يقول ابن بشر: "كانت هذه البلدةُ -الدِّرعية- أقوى البلادِ، وقوَّةُ أهلها وكثرةُ رجالهم وأموالهم لا يحصيه التَّعداد، فلو ذهبت أعددُ أحوالهم وإقبالَهم فيها وإدبارَهم في كتايب الخيل والنجايب العمانيات، وما يدخلُ على أهلها من أحمالِ الأموالِ مِن سائر الأجناس التي لهم مع المسافرينَ منهم، ومن أهل الأقطار- لم يسَعْه كتاب، ولرأيت العجَبَ العجاب، وكان الداخِلُ في موسمها لا يفقد أحدًا من أهل الآفاقِ مِن اليمن وتهامة والحجاز وعمان، والبحرين وبادية الشام والعراق، وأناس من حاضرتهم، إلى غير ذلك من أهل الآفاقِ ممن يطول عَدُّه، هذا داخِلٌ فيها وهذا خارجٌ منها، وهذا مستوطِنٌ فيها، وكانت الدورُ لا تُباعُ فيها إلا نادرًا، وأثمانُها سبعة آلاف ريال وخمسة آلاف، والداني بألف ريال، وأقل وأكثر، وكلُّ شيء يقدره على هذا التقدير من الصغير والكبير، وكروة الدكان الواحد بلغت في الشَّهرِ الواحد خمسةً وأربعين ريالًا، وكروة الدكان الواحد من سائر الدكاكين بريالٍ في اليوم، والنازل بنصفٍ، وذُكر لي: أن القافلة من الهدم -الملابس- إذا أتت إليها بلغَت كروة الدكان في اليوم الواحد أربعة أريُل، وأراد رجلٌ منهم أن يوسِّعَ بيته ويعمره فاشترى نخلاتٍ تحت هذا البيت يريدُ قطعها ويعمر موضِعَها، كل نخلة بأربعين ريالًا أو خمسين ريالًا، فقطع النخل وعمر البيت، ولكِنَّه وقع عليه الهدم قبل تمامِه، وذَكر لي من أثقُ به أن رجلًا من أهل الدرعية قال له: إني أردت ميزابًا في بيتي فاشتريتُ خشبة طولها ثلاثة أذرع بثلاثة أريُل، وأجرة نَجْره وبِناه ريال, وكان غلاء الحطب فيها والخشب إلى حدِّ الغاية، حتى قيل: إنَّ حملَ الحطب بلغَ خمسة أريل وستة، والذراع من الخشبة الغليظة بريال، وكل غالبِ بيوتها مقاصير، وقصور كأنَّ ساكنيها لم يكونوا من أبناء ساكني القبور، فإذا وقفْتَ في مكان مرتفع ونظرت موسمها وكثرة ما فيها من الخلائق وتزايلهم فيه وإقبالهم وإدبارهم، ثم سمعتُ رنَّتَهم فيه ونجناجهم فيه، إذا كأنه دويُّ السيل القوي إذا انصَبَّ من عالي جبل، فسبحان من لا يزولُ مُلكُه ولا يُضامُ سُلطانُه ولا يُرامُ عِزُّه {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] "
في عام 1907 أنشأ الحزبُ اليهوديُّ مُنظَّمةً عَسكريَّةً من اليهود الأوروبيين تسمَّى (بارجيورا) ثم تأسَّست الوكالة اليهودية عام 1923 بقرارٍ من المؤتمر الصهيوني الثالث عشر، وهي الوكالةُ التي أخذت على عاتِقِها تنشيطَ هِجرةِ اليهود من جميع أنحاء العالم إلى فلسطين بشتى الوسائل. وهي منظَّمةٌ يهودية صهيونية أقيمَت بمبادرةٍ مِن بنيامين زئيف هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول، الذي انعقد في بازل عام 1897م بصفته برلمانًا عامًّا لليهود. انعقد المؤتمَرُ مِن أجل بحثِ سُبُل تحقيق أهداف الصهيونية، كما هو منصوصٌ عليها في خطة بازل: "إقامة وطن للشعب اليهودي في أرض إسرائيل حَسَب الشريعة الدولية". وعليه اتخذ المؤتمرُ إجراءاتٍ لإنجازِ هذه الخطة: توطينُ اليهود الفلَّاحين وأصحاب المهن وأرباب الصناعة، في أرض إسرائيل. تنظيم وتوحيد الشعب اليهودي بأسْرِه عن إنشاء المؤسَّسات الملائمة، والمحلية والعامة بموجِبِ القوانين الخاصَّة بكل بلاد. تقوية العواطِفِ اليهودية القومية والاعتراف القومي اليهودي. إجراءُ النشاطات التمهيدية بهدفِ الحصول على مُوافقة الحكوماتِ التي بوُسعِها المساعدة على تحقيق هدف الصهيونية. ولدى إقامة المنظَّمة الصهيونية انخرطت فيها حوالي 260 جمعيةً من "حوففي تصيون" (أعضاء محبي صهيون) من روسيا ومن شرق أوروبا. وفي بداية طريقها عملت المنظَّمةُ الصهيونية على توطيد الاستيطان في أرض فلسطين؛ حيث أقامت هيئاتٍ بهدفِ مساعدتها على نَيلِ أهدافها. على سبيل المثال تمَّ تأسيس بنك كنز الاستيطان اليهودي عام 1899 بهدف تمويلِ فكرة هرتزل في شِراءِ امتيازٍ لتوطين اليهود في أرض إسرائيل من أيدي المملكة العثمانية. ثمَّ تمَّ اعتبار ضائقة الشعب اليهودي مشكلةً سياسية عالمية يجِبُ التعامل معها على الصعيدِ الدولي، وعمل على إنجاز الهدفين الرئيسيين: الهدف الأول: إقامة وطن للشعب اليهودي في أرض إسرائيل بموافَقةٍ مِن الدول الكبرى، عن جراء "شارتير" (وثيقة حقوق سياسية يتم الحصولُ عليها بالمفاوضات الدبلوماسية) كما تقَرَّر في خطة مؤتمر بازل. والهدف الآخر: تقوية وتطوير المنظمة الصهيونية؛ من أجل أن تتحَوَّلَ إلى هيئةٍ ذات أهمية في المفاوضات السياسية؛ إذ في يوم من الأيام سيكون بمقدورها تولِّي قيادةِ المشروع الاستيطاني. هذا ومارست المنظَّمةُ الصهيونية العالمية نشاطاتِها بصورة دبلوماسية، وخاصةً في المملكة العثمانية، وفي ألمانيا، ولكِنْ لم تؤدِّ الجهود السياسية المباشِرة التي بذلها هرتزل إلى النتائجِ المنشودة.
لَمَّا بلغ الأمير فاروق سن الرابعة عشرة طلب السير مايلز لامبسون من الملك فؤاد ضرورةَ سفر ابنه الأمير فاروق إلى بريطانيا لمواصلةِ الدراسة وأصَرَّ على ذلك بشدة رافضًا أيَّ محاولة من الملك فؤاد لتأجيل سفره حتى يبلغ سن السادسة عشرة، فتقرَّر سفرُ فاروق إلى بريطانيا ولكن دون أن يلتحِقَ بكلية إيتون، بل تم َّإلحاقه بكلية وولتش للعلوم العسكرية؛ ونظرًا لكونه لم يبلغ الثامنة عشرة -وهو أحد شروط الالتحاق بكلية وولتش- فقد تم الاتفاق على أن يكون تعليمُه خارج الكلية على يد معلِّمين من نفس الكلية، وقد رافق فاروق خلال سفرِه بعثةٌ مُرافِقةٌ له برئاسة أحمد حسنين باشا؛ ليكون رائدًا له -والذي كان له دور كبير في حياته بعد ذلك- بالإضافة إلى عزيز المصري الذي كان نائبًا لرئيس البعثة وكبيرًا للمعلمين، بالإضافة إلى عمر فتحي حارسًا للأمير وكبير الياوران فيما بعد، وكذلك الدكتور عباس الكفراوي كطبيب خاص، وصالح هاشم أستاذ اللغة العربية، بالإضافة إلى حسين باشا حسني كسكرتير خاص، والذي كان وجوده عاملًا مساعدًا للأمير على الانطلاق؛ فقد شجَّعه على الذهاب إلى المسارح والسينما ومصاحبة النساء ولعب القمار، بينما كان عزيز المصري دائم الاعتراض على كل تلك التصرفات، وكان فاروق بحُكمِ ظروف نشأته القاسية والصارمة يميل إلى حسين باشا ويتمرَّدُ على تعليمات وأوامر عزيز المصري، وفي تلك الفترة كان المرض قد اشتَدَّ على الملك فؤاد، وأصبح على فراش الموت، فاقترحت بريطانيا تشكيل مجلس وصاية مكوَّن من ثلاثة أعضاء، هم: الأمير محمد علي توفيق؛ ابن عم الأمير فاروق، وقد كان ذا ميول إنجليزية، وكان يرى دائمًا أنه أحق بعرش مصر، والثاني: هو محمد توفيق نسيم باشا، رئيس الوزراء الأسبق، وهو من رجال القصر، والثالث: هو الإمام الأكبر الشيخ المراغي، وعندما علم الأمير فاروق بشدَّةِ مرض والده ورغبته في أن يرى ابنه، طلب العودةَ إلى مصر لرؤية والده ووافقت بريطانيا بعد تردُّد على عودة فاروق إلى مصر في زيارة ليعودَ بعدها لاستكمال دراسته إلَّا أنه وقبل أن يسافر فاروق إلى مصر لرؤية والده كان والده الملك فؤاد الأول قد لقِيَ ربه في 28 أبريل 1936م. وعاد فاروق إلى مصر وقطع دراستَه ليجلس على كرسي العرش.
