هو الشيخ الإمام القدوة العلامة المحدِّث المفسِّر المؤرِّخ برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي الشافعي، البقاعي الأصل، نسبة إلى سهل البقاع في سوريا، ولد سنة 809, وهو من أعيان جماعة شيخ الإسلام ابن حجر، سكن دمشق، قال البقاعي: "في ليلة الأحد تاسع شعبان سنة 821 أوقع ناسٌ من قريتنا خربة روحًا من البقاع يقال لهم: بنو مزاحم بأقاربي بني حسن من القرية، فقتلوا تسعة أنفس، منهم والدي عمر بن حسن الرباط وشقيقه محمد سويد، وعلي أخوهما لأبيهما، وضُربت أنا بالسيف ثلاث ضربات إحداها في رأسي فجرحتني، وكنت إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، فخرجنا من قريتنا، واستمرينا نتنقل في قرى وادي التيم، والعرقوب، وغيرهما، إلى أن أراد الله تعالى بإقبال السعادتين الدنيوية والأخروية، فنقلني جدِّي لأمي علي بن محمد السليمي إلى دمشق- فنزل ببيت العدوي قبالة الناصرية بالقرب من الجامع الأموي- فجوَّدت القرآن، وجدَّدت حِفظَه، وأفردت القراءات وجمعتها على بعض المشايخ، ثم على الشَّمس ابن الجزري لما قدم إلى دمشق سنة 827، واشتغلت بالنحو، والفقه، وغيرهما من العلوم، وكان ما أراد الله تعالى من التنقُّل في البلاد والفوز بالغزو والحج" ثم رحل البقاعي إلى بيت المقدس والقاهرة، فبرع في عدة علوم، وله مصنفات أشهرها: تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي؛ حيث ألفه للرد على ابن الفارض وابن عربي، وبين وجه تكفيرهما من أقوالهما وأحوالهما، وله عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران، وأخبار الجلاد في فتح البلاد، وغيرها من الكتب.
هو السلطان المجاهد الغازي أبو الفتوحات: محمد بن السلطان مراد الثاني ابن السلطان محمد ابن السلطان بايزيد ابن السلطان مراد الأول بن أورخان بن عثمان، تنازل له أبوه بالملك سنة 848 لكنه لم يستقر فيه إلا بعد وفاة أبيه سنة 855. اقتفى أثر أبيه في المثابرة على دفع الفرنج حتى فاق ملوك زمانه، مع وصفه بمزاحمة العلماء، ورغبته في لقائهم، وتعظيم من يَرِدُ عليه منهم، وله مآثر كثيرة من مدارس وزوايا وجوامع، كان مُلكُ محمد الفاتح عظيمًا خاصة بعد فتحه للقسطنطينية عاصمة البيزنطيين وجعْلِها كرسي مملكته، غادر السلطان الفاتح إستنبول إلى آسيا الصغرى؛ حيث كان قد أُعد في إسكدار جيش آخر كبير، وكان السلطان محمد الفاتح قبل خروجه من إستنبول قد أصابته وعكة صحية إلا أنه لم يهتمَّ بذلك لشدة حبه للجهاد وشوقه الدائم للغزو، وخرج بقيادة جيشه بنفسه، إلا أن المرض تضاعف عليه هذه المرة وثقلت وطأتُه بعد وصوله إلى اسكدار فطلب أطباءَه غيرَ أنَّ القضاء حمَّ به فلم ينفع فيه تطبيبٌ ولا دواء، ومات السلطان الفاتح وسط جيشِه العرمرم يوم الخميس الرابع من ربيع الأول 886 (3 مايو 1481م) وهو في الثانية والخمسين من عمره بعد أن حكم نيفًا وثلاثين عامًا، لم يكن أحدٌ يعلم شيئًا عن الجهة التي كان سيذهب إليها السلطان الفاتح بجيشه، وذهبت ظنونُ الناس في ذلك مذاهبَ شتى، فهل كان يقصد رودس ليفتح هذه الجزيرة التي امتنعت على قائده مسيح باشا؟ أم كان يتأهب للحاق بجيشه الظافر في جنوبي إيطاليا ويزحف بنفسِه بعد ذلك إلى روما وشمالي إيطاليا ففرنسا وإسبانيا؟ توفي أوائل هذه السنة أثناء توجهه إلى برصا، ودفن بالبرِّية هناك، ثم حول إلى إستنبول في ضريح بالقرب من أكبر الجوامع بها, وبعد وفاة السلطان محمد الفاتح تولى ابنُه بايزيد الثاني أكبر أولاده الذي كان حاكمًا لمقاطعة أماسيا.
