الشَّيخُ عبدُ الوهَّابِ بنُ إبراهيمَ أبو سليمانَ وُلِد في مكَّةَ المكرَّمةِ سنةَ 1356هـ الموافق 1935م، وتلقَّى تعليمَه بها إلى أن تخرَّج في كُلِّيَّةِ الشَّريعةِ بجامعةِ أمِّ القرى عام 1377هـ، ثمَّ حصل على الدُّكتوراه من جامعةِ لَنْدن قِسمِ القانونِ المقارنِ عامَ 1390هـ، تقلَّد عددًا من المناصِبِ؛ منها: عميدُ كُلِّيَّةِ الشَّريعةِ والدِّراساتِ الإسلاميَّةِ بجامعةِ المَلِكِ عبدِ العزيزِ، وعَمِل أستاذًا وباحثًا في كُلِّيَّةِ الحقوقِ بجامعةِ هارفرد بالولاياتِ المتَّحِدةِ عامَ 1397هـ، وكان يُلقي فيها محاضَراتٍ في الفِقهِ الإسلاميِّ، ومحاضَراتٍ في القانونِ الإسلاميِّ في جامعةِ بُوسطن ومركَزِ الأديانِ بجامعةِ هارْفَرْد، وتمَّ انتدابُه أستاذًا زائرًا في جامعةِ ديوك في نورث كارولاينا عام 1401هـ، وأستاذًا زائرًا بالجامعةِ الإسلاميَّةِ العالميَّةِ بماليزيا، وأستاذًا زائرًا في الإماراتِ في كُلِّيَّةِ الدِّراساتِ العَرَبيَّةِ الإسلاميَّةِ بدُبَي، وجامعِة الشَّيخِ زايدٍ بأبو ظبي، وجامعةِ الإماراتِ بالعَينِ، ومركزِ جامعةِ الماجِدِ للبُحوثِ والدِّراساتِ الإسلاميَّةِ .ثمَّ عُيِّن عُضوًا في هيئةِ كِبارِ العُلَماءِ بالمملكةِ العرَبيَّةِ السُّعوديَّةِ عامَ 1413هـ.
له عددٌ من المؤلَّفاتِ أغلَبُها في الفِقهِ الإسلاميِّ، منها: (فقهُ الضَّرورةِ وتطبيقاتُه المعاصِرةُ)، و (عقدُ الإجارةِ مَصدَرٌ من مصادِرِ التَّمويلِ الإسلاميَّةِ)، و (البطاقاتُ البنكيَّةُ - دراسةٌ فقهيَّةٌ قانونيَّةٌ اقتصاديَّةٌ تحليليَّةٌ).
توفِّيَ -رحمه اللهُ- عن عُمرٍ ناهز الـ 88 عامًا.
بعد أن انتهى تيمورلنك من سيواس توجه إلى جهة حلب فوصل إلى عينتاب، ووصل إلى بهنسا وأخذها بعد أن حصرها، ثم نزل على بزاعة ظاهر حلب، فبرز نائب طرابلس بسبعمائة فارس إلى جيش تيمورلنك وهم نحو ثلاثة آلاف، وترامى الجمعان بالنشاب، ثم اقتتلوا، وأُخِذ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه فوسط الأربعة على أبواب مدينة حلب، وأما دمشق فإن أهلها بدؤوا يتجهزون والقضاة تحرِّضُ الناس على الجهاد ضدَّ تيمورلنك، وأما عساكر مصر فبدأت كذلك بالتجهز، قال تقي الدين المقريزي: "لما نزل تيمورلنك على عينتاب بعث إلى دمرداش نائب حلب يعده باستمراره في نيابة حلب، ويأمره بمسك الأمير سودن نائب الشام، فلما قدم عليه الرسول بذلك أحضره إلى نواب ممالك الشام، وقد حضروا إلى حلب وهم: سودن نائب دمشق، وشيخ المحمودي نائب طرابلس، ودقماق نائب حماة، وألطنبغا العثماني نائب صفد، وعمر بن الطحان نائب غزة بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب نحو ثلاثة آلاف فارس منهم عسكر دمشق ثمانمائة فارس، إلا أن الأهواء مختلفة، والآراء مفلولة، والعزائم محلولة، والأمر مدبَّر، فبلغ رسول تيمورلنك الرسالة دمرداش، فأنكر مَسْكَ سودن نائب دمشق، فقال له الرسول: إن الأمير - يعني تيمورلنك- لم يأت إلا بمكاتبتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها، فحنق منه دمرداش وقام إليه وضربه، ثم أمر به فضُرِبَت رقبته، ويقال: إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمورلنك ومَكْرِه، ليفَرِّقَ بذلك بين العساكر" ونزل تيمورلنك على جبلان خارج حلب يوم الخميس تاسع ربيع الأول، وزحف يوم الجمعة، وأحاط بسور حلب، وكانت بين الحلبيين وبينه في هذين اليومين حروب، فلما أشرقت الشمس يوم السبت الحادي عشر خرج نواب الشام بالعساكر وعامة أهل حلب إلى ظاهر المدينة وعبُّوا للقتال، ووقف سودن نائب دمشق في الميمنة، ودمرداش في الميسرة، وبقية النواب في القلب، وقدموا أمامهم عامة أهل حلب، فزحف تيمورلنك بجيوش قد سدَّت الفضاء، فثبت الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس، وقاتل -هو وسودن نائب دمشق- قتالًا عظيمًا، وبرز الأمير عز الدين أزدمر أخو أينال اليوسفي، وولده يشبك ابن أزدمر في عدة من الفرسان، وأبلوا بلاء عظيمًا، وظهر عن أزدمر وولده من الإقدام ما تعجَّب منه كل أحد، وقاتلا قتالًا عظيمًا، فقُتل أزدمر وفُقد خبره، وثخنت جراحات يشبك، وصار في رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف سوى ما في بدنه، فسقط بين القتلى، ثم أُخِذ وحمل إلى تيمورلنك ولم يمضِ غير ساعة حتى ولَّت العساكر تريد المدينة، وركب أصحاب تيمورلنك أقفيتَهم، فهلك تحت حوافر الخيل من الناس عدد لا يدخل تحت حصر؛ فإن أهل حلب خرجوا حتى النساء والصبيان، وازدحم الناسُ مع ذلك في دخولهم من أبواب المدينة، وداس بعضُهم بعضًا، حتى صارت الرمم طول قامة، والناس تمشي من فوقها، وتعلَّق نواب المماليك بقلعة حلب، ودخل معهم كثيرٌ من الناس، وكانوا قبل ذلك قد نَقَلوا إلى القلعة سائر أموال الناس بحلب، واقتحمت عساكر تيمورلنك المدينةَ وأشعلوا بها النيران، وجالوا بها ينهبون ويأسرون ويقتلون، واجتمع بالجامع وبقية المساجد نساءُ البلد، فمال أصحاب تيمورلنك عليهنَّ وربطوهن بالحبال، ووضعوا السيف في الأطفال فقتلوهم بأجمعِهم، وأتت النار على عامة المدينة فأحرقتها، وصارت الأبكار تُفتَضَّ من غير تستُّرٍ ولا احتشام! بل يأخذ الواحد الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع، بحضرة الجم الغفير من أصحابه، ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها ولا يقدِرُ أن يدفع عنها؛ لِشُغلِه بنفسِه، وفَحُش القتل، وامتلأ الجامع والطرقات برمم القتلى، واستمر هذا الخطب من صحوة نهار السبت إلى يوم الثلاثاء، والقلعة قد نقب عليها من عدة أماكن، ورُدِم خندقها، ولم يبقَ إلا أن تؤخذ، فطلب النواب الأمان، ونزل دمرداش إلى تيمورلنك فخلع عليه ودفع إليه أمانًا، وخِلَعًا للنواب، وبعث معه عدَّةً وافرة إلى النواب، فأخرجوهم ممن معهم، وجعلوا كل اثنين في قيد وأحضروا إليه، فقرعهم ووبَّخهم، ودفع كل واحد منهم إلى من يحتفظ به، وسيقت إليه نساء حلب سبايا، وأُحضرت إليه الأموال ففرَّقها على أمرائه، واستمرَّ بحلب شهرًا، والنهب في القرى لا يبطل، مع قطع الأشجار وهدم البيوت، وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشًا، لا يجِدُ أحد مكانًا يمشي عليه إلا وتحت رجليه رمةُ قتيل، وعُمِل من الرؤوس منابر عدة مرتفعة في السماء نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعًا، حُرِز ما فيها من رؤوس بني آدم، فكان زيادة على عشرين ألف رأس! وجعلت الوجوه بارزة يراها من يمرُّ بها، ثم رحل تيمورلنك عنها، وهي خاوية على عروشها، خالية من ساكنها وأنيسها، قد تعطلت من الأذان، وإقامة الصلوات، وأصبحت مُظلِمةً بالحريق، مُوحِشةٌ قَفراءُ مُغبرة، لا يأويها إلا الرخم، ثم بعد أن رحل الجيش عنها سائرًا إلى جهة دمشق ورد الخبر أن أحمد بن رمضان التركماني، وابن صاحب الباز، وأولاد شهري، ساروا وأخذوا حلب، وقتلوا من بها من أصحاب تيمورلنك وهم زيادة على ثلاثة آلاف فارس.