ثارت العامَّةُ يدًا واحدةً في يوم الجمعة تاسِعَ ربيع الآخر، وهَدَموا كنيستينِ مُتقابلتَينِ بالزهري، وكنيسة بستان السكري، وتعرف بالكنيسة الحمراء، وبعض كنيستين بمصرَ، ففي هذا اليوم الجمعة تاسع ربيع الآخر بطل العَمَلُ وقتَ الصلاةِ لاشتغالِ الأمراء بالصلاةِ، اجتمع من الغلمانِ والعامَّة طائفةٌ كبيرة، وصرخوا صوتًا واحدًا: اللهُ أكبر، ووقعوا في أركانِ الكنيسة بالمساحي والفُؤوسِ حتى صارت كُومًا، ووقع مَن فيها من النصارى، وانتهب العامَّةُ ما كان بها، والتفَتوا إلى كنيسة الحمراء المجاورة لها، وكانت من أعظَمِ كنائس النصارى، وفيها مالٌ كبير، وعِدَّةٌ من النَّصارى ما بين رجالٍ ونساءٍ مُتَرَهِّبات، فصعدت العامَّةُ فوقها، وفتحوا أبوابَها ونهبوا أموالَها وخُمورَها، وانتقلوا إلى كنيسةِ بومنا بجوار السبع سقايات، وكانت مَعبدًا جليلًا من معابد النصارى، فكَسَروا بابَها ونهبوا ما فيها، وقَتَلوا منها جماعة، وسَبَوا بنات كانوا بها تزيد عِدَّتُهن على ستين بكرًا، فما انقضت الصلاة حتى ماجت الأرضُ، فلما خرج الناسُ من الجامع رأوا غبارًا ودخانَ الحريق قد ارتفعا إلى السَّماءِ، وما في العامَّةِ إلَّا من بيده بنتٌ قد سباها أو جَرَّة خمرٍ أو ثوب أو شيء من النهب، فدُهِشوا وظنُّوا أنها الساعة قد قامت، وقَدِمَ مملوك والي مصر وأخبر بأن عامَّتَها قد تجمَّعَت لهدم كنيسة المعلَّقة حيث مسكَنُ البطرقِ وأموال النصارى، ويَطلُبُ نجدة، فلِشِدَّةِ ما نزل بالسلطان من الغَضَبِ هَمَّ أن يركَبَ بنَفسِه، ثم أردف أيدغمش بأربعةِ أمراء ساروا إلى مصر، وبعث بيبرس الحاجِبَ، وألماس الحاجب إلى موضع الحفر، وبعث طينالَ إلى القاهرة، ليضعوا السيف فيمن وَجَدوه، فقامت القاهرةُ ومصر على ساق، وفَرَّت النهَّابة، فلم تُدرِك الأمراءُ منهم إلا من غلب على نفسِه بالسُّكرِ مِن الخمر، وأدرك الأميرُ أيدغمش والي مصر وقد هزمته العامَّةُ من زقاق المعلقة، وأنكَوا مماليكَه بالرَّميِ عليهم، ولم يبقَ إلَّا أن يحرقوا أبوابَ الكنيسة، فجَرَّد هو ومن معه السيوفَ ليفتِكَ بهم، فرأى عالَمًا عظيمًا لا يحصيهم إلَّا خالِقُهم، فكفَّ عنهم خوفَ اتِّساعِ الخَرقِ، ونادى مَن وقَفَ فَدَمُه حلالٌ، فخافت العامَّةُ أيضًا وتفَرَّقوا، ووقف أيدغمش يحرُسُ المعَلَّقة إلى أن أُذِّنَ بالعصر، فصلى بجامع عمرو بن العاص، وعيَّنَ خمسينَ حارِسًا للمَبيتِ مع الوالي على بابِ الكنيسة، وعاد. وقيل كأنَّما نودي في إقليم مصر بهدمِ الكنائس، وأوَّل ما وقع الصوتُ بجامع قلعة الجبل, وذلك أنَّه لما انقضت صلاةُ الجمعة صرخ رجلٌ مُولَهٌ في وسط الجامع: "اهدِموا الكنيسةَ التي في القلعةِ"، وخرج في صراخه عن الحَدِّ واضطرب، فتعجَّب السلطانُ والأمراء منه، ونُدِبَ نقيب الجيش والحاجب لتفتيش سائر بيوت القلعة، فوجدوا كنيسةً في خرائب التتر قد أُخفِيَت، فهدموها، وما هو إلَّا أن فرغوا من هَدمِها والسلطانُ يتعَجَّبُ إذ وقع الصراخُ تحت القلعة، وبلغه هدمُ العامَّة للكنائس، وطُلِبَ الرجُلُ المُولَهُ فلم يُوجَدْ، وعندما خرج الناسُ من صلاة الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة رأوا العامةَ في هرج عظيم، ومعهم الأخشابُ والصُّلبان والثياب وغيرها، وهم يقولون: "السلطانُ نادى بخراب الكنائس"، فظنُّوا الأمر كذلك، وكان قد خُرِّبَ من كنائس القاهرة سوى كنيستي حارة الروم وحاره زويلة وكنيسة بالبندقانيين كنائس كثيرة، ثم تبيَّنَ أنَّ ذلك كان من العامة بغير أمر السلطان، فلما كان يومُ الأحد الحادي عشر سقط الطائِرُ من الإسكندرية بأنَّه لَمَّا كان الناس في صلاة الجمعة تجمَّع العامَّةُ وصاحوا هُدِمَت الكنائس، فركب الأميرُ بدر الدين المحسني متولي الثغر بعد الصلاةِ لِيُدرِك الكنائس، فإذا بها قد صارت كُومًا، وكانت عِدَّتُها أربع كنائس، ووقعت بطاقةٌ من والي البحيرة بأنَّ العامَّةَ هَدَمت كنيستين في مدينة دمنهور، والنَّاسُ في صلاة الجمعة، ثمَّ ورد مملوكُ والي قوص في يوم الجمعة السابع عشر، وأخبر بأنه لما كان يوم الجمعة هدم العامَّةُ سِتَّ كنائس بقوص في نحو نصف ساعة، وتواترت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بهدم الكنائس وقت صلاةِ الجمعة، فكثُرَ التعَجُّبُ من وقوع هذا الاتِّفاق في ساعةٍ واحدة بسائر الأقاليم، وكان الذي هُدِمَ في هذه الساعة من الكنائِسِ سِتُّونَ كَنيسةً!!
