدٌ اليكم بعد ثلاثينَ يومًا، ثم قُتِلَ فما عاد"، وذكر الخطيبُ أنَّه قال وهو يُضرَبُ لمحمَّد بن عبد الصمد والي الشُّرطة:: ادعُ بي إليك؛ فإن عندي نصيحةً تعدل فتحَ القُسطنطينية، فقال له: قد قيل لي إنَّك ستقولُ مثل هذا، وليس إلى رفعِ الضَّربِ عنك سبيل"، ثم قُطِعَت يداه ورجلاه وحُزَّ رأسُه وأُحرِقَت جُثَّتُه، وألقيَ رمادُها في دجلة، ونُصِبَ الرَّأسُ يومين ببغداد على الجسرِ، ثم حُمِلَ إلى خراسان وطِيفَ به في تلك النواحي، وجعل أصحابُه يَعِدون أنفُسَهم برجوعِه إليهم بعد ثلاثين يومًا، وزعم بعضُهم: "أنه رأى الحلَّاجَ مِن آخر ذلك اليوم وهو راكبٌ على حمارٍ في طريق النهروان، فقال: لعلَّك من هؤلاء النفَرِ الذين ظنُّوا أني أنا هو المضروبُ المقتولُ، إنِّي لستُ به، وإنَّما ألقِيَ شَبَهي على رجلٍ ففُعِلَ به ما رأيتَهم، وكانوا بجَهلِهم يقولون: إنَّما قتل عدوٌّ مِن أعداء الحلَّاج، فذُكِرَ هذا لبعض عُلَماء ذلك الزمان، فقال: إن كان هذا الرائي صادقًا، فقد تبدَّى له شيطانٌ على صورةِ الحَلَّاجِ؛ ليُضِلَّ الناسَ به، كما ضَلَّت فرقةُ النَّصارى بالمصلوبِ". ونودي ببغدادَ أنْ لا تُشتَرَى كتبُ الحلَّاج ولا تباع، وكان قتلُه يوم الثلاثاء لسِتٍّ بَقِينَ مِن ذي القَعدة من سنة تسعٍ وثلاثمائة ببغداد.
خرج جَماعةٌ مِن بلاد المغرب يريدون أرضَ مِصرَ لأداء فريضة الحجِّ، وساروا في بحر الملح، فألقَتْهم الريحُ إلى جزيرة صقلية، فأخذهم النصارى وما معهم، وأتَوا بهم إلى مَلِك صقلية، فأوقَفَهم بين يديه وسألهم عن حالِهم، فأخبروه أنَّهم خرجوا يريدون الحَجَّ، فألقَتْهم الريحُ إلى هنا، فقال: أنتم غنيمةٌ قد ساقكم الله إليَّ، وأمَرَ بهم أن يُقَيَّدوا حتى يُباعُوا ويُستَخدَموا في مِهَنِهم! وكان من جُملَتِهم رجلٌ شَريفٌ، فقال له على لسانِ تَرجُمانه: أيُّها المَلِكُ، إذا قَدِمَ عليك ابنُ ملك ماذا تَصنَعُ به؟ قال: أُكرِمُه, قال: وإن كان على غيرِ دينِك؟ قال: وما كرامتُه إلَّا إذا كان على غيرِ ديني! وإلَّا فأهلُ ديني واجِبٌ كرامَتُهم، قال: فإني ابنُ أكبَرِ ملوك الأرضِ، قال: ومَن أبوك؟ قال: عليُّ بنُ أبى طالب رَضِىَ الله عنه، قال: ولم لا قُلتَ: أبي محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلم، قال: خشيتُ أن تَشتُموه، قال: لا نَشتُمُه أبدًا. قال: بيِّنْ لي صِدْقَ ما ادَّعَيْتَ به، فأخرَجَ له نِسْبَتَه وكانت معه في رَقٍّ، فأمر بتخليتِه وتخليةِ مَن معه لسَبيلِهم، وجَهَّزَهم!!