هو شاعِرُ الزَّمانِ المَشهورُ، أبو الطَّيِّب أحمَدُ بنُ حُسَين بن حسن الجعفي الكوفي, الأديبُ الشهيرُ بالمتنبي. ولد سنة 303 بالكوفة في مَحلَّةٍ تسمى كندة فنُسِبَ إليها، وليس هو من كِندَةَ القبيلة، بل هو جعفيٌّ. قَدِمَ الشامَ في صباه, ثم أقام بالبادية يقتَبِسُ اللغة والأخبار, واشتغل بفنونِ الأدب ومَهَر فيها، وكان من المُكثِرينَ مِن نقلِ اللغة والمطَّلِعينَ على غَريبِها وحواشيها، ولا يُسألُ عن شَيءٍ إلَّا واستشهد فيه بكلامِ العَرَبِ مِن النَّظمِ والنَّثرِ، وكان من أذكياءِ عَصرِه. بلغ الذِّروةَ في النَّظمِ، وأربى على المتقَدِّمين, وسار ديوانُه في الآفاق، واعتنى العُلَماءُ به فشرحوه في أكثَرَ مِن أربعينَ شرحًا ما بين مُطَوَّلات ومُختصَراتٍ، ولم يُفعَلْ هذا بديوانٍ غَيرِه. كما أنَّ له حِكمًا وأمثالًا ومعانيَ مُبتكَرةً, وإنَّما قيل له المتنبِّي؛ لأنَّه ادَّعى النبُوَّةَ في باديةِ السَّماوة، وافتَتَن به بعضُ ضِعافِ العُقولِ، وكَذَب عليهم أنَّه يُوحى إليه قرآنٌ يُؤَلِّفُه مِن نَفسِه وشَيطانِه، وكان لؤلؤ أميرُ حمص من قِبَل الإخشيد قبض عليه ثمَّ أطلقه بعدما استَتابه، وقيل: إنَّه قال: أنا أوَّلُ مَن تنبَّأ بالشِّعرِ. تنقَّلَ في البلاد يمدحُ الأمراءَ مقابِلَ المال، لازم سيفَ الدولةِ كثيرًا ومدح كافور متولِّيَ أعمالِ مِصرَ ثمَّ هجاه ومدح مُعِزَّ الدَّولة البويهي, وقد نال بالشِّعرِ مالًا جليلا, يقال: وصل إليه من ابنِ العميدِ ثلاثون ألف دينار، وناله مِن عَضُدِ الدولة مثلها. كان المتنبي يركَبُ الخيلَ بزِيِّ العَرَب، وله شارةٌ وغِلمانٌ وهَيئةٌ. مدح كافورَ وفي رجليه خُفَّان وفي وسَطِه سيفٌ ومِنطَقةٌ ويركَبُ بحاجبين من مماليكِه وهما بالسُّيوفِ والمناطق، ولَمَّا لم يُرضِه كافور هجَاه وفارَقَه ليلةَ عيدِ النَّحرِ سنة 350، ووجَّهَ كافور خَلْفَه رواحِلَ إلى جِهاتٍ شَتَّى فلم يُلحَقْ، وكان كافور وعده بولايةِ بعضِ أعمالِه، فلمَّا رأى تعاليَه في شِعرِه وسُمُوَّه بنَفسِه، خافه، وعوتِبَ فيه فقال كافور: يا قومِ، مَن ادَّعى النبوَّةَ بعدَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم، أمَا يدَّعي المملكةَ مع كافور؟! فحَسْبُكم! والمتنبي هو القائِلُ: لولا المشقَّةُ ساد الناسُ كُلُّهم... الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتَّالُ, وله عِدَّةُ أبياتٍ فائقة يُضرَبُ بها المثَلُ. وكان مُعجَبًا بنَفسِه, كثيرَ الفَخرِ والتَكبُّرِ, فمُقِتَ لذلك. يقال: إنَّ أبا المتنبِّي كان سَقَّاءً بالكوفةِ، وإلى هذا أشار بعضُ الشُّعَراءِ في هجو المتنبِّي، حيث قال: أيُّ فَضلٍ لشاعرٍ يطلُبُ الفضلَ مِن النَّاسِ بُكرةً وعَشِيَّا * عاش حينًا يبيعُ في الكوفةِ الماءَ، وحينًا يبيعُ ماءَ المُحَيَّا. وخبَرُ قَتْلِه أنَّ فاتِكَ الأسدي في جماعةٍ مِن الأعرابِ اعتَرَضوا المتنبِّي ومَن معه وكانوا متَّجِهينَ إلى بغدادَ قافلينَ مِن شيراز، عند النُّعمانيَّة مِن دير العاقول قُربَ النهروان. فقُتِلَ المتنبي ومعه ابنُه مُحَسَّد وغلامُه مُفلِح, وقيل: لَمَّا فَرَّ أبو الطيِّب حين رأى الغَلَبة، قال له غلامُه: لا يتحَدَّثُ النَّاسُ عنك بالفِرارِ أبدًا وأنت القائِلُ: فالخَيلُ واللَّيلُ والبَيداءُ تَعرِفُني... والحَربُ والضَّربُ والقِرطاسُ والقَلَمُ. فكَرَّ راجعًا حتى قُتِلَ، وكان هذا البيتُ سبَبَ قَتلِه.