هو السلطانُ حسين كامل سلطان ابن الخديوي إسماعيل، حَكَمَ مصر تحت الاحتلال البريطاني، ولِدَ في القاهرة، ولما بلغ الثامنة التحق بمدرسة قصر النيل التي أنشأها والده ليتعلَّم فيها، بخاصة أولاده وأولاد الأعيان. ولي حسين كامل سلسلةً من المناصب الإدارية. وأقام في طنطا فترةً بوصفه مفتشًا للدلتا، وأشرف على النهوض بقنوات الري في هذه المنطقة. وكذلك خدم مراتٍ عدةً في وزارات المعارف والأوقاف والأشغال العمومية، والداخلية والمالية. وعمل في مجالس إدارة كثيرٍ مِن الشركات الأجنبية، مثل سكة حديد الدلتا. على أنَّ خير ما أسداه من فضلٍ هو نهوضه بالزراعة في مصر، وأنشأ في دمنهور مدرسةً تجارية صناعية، ورأس مدة قصيرة مجلس شورى القوانين والمجلس التشريعي، ولكنه استقال من المجلسين سنة 1909 إثرَ الأزمة التي نشأت حول تمديدِ امتياز قناة السويس. ولما أعلنت تركيا الحربَ على بريطانيا سنة 1914. وشكَّت بريطانيا في أن الخديوي عباس حلمي الثاني يتعاطفُ مع تركيا فضلًا على تأييده للوطنيين في مصر، فعزلته وأقامت الأميرَ حسين كامل حاكمًا على مصر، وأطلقت عليه لقب سلطان؛ نكاية بالسلطان العثماني، وكان قبولُ حسين كامل للسلطنة قد قوبِلَ بمعارضة العناصر الوطنية؛ إذ رأوا أنَّ قبولَه لها في ظِلِّ الاحتلال البريطاني والحكومة العسكرية مَهانةٌ قومية. بل إن كثيرًا من هذه العناصر رأت أنها خيانةٌ عظمى ارتكبها في حَقِّ الدولة العثمانية المُسلِمة في حربها مع بريطانيا. بل نظر بعضُ الوطنيين إلى السلطان وحكومةِ الحرب التي يرأسُها حسين رشدي باشا إلى أنها أدواتٌ في يد سلطات الاحتلال البريطاني، فاستفحلت الوحشةُ بين الجمهور وبين الحكومة والسلطان؛ ولذلك ما إن تربَّع السلطان حسين على دست الحكمِ حتى باشر واجباتِه فمضى يمحو البقيةَ الباقية من آثار السلطان التركي على مصر ومظاهره الإدارية والقضائية، وعلى الرغم من كل هذا إلا أن علاقة السلطان حسين كامل بالسلطات البريطانية في مصر لم تكن في جميع ِالأحوال علاقاتٍ وديةً أو وثيقة؛ فقد كانت بريطانيا في مصر تنظر بعين السخط إلى أنه يعمَلُ على تقوية الروابط بينه وبين الحركة الوطنية؛ ومن ثم فإن البريطانيين كانوا لا يقرُّون محاولات السلطان بالظهور في صورة الزعيم الشعبي، في حين أن الشعب المصري كان ينكِرُ منه أنه أداةٌ في يد البريطانيين. بدأت صِحَّةُ السلطان حسين تضمحِلُّ إلى أن توفي في هذا العام، وكان ابنه الأمير كمال الدين حسين قد أعلن من قَبلُ نزوله عن حقه في وراثة عرش مصر، فخَلَف السلطانَ حسين أخوه الأميرُ فؤاد الذي أصبح ملكًا بعد ذلك.
كانت الموصِل جزءًا من الدولة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما احتلَّتْها بريطانيا، وبعد حرب الاستقلال التركية، اعتبرت تركيا الموصل من القضايا الحاسمة المحدَّدة في الميثاق الوطني التركي. وعلى الرغم من المقاومة المستمرة تمكَّنت بريطانيا من طرح هذه القضية في الساحة الدولية، كمشكلة حدود بين تركيا والعراق. فقرَّر مجلسُ عصبة الأمم في جلسته المنعقدة في الثالث من ربيع الأول عام 1343هـ / الأول من تشرين الأول 1924م أن يتولى بنفسِه تعيينَ الحدود بين تركيا والعراق، وإنهاء الخلاف بين الحكومتين على ولاية الموصل، وأرسل مجلِسُ عصبة الأمم لجنةً مؤلفة من ثلاثة أعضاء وصلت إلى بغداد في العشرين من جمادى الآخرة 1343هـ / 15 كانون الثاني 1925م، وكانت إنجلترا ترى أن المنطقةَ المتنازَعَ عليها تضُمُّ مجموعاتٍ نصرانيةً وأخرى يهودية، وكذلك مجموعة يزيدية، وبما أنهم سيوطَّنون تحت دولة مسلمة فلا بد من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحمايتهم تمامًا، وخاصة أنهم رغم بقائهم بكلِّ أمن وسلام فترة عيشهم في ظل الدولة العثمانية إلا أنهم عند اندلاع الحرب العالمية الأولى أظهروا ما تُخفي صدورهم من الحقد الصليبي، فكانوا شرًّا وبيلًا على المسلمين من قَتلٍ وترويع ونهب؛ فلذا رفض الأتراك أن يكون الآشوريون على الحدود، فقامت إنجلترا ومن خلال جمع التبرعات لهم بإسكانِهم في مناطق أخرى في الوسَط، وطُلِب من الحكومة العراقية منحُهم أراضيَ مقابل التي تركوها في الموصل، وإعفاؤهم من الضرائب، واعترفت الحكومةُ بالبطريك مار شمعون بطريقًا لهم، أمَّا الأكراد الذين كانوا جيرانًا للآشوريين فلم يَسلَموا أيضا من أذاهم أيامَ اندلاع الحرب بحكم أن الأكراد يخالفونهم في العقيدة، فهو مسلمون، وزاد أذاهم لهم لَمَّا احتل الإنجليز العراق، وبعد رفع الأمر لمحكمة لاهاي وإرسال اللجان التي درست المنطقة قرَّر مجلس عصبة الأمم أن تكون الحدودُ بين العراق وتركيا كما في قرار الأول من ربيع الثاني 1343هـ ولم توافق تركيا طبعًا فعرض الإنجليز على تركيا اتفاقًا تتعهَّدُ فيه المحافظة على سلامة أملاكها مقابِلَ بقاء الموصل للعراق وأن تُجرَّدَ الموصِلُ من وسائل الدفاع وتُعَدُّ حيادية، وتعطى تركيا قرضًا بقيمة عشرة ملايين جنيه وتتنازل عن جزء من السليمانية، ورفضت أيضًا تركيا ذلك، ثمَّ عُقِدَ مؤتمر ثلاثي عراقي تركي إنجليزي وُقِّعَت فيه معاهدة شَمِلَت رسم الحدود وجنسية سكان المناطق التي كانت موضِعَ خلافٍ، وموضوعَ استثمارِ النِّفطِ، وتعهدت إنجلترا بدفع عشرة بالمائة من عائدات النفط لمدة خمسة وعشرين سنة.
كانت قضيةُ تقسيم الهند بين المسلمين والهندوس قضيةً شائِكةً جِدًّا، وبقيت سنواتٍ عِدَّةً بين أخذ ورد ومقترحات ومشروعات ومفاوضات وتدخلات بريطانية، وما إلى ذلك، وكان من آخِرِها اللجنةُ الوزارية المؤلَّفة من ثلاثة بريطانيين مهمَّتُهم المباحثة مع زعماء الهند، وأجرت المحادثات وادَّعت أن الشعب باستثناء الرابطة الإسلامية يرغَبُ في وحدة الهند، وأنهم سيرون موضوعَ استقلال باكستان، وزعموا أنَّ إقامةَ دولة باكستان لن يحلَّ المشكلة، وإن كان ففي حدود أضيق مما يطالب به الانفصاليون، وقام مجلِسُ الرابطة الإسلامية برَدِّ مقترحات هذه البَعثة الوزارية، والتي من بينها تقسيمُ البنجاب والبنغال، وقامت مظاهراتٌ واشتدت في كلِّ أرجاء الهند، وعَمِلَ الهندوس خلالها على قتلِ كُلِّ من يُنسَب إلى حزب المؤتمر الهندي من المسلمين، وفتكوا بالتجَّار القادمين من دلهي، ثم دُعِيَ الأطراف الممثِّلون عن حزب الرابطة والمؤتمر وطائفة السيخ للسفَرِ إلى لندن للمشاورة، واستمَرَّ النزاع فأعلنت بريطانيا عن خطة جديدة؛ ففي 25 شعبان 1366هـ / 14 تموز قُدِّمَ إلى المجلس النيابي البريطاني قرارُ استقلال الهند مؤلَّفًا من عشرين مادة وثلاثة جداول، ثم حاز القرارُ على التصديق الملكي في 29 شعبان، وجاء فيه: تنشأ اعتبارًا من 27 رمضان 1366هـ / 14 آب دولتانِ مستقلَّتان من طراز الدومنيونات (مستعمرات لها نظام حكم ذاتي واستقلال وحكومة خاصة مع بقائها تحت التاج الملكي البريطاني) في الهند تُعرَفُ إحداهما بالهند، وثانيهما باكستان، وسيكونُ في كل دولة حاكِمٌ يدير الدومنيين، ويتم تعيينُه من قِبَلِ صاحبِ الجلالة، (وتم تعيين محمد علي جناح حاكمًا عامًّا على باكستان)، ثم جرى خلافٌ حول بعض المقاطعات، مثل: جوناكاد (التي أخذها الهنودُ بالقوة العسكرية بمباركة إنجلترا ) وحيدر أباد (التي أيضا أخذها الهنودُ بالقوة العسكرية عام 1367هـ بسكوت إنجلترا وعصبة الأمم) وكشمير (التي ما يزال الخلاف عليها قائمًا إلى اليوم) ونيبال وبوتان وسيلان وسكيم (وهذه مقاطعات لم تدخُلْ ضِمنَ التقسيم، وإنما شَكَّلت دولًا مستقلة، ولكن سكيم انضمت للهند عام 1396هـ) وغوا (احتفظ بها البرتغاليون كميناء تابع لهم) وبونديشيري (احتفظ الفرنسيون بهذا الميناء)، ومن الجدير بالذكر أن هذا التقسيم لم يتمَّ بسهولة؛ فقد عمل الهندوس على تفريغ أكبر قدر من عصبيَّتِهم قبل أن يُفلِتَ المسلمون من أيديهم، فأقاموا الحواجز التي تمنع وصولَ المسلمين وارتكبوا المذابِحَ الشنيعة، وأحرقوا القطارات التي تنقل المسلمين إلى باكستان، حرقوا وسَبَوا ودمَّروا القرى ومحطات السكك، وفعلوا ما تقشعر منه الأبدانُ وخاصَّةً في دهلي والبنجاب الشرقية.
مؤسِّسُ الدَّولةِ المرداسيَّة في حلَبٍ هو صالِحُ بنُ مرداس الذي لُقِّبَ أسدَ الدَّولة. وهو من بني كلابٍ، القبيلةِ العربيَّةِ التي كانت تَنزِلُ ضِفافَ الفُراتِ والجزيرة, وكان بالرَّحبةِ رَجلٌ مِن أهلها يُعرَفُ بابنِ محكان، فمَلَك البلدَ، واحتاجَ إلى من يجعَلُه ظَهرَه، ويستعينُ به على مَن يَطمَعُ فيه، فكاتَبَ صالِحَ بنَ مِرداس الكلابيَّ، فقَدِمَ عليه وأقام عنده مُدَّةً، ثمَّ إنَّ صالحًا عدا على ابنِ محكان فقتَلَه ومَلَك الرَّحبة, وفي سنة 399 كانت وقعةٌ بين أبي نصرِ بنِ لؤلؤٍ صاحِبِ حَلَب، وصالحِ بنِ مرِداس، وكان ابنُ لؤلؤ من موالي بنِي حمدان، فقَوِيَ على ولَدِ سَعدِ الدَّولة يخطُبُ للحاكِمِ صاحِبِ مِصرَ، ثمَّ فسد ما بينه وبين الحاكِمِ، فطَمِعَ فيه ابنُ مرداس، وبنو كلاب، وكانوا يطالِبونَه بالصِّلاتِ والخِلَع، ثمَّ إنهم اجتَمَعوا في خمسمِئَة فارس، ودخلوا مدينةَ حَلَب، فأمر ابنُ لؤلؤ بإغلاقِ الأبوابِ والقَبضِ عليهم، فقُبِضَ على مِئَة وعشرينَ رَجُلًا، منهم صالحُ بنُ مرداس، وحَبَسهم، وقتَلَ مِئَتين, وبَقِيَ صالِحُ بنُ مِرداسَ في الحَبسِ، حتى صَعِدَ مِن السور وألقى نفسَه مِن أعلى القلعةِ إلى تَلِّها, وسار بقَيدِه ولبنةِ حديدٍ في رِجلَيه، حتى وصل قريةً تُعرَفُ بالياسريَّة، فرأى ناسًا من العربِ فعَرَفوه وحَمَلوه إلى أهلِه بمرج دابق، فجمَعَ ألفَي فارسٍ وقصَدَ حَلَب وحاصَرَها اثنين وثلاثين يومًا، فخرجَ إليه ابنُ لؤلؤ، فقاتَلَه، فهَزَمَهم صالحٌ وأسَرَ ابنَ لؤلؤ، وقيَّدَه بقَيدِه الذي كان في رِجلِه ولَبِنَتِه. ثمَّ إنَّ ابنَ لؤلؤٍ بذَلَ لابنِ مرداسٍ مالًا على أن يُطلِقَه، فلمَّا استقَرَّ الحالُ بينهما أخذ رهائِنَه وأطلقَه، فلمَّا قُتِلَ الحاكِمُ العُبَيديُّ صاحِبُ مِصرَ، اجتمع حَسَّان أميرُ بني طي، وصالحُ بنُ مرداس أميرُ بني كلاب، وسِنانُ بنُ عليان، وتحالفوا، واتَّفَقوا على أن يكونَ مِن حَلَب إلى عانة لصالحٍ، ومِنَ الرَّملةِ إلى مصرَ لحَسَّان، ودمشقُ لسنان، فسار حسَّان إلى الرملةِ وأخَذَها من أنوشتكين نائِبِ الحاكِمِ، وقصَدَ صالِحٌ حَلَب، وبها إنسانٌ يُعرَفُ بابن ثعبان يتولَّى أمْرَها للمِصريِّينَ، وبالقلعةِ خادِمٌ يُعرَفُ بمَوصوفٍ، فأمَّا أهلُ البلدِ فسَلَّموه إلى صالحٍ؛ لإحسانِه إليهم، ولِسُوءِ سِيرةِ المِصريِّينَ معهم، وصَعِدَ ابنُ ثعبان إلى القلعةِ، فحَصَره صالحٌ بالقلعةِ، فغار الماءُ الذي بها، فلم يبقَ لهم ما يَشرَبونَ، فسَلَّمَ الجُندُ القلعةَ إليه، وذلك سنة 414، ومَلَك مِن بَعْلَبَكَّ إلى عانة، وأقام بحَلَب سِتَّ سنين إلى أن قُتِلَ على يدِ المِصريِّينَ سنة 420.
خرج الأميرُ بَيدمر نائِبُ الشام عن الطاعة، وبموافقةِ جماعةٍ مِن الأمراء له على ذلك، منهم أسَنْدَمر أخو يَلبغا اليحياوي، والأمير مَنجَك وجماعة، وأنه قام لأخذ ثأر السُّلطانِ حسن، وأفتاه جماعةٌ من الفقهاء بجواز قتال قاتِلِه الذي تغَلَّب على المُلك- يعني الأمير يَلْبُغا- ومنع البريدَ أن يمُرَّ مِن الشام، وجَهَّزَ الأمير مَنجَك والأمير أَسَندَمُر الزيني في عسكَرٍ إلى غزة، فحاربوا نائِبَها ومَلَكوها، فنصب الأميرُ يَلبُغا السَنْجقَ السلطاني، وتقَدَّمَ إلى الأمراء بالتجهيز للسفر، وأخرج الأميرَ قَشَتمر نائب السلطة إلى جهة الصعيد في عسكَرس ليحفظ تلك الجِهةَ في مُدَّة الغيبة بالشام، وأُقيم الأمير شرف الدين موسى بن الأزْكَشي نائب الغيبة، وخَرَجت طلابُ الأمراء شيئًا بعد شيءٍ، وركب السلطانُ في أول شهر رمضانَ مِن قلعة الجبل، ونزل خارِجَ القاهرة، ثم رحل وصحبته الخليفةُ والأمراء، وتاج الدين محمد بن إسحاق المناوي قاضى العسكر، وسراج الدين عمر الندى قاضي العسكر، فرحل الأميرُ منجَك بمن معه من غَزَّة، عائدًا إلى دمشق، فنزل بها السلطانُ بعساكره وجلس الأميرُ يلبغا لعَرضِ العسكر، ثم ساروا جميعًا إلى دمشق، وخيَّموا بظاهرها، فخرج إليهم أكثَرُ أمراء دمشق وعسكَرُها راغبين في الطاعة، حتى لم يبقَ مِن الأمراء مع بيدمر سوى مَنجَك وأسندمر- وقد امتنعوا بالقلعة- فترددت القضاةُ بين الفريقين في الصُّلحِ حتى تقرر، وحَلَف لهم الأميرُ يَلُبغا على ذلك، فاطمأنُّوا إليه ونزلوا من القلعة، فركبَ السلطانُ بعساكره صبحَ يوم الاثنين تاسع عشرين شهر رمضان، ودخَلَ إلى دمشق وقبض على الأمير بيدمر والأمير منجك والأمير أسندمر، وقُيِّدوا، فأنكر ذلك جمال الدين يوسف بن محمد المرداوي الحنبلي قاضي دمشق، وصار إلى الأمير يَلْبُغا، وقال له: لم يقع الصلحُ على هذا فاعتذر بأنَّه ما قصد إلا إقامةَ حُرمةِ السلطان، ووعد بالإفراجِ عنهم، فلما انصرف بعث بهم إلى الإسكندريَّة، فسُجِنوا بها، وصَعِدَ السلطان إلى قلعة دمشق، وسكَنَها، واستبد الأميرُ يَلْبُغا بتدبير الأمورِ في الشام، على عادتِه في مصر، واستقَرَّ الأمير علاء الدين أمير علي نائب الشام عوضًا عن الأمير بَيدمر، واستقر الأميرُ قطْلُوبُغا الأحمدي رأس نوبة في نيابة حلب عوضًا عن الأمير أحمد بن القَشتمري، ثم سار السلطانُ بعساكره من دمشق في يوم الأحد، فلمَّا قرب من القاهرة دُقَّت البشائر بقلعة الجبل، وزُيِّنَت القاهرة ومصر زينة عظيمة، وصعد إلى قلعته في يوم الاثنين عشرين شوال، وفيه قدم الأمير قَشْتَمُر النائبُ مِن الوجه القبلي.