بعد أن توفِّي السلطان العثماني محمد الفاتح كان كلٌّ من ولديه بعيدًا عنه، فالأوَّلُ بايزيد وهو الأكبر كان حاكمًا لمقاطعة أماسيا، وكان الآخر جم حاكمًا لقرمان، وكانت رغبة الصدر الأعظم قرماني محمد باشا في تولية الأمير جم؛ لذا أرسل إليه من يخبره بوفاة أبيه كي يأتي بأسرع وقت لتسلم الأمر، غيرَ أن حاكم الأناضول سنان باشا علم بالأمر فقتل رسول الصدر الأعظم حيث كانت رغبة الانكشاريين مع بايزيد؛ ولذلك لما علموا بما فعله الصدر الأعظم ثاروا عليه وقتلوه ونهبوا المدينةَ وأقاموا كركود نائبًا عن أبيه، وعندما وصل الأمير بايزيد استقبله الانكشاريون وبايعوه بالسلطنة وتسلَّم الأمر، أما جم فلما علم بالخبر سار إلى بورصة واحتلَّها عنوةً ودعا أخاه بايزيد لتقسيم البلاد فيستحوذ جم على القسم الآسيوي، ويستحوذ بايزيد على القسم الأوربي، الأمر الذي أثار بايزيد فسار إلى بورصة ففر منه جم ملتجئًا إلى المماليك عند السلطان قيتباي في القاهرة، وبقي عنده سنة ثم عاد إلى حلب وبدأ بمراسلة القاسم حفيد أمراء قرمان ووعده أن يعيد له إمارة قرمان إن تمكن من السلطة، فسارا معا للهجوم على قونية لكنهما فشلا فشلًا ذريعًا، ثم حاول جم الصلح مع أخيه على أن يعطيه مقاطعة فرفض بايزيد؛ لأن هذا سيكون بداية انقسام الدولة العثمانية، ثم التجأ جم إلى رودس حيث يوجد بها فرسان القديس يوحنا، وعقد مع رئيس الفرسان اتفاقًا إلا أنه نقضه تحت ضغط بايزيد وأصبح جم سجينًا في جزيرة رودس، وكسب فرسان القديس يوحنا بهذه الرهينة الخطيرة امتيازات طورًا من بايزيد الثاني، ومرة أخرى من أنصار جم بالقاهرة، فلما تحصَّل على أموال ضخمة باع رهينته للبابا أنوست الثامن، فلما مات هذا البابا ترك جم لخلفه إسكندر السادس، ولكن الأخير لم يبقِ على جم كثيرًا؛ حيث قُتِل واتُّهِم في ذلك بايزيد الثاني الذي تخلص من خطر أخيه.
استطاع الدوق إيفان الثالث أن يرقى على عرش روسيا بعد أن ضم الأمراء الروس إليه وجمعهم حوله، ثم جهز حملة قوية قاتل بها المغول في معركة جرت حول نهر أوكا وتمكَّن فيها من تحطيم المغول وهم يتقدمون إلى موسكو مستغلًّا ما بين قبائلهم من خلاف، فتحرر الروس من المغول وتلقَّب إيفان بالقيصر.
نزلت صاعقة على هلال المئذنة تجاه الحجرة النبوية، ثم على سطح المسجد، فاحترق بنارِها المسجِدُ الشريف النبوي؛ سَقفُه، وحواصلُه، وخزائِنُ كتُبِه، وربعاته، ولم يبقَ من قناطره وأساطينه إلَّا اليسيرُ، وكانت آيةً من آيات الله تعالى.، وصعدت الرأس إلى الريس- وكان من أهل العلم - بالمئذنة فاحترق، واحترق في الحرم عالمٌ آخر خرج من بيته لطلب ولدِه، وصل الخبرُ من المدينة المشرَّفة بمحضر يكتتب بالكائنة التي اتفقت بالمدينة من الحريق الأعظم، فحصل عند الناس بذلك باعثٌ شديدٌ. وأخذ السلطان في الاهتمام بشأن هذا الحادث والاجتهاد في القيام ببناء المسجد الشريف النبويِّ، ثم عَمِل بتقدير النفقة عليه، فكانت نحوًا من مائة ألف دينار. ثم بُني بعد ذلك وأُعيد أحسَنَ ما كان، وبُنِيت القبَّة المعظَّمة على القبر الشريف بعد إحكام بناء القبر أيضًا، وعُمِلت المقصورة الهائلة النادرة، وكانت هذه من أجلِّ المباني وأعظمِها.