سار مسعودٌ يريدُ بلادَ الهندِ لِيشْتُوا بها، فلمَّا سار أخَذَ معه أخاه محمَّدًا مسمولَ العينينِ، واستصحَبَ الخزائِنَ، وكان عازمًا على الاستنجادِ بالهندِ على قتال السلجوقيَّة ثِقةً بعهودهم. فلمَّا عَبَرَ سيحون- وهو نهرٌ كبيرٌ نحو دِجلة- وعبَرَ بعض الخزائِنِ، اجتمع أنوشتكين البلخي وجمعٌ من الغلمانِ الداريَّةِ ونهبوا ما تخلَّفَ من الخزانةِ، وأقاموا أخاه محمَّدًا 13 ربيع الآخر، وسَلَّموا عليه بالإمارةِ، فامتنع من قَبولِ ذلك، فتهَدَّدوه وأكرهوه، فأجاب وبَقِيَ مسعودٌ فيمن معه من العسكَرِ وحَفِظَ نَفسَه، فالتقى الجمعانِ مُنتصَفَ ربيعٍ الآخر، فاقتتلوا، وعَظُمَ الخطبُ على الطائفتينِ، ثم انهزمَ عسكَرُ مسعود، وتحصَّن هو في رباطِ ماريكلة، فحصره أخوه، فامتنع عليه، فقالت له أمُّه: إنَّ مكانَك لا يَعصِمُك، ولَأنْ تخرُجَ إليهم بعهدٍ خَيرٌ من أن يأخذوك قهرًا. فخرج إليهم، فقَبَضوا عليه، فقال له أخوه محمد: واللهِ لا قابلْتُك على فِعلِك بي- كان مسعودٌ قد سمَلَ عينيه ونزع منه الحُكمَ-، ولا عامَلتُك إلَّا بالجميلِ، فانظُرْ أين تريدُ أن تقيمَ حتى أحمِلَك إليه ومعك أولادُك وحرَمُك. فاختار قلعة كيكي، فأنفذه إليها محفوظًا، وأمر بإكرامِه وصيانتِه، ثمَّ إن محمدًا فوَّضَ أمرَ دولتِه إلى ولَدِه أحمد، وكان فيه خبطٌ وهَوجٌ، فاتَّفق هو وابنُ عمه يوسف بن سبكتكين وابنُ علي خويشاوند على قَتلِ مسعود ليصفُوَ المُلكُ له ولوالِدِه، فقتلوه، فلمَّا عَلِمَ محمَّد بذلك ساءه، وشَقَّ عليه وأنكره، وقيل إنَّ محمَّدًا أغراه ولَدُه أحمد بقَتلِ عَمِّه مسعود، فأمر بذلك، وأرسل إليه مَن قتَلَه وألقاه في بئرٍ وسَدَّ رأسَها، وقيل: بل أُلقِيَ في بئرٍ حيًّا وسُدَّ رأسُها فمات، فلمَّا مات كتب محمَّدٌ إلى ابن أخيه مودود، وهو بخراسان، يقول: إنَّ والدك قُتِلَ قِصاصًا، قتله أولادُ أحمد ينالتكين بلا رضًا مني، وطَمِعَ جندُ محمد فيه، وزالت عنهم هيبتُه، فمَدُّوا أيديَهم إلى أموالِ الرَّعايا فنهبوها، فخَرِبَت البلاد، فلمَّا قُتِلَ الملكُ مسعود وصل الخبَرُ إلى ابنه مودود، وهو بخراسان، فعاد مجِدًّا في عساكِرِه إلى غزنةَ، فتصافَّ هو وعَمُّه محمد في ثالث شعبان، فانهزم محمَّدٌ وعسكَرِه وقُبِضَ عليه وعلى ولدِه أحمد، وأنوشتكين الخصِيِّ البلخي، وابنِ علي خويشاوند، فقَتَلَهم، وقتَلَ أولادَ عَمِّه جميعَهم إلَّا عبد الرحيم, وبنى موضِعَ الوقعةِ قريةً ورِباطًا، وسمَّاها فتح آباذ، وعاد إلى غُزنةَ فدخلها في ثالث وعشرين شعبان، وكان داودُ أخو طغرلبك قد ملك مدينةَ بلخ، واستباحها، فلمَّا تجدَّدَ هذا الظَّفَرُ لمودود ثار أهلُ هراة بمن عندهم من الغزِّ السلجوقيَّة، فأخرجوهم وحَفِظوها لمودود، واستقَرَّ الأمرُ لمودود بغزنةَ، ولم يبقَ له همٌّ إلا أمرُ أخيه مجدود؛ فإنَّ أباه قد سيَّرَه إلى الهند سنةَ ستٍّ وعشرين وأربعمِئَة، فخاف أن يخالِفَ عليه، فأتاه خبَرُه أنَّه قصَدَ لهاوور، وملتان، فملكهما، وأخذ الأموالَ، وجمع بها العساكِرَ، وأظهر الخلافَ على أخيه، فندب إليه مودودٌ جيشًا ليمنعوه ويقاتِلوه، وعَرَض مجدودٌ عَسكَرَه للمَسيرِ، وحضر عيدُ الأضحى، فبَقِيَ بعده ثلاثة أيام، وأصبح ميتًا بلهاوور لا يُدرى كيف كان مَوتُه، وأطاعت البلادُ بأسرِها مودودًا، ورَسَت قدمُه، وثَبَت مُلكُه، ولَمَّا سَمِعَت الغز السلجوقيَّةُ ذلك خافوه، واستشعروا منه، وراسله مَلِكُ التُّركِ بما وراء النَّهرِ بالانقيادِ والمتابعة.
لمَّا مَلَكَ الفِرنجُ مَدينةَ المَهديَّة وفَعَلوا ما فَعَلوا في زويلة المَدينةِ المُجاوِرَةِ للمَهديَّةِ من القَتلِ والنَّهبِ، هَرَبَ منهم جَماعةٌ وقَصَدوا عبدَ المُؤمنِ صاحبِ المَغربِ، وهو بمراكش، يَستَجيرُونَه، فلمَّا وَصَلوا إليه ودَخَلوا عليه أَكرَمَهم، وأَخبَروهُ بما جَرَى على المسلمين، وأنه ليس من مُلوكِ الإسلامِ مَن يُقصَد سِواهُ، فبدَأَ بالاستِعدادِ للمَسيرِ, فلمَّا كان في صفر سَنةَ554هـ سار عن مراكش، فلم يَزَل يَسيرُ إلى أن وَصلَ إلى مَدينةِ تونس، فلمَّا نازَلَها أَرسلَ إلى أَهلِها يَدعوهُم إلى طاعَتِه، فامتَنَعوا، فقاتَلَهُم ثم نَزَلوا يَسأَلونَهُ الأَمانَ فأَجابَهُم إليه. ثم سار عبدُ المؤمن منها إلى المَهديَّةِ والأُسطولُ يُحاذِيه في البَحرِ، فوَصلَ إليها ثامنَ عشر رجب سَنةَ 554هـ، وكان حينئذٍ بالمَهديَّةِ أَولادُ مُلوكِ الفِرنجِ وأَبطالُ الفِرسانِ، وقد أَخلوا زويلةَ، فدَخلَ عبدُ المؤمنِ زويلةَ، وامتَلأَت بالعَساكرِ والسُّوقَةِ وانضافَ إليه من صنهاجة والعَربِ وأَهلِ البلادِ ما يَخرُج عن الإحصاءِ، وأَقبَلوا يُقاتِلون المَهديَّةَ مع الأَيامِ، فلا يُؤثِّر فيها لِحصَانَتِها وقُوَّةِ سُورِها وضِيقِ مَوقِعِ القِتالِ عليها، فعَلِمَ عبدُ المؤمنِ أن المَهديَّةَ لا تُفتَح بقِتالٍ بَرًّا ولا بَحرًا، لأن البحرَ دائرُ بأَكثرِها، فكأَنها كَفٌّ في البَحرِ، وزِندُها مُتَّصِلٌ بالبَرِّ، وليس لها إلا المُطاوَلَةِ، فتَمادَى الحِصارُ، وكانت الفِرنجُ تُخرِج شُجعانَهم إلى أَطرافِ العَسكرِ، فتَنال منه وتَعودُ سَريعًا؛ فأَمرَ عبدُ المؤمنِ أن يُبنَى سُورٌ من غَربِ المَدينةِ يَمنَعُهم من الخُروجِ، وأَحاطَ الأُسطولُ بها في البَحرِ، ورَكِبَ عبدُ المؤمنِ في شيني، ومعه الحَسنُ بنُ عَليٍّ الذي كان صاحِبَها، وطاف بها في البَحرِ، فهاله ما رأى من حَصانَتِها، وفي مُدَّةِ حِصارِه أَطاعَتهُ مجموعةٌ من المناطِقِ. ثم جاء أُسطولُ صاحبِ صِقلِّية فأَرسلَ إليهم مَلِكُ الفِرنجِ يَأمُرُهم بالمَجيءِ إلى المَهديَّةِ، فلمَّا قارَبَ أُسطولُ صِقلِّية المَهديَّةَ حَطُّوا شِراعَهم لِيَدخُلوا المِيناءَ، فخَرجَ إليهم أُسطولُ عبدِ المؤمنِ، ورَكِبَ العَسكرُ جَميعُه، ووَقَفوا على جانبِ البَحرِ، فاستَعظَم الفِرنجُ ما رَأوهُ من كَثرةِ عَساكرِ المُوَحِّدِين، ودَخلَ الرُّعبُ قُلوبَهم، فاقتَتَلوا في البَحرِ، فانهَزَمَت شواني الفِرنجِ، وتَبِعَهم المسلمون، فأَخَذوا منهم سبعَ شوان. ويَئِسَ أَهلُ المَهديَّةِ حينئذٍ من النَّجدَةِ، وصَبَروا على الحِصارِ سِتَّةَ أَشهُر، فنَزلَ حينئذٍ من فِرسانِ الفِرنجِ إلى عبدِ المؤمنِ عَشرةٌ وكان قُوتُهُم قد فَنِيَ حتى أَكَلوا الخَيْلَ, وسَألوا الأَمانَ لمن فيها من الفِرنجِ على أَنفُسِهم وأَموالِهم لِيَخرُجوا منها ويَعودُوا إلى بِلادِهم، فعَرَض عليهم الإسلامَ، ودَعاهُم إليه فلم يُجيبوا، ولم يَزالوا يَتَردَّدُون إليه أيامًا واستَعطَفوهُ بالكَلامِ اللَّيِّنِ، فأَجابَهُم إلى ذلك، وأَمَّنَهُم وأَعطاهُم سُفُنًا فرَكِبوا فيها وساروا، وكان الزَّمانُ شِتاءً، فغَرِقَ أَكثرُهم ولم يَصِل منهم إلى صِقلِّية إلا النَّفَرُ اليَسيرُ. ودَخلَ عبدُ المؤمن المَهديَّةَ بُكرَةَ عاشوراء من المُحرَّم سنةَ 555هـ، وسَمَّاها عبدُ المؤمن سَنةَ الأَخماسِ، وأَقامَ بالمَهديَّةِ عِشرينَ يَومًا، فرَتَّبَ أَحوالَها، وأَصلَح ما انثَلَمَ من سُورِها، ونَقَلَ إليها الذَّخائِرَ من القُوَّاتِ والرِّجالِ والعَدَدِ، واستَعمَلَ عليها أَحَدَ أَصحابِه، وجَعلَ معه الحَسنَ بن عليٍّ الذي كان صاحِبَها، وأَمَرَهُ أن يَقتَدِي بَرأيِه في أَفعالِه، وأَقطَعَ الحَسنَ بها أَقطاعًا، وأَعطاهُ دُورًا نَفيسةً يَسكُنُها، وكذلك فَعلَ بأَولادِه، ورَحلَ من المَهديَّةِ أوَّلَ صَفر من السَّنَةِ إلى بِلادِ المَغرِب.
انشغل السُّلطانُ المَلِكُ الكامِلُ شَعبان بملذَّاته وملاهيه وأعرض عن تدبيرِ الأمور، فتمَرَّدَت المماليكُ، وأخذوا حرم النَّاسِ، وقطعوا الطريقَ، وفَسَدت عِدَّةٌ من الجواري، وكَثُرَت الفِتَنُ بسَبَبِ ذلك حتى بلغ السلطانَ، فلم يعبأ بهذا، وقال: " خلُّوا كُلَّ أحد يعمَلُ ما يريدُ!!"، وقد تظاهر الناسُ بكلِّ قَبيحٍ، فاشتَدَّ الأمرُ على الناس بديار مصر وبلاد الشام، وكَثُرَ دعاؤهم لما هم فيه من السُّخر والمغارم، وتنكَّرت قلوب الأمراء، وكَثُرت الإشاعة بتنكُّر السلطان على الأميرِ يلبغا اليحياوي نائِبِ الشام، وأنه يريد مَسْكَه حتى بلغه ذلك فاحتَرَز على نفسه وبلغ الأمير يلبغا اليحياوي قَتْلُ يوسف أخي السلطان، وقُوَّة عزم السلطان على سَفَر الحجاز موافقةً لأغراض نسائه، فجمَعَ يلبغا أمراء دمشق، وحَلَّفَهم على القيام معه، وبرز إلى ظاهِرِ دمشق في نصف جمادى الأولى وأقام هناك وحَضَر إليه الأميرُ طرنطاي البشمقدار نائبُ حمص، والأمير أراق الفتاح نائب صفد، والأمير أستدمر نائب حماة، والأمير بيدمر البدري نائب طرابلس، فاجتمعوا جميعًا ظاهِرَ دمشق مع عسكرها، وكتبوا بخَلعِ الملك الكامل، وظاهروا بالخروجِ عن طاعته، وكتب الأميرُ يلبغا اليحياوي نائِبُ الشام إلى السلطان: " إني أحَدُ الأوصياء عليك، وإن ممَّا قاله الشهيد رحمه الله لي وللأمراء في وصيته: إذا أقمتم أحدًا من أولادي ولم ترتَضوا سيرتَه جُرُّوه برِجْلِه، وأخرِجوه وأقيموا غيره، وأنت أفسَدْتَ المملكة، وأفقَرْت الأمراء والأجناد، وقَتَلْت أخاك، وقبَضْتَ على أكابر أمراء السلطان الشهيدِ، واشتغَلْت عن المُلْك، والتهيتَ بالنساء وشُربِ الخمر، وصِرْتَ تبيع أخيارَ الأجناد بالفِضَّة " وذكر الأميرُ يلبغا اليحياوي له أمورًا فاحِشةً عَمِلَها، فقَدِمَ كتابه في يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى، فلمَّا قرأه السلطان الكامل تغيَّرَ تغيرًا زائدًا، وكتب الكامِلُ الجوابَ يتضَمَّنُ التلطُّفَ في القول، وأخرجَ الأميرَ منجك على البريد إلى الأمير يلبغا اليحياوي في الثاني عشر، ليَرجِعَه عمَّا عزم عليه، فكَثُرَت القالةُ بين الناس بخروجِ نائِبِ الشَّامِ عن الطاعةِ حتى بلغ الأمراءَ والمماليكَ، فطلب الأمراءَ إلى القلعة وأخَذَ رأيَهم، فوقع الاتفاقُ على خروج العسكر إلى الشامِ مع الأمير أرقطاي، وقَدِمَ كتاب نائب الشامِ أيضًا، وفيه خطُّ أمير مسعود بن خطير، وأمير علي بن قراسنقر، وقلاوون، وحسام الدين البقشمدار- يتضمن: "أنك لا تصلُحُ للمُلكِ، وأنَّك إنما أخَذْتَه بالغَلَبة من غير رضا الأمراء"، وعَدَّد ما فعله، ثم قال: "ونحن ما بَقِينا نَصلُحُ لك، وأنت فما تصلُحُ لنا، والمصلحةُ أن تَعزِلَ نَفسَك"، فاستدعى السلطان الكامل الأمراءَ، وحَلَّفهم على طاعته، ثم أمَرَهم بالسفر إلى الشام، فخرجوا من الغد، ثم إنَّ منجك ساعةَ وصولِه دمشق قَبَضَ عليه يلبغا اليحياوي نائِبُ الشام، وسَجَنه بالقلعة، فبعث السلطانُ الطواشي سرور الزينى لإحضارِ أخويه حاجي وأمير حسين، فاعتذرا بوَعْكِهما، وبعثت أمهاتُهما إلى الأمير أرغون العلائي والأمير الحجازي يسألانِهما في التلطُّفِ مع السلطانِ في أمرهما، ثم عرف الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي بما جرى للسلطانِ من تخوُّفِه منهما فتوحَّشَ خاطِرُ كُلٍّ منهما، وانقطع العلائي عن الخدمة وتعَلَّل، وأخَذَت المماليكُ أيضًا في التنكُّر على السلطان، وكاتَبَ بَعضُهم الأمير يبلغا اليحياوي نائِبَ الشام، واتَّفقوا بأجمعهم حتى اشتَهَر أمْرُهم وتحَدَّثَت به العامة، ووافقهم الأميرُ قراسنقر.