استغَلَّ الشاه عباس الصفوي انشغالَ الدولة العثمانية بالثورات الداخلية والحروب مع أوربا، بالإضافة للضعف الذي دبَّ فيها، فباشر في تخليصِ عراق العجم, واسترجع شمالَ العراق وتبريز ووان، واستطاع أن يحتلَّ بغداد والأماكن المقدَّسة الشيعية في النجف وكربلاء والكوفة، وكانت الجيوشُ العثمانية أضعفَ من أن تقاوم الجيوشَ الصفوية، فاضطر السلطان العثماني أحمد الأول أن يعقِدَ صلحًا مع الصفويين في عام 1013هـ استرجع فيه الصفويون كلَّ المناطق التي كان قد ضَمَّها السلطان سليمان القانوني، بما في ذلك بغداد، وكان هذا بداية التراجع للدولة العثمانية. وقد زارها الشاه عباس الصفوي وسَطَ مظاهر الإجلال والتقديس، وقد أورد بعضُ المؤرخين أنه قضى عشرة أيام في زيارته للنجف؛ حيث قام بنفسِه بخدمة الحُجَّاج في ذلك المكان، كما يذكرون أيضًا أنَّه إمعانًا في إعلان تمسُّكِه بالمذهب الشيعي وولائِه للرفض، وعلى الرغمِ من تعصُّبه الشديد للمذهب الشيعي إلَّا أنه رفع أيدي رجال الدينِ عن التدخُّل في شئون الحكم والسياسة، ومارس نوعًا من السلطة المُطلَقة في حكم البلاد، وقد أنزل الشاه عباس الصفوي أقسى أنواعِ العقاب بالسنَّة الذين يعتبرهم أعداءً للدولة، فإما أن يُقتَلوا أو تُسمَل عيونُهم، ولم يكن يتسامحُ مع أيٍّ منهم إلا إذا تخلى عن مذهبِه السني وأعلن ولاءه للمذهب الشيعي، واضطرت الدولةُ العثمانية نتيجةً لمعاهدة مع الصفويين أن تترك للدَّولة الصفوية الرافضية الشيعية جميعَ الأقاليم والبلدان والقلاع والحصون التي فتحها العثمانيون في عهد السلطان الغازي سليمان الأول بما فيها مدينة بغداد! وهذه أول معاهدة تركت فيها الدولةُ بعضَ فتوحاتِها، وكانت فاتحةَ الانحطاط والضَّعفِ، وأوَّلَ المعاهدات التي دلَّت على ضعف الدولة العثمانية! لقد بالغ الشاه عباس الصفوي في عدائه للمذهب السُّني، وإمعانًا في ضرب الدولة العثمانية حاميةِ المذهب السنِّي اتصل بملوك النصارى، وعقَدَ اتفاقات تعاوُن مشترك معهم؛ من أجلِ تقويض أركان الدولة العثمانية السُّنية، وقدَّم العديد من التنازلات لهذه الدول الأوروبية النصرانية تأكيدًا لتعاونِه معهم انطلاقًا من عدائِه للدولة العثمانية، وعامل الشاه عباس الصفوي النصارى في إيران معاملةً حسنةً على عكس معاملته لأهل السنَّة، وقد كان لمعاملته المتميِّزة للنصارى أن نشِطَت الحركة التنصيرية في إيران، كما شجع التجار الأوربيين في عقد صفقات تجارية كبيرة مع التجَّار في إيران، وأصبحت إيران سوقًا رائجًا للتجارة الأوروبية، ثم توَّج تسامحه مع النصارى بأن أعلن في عام 1007هـ أوامِرَه بعدم التعرضِ لهم، والسماح لهم بحرية التجوُّل في ربوع الدولة الصفوية، وأعطاهم امتيازاتٍ ببناء الكنائس في كبرى المدن الإيرانية، وهذه المعاملة للنصارى كانت نكايةً في الدولة العثمانية السُّنِّية!!
كان الكنزُ أمير العرب بنواحي أسوان، وهو من الشيعة العَلَوية بمصر، فعصى الكنز الدولةَ واجتمَعَ إليه العرب والسودان، وطالت أيَّامُه واشتهر منذ أيام صلاح الدين، وفي هذا العام كثُرَ فسادُ أولاد الكنز وطائفة العكارمة بأسوان وسواكن، ومَنَعوا التجارَ وغَيرَهم من السفر؛ لِقَطعِهم الطريق، وأخْذِهم أموالَ الناس، وأنَّ أولاد الكنز قد غلبوا على ثغر أسوان، وصحراء عيذاب وبرية الواحات الداخلة، وصاهَروا ملوك النوبةِ، وأمراء العكارمة، واشتَدَّت شوكتُهم، ثم قَدِمَ ركن الدين كرنبس من أمراء النوبةِ، والحاج ياقوت ترجمانُ النوبة، وأرغون مملوك فارس الدين، برسالة متملك دنقلة بأن ابنَ أخته خرج عن طاعته، واستنجد ببني جعد من العرب، وقصدوا دنقلةَ فاقتتلا قتالًا كثيرًا، قُتِلَ فيه الملك وانهزم أصحابُه، ثم أقاموا عِوَضَه في المملكة أخاه، وامتَنَعوا بقلعة الدو فيما بين دنقلة وأسوان، فأخذ ابنُ أخت المقتول دنقلةَ، وجلس على سرير المملكة، وعمل وليمةً جمع فيها أمراء بني جعد وكبارَهم، وقد أعَدَّ لهم جماعةً مِن ثقاته ليفتِكوا بهم، وأمر فأُخلِيَت الدور التي حول دارِ مُضَيِّفِهم، وملأها حَطَبًا، فلما أكَلوا وشَرِبوا، خرجت جماعةٌ بأسلِحَتِهم، وقاموا على باب الدار، وأضرم آخرونَ النَّارَ في الحطب، فلما اشتعلت بادر العُربان بالخروج من الدار، فأوقع القومُ بهم، وقتلوا منهم تسعةَ عشر أميرًا في عِدَّةٍ مِن أكابرهم، ثم ركب إلى عَسكَرِهم، فقَتَل منهم مقتلةً كبيرة، وانهزم باقيهم، فأخذ جميعَ ما كان معهم واستخرج ذخائِرَ دنقلة وأموالها، وأخلاها من أهلِها، ومضى إلى قلعة الدو، وسألا أن ينجِدَهما السلطان على العَرَب، حتى يستردُّوا مُلكَهما، والتزما بحَملِ مال في كل سنة إلى مصر، فرسم السُّلطانُ بنجدتهم وأخَذَ في تجهيز العسكر من سادس عشر شهر ربيع الأول، وساروا في الرابعِ والعشرين، وهم نحوُ الثلاثة آلاف فارس، فأقاموا بمدينةِ قوص ستة أيام، واستدعوا أمراءَ أولاد الكنز من ثغر أسوان ورغَّبوهم في الطاعة، وخَوَّفوهم عاقِبةَ المعصية، وأمَّنوهم، ثم ساروا من قوص، فأتَتْهم أمراء الكنوز طائعينَ عند عقبة أدفو، فخلع عليهم الأميرُ أَقتمر عبد الغني وبالغَ في إكرامهم، ومضى بهم إلى أسوان، وسارت العساكِرُ تريدُ النوبة على محاذاتها في البَرِّ يومًا واحدًا، وإذا برُسُل متمَلِّك النوبة قد لاقَتْهم، وأخبروهم بأنَّ العَرَب قد نازلوا المَلِكَ وحصروه بقلعة الدو، فبادر الأمير أقتمر عبد الغني لانتقاء العسكر، وسار في طائفةٍ منهم جريدة، وترك البقيَّةَ مع الأثقال، وجَدَّ في سيره حتى نزل بقلعة أبريم، وبات بها ليلَتَه، وقد اجتمع بمَلِك النوبة وعرب العكارمة، وبقية أولاد الكنز، ووافاه بقية العسكر فدَبَّرَ مع مَلِكِ النوبة على أولاد الكنز، وأمراء العكارمة، وأمسكهم جميعًا، ورَكِبَ مُتَمَلِّك النوبة في الحالِ، ومعه طائفةٌ من المماليك، ومضى في البَرِّ الشَّرقيِّ إلى جزيرة ميكائيل؛ حيث إقامة العكارمة، وسار الأمير خليل بن قوصون في الجانب الغربي ومعه طائفة، فأحاطوا جميعًا بجزيرة ميكائيل عند طلوع