في يوم الخميس ثالث صفر ثارت المماليك الأجلاب على السلطان، وأفحشوا في أمرِه إلى الغاية، فبينما هو جالسٌ بقاعة قلعة الدهيشة، وكانت الخدمةُ بطالةً في هذا اليوم، وذلك قبل أن يصلِّيَ السلطان الصبح، وإذا بصياح المماليك، فأرسل السلطانُ يسأل عن الخبر، فقيل له إن المماليك أمسكوا نوكار الزردكاش وهددوه بالضرب، وطلبوا منه القرقلات-جمع قرقل وهو ثوب بغير كمين- التي وعدهم السلطان بها من الزردخاناه السلطانية، فحلف لهم أنه يدفع لهم ذلك في أول الشهر، فتركوه ومضَوا، فلقوا الشيخ عليًّا الخراساني الطويل محتسب القاهرة، وهو داخل إلى السلطان، فاستقبلوه بالضرب المبَرِّح المتلِف، وأخذوا عمامتَه من على رأسه، فرمى بنفسه إلى باب الحريم السلطاني حتى نجا، ثم إنَّ الصياح قوي ثانيًا فعُلم أن ذلك صياح الأجلاب، فأرسل إليهم الأميرُ يونس الدوادار، فسألهم يونس عن سبب هذه الحركة، فقالوا: نريد نقبض جوامكنا- المخصصات- كل واحد سبعة أشرفية ذهبًا في كل شهر، وكانت جامكية الواحد منهم ألفين قبل تاريخه يأخذها ذهبًا وفضة، بسعر الذهب تلك الأيام، فلما غلا سعر الذهب تحيَّلوا على زيادة جوامكهم بهذه المندوحة، ثم قالوا: ونريد أن تكون تفرقة الجامكية في ثلاثة أيام، أي على ثلاث نفقات كما كانت قديمًا، ونريد أيضًا أن يكون عليقنا السلطاني الذي نأخذه من الشونة مُغَرْبلًا، ويكون مرتبنا من اللحم سمينًا, فعاد الأمير يونس إلى السلطان بهذا الجواب، ولم يتفوَّه به إلى السلطان، وتربص عن ردِّ الجواب على السلطان حتى يفرغَ السلطان من أكل السماط، فأبطأ الخبر لذلك عن الأجلاب، فندبوا مرجانًا مقدَّم المماليك للدخول بتلك المقالة إلى السلطان، فدخل مرجان أيضًا ولم يخبِر السلطان بشيء حتى فرغ من أكل السماطِ، فعند ذلك عرفه الأمير يونس بما طلبوه، فقال السلطان: لا سبيل إلى ذلك، وأرسل إليهم مرجانًا المقدَّم يعرفهم مقالة السلطان، فعاد مرجان ثانيًا إلى السلطان بالكلام الأول، وصار يتردُّد مرجان بين السلطان والمماليك الأجلاب نحو سبعة مرار، وهم مصمِّمون على مقالتهم، والسلطان ممتنع من ذلك، وامتنع الناس من الدخول والخروج إلى السلطان خوفًا من المماليك؛ لما فعلوه مع العجمي المحتسِب، فلما طال الأمر على السلطان خرج هو إليهم بنفسه، ومعه جماعةٌ من الأمراء والمباشرين، فلما علموا بمجيء السلطان أخذوا في الرجم، فلما رأى شدةَ الرجم، قصد العودَ إلى الدهيشة، ورسم لمن معه من الأمراء أن ينزلوا إلى دورهم، فامتنعوا إلَّا أن يوصلوه إلى باب الحريم، فعاد عليهم الأمر فنزلوا من وقتهم، وبقي السلطان في خواصِّه وجماعة المباشرين وولده الكبير المقام الشهابي أحمد، فلما سار السلطان إلى نحو باب الستارة، ووصل إلى باب الجامع أخذه الرجمُ المفرط من كل جهة، فأسرع في مشيته والرجم يأتيه من كل جانب، وسقط الخاصكي الذي كان حامِلَ ترس السلطان من الرجم، فأخذ الترسَ خاصكيٌّ آخر فضُرِبَ الآخر فوقع وقام، وشج دوادار ابن السلطان في وجهه وجماعة