حاوَلَ بَعضُ الأمراء القضاءَ على برقوق وقَتْلَه، لكنَّه استطاع أن يقبِضَ عليهم ويسجِنَهم، ولكنه استمَرَّ بعد مَسْك هؤلاء في تخوف عظيم، واحترز على نفسه من مماليكِه وغيرِهم غايةَ الاحتراز، فأشار عليه بعد ذلك أعيانُ خشداشيته- زملاء مهنته- وأصحابه مثل أيتمش البجاسي، وألطنبغا الجوباني أمير مجلس، وقردم الحسني، وجركس الخليلي ويونس النوروزي الدوادار وغيرهم أن يتسلطَنَ ويحتَجِبَ عن الناس ويستريح ويُريحَ مِن هذا الذي هو فيه من الاحترازِ مِن قيامه وقعودِه، فجَبُنَ عن الوثوب على السلطنةِ وخاف عاقبةَ ذلك، فاستحَثَّه الأمراء، فاعتذر بأنه يهابُ قُدَماءَ الأمراء بالديار المصرية والبلاد الشامية، فركِبَ سودون الفخري الشيخوني حاجِبُ الحُجَّاب ودارَ على الأمراء سرًّا حتى استرضاهم، وما زال بهم حتى كلَّموا برقوقًا في ذلك وهَوَّنوا عليه الأمرَ وضَمِنوا له أصحابَهم من أعيان النواب والأمراء بالبلاد الشامية، وساعدهم في ذلك موتُ الأمير آقتمر عبد الغني؛ فإنَّه كان من أكابر الأمراء، وكان برقوقٌ يجلس في الموكِبِ تحتَه لِقِدَم هِجرتِه، وكذلك بموتِ الأمير أيدمر الشمسي؛ فإنه كان أيضًا من أقران اقتمر عبد الغني، فماتا في سنة واحدة، فعند ذلك طابت نفسُه وأجاب، وصار يقَدِّمُ رِجلًا ويؤخر أخرى، حتى كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان من هذه السنة طلع الأمير قطلوبغا الكوكائي أمير سلاح وألطنبغا المعلم رأس نوبة إلى السلطان الملك الصالح أمير حاج فأخذاه من قاعة الدهيشة وأدخلاه إلى أهلِه بالدور السلطانيَّة، وأخذا منه النمجاة- سيف خاص بالملك أو السلطان- وأحضراها إلى الأتابك برقوقٍ العثماني، وقام بقيَّةُ الأمراء من أصحابه على الفور وأحضروا الخليفةَ والقُضاة وسَلْطَنوه، وخُلِعَ الملك الصالح من السلطنة، فكانت مُدَّة سلطنته على الديار المصرية سنة واحدة وسبعة أشهر تنقُصُ أربعة أيام، على أنَه لم يكن له في السلطنة من الأمر والنهي لا كثيرٌ ولا قليل، أما السلطان المَلِكُ الظاهر فهو أبو سعيدٍ سَيفُ الدين برقوق بن آنص العثماني اليلبغاوي الشركسي، القائم بدولة الشراكسة بالدِّيارِ المصرية، وهو السلطان الخامس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، والثاني من الشراكِسة، إن كان المَلِكُ المظَفَّر بيبرس الجشنكير شركسيًّا؛ فقد قيل إن أصله تركي، وعليه فبرقوق هذا هو الأول من ملوك الشراكسة، وهو الأصحُّ، جلس على تخت الملك في وقت الظهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان بعد أن اجتمع الخليفةُ المتوكل على الله أبو عبد الله محمد والقضاة وشيخُ الإسلام سراج الذين عمر البلقيني، وخطب الخليفة المتوكل على الله خطبة بليغة، ثم بايعه على السَّلطنةِ وقَلَّدَه أمورَ المملكة، ثم بايعه من بعدِه القضاة والأمراء، ثم أُفيضَ على برقوق خِلعة السلطنة، وهي سوداء خليفتية على العادة، وأشار السراجُ البلقيني أن يكون لَقَبُه الملك الظاهر؛ فإنَّه وقت الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمرُ بعد أن كان خافيًا، فتلَقَّبَ بالملك الظاهر، وبه يبدأُ عهد المماليك البُرجية وينتهي عهدُ المماليك البحريَّة، ويُذكَرُ أن أصله من بلاد الشركس، ثمَّ أُخِذَ من بلاده وبِيعَ بمدينة قرم، فاشتراه خواجا عثمان بن مسافر وجلبه إلى مصر فاشتراه منه الأتابك يلبغا العمري الخاصكي الناصري في حدود سنة 764 وقبلها بيسير وأعتَقَه وجعله من جملة مماليكِه، واستمَرَّ أمره حتى صار أتابكَ العساكِرِ.
والشراكسة شعب مسلم موطنه الأصلي مرتفعات القوقاز بين البحر الأسود وبحر قزوين.
كانا الأميران نوروز وشيخ مشتركينِ في العصيان على السلطان الناصر فرج بن برقوق حتى تم لهما التغلب عليه، وقاما بسلطنة الخليفة المستعين بالله الذي فوض إلى الأمير نوروز كفالة الشام جميعه: دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزة، وجعل له أن يعيِّنَ الأمراء والإقطاعات لمن يريده ويختاره، وأن يولي نواب القلاع الشامية والسواحل وغيرها لمن أراد من غير مراجعة في ذلك، غير أنه يطالع الخليفة، ثم إن الأمير شيخًا استطاع أن يتسلطن ويخلع الخليفة من السلطنة فهذا ما أثار حفيظة نوروز الذي استدعى جميع النواب بالبلاد الشامية، فخرج الأمير نوروز إلى ملاقاتهم، والتقاهم وأكرمهم، وعاد بهم إلى دمشق، وجمع القضاة والأعيان، واستفتاهم في سلطنة الملك المؤيد شيخ وحبسه للخليفة وما أشبه ذلك، فلم يتكلم أحد بشيء، وانفضَّ المجلس بغير طائل، وأخذ الأمير نوروز في تقوية أموره واستعداده لقتال الملك المؤيد شيخ، وطلب التركمان، وأكثر من استخدام المماليك، وبلغ الملك المؤيد شيخًا ذلك فخلع في ثالث ذي الحجة من السنة على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش المدعو سيدي الكبير باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن الأمير نوروز الحافظي، فلما وصل قرقماس سيدي الكبير إلى غزة، سار منها في تاسع صفر وتوجَّه إلى صفد واجتمع بأخيه تغري بردي سيدي الصغير، ثم خرج في أثرهما الأمير ألطنبغا العثماني نائب غزة، والجميع متوجِّهون لقتال الأمير نوروز فقرَّروا البدء بأخذ حلب لَمَّا بلغهم خروج نوروز منها إلى جهة دمشق، فعاد نوزوز من حلب إلى دمشق، فأقاموا بالرملة، ولما بلغ نوروز قدوم قرقماس بمن معه إلى الرملة سار لحربهم، وخرج من دمشق بعساكره، فلما بلغ قرقماس وأخاه ذلك عادا بمن معهما إلى جهة الديار المصرية عجزًا عن مقاومته حتى نزلا بالصالحية، ثم إن السلطان جهز جيشًا وسيَّره إلى الشام للقاء نوروز، ثم في شهر صفر في ثامنه من السنة 817 نزل السلطان شيخ على قبة يلبغا خارج دمشق، وقد استعد نوروز وحَصَّن القلعة والمدينة، فأقام السلطان أيامًا، ثم رحل ونزل بطرف القبيبات، وكان السلطان -من الخربة- قد بعث قاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي إلى الأمير نوروز ومعه قرا أول المؤيدي في طلب الصلح، فامتنع من ذلك، ووقعت الحرب، فانهزم نوروز، وامتنع بالقلعة في السادس والعشرين ونزل السلطان بالميدان، وحاصر القلعة، ورمى عليها بالمكاحل والمدافع والمنجنيق، حتى بعث نوروز بالأمير قمش الأمان، فأُجيبَ ونزل من القلعة، ومعه الأمراء: طوخ، ويشبك بن أزدمر، وسدن كستا، وقمش، وبرسبغا، وأينال، فقُبِض عليهم جميعًا في الحادي والعشرين شهر ربيع الآخر، وقُتِل من ليلته، وحُمِل رأسه على يد الأمير جرباش إلى القاهرة، وعلى يده كتب البشارة، وذلك أن الأمير كزل نائب طرابلس قَدِمَ في العشر الأخير من صفر، وقاتل عسكر نوروز، فركب السلطان بمن معه، فانهزم النوروزية إلى القلعة، وملك السلطان المدينة، ونزل بالإسطبل ودار السعادة، وحصر القلعة، وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى قدم رأس نوروز، فعُلِّقَ على باب القلعة!