الشمس، وأسَرُوا من بها من العكارمة، وقَتَلوا منهم عِدَّةً بالنشَّاب والنفط، وفَرَّ جماعة نجا بعضُهم وتعلق بالجبال وغرق أكثرهم، وساق ابن قوصون النساء والأولاد والأسرى والغنائم إلى عند الأمير أَقتمر، ففَرَّقَ عِدَّة من السَّبيِ في الأمراء، وأطلق عِدَّةً، وعين طائفةً للسُّلطانِ، ووقع الاتفاقُ على أن يكون كرسي ملك النوبة بقلعة الدو؛ لخراب دنقلة، ولأنَّه يخافُ من عرب بني جعد أيضًا إن نزل المَلِك بدنقلة أن يأخذوه، فكتب الأمير أقتمر عبد الغني محضرًا برضاء مَلِك النوبة بإقامته بقلعةِ الدو، واستغنائه عن النجدة، وأنَّه أذِنَ للعسكر في العود إلى مصر، ثم ألبَسَه التشريف السلطاني، وأجلسه على سرير الملك بقلعة الدو، وأقام ابنَ أخته بقلعة أبريم، فلمَّا تَمَّ ذلك جَهَّزَ مَلِكُ النوبة هديةً للسلطان، وهديةً للأمير يَلْبُغا الأتابك، ما بين خيل وهجن ورقيقٍ وتُحَف، وعاد العسكَرُ ومعهم أمراء الكنز، وأمراء العكارمة في الحديد، فأقاموا بأسوان سبعة أيام، ونودي فيها بالأمانِ والإنصاف من أولاد الكنز، فرُفِعَت عليهم عِدَّةُ مُرافعات، فقُبِضَ على عدة مِن عبيدهم وقُتلوا، ورحل العسكَرُ من أسوان، ومرُّوا إلى القاهرة، فقَدِموا في ثاني شهر رجب، ومعهم الأسرى، فعُرِضوا على السُّلطانِ، وقُيِّدوا إلى السجن، وخُلِعَ على الأمير عبد الغني، وقُبِلَت الهديَّةُ.
تعد ثورةُ ظفار في الجزء الجنوبي من سلطنة عمان على حُكمِ السلطان سعيد بن تيمور واحدةً من أطولِ الثورات العربية؛ حيث امتدَّت زهاءَ عشرة أعوام، وقد واكبت حقبةَ الثورات التحرُّرية من الاستعمار العالمي، والتي شَهِدتْها المنطقة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ومن أسبابِ الثورة وقيامها: حالةُ التخَلُّف التي سادت سلطنةَ مسقط وعمان بشكلٍ عامٍّ، وإقليم ظفار بشكل خاص، وكثرة الممنوعات والمعاناة من الضرائب الباهظة التي أثقلت كاهلَ العمانيين، وبعدما تعرَّف الظفاريون على أنماط المعيشة المختلفة في دول الخليج التي يعملون بها والراقية قياسًا بالوضعِ في عمان خُلِقت لديهم الرَّغبةُ الجامحة في التغيير، كما أنَّ الأوضاعَ التي عاشتها المنطقةُ آنذاك، وانتشارَ المد القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر أدَّى إلى تأثُّر أبناء الأمة العربية، ومِن ضمنِهم الظفاريون بأفكار القومية العربية المنادية بالوحدة والتحَرُّر من الاستعمار ومقاومته بشتى الوسائل؛ مما ولَّد لدى الظفاريين النزعةَ نحو الثورة ضِدَّ الوجود البريطاني في عمان. عَمِلَ الظفاريون على تنفيذ الثورة من خلالِ تشكيل تنظيمات سريَّة متعَدِّدة كان لها دوافِعُ وانتماءات مختلفة بين قوميٍّ عربيٍّ هدفُه مقاومةُ بريطانيا، وتمثَّل في التنظيم لحركة القوميين العرب، وآخَرَ هدفُه تحسينُ الأوضاع الاجتماعية في عمان، وتمثَّل في الجمعية الخيرية الظفارية. وتُنسَب بدايةُ الثورة إلى مسلم بن نفل الذي كان يعمَلُ في مزرعة قصر السلطان سعيد بن تيمور والذي أقصاه من عمله في القصر السلطاني عام 1963 بسبب أفكاره الثورية, فكانت بداية الثورة في أبريل 1963 من خلال هجومٍ مسلح على حافلات شركة النفط، خطَّط له مسلم بن نفل، ثم فرَّ مسلم بن نفل مع 30 رجلًا من جماعته خارج عمان حيث رحلوا إلى العراق التي كانت تُحكَمُ من قبل النظام البعثي، فتلقَّوا تدريبًا عسكريًّا، وفي صيف 1964 عادت مجموعةُ ابن نفل إلى ظفار بدعم مالي وعسكري من عدد من الدول العربية، منها: مصر، واليمن الجنوبي، ولم يلبث عام 1965م أن شهد إعلان قيام "جبهة تحرير ظفار" التي أعلنت الثورةَ ضِدَّ حكم السلطنة، كما دعا بيانٌ للجبهة الظفاريين إلى الانضمام إلى الثوَّار؛ من أجل تحرير الوطن من حكم السلطان سعيد بن تيمور، وتحرير البلاد من البطالة والفقر والجهل، وإقامة حكم وطني ديمقراطي. بدأت حربُ ظفار بعمليات كرٍّ وفرٍّ ضِدَّ أهداف تابعة لحكومة السلطان سعيد بن تيمور، وكانت الحربُ سِجالًا بين الثوار وقوَّات السلطان سعيد، وفي 28 أبريل 1966 وقعت محاولةٌ لاغتيال السلطان سعيد بن تيمور احتجب بعدها السلطانُ عن الظهور، الأمر الذي جعل الثوَّارَ يعتقدون أنه قُتِل، وأن السلطات البريطانية هي التي تدير شؤون السلطنة. إلَّا أن الثوار تلقَّوا هزائم متكررة، وبعد تولِّي السلطان قابوس بن سعيد مقاليدَ الحكم في 23 يوليو 1970م كمبادرة منه لإنهاء ثورة ظفار أعلن العفوَ العامَّ عن جميع المتمرِّدين، ووعد أيَّ ظفاري مشترِك في حركة التمرد بمعاملة حسنة، ووعد كذلك بتحقيق مطالبِ المتمرِّدين الرئيسية وَفق برنامج إصلاحي اجتماعي، وقد حصل السلطانُ بوعدٍ من إيران بتقديمِ مساعدة عسكرية للقضاء على حركة التحرر، وقام السلطان بحملةِ قتل جماعية في حقِّ عدد من أعضاء الجبهة قُدِّرَ عَددُهم بـ 300 عضو، وفي نفس الفترة قام مسلم بن نفل بتسليم نفسه إلى قوات السلطان، ثم تزايدت الاغتيالات في صفوف الجبهة؛ حيث تمَّ تنفيذ أحكام قتل على مجموعة كبيرة أخرى من الظفاريين قريب من 40 شخصًا. كما زاد عددُ الذين يستسلمون لجيش السلطان، ثم ينضمون بأسلحتهم إلى ما يسمى بالفِرَق الوطنية لمحاربة قادتهم السياسيين في جبهة تحرير ظفار، وبلغ عددهم 2000 مقاتل، ومع بداية عام 1975م بات الثوارُ غير قادرين على مواجهة قوات السلطان المدعومة بالقوات الإيرانية على جميع جبهات القتال، ولأولِ مرة منذ 10 أعوام أصبح كل إقليم ظفار تحت سيطرة الحكومة، وفي الجانب السياسيِّ توصَّلت سلطنة عمان واليمن الجنوبي برعاية سعودية إلى اتفاقٍ ينهي الخلافات القائمةَ بينهما، وتوقَّف اليمن الجنوبي عن دعم الثوار؛ ممَّا أدى إلى استسلام العديد من قياداتها للسلطنة، كان من أبرزهم عمر بن سليم العمري الذي كان من القادة المتنفذين في الجبهة، ولم يمضِ عام 1976م حتى تمَّت التصفية النهائية للثورة في ظفار، وبعد القضاء على الحركة أعلن السلطانُ قابوس في العيد الوطني السادس للسلطنة في نوفمبر 1976م دمج إقليم ظفار في سلطنة عمان.