كثيرة، وسقطت فردةُ نعل السلطان من رجله فلم يلتفت إليها لأنَّه محمول من تحت إبطيه مع سرعة مشيهم إلى أن وصل إلى باب الستارة، وجلس على الباب قليلًا، فقصدوه أيضًا بالرجم، فقام ودخل من باب الحريم وتوجه إلى الدهيشة، واستمر وقوف المماليك على ما هم عليه إلى أذان المغرب، وبات القوم وهم على وجل، والمماليك يكثرون من الوعيد في يوم السبت؛ فإنهم زعموا أن لا يتحركوا بحركةٍ في يوم الجمعة مراعاةً لصلاة الجمعة، وأصبح السلطان وصلَّى الجمعة مع الأمراء على العادة، فتكلم بعض الأمراء مع السلطان في أمرهم بما معناه أنه لا بد لهم من شيء يطيب خواطرهم به، ووقع الاتفاق بينهم وبين السلطان على زيادة كسوتهم التي يأخذونها في السنة مرة واحدة، وكانت قبل ذلك ألفين، فجعلوها يوم ذاك ثلاثة آلاف درهم، وزادوهم أيضًا في الأضحية، فجعلوا لكل واحد ثلاثة من الغنم الضأن، فزيدوا رأسًا واحدًا على ما كانوا يأخذونه قبل ذلك، ثم رُسِمَ لهم أن تكون تفرقة الجامكية على ثلاث نفقات في ثلاثة أيام من أيام المواكب، فرَضُوا بذلك وخَمَدت الفتنة.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةَ غالبِ بنِ عبدِ الله اللَّيثيِّ إلى بني المُلَوَّحِ بِقُدَيْدٍ، وكان بنو المُلَوَّحِ قد قَتلوا أصحابَ بشيرِ بن سُوَيْدٍ، فبُعِثت هذه السَّرِيَّةُ لأَخذِ الثَّأرِ، فشَنُّوا الغارةَ في اللَّيلِ فقَتلوا مَن قَتلوا، وساقوا النَّعَمِ، وطاردَهُم جيشٌ كَبيرٌ مِنَ العَدُوِّ، حتَّى إذا قرب مِنَ المسلمين نزل مَطَرٌ، فجاء سَيلٌ عَظيمٌ حال بين الفَريقين. ونجَح المسلمون في بَقِيَّةِ الانسِحابِ.
تولى الشيخُ صباح الثاني الحُكمَ بعد وفاة والِدِه الشيخ جابر بن عبد الله الصباح، وكانت فترةُ حُكمِه قصيرةً، وفي فترة حكمه احتفظ بالسلطةِ السياسيةِ وتركَ السلطةَ القضائيَّةَ إلى القاضي؛ حيث كان يتولاها وحدَه وبدون تدخُّلٍ منه، وقد اتَّسَعت التجارةُ في عهدِه وكثُرَت أموال الكويت، وأراد أن يضع رسومًا جمركيَّةً على البضائِعِ الخارجةِ من الكويت لكِنَّ التجَّارَ قالوا له: " لا تجعَلْ على أموالنا ما لم يجعَلْه أبوك ولا جَدُّك مِن قَبلُ" وقالوا له: إن أموالَهم ستكون وقفًا على ما تحتاجه الكويت، فوافقَهم على ذلك. وقد لفتَ نظر الكولونيل "بلي" حين زار الكويت ثانيةً في عام 1865 باطِّلاعه على ما يجري خارجَ الكويت من أمورٍ لها صلة بالأحداثِ في أوروبا والعالم، وكان ذلك من خلال صحيفةٍ عربية كانت تصدُرُ في باريس وترسَلُ إليه حافلةً بالأخبار الأجنبية والمحلية. وفي عهده هاجم عبدُ الله بن سعود قبيلةَ العجمان، فلجؤوا إلى الكويت، فأرسل عبد الله بن سعود رسولًا يطلُبُ منه أن يطرُدَ العجمان، لكِنَّ الرسولَ أساء التعبير فقال له: إنَّ معزبَك (وتعني سيدك) يأمُرُك بإخراج العجمان، فغضب الشيخُ صباح وأمر باستنفار أهلِ الكويت لقتالِ عبد الله بن سعود، فوصل الخبرُ إلى عبد الله، فأظهر أسَفَه وبادر إلى الاعتذارِ عن سوءِ تصَرُّفِ رَسولِه.