"أيلول الأسودُ" هو الاسمُ الذي يُشار به إلى شَهر أيلولَ من هذا العامِ؛ ففي هذا الشَّهر تحرَّك حُسين بن طلال ملِكُ الأردنِّ لإجهاضِ مُحاولةٍ لمنظَّمات فِلَسطينية لإسقاطِ نِظامِ حُكمِه الملكيِّ؛ حيث استمرَّ القتالُ المسلَّح حتى يُوليو عام 1971م؛ حيث كان الفِلَسطينيون يُشكِّلون نِسبةً عالية من تَعدادِ سُكان الأردنِّ في تلك الفترة، وكانوا مَدْعومين من قِبَل أنظمةٍ عربية مُختلِفة، خاصَّةً من الرئيس المصريِّ جَمال عبد الناصر. بدَأَت قُوات الأمنِ الأُردنية وقُوات الجيش تَفقِد سُلْطتها؛ حيث بدَأت قُواتُ منظَّمة التحرير الفِلَسطينية النِّظامية بحمْلِ السلاحِ بشَكلٍ عَلَني، وإقامة نِقاطِ تَفتيشٍ، وجمْع ما أطلقوا عليه مُصطلح "ضَرائب القضيةِ الفِلَسطينية". هذا الانتشارُ الفِدائي على الساحة الأُردنية بدَأ يُقلِق الملِكَ حُسينًا، الذي بات يَشعُر أنَّ هناك دولةً بدأَت تنْمو داخلَ دَولتِه. وخلالَ مُفاوضاتِ نوفمبر عام 1968 تمَّ التوصُّل إلى اتِّفاقية من سبْعة بُنود بين الملِك حُسين والمنظَّمات الفِلَسطينية، لكن لم تَصمُد الاتفاقيةُ، وأضْحَت منظَّمة التحرير الفِلَسطينية دولةً داخلَ الدولةِ في الأردنِ، وأصبَح رِجالُ الأمنِ والجيش الحُكومي يُهاجَمون ويُستهزَأ بهم، وما بين مُنتصَف عام 1968 ونهاية عام 1969م كان هنالك أكثرُ مِن 500 اشتباكٍ عنيف وقَع بين الفصائل الفِلَسطينية وقُوات الأمْن الأُردنية. وأصبَحَت أعمالُ العُنْف والخطْف تَتكرَّر بصُورةٍ مُستمِرَّة، كما أن المنظَّمات الراديكاليةُ في مُنظَّمة التحرير الفِلَسطينية -الجبْهة الشَّعبية لتحريرِ فِلَسطين لجورج حبش، والجبْهة الديمقراطيةُ لتَحرير فِلَسطين لنايف حواتمة، والجَبْهة الشعبيةُ لتَحرير فِلَسطين القيادة العامة لأحمد جبريل قرَّرت تقويضَ نِظام الملِك حُسين بن طلال. وفي 9 يونيو نجا الملِكُ حُسين من مُحاولة فاشلةٍ لاغتياله أثناءَ مُرور مَوكبه في منطقة صويلح، ومحاولةٍ فاشلة أُخرى بوسط عَمان؛ حيث قام قنَّاص فِلَسطيني كان مختبئًا على مِئذنة المسجدِ الحُسيني بإطلاق النارِ على سيَّارة الملِك، واستقرَّت إحدى الرصاصاتِ في ظَهر زَيد الرفاعي الذي كان يُحاوِل حِمايةَ الملِك، كانت تلك الفترةُ الأكثرَ حسْمًا ودَمويةً؛ حيث بدَأ الجيشُ الأردني في التوجُّهِ إلى المدن والمخيَّمات الفِلَسطينية والهجومِ على القواعدِ الفدائيةِ فيها بعدَ 16 أيلول، وفي أيَّام الحرب طرَح النِّظام الأُردني سيناريو التدخُّلِ الأمريكي والإسرائيليِّ البريِّ والجويِّ لدَعْم جيش الأُردنِّ، خصوصًا بعدَ أن أعلَنَت سُوريا والعراقُ دَعمَهما للمقاومةِ الفِلَسطينية في الأردنِّ، فتحرَّكت 300 دبابةٍ من القوات السُّورية لتُحِيط بمدينةِ إربد الأُردنية في 20 مِن أيلول، وما بين فِبراير ويونيو من عامِ 1970 قامت مُصادماتٌ بين قُوات الأمْن وقوَّات المنظَّمات الفِلَسطينية. انتهَت المعاركُ بين الطرفينِ في 28 أيلول بعدَ توقيعِ اتفاقيةٍ بين ياسر عَرفات والملِك حُسين في القاهرةِ بحُضور جمال عبد الناصرِ في أعقابِ القِمة العربيَّة الطارئةِ في القاهرةِ في أيلول / سبتمبر، وقُدِّر عددُ القتْلى والإصاباتِ بين الأُردنيين والفِلَسطينيين بعشَراتِ الآلافِ، وتُمثِّل أحداثُ "أيلول الأسود" نُقطةَ تحوُّل في الهُوية الأردنية؛ حيث باشَرَت المملكةُ ببرنامجِ "أرْدَنة المجتمَع"، وطرْد القُوات الفِلَسطينية إلى لُبنان؛ حيث أسَّست فتح "منظَّمة أيلول الأسود"، وفي 28 نوفمبر 1971 في القاهرة اغتِيلَ رَئيس الوزراء الأردني وَصفي التل على يَدِ أربعةٍ من أعضاء مُنظَّمة فتْح، وكان (التل) قد اتَّسم بالعنْف في عملية إجلاءِ الفِدائيين من الأردنِّ.