بعد أن رحل تيمورلنك من بغداد كتب إلى بايزيد الأول صاحب الروم أن يخرجَ السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلا قصده وأنزل به ما نزل بغيره، فردَّ بايزيد جوابه بلفظ خَشِنٍ إلى الغاية، فسار تيمور إلى نحوه، فجمع بايزيد الأولُ عساكرَه من المسلمين والنصارى وطوائف التتر، فلما تكامل جيشُه سار لحربه، فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع بايزيد الأول يقول لهم: نحن جنسٌ واحد، وهؤلاء تركمان ندفعُهم من بيننا، ويكون لكم الرومُ عِوَضَهم، فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه، وسار بايزيد الأول بعساكِرِه على أنه يلقى تيمور خارج سيواس، ويردُّه عن عبور أرض الروم، فسلك تيمور غير طريق بايزيد واختار الطريق الأطول، ومشى في أرض غير مسلوكة، ودخل بلاد بايزيد، ونزل بمعسكر بايزيد الأول بالقرب من أنقرة وضرب الحصار حولها, فلم يشعر بايزيد إلا وقد نُهِبت بلاده، فقامت قيامته وكرَّ راجعًا، وقد بلغ منه ومن عسكره التعبُ مبلغًا أوهَنَ قواهم، وكلَّت خيولهم، ونزل على غير ماء، فكادت عساكره أن تهلك، فلما تدانوا للحرب كان أول بلاء نزل ببايزيد مخامرة التتار بأسْرِها عليه، فضَعُفَ بذلك عسكره؛ لأنهم كانوا معظمَ عسكره، ثم تلاهم ولدُه سليمان ورجع عن أبيه عائدًا إلى مدينة بورصا بباقي عسكرِه، فلم يبقَ مع بايزيد إلا نحو خمسة آلاف فارس، فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمورلنك فالتَقَوا في معركة عُرِفت بمعركة أنقرة في ذي الحجة 804 (1402م) واستمر القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر، فصدمهم جيش بايزيد صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم، فكفَّت عساكر بايزيد، وتكاثر التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلَّتهم وكثرة التمرية، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية، إلى أن صُرِعَ منهم أكثرُ أبطالهم، وأُخِذَ بايزيد الأول أسيرًا قبضًا باليدِ على نحو ميل من مدينة أنقرة، في يوم الأربعاء سابع عشرين ذي الحجة بعد أن قُتِل غالب عسكره بالعطش، وصار تيمور يوقَف بين يديه في كل يوم السلطان بايزيد ويسخر منه ويُنكيه بالكلام، وجلس تيمور مرةً لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب بايزيد طلبًا مزعجًا، فحضر وهو يرسُفُ في قيوده وهو يرجف، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه، ثم وقف تيمور وسقاه من يد جواريه اللاتي أسرهن تيمور، ثم أعاده إلى محبسه، وأما أمر سليمان بن السلطان بايزيد الأول، فإنه جمع المال الذي كان بمدينة بورصا، وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة وتلاحق به الناس، وصالح أهل استانبول، فبعث تيمورلنك فرقةً كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى بورصا فأخذوا ما وجدوا بها، ثم تبعهم هو أيضًا بعساكره، ثم أفرج تيمور عن محمد وعلي أولاد ابن قرمان من حبس السلطان بايزيد، وخلع عليهما وولَّاهما بلادهما، وألزم كلَّ واحد منهما بإقامة الخطبة، وضَرْب السكة باسمه واسم السلطان محمود خان المدعو صرغتمش، ثم شتا في معاملة منتشا وعمل الحيلة في قتل التتار الذين أتوه من عسكر بايزيد حتى أفناهم عن آخرِهم، وأما السلطان بايزيد فإنه استمر في أسر تيمورلنك من ذي الحجة سنة أربع إلى أن مات بكربته وقيوده في أيام من ذي القعدة سنة 805.
بعد أن قام الظَّاهِرُ برقوق بالاستيلاء على مِصرَ وعودَتِه إليها، بقي منطاش في دمشق عاصيًا على السلطان برقوق، وأخَذَ منطاش بعلبكَّ بعد أن حاصرها محمد بن بيدمر أربعةَ أشهر، ثم إنَّ الظاهر برقوقًا جَهَّز العساكِرَ إلى دمشق لأخْذِها من منطاش، فلما بلغ منطاش قدومُ العساكر برز من دمشق، وأقام بقبَّة يلبغا، ثم رحل نصفَ ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة بخواصِّه، وهم نحو الستمائة فارس، ومعه نحو السبعينَ حملًا ما بين ذَهَبٍ ودراهم وقماش، وتوجه نحو قارا والنبك، بعد أن قَتَل المماليك الظاهرية، والأميرُ ناصر الدين محمد بن المهمندار، وإن الأمير الكبير أيتمش خرج من سجنه بقلعة دمشق وأفرجَ عَمَّن بها، ومَلَك القلعة، وبعث إلى النوابِ يُعلِمُهم، وسَيَّرَ كتابه إلى السلطان بذلك، فسار النوابُ إلى دمشق ومَلَكوها بغير حرب، ثمَّ إن منطاش توجه إلى الأمير نعير، ومعه عنقا بن شطى أمير آل مرا، ثم قدم البريدُ بأن منطاش ونعيرًا جمعَا جمعًا كبيرًا من العُربان والأشرفية والتركمان، وساروا لمحاربة النواب، فخرج الأمير يلبغا الناصري والأمير ألطبغا الجوباني بالعساكر من دمشق إلى سليمة، ثم اجتمع البَيْدَمرية والطازية والجنتمرية في طوائف من العامة بدمشق يريدون أخْذَها، فسَرَّح الأمير الكبير أيتمش الطائر من القلعةِ إلى سليمة يُعلِمُ الأمير يلبغا الناصري بذلك، فركب ليلًا في طائفةٍ مِن العسكر، وقَدِمَ دمشق وقاتَلَهم ومعه ألابغا العثماني حاجب الحجاب بدمشق، فقُتِلَ بينهما خلقٌ كثير من الأتراك والعوام وكَسَرَهم، وقَبَض على جماعة ووسَّطَهم تحت قلعة دمشق، وحَبَس جماعة، وقَطَع أيديَ سبعمائة رجل، وعاد إلى سليمة، وافترقت جمائِعُ منطاش وعساكر الشام ثلاث فرق، وتولى الأميرُ يلبغا الناصري محاربةَ الأمير نعير، فكسَرَه، وقتل جمعًا مِن عُرْبانه، وركب قفا نعيرٍ إلى مَنازِلِه، وحارب الأميرُ قرا دمرداش منطاشَ ومَن معه من التركمان، فضرَبَ كُلٌّ منهما الآخر، فوقعت الضربةُ بكَتِفِ منطاش، وقُطِعَت أصابع قرا دمرداش، وخامَرَ جماعة من الأشرفية على منطاش وصاروا في جملةِ الأمير ألطبغا الجوباني، فأحسن إليهم وقرَّبَهم، فلما وقعت الحربُ اتفق الأشرفيَّةُ مع بعض مماليكِه وقَتَلوه، وقبضوا على الأمير مأمور ووسَّطوه- قتلوه- وقتلوا الأمير أقبغا الجوهري وعِدَّةً من الأمراء، فكانت حروبًا شديدة، قُتِلَ فيها بين الفِرَق الثلاث خَلقٌ لا يُحصي عددَهم إلا خالقُهم سبحانه وتعالى, ونَهَبَت العربُ والعشير جميعَ ما كان مع العسكَرينِ، وقَدِمَ البريد بذلك، وأن منطاش انكسر، فأقام الأشرفيَّةُ بدله ألطبغا الأشرفي، فحضر منطاش من الغَدِ وأراد قتْلَه، فلم تمَكِّنْه الأشرفية من ذلك، وإنَّ الناصري لَمَّا رجع من محاربة نعير جمع العساكِرَ وعاد إلى دمشق، ثم خرج بعد يومين وأغار على آل علي، ووسَّط- قتل- منهم مائتي نفس، ونهب كثيرًا من جِمالِهم، وعاد إلى دمشق، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بأن الأمير قَشْتَمُر الأشرفي، الحاكِمَ بطرابلس من جهة منطاش، سَلَّمَها من غير قتال، وأنَّ حماة وحمص أيضًا استولت العساكرُ السلطانية عليهما، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بفرار منطاش عن أرض حَلَب، ومعه عنقاءُ بن شطي، خوفًا على نَفسِه مِن نعير، وأنَّه توجَّهَ في نحو سبعمائة فارس من العَرَبِ، أخذهم على أنَّه يكبس التركمان ويأخذ أعناقَهم، فلما قطع الدربند أخذَ خُيولَ العرب، وسار إلى مرَعش، وترك العربَ مُشا، فعادوا.