لَمَّا مَلَك قُطبُ الدين مودود المَوصِلَ بعد أخيه سيف الدين غازي، كان أخوه الأكبَرُ نورُ الدين محمود بالشَّامِ، وله حَلَب وحَماة، فكاتبه جماعةٌ مِن الأمراء وطَلَبوه، وفيمن كاتَبَه المُقَدَّم عبدُ الملك والد شمس الدين محمد، وكان حينئذٍ مُستَحفظًا بسنجار، فأرسَلَ إليه يستدعيه ليتسَلَّمَ سنجار، فسار نور الدين جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها- في سبعينَ فارِسًا مِن أُمَراءِ دَولتِه، فوصَلَ إلى ماكسين في نَفَرٍ يَسيرٍ قد سَبَق أصحابَه، ولحِقَ به باقي أصحابِه، ثم سار إلى سنجار، فوصَلَها وليس معه سوى ركَّابي وسلاح دار، ونزل بظاهرِ البلد وأرسل إلى المُقَدَّم يُعلِمُه بوصوله، فرآه الرسولُ وقد سار إلى الموصِلِ وتَرَك ولده شمس الدين مُحمَّدًا بالقلعة، فأعلَمَه بمسيرِ والده إلى المَوصِل، وأقام مَن لَحِقَ أباه بالطريقِ، فأعلمه بوصولِ نور الدين، فعاد إلى سنجار فسَلَّمَها إليه، فدخَلَها نور الدين، وأرسل إلى فخرِ الدِّينِ قرا أرسلان، صاحِبِ الحصن يستدعيه إليه؛ لِمَودَّةٍ كانت بينهما، فوصلَ إليه في عَسكَرِه، فلَمَّا سمع أتابك قطب الدين، وجمال الدين وزين الدين بالمَوصِلِ بذلك جَمَعوا عساكِرَهم وساروا نحو سنجار، فوصلوا إلى تل يعفر، وترَدَّدَت الرسُلُ بينهم بعد أن كانوا عازمينَ على قَصدِه بسنجار، فقال لهم جمالُ الدين: ليس مِن الرأيِ مُحاقته وقِتالُه، وأشار بالصُّلحِ، وسار هو إليه فاصطلح وسَلَّمَ سنجار إلى أخيه قُطب الدين، وسَلَّم مدينةَ حِمص والرحبة بأرضِ الشَّامِ، وبَقِيَ الشام له، وديارُ الجزيرة لأخيه، واتفقا، وعاد نور الدين إلى الشَّامِ، وأخذ معه ما كان قد ادَّخَره أبوه أتابك الشَّهيد فيها من الخزائِنِ، وكانت كثيرةً جِدًّا.
هو الملِكُ الظاهر سيف الدين أبو الفتح ططر بن عبد الله الظاهري الشركسي, ربَّاه بعض التجار، وعلَّمه شيئًا من القرآن وفِقهَ الحنفية، وقَدِمَ به القاهرة في سنة 801، وهو صبيٌّ، فدل عليه الأمير قانبيه العلاي لقرابته به، فسأل السلطان الملك الظاهر برقوق فيه حتى أخذه من تاجره، ونزله في جملة مماليك الطباق، فنشأ بينهم، وكان الملك الظاهر برقوق أعتقه بسفارة الأمير جرباش الشيخي. بعد وفاة الملك المؤيد شيخ بويعَ ابنُه الملك المظفر أحمد، وقام الأمير الكبير ططر بأعباء الدولة، وخلع عليه لالا -مربي- للسلطان وكافله. ثم عزل ططر المظفر أحمد؛ لصِغَر سنِّه، وأخذ البيعة بالسلطنة لنفسه, وفي أول ذي الحجة يوم الخميس زاد مرض السلطان الظاهر ططر، والإرجاف بمرضه كبير، ثم في يوم الجمعة استدعى الخليفة والقضاة إلى القلعة، وقد اجتمع الأمراء والمباشرون والمماليك، وعهد السلطان لابنه الأمير محمد، وأن يكون القائم بدولته الأمير جانبك الصوفي، والأمير برسباي الدقماقي لالا -مربي السلطان- فحلف الأمراء على ذلك، كما حلفوا لابن الملك المؤيد، فلما كانت ضحوة نهار الأحد رابعَه توفي السلطان، فاضطرب الناس ساعة، ثم غُسِّل وأخرج من باب السلسلة، وليس معه إلا نحو العشرين رجلًا، حتى دُفن بجوار الليث بن سعد من القرافة، فكانت مدة تحكمه منذ مات المؤيد أحد عشر شهرًا تنقص خمسة أيام، منها مدة سلطنته أربعة وتسعين يومًا، أما السلطان الجديد فهو محمد بن الظاهر ططر أقيم في السلطنة بعهد أبيه إليه، وعمره نحو العشر سنين، عقيب موت أبيه، وفي يوم الأحد رابع ذي الحجة من هذه السنة اجتمع الأمراء بالقلعة إلا الأمير جانبك الصوفي فإنه لم يحضر، فما زالوا به حتى حضر، وأجلسوا السلطان، ولقَّبوه بالملك الصالح ناصر الدين، وفوَّض الخليفة إلى الأمير الكبير نظام الملك برسباي أمورَ المملكة بأسرها؛ ليقوم بها إلى أن يبلغ السلطان رُشدَه، وحكم بصحة ذلك قاضي القضاة الحنفي.