هو الحاجُّ محمد أمين بنُ محمد طاهر بن مصطفى الحُسيني مفتي القدس. وُلد في القدسِ سنة 1897م، تربَّى في بيت والدِه الشيخِ طاهر الحسينيِّ مفتي القدس، عُرِف بالحاج أمين الحسينيِّ بعد أن حجَّ برفقة والدتِه. تلقَّى علومه الابتدائيَّة والثانوية في مدارسِ القدسِ، ثم التحق بكلية الفرير بالقدس لتعلُّم اللغةِ الفرنسية، بعدها التحق بجامعة الأزهر، وكان يتردَّد على (دار الدعوة والإرشاد) التي أنشأها الشيخُ محمد رشيد رضا حيث تأثَّر به وبفكره الإصلاحيِّ، ومن خلال معرفته به عرف الكثير عنِ الصهيونية وأطماعِها في فلسطين، وبعدَ نُشوب الحرب العالمية الأولى التحق بكلية الأستانةِ العسكرية وتخرَّج منها ضابطًا، والتحق بالجيش العثماني في ولاية أزمير، وعمل فيه حتى نهاية الحرب؛ مما أكسبه خبرة جيِّدة كان لها الأثرُ الأكبر في شخصيتِه وحياتِه. بعدَ نهاية الحرب عاد الحسينيُّ إلى القدس وهو برتبة ضابطٍ، ملِمًّا بالفكر الإسلاميِّ، والعلوم المفيدةِ، والخبرة العسكريةِ، ويعرفُ منَ اللغات الأجنبية التركيةَ والفرنسيةَ، بالإضافة إلى ذلك كلِّه كان بحكم انتمائه إلى أسرة آل الحسيني مهيَّأً ليكون زعيمًا وداعيةً مسموع الكلمةِ. عندما احتلَّ الإنجليز فلسطين انصرف الحُسينيُّ إلى تنظيم الفلسطينيين في حركة وطنية شاملة ضدَّ الاستعمار والصهيونية، فكوَّنوا في القدس أوَّل منظمة سياسيَّة عرفتها فلسطين هو (النادي العربي)، وانتُخب الحسينيُّ رئيسًا له، وكان لهذا النادي أثر كبير في انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية، وقيام المظاهرات ضد الاحتلالِ. تسلَّم الحسينيُّ منصبَ الإفتاء رسميًّا، فأعاد تنظيم المحاكم الشرعية، واختار لها القضاة، ونظَّم الأوقاف، وأخذ يعمل على تقوية المدارس الإسلامية وتنظيم أمورها، كما شارك في تأسيس مجلس شرعي إسلامي لفلسطين تألَّف من مجموعة من العلماء، وعُين الحسيني رئيسًا لهذا المجلس الذي سُمي (المجلس الإسلامي الأعلى) الذي أصبح على مرِّ الأيام أقوى قوة وطنية إسلامية فلسطينية. كان الحاج أمين القوة الدافعة للحركة الوطنية، ومركز الثقل في المقاومة الفلسطينية؛ مما حفَّز الإنجليز واليهود إلى مقاومته والتخلُّص منه، فخرج الحاجُّ من فلسطين إلى لبنانَ بعد رفضه لقرار التقسيم 1937م وتحريضه للفلسطينيين ضدَّ الاحتلالِ، ومكث في لبنان عامين، ثم فرَّ منها إلى العراق، ولما سمع الحاج بالمآسي التي حلَّت بالشعب البوسني المسلم اجتمع بزعماءِ البوسنة والهرسك في ألمانيا؛ للعمل على منع وقوع المذابحِ فيهم، فحصَل على موافقةِ الحكومة الألمانية على تجنيدِ الشبَّان منهم وتسليحِهم للدفاع عن أنفسهِم وعائلاتهم، وكذلك اتَّفق مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة؛ لتوزيعِهم على وَحدات الفرق البوسنيَّة الذين زاد عددُهم عن 100 ألف مقاتل مع دول المحورِ، ولما زحف الحلفاء على ألمانيا عام 1945م انتقل الحاج أمين إلى باريس، ومنها إلى مصر، وفي مصر شكَّل الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسته؛ حيثُ نظَّم الحركة الوطنية الفلسطينية تنظيمًا حديثًا، بل ومدَّ نشاطه إلى الدائرة الإسلامية؛ حيث كان يرأس مؤتمرات إسلامية في مكة نشأت عنها مؤسسة دائمة باسم (مؤتمر العالم الإسلامي) برئاسته، وظل يشغل هذا المنصب طيلة حياته إلى أن تُوفي رحمه الله في بيروت ودُفن في مقبرة الشهداء بالحرج.
سار أبو طاهر سليمان القرمطيُّ إلى الهَبِير في عسكرٍ عظيم ليلقى الحاجَّ في رجوعِهم من مكَّة، فأوقع بقافلةٍ تقدَّمت معظمَ الحاجِّ، وكان فيها خلقٌ كثيرٌ مِن أهل بغدادَ وغيرهم، فنهَبَهم، واتَّصل الخبر بباقي الحاجِّ وهم بفَيد، فأقاموا بها حتَّى فني زادُهم، فارتحلوا مسرعينَ، وكان أبو الهيجاء بن حَمدان قد أشار عليهم بالعَودِ إلى وادي القُرى، وأنَّهم لا يقيمون بفَيد، فاستطالوا الطريقَ، ولم يَقبَلوا منه، فلمَّا فني زادُهم ساروا على طريقِ الكوفة، فأوقع بهم القرامِطة، وأخذوهم، وأسروا أبا الهيجاءِ، وأخذ أبو طاهر جِمال الحُجَّاج جميعها، وما أراد من الأمتعةِ والأموالِ والنِّساء والصِّبيان، وعاد إلى هَجَر، وترك الحاجَّ في مواضعهم، فمات أكثَرُهم جوعًا وعطشًا، ومن حرِّ الشمس، وكان عُمْرُ أبي طاهرٍ حينئذ سبعَ عشرة سنة، وانقلبت بغداد، واجتمع حُرَم المأخوذين إلى حُرَم المنكوبينَ الذين نكبهم ابن الفرات، وجعلن ينادين: القرمطيُّ الصغيرُ أبو طاهر قتل المسلمينَ في طريق مكَّة، والقرمطيُّ الكبير ابن الفرات قد قتل المسلمين ببغداد، وكانت صورة فظيعةً شنيعة، وكسر العامَّةُ منابِرَ الجوامع، وسوَّدوا المحاريبَ يوم الجمعة لستٍّ خلون من صفر، وتقدَّم المقتَدِر إلى ياقوت بالمسيرِ إلى الكوفة ليمنَعَها من القرامطة، فخرج في جمعٍ كثير، ومعه ولداه المظفَّر ومحمَّد، فأنفق على ذلك العسكرِ مالٌ عظيم، وورد الخبرُ بعود القرامطة، فعطل مسير ياقوت، ووصل مؤنسٌ المظفَّر إلى بغداد.
بلغ مُعِزَّ الدولةِ أبا الحُسَينِ بن بُوَيه إصعادُ توزون إلى الموصِل، فسار هو إلى واسِط؛ لِميعادٍ مِن البريديين، وكانوا قد وعدوه أن يُمدُّوه بعسكرٍ في الماء، فأخَلفوه، وعاد توزون من الموصِل إلى بغداد، وانحدر منها إلى لقاءِ مُعِزِّ الدولة، والتَقَوا سابع عشر ذي القعدة بقباب حميد، وطالت الحربُ بينهما بضعةَ عشر يومًا، إلَّا أن أصحاب توزون يتأخَّرون، والديلم يتقَدَّمون، إلى أن عبرَ توزون نهرَ ديالي، ووقف عليه، ومنع الديلمَ مِن العبور، وكان مع توزون مقابلةٌ في الماء في دجلة، فكانوا يودُّون أن الديلم يستولونَ على أطرافِهم، فرأى ابنُ بويه أن يصعَدَ على ديالي ليَبعُدَ عن دجلة وقتالِ من بها، ويتمَكَّن من الماء، فعَلِمَ توزون بذلك، فسيَّرَ بعض أصحابه، وعبَرُوا ديالي وكَمَنوا، فلما سار مُعِزُّ الدولة مصعدًا وسار سوادُه في أثَرِه خرج الكمين عليه، فحالوا بينهما، ووقعوا في العسكرِ وهو على غيرِ تَعبِيةٍ، وسمع توزون الصِّياحَ، فتعجَّلَ وعبَرَ أكثَرُ أصحابه سباحةً، فوقعوا في عسكرِ ابنِ بويه يَقتلون ويَأسِرونَ حتى ملُّوا، وانهزم ابنُ بُويه ووزيره الصيمري إلى السوس رابعَ ذي الحِجة، ولحق به من سَلِمَ مِن عسكره، وكان قد أسَرَ منهم أربعةَ عشَرَ قائدًا، منهم ابن الداعي العلوي، واستأمن كثيرٌ من الديلم إلى توزون؛ ثم إنَّ توزون عاوده ما كان يأخُذُه من الصَّرَع، فشُغِلَ بنَفسِه عن معزِّ الدولة وعاد إلى بغداد.