لَمَّا كان في مستهَلِّ شَهرِ ربيع الآخر نزل السلطانُ من قلعة الجبل وعَدَّى إلى بر الجيزة ليتوجه إلى الصيدِ بالبحيرة، بعد أن ألزم الأمراءَ أن يجعلوا- في الشواني التي نجز عملها برسم الغُزاة- العِدَد والسلاحَ والرجالَ على هيئة القِتالِ؛ لِيَنظُرَ السلطان والنَّاس، ثم سار السلطان والأتابك يلبغا بالعساكِرِ مِن بر الجيزة يريدون البحيرةَ حتى نزلوا في ليلة الأربعاء سادسَ شهر ربيع الآخر بالطرانة وباتوا بها، وكانت مماليكُ يلبغا قد نَفِرَت قلوبُهم منه؛ لكثرةِ ظُلمِه وعَسفِه وتنوُّعِه في العذاب لهم على أدنى جُرمٍ، فاتفق جماعةٌ من مماليك يلبغا تلك الليلة على قَتْلِه من غير أن يُعلِموا المَلِكَ الأشرفَ هذا بشَيءٍ مِن ذلك، وركبوا عليه نِصفَ الليل، ورؤوسُهم من الأمراء: آقبغا الأحمدي الجلب، وأسندمر الناصري، وقجماس الطازي، وتغري برمش العلائي، وآقبغا جاركس أمير سلاح، وقرابغا الصرغتمشي، في جماعةٍ مِن أعيان اليلبغاوية، ولَبِسوا آلة الحرب وكبَسوا في الليل على يلبغا بخيمتِه بغتةً وأرادوا قتله، فأحسَّ بهم قبل وصولِهم إليه، فركِبَ فَرَس النوبةِ بخواصِّه من مماليكه، وهرب تحت الليل، وعَدَّى النيل إلى القاهرة، ومنع سائرَ المراكب أن يعدُّوا بأحد، واجتمع عنده من الأمراء طيبغا حاجِبُ الحجَّاب، وأيبك البدري أمير آخور، وجماعة الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمَّا مماليك يلبغا فإنَّهم لَمَّا عَلِموا بأن أستاذهم نجا بنَفسِه وهرب، اشتدَّ تخَوُّفُهم من أنَّه إذا ظَفِرَ بهم بعد ذلك لا يُبقي منهم أحدًا، فاجتمع الجميعُ بمن انضاف إليهم من الأمراءِ وغيرِهم وجاؤوا إلى المَلِك الأشرَفِ شعبان وهو بمُخَيَّمِه أيضًا بمَنزِلِه بالطرانة وكَلَّموه في مُوافَقَتِهم على قتالِ يلبغا فامتنع قليلًا ثم أجاب لِما في نفسه من الحزازةِ مِن حَجْرِ يلبغا عليه، وعدم تصَرُّفه في المملكة، وركِبَ السلطان بمماليك يلبغا وخاصكيَّته، فأخذوه وعادوا به إلى جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائِقُ من مماليك يلبغا وعساكر مصر، وساروا حتى وصلوا إلى ساحِلِ النيل ببولاق التكروري تجاه بولاق والجزيرة الوسطى، فأقام المَلِكُ الأشرف ببولاق التكروري يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة، فلم يجدوا مراكِبَ يعدون فيها، وأما يلبغا فإنَّه لما علم أن الملك الأشرف طاوع مماليكَه وقَرَّبهم، أنزل من قلعة الجبل آنوك ابنَ الملك الأمجد حسين أخي الملك الأشرف شعبان وسَلْطَنَه ولَقَّبَه بالملك المنصور، وذلك بمُخَيَّمِه بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانيَّة تجاه بولاق التكروري، حيث الملك الأشرف نازلٌ بمماليك يلبغا بالبر الشرقي والأشرف بالبر الغربي، فسَمَّتْه العوامُ سُلطان الجزيرة، ثمَّ في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامي والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصَيَّدان بالعباسة وانضافا بمن معهما إلى يلبغا فقَوِيَ أمره بهما، وعَدَّى إليه أيضًا جماعة من عند الملك الأشرف، وهم: الأمير قرابغا البدري، والأمير يعقوب شاه، والأمير بيبغا العلائي الدوادار، والأمير خليل بن قوصون، وجماعة من مماليك يلبغا الذين أمَّرَهم مثل: آقبغا الجوهري، وكمشبغا الحموي، ويلبغا شقير، في آخرين، واستمَرَّ الأتابك يلبغا وآنوك بجزيرة الوسطى، والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق التكروري، إلى أن حضر إلى الأشرفِ شَخصٌ يُعرَفُ بمحمد ابن بنت لبطة رئيس شواني السلطان، وجَهَّز للسلطانِ مِن الغربان التي عَمَّرَها برسم الغزاة نحو ثلاثينَ غُرابًا برجالها وكَسَر بروقها، وجعلها مثل الفلاةِ لأجلِ التَّعدية، فنزل فيها جماعةٌ مِن الأمراء ومن مماليك يلبغا ليعَدُّوا فيها إلى الجزيرة، فرمى عليهم يلبغا بمكاحِلِ النفط، وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسهام فيردونَهم على أعقابِهم، وأخذ يلبغا ومن معه يرمون أيضًا النِّفطَ والنشاب، والأشرفيَّة لا يلتفتون إلى ذلك، بل يزيدونَ في سب يلبغا ولَعْنه وقتاله، وأقاموا على ذلك إلى عَصرِ يوم السبت، وقد قَوِيَ أمر الملك الأشرف وضَعُفَ أمر يلبغا، ثم اتفق رأيُ عساكر الملك الأشرف على تعدية المَلِك الأشرف من الورَّاق، فعدى وقتَ العَصرِ من الوراق إلى جزيرة الفيل وتتابعَتْه عساكره، فلما صاروا الجميعُ في بر القاهرة، وبلغ ذلك يلبغا، هرب الأمراءُ الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاؤوا إلى الملك الأشرف وقَبَّلوا الأرض بين يديه، فلمَّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة، ووقف بسوقِ الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبقَ معه غير طيبغا حاجِبِ الحجَّاب الذي كان أولًا أستاداره، فوقف يلبغا ساعةً ورأى أمْرَه في إدبار، فنزل عن فَرَسِه بسوق الخيل تجاه باب الميدان، وصلَّى العصر، وحلَّ سَيْفَه وأعطاه للأميرِ طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصَدَ بَيتَه بالكبش فرجمته العوامُّ مِن رأس سويقة منعم إلى أن وصل حيثُ اتجه، وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعةِ الجَبَلِ في آخر نهار السبت، وأرسل جماعةً منِ الأمراء إلى يلبغا، فأخذوه من بيتِه ومعه طيبغا الحاجِبُ، وطلعوا به إلى القلعةِ بعد المغرب، فسُجِنَ بها إلى بعدِ عشاء الآخرة، فلما أُذِّنَ للعشاء جاء جماعةٌ من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء، وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من القلعةِ، فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فَرَسًا ليركَبَه، فلما أراد الركوب ضَرَبه مملوكٌ مِن مماليكه يسمَّى قراتمر فأرمى رأسَه، ثم نزلوا عليه بالسيوفِ حتى هَبَروه تهبيرًا، وأخذوا رأسَه وجعلوها في مِشعَلِ النار إلى أن انقَطَع الدم، فلما رآه بعضُهم أنكره وقال: أخفيتُموه، وهذه رأسُ غَيرِه فرفعوه من المِشعَل، ومَسَحوه ليُعَرِّفوه أنَّه رأس يلبغا بسلعةٍ كانت خلفَ أذنه، فعند ذلك تحقَّقَ كُلُّ أحد بقتله، وأخذوا جثَّتَه فغَيَّبوها بين العروستين، فجاء الأميرُ طشتمر الدوادار فأخذ الرأسَ منهم في الليل، واستقصى على الجثَّةِ حتى أخذها، وحَطَّ الرأس على الجثة، وغَسَّلها وكفَّنَها وصلى عليه في الليل، ودفنه بتربتِه التي أنشأها بالصحراء بالقربِ مِن تربة خوند طغاى أم آنوك زوجة الناصر محمد بن قلاوون.