ثار الجُندُ الأتراكُ ببغداد على جَلالِ الدَّولة البُويهيِّ الشِّيعيِّ، وشَغَّبوا، وطالبوا الوزيرَ أبا علي بنَ ماكولا بما لهم من العلوفةِ والأدرار، ونَهَبوا دارَه ودُورَ كُتَّاب المَلِك وحواشيه، حتى المُغَنِّينَ والمُخَنَّثين، ونَهَبوا صياغاتٍ أخرَجَها جلالُ الدَّولة لتُضرَبَ دنانيرَ ودراهِمَ، وتُفَرَّق فيهم، وحَصَروا جلالَ الدَّولة في داره، ومَنَعوه الطَّعامَ والماءَ، حتى شَرِبَ أهلُه ماءَ البئر، وأكَلوا ثمرةَ البُستانِ، فسألهم أن يُمَكِّنوه من الانحدارِ، فاستأجروا له ولأهلِه وأثقالِه سُفُنًا، فجَعَل بين الدارِ والسُّفُن سُرادقًا لتجتازَ حَرَمُه فيه، لئلَّا يراهم العامَّةُ والأجنادُ، فقصَدَ بعضُ الأتراكِ السُّرادِقَ، فظَنَّ جلالُ الدَّولة أنَّهم يريدونَ الحَرَم، فصاح بهم يقولُ لهم: بلَغَ أمرُكم إلى الحَرَمِ! وتقَدَّم إليهم فصاح صِغارُ الغِلمانِ والعامَّة: جلالُ الدَّولة يا منصورُ، ونزل أحدُهم عن فَرَسِه وأركَبَه إيَّاه، وقَبَّلوا الأرضَ بين يَدَيه، فلمَّا رأى قُوَّادُ الأتراك ذلك هربوا إلى خيامِهم بالرَّملة، وخافوا على نُفوسِهم، وكان في الخِزانةِ سِلاحٌ كثيرٌ، فأعطاه جلالُ الدَّولة أصاغِرَ الغِلمانِ وجعَلَهم عنده، ثمَّ أرسل إلى الخليفةِ ليُصلِحَ الأمرَ مع أولئك القُوَّاد، فأرسَلَ إليهم الخليفةُ القادِرُ بالله، فأصلح بينهم وبين جلالِ الدَّولة، وحَلَفوا، فقَبَّلوا الأرضَ بينَ يَدَيه، ورَجَعوا إلى منازِلِهم، فلم يمضِ غيرُ أيَّامٍ حتى عادوا إلى الشَّغبِ، فباع جلالُ الدَّولةِ فُرُشَه وثيابَه وخِيَمَه وفَرَّقَ ثَمَنَه فيهم حتى سَكَنوا.
في لَيلةِ النِّصفِ من شعبان كان حَريقُ جامعِ دِمشق، وكان سَببُه أنَّ غِلمانَ الفاطِميِّين والعَبَّاسِيِّين اختَصَموا فأُلقِيَت نارٌ بِدارِ المُلْكِ، وهي الخَضراءُ المُتاخِمَةِ للجامعِ مِن جِهَةِ القِبلَةِ، فاحتَرقَت، وسَرَى الحَريقُ إلى الجامعِ فسَقطَت سُقُوفُه وتَناثَرت فُصوصُه المُذَهَّبَةُ، وتَغيَّرَت مَعالِمُه، وتَقَلَّعَت الفُسَيْفِساءُ التي كانت في أَرضِه، وعلى جُدرانِه، وتَبدَّلَت بِضِدِّها، وقد كانت سُقوفُه مُذهَّبَةً كُلَّها، والجَمَلُونات مِن فَوقِها، وجُدرانُه مُذَهَّبَة مُلَوَّنَة مُصَوَّرٌ فيها جَميعُ بلادِ الدنيا، بحيث إنَّ الإنسانَ إذا أراد أن يَتَفرَّج في إقليمٍ أو بَلدٍ وَجدَه في الجامعِ مُصَوَّرًا كهَيئَتِه، فلا يُسافِر إليه ولا يُعنَى في طَلَبِه، فقد وَجدَهُ من قرب الكعبة ومكة فوق المحراب والبلاد كلها شَرقًا وغَربًا، كلُّ إقليمٍ في مكانٍ لائقٍ به، ومُصَوَّر فيه كل شَجرةٍ مُثمِرةٍ وغيرِ مُثمِرة، مصور مشكل في بُلدانِه وأَوطانِه، والسُّتورُ مُرخاةٌ على أَبوابِه النافذةِ إلى الصَّحْنِ، وعلى أُصولِ الحِيطانِ إلى مِقدارِ الثُّلُثِ منها سُتورٌ، وباقي الجُدرانِ بالفُصوصِ المُلوَّنَة، وأَرضُه كُلُّها بالفُصوصِ، ليس فيها بَلاطٌ، بحيث إنَّه لم يكن في الدنيا بِناءٌ أَحسنَ منه، لا قُصورَ المُلوكِ ولا غَيرَها، ثم لمَّا وَقعَ هذا الحَريقُ فيه تَبدَّلَ الحالُ الكاملُ بِضِدِّهِ، وصارت أَرضُه طِينًا في زَمنِ الشِّتاءِ، وغُبارًا في زَمنِ الصَّيفِ، مَحفورةً مَهجورةً، ولم يَزَل كذلك حتى بُلِّطَ في زَمنِ المَلِكِ العادلِ بن أيوبَ، أخي صَلاحِ الدين الأيوبي.
احتلَّ الفرنج طرابلس، وسبب ذلك أن طرابلس كانت قد صارت في حكم العُبيديين في مصر ونائبهم فيها، والمدد يأتي إليها منه، فلما كانت هذه السنة أول شعبان وصل أسطولٌ كبير من بلد الفرنج في البحر، ومُقدَّمهم قمص كبير القساوسة- اسمه ريمند بن صنجيل، ومراكبه مشحونة بالرجال والسلاح والميرة، فنزل على طرابلس، وكان نازلًا عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل، فجرى بينهما فتنة أدت إلى الاقتتال بينهما، فوصل طنكري صاحب أنطاكية إليها؛ معونةً للسرداني، ووصل الملك بغدوين، صاحب القدس، في عسكره، فأصلح بينهما، ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس، وشرعوا في قتالها، ومضايقة أهلها، من أول شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك سُقِط في أيديهم، وذلَّت نفوسهم، وزادهم ضعفًا تأخُّرُ الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة، ومد الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف، فهجموا على البلد وملكوه عَنوة وقهرًا يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، ونهبوا ما فيها، وأسروا الرجال، وسَبَوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة وكُتُب دور العلم الموقوفة ما لا يُحَدُّ ولا يحصى، فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالًا وتجارة، وسَلِمَ الوالي الذي كان بها وجماعةٌ من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق، وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات، وأُخِذَت دفائنهم وذخائرهم في مكامنِهم.