بدأ ملك الأمير أبي الحسن علي بن سعد ملك غرناطة في التقهقر والانتكاس والانتقاض. من وقت السيل العظيم سنة 883 الذي أصاب غرناطة؛ وذلك أن الأمير اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات، وركن إلى الراحة والغفلات، وضيع الجند وأسقط كثيرًا من نجدة الفرسان وثقَّل المغارم وكثَّر الضرائب في البلدان ومكَّس الأسواق ونهب الأموال وشحَّ بالعطاء، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يثبت معها المُلك, وكان للأمير أبي الحسن وزير يوافقُه على ذلك ويُظهِرُ للناس الصلاحَ والعفاف وهو بعكس ذلك، وانصرف عن تقوية عساكره، فأهمل كل من فيه نجدة وشجاعة من الفرسان ويقطع عنهم المعروف والإحسان حتى باع الجند ثيابهم وخيلهم وآلات حربهم وأكلوا أثمانها، وقَتَل كثيرًا من أهل الرأي والتدبير والرؤساء والشجعان من أهل مدن الأندلس وحصونها، ولم يزل الأمير مستمرًّا على حاله والجيش في نقص والملك في ضعف إلى أن انقضى الصلح الذي كان بينه وبين النصارى في محرم سنة 887 فلم يشعر بهم أحد حتى دخلوا مدينة الحامة؛ وذلك أنهم طرقوها ليلًا على حين غفلة من أهلها فدخلوا قصبَتَها وكانت خالية، فلم يكن بها إلا عيال قائدها فملكوا القصبة والناس نيام مطمئنون، فلم يشعر أحد إلا والنصارى قد هبطوا من القصبة على البلد بالسيف والقتل والسبي الشديد حتى قتل من نفد أجَلُه وفَرَّ من قَدَر على الفرار واستولى النصارى على البلد وجميع ما كان فيه من الرجال والنساء والصبيان والأموال، وكان ذلك في التاسع عشر محرم، فلما بلغ أهل غرناطة ما فعل النصارى بإخوانهم المسلمين هاجت الرعية وقالوا: لا صبر لنا على هذه المصيبة العظمى ولا خير لنا في عيش بعد هذه النكبة الكبرى، إما أن نفك إخواننا أو نموت دونهم، فاجتمعوا مع الأمير أبي الحسن ووزيره فجعل الأمير والوزير يعجِّزانهم عن المسير ويتربصان بهم ويقولان لهم اصبروا حتى نأخذ أُهبَتَنا ونعمل على حال الحرب، فلم تزل بهم العامة حتى أخرجوهما فتقدم صدر الجيش فوجدوا النصارى قد أخرجوا من البلد ما سَبَوا من الرجال والنساء والصبيان والأموال، وقد أوقروا الدواب بذلك وهم عازمون على المسير إلى بلادهم، فلما رأوا خيل المسلمين قد أقبلت عليهم حطوا الأحمال ودخلوا البلد وتحصَّنوا بالأسوار ثم أقبل المسلمون بحملتهم واقتربوا منهم فقاتلوهم قتالًا شديدًا بجِدٍّ وعزم وقلوب محترقة وحزم، حتى دخلوا بعض أبواب المدينة وكسروه وحرقوه وتعلقوا بأسوار البلد وطمعوا في الدخول إليه، فبينما هم كذلك إذ وصل لهم أمر من الأمير أبي الحسن والوزير يأمرانهم فيه بالرجوع عن القتال، فأبى الناس عن الرجوع فقالا لهم: إذا كان غدًا ندخل عليهم أول النهار؛ لأن الليل قد أقبل ودخل علينا فترك الناس القتال ورجعوا إلى محلاتهم، أما النصارى فباتوا يصلحون شأنهم ويمنعون أسوارهم ويغلقون نقابهم، فلما أصبح الصباح ونظر المسلمون إلى البلد فإذا هو على صفة أخرى من المنعة والتحصين والاستعداد، فصَعُب عند ذلك على المسلمين الدخول إليه بل والدنو منه، ومع ذلك عزم المسلمون على حصار البلد والإقامة عليه فأقبلت وفود المسلمين من كل أرض من بلاد الأندلس، واجتمع في ذلك المحل محلة عظيمة وفتحوا الأسواق للبيع والشراء وجلبوا لأسواقهم كل ما يحتاجون إليه من الأطعمة والعلف والزاد وغير ذلك، وحاصروا العدو حصارًا شديدًا ومنعوا عليه الماء والحطب والداخل والخارج، والعامة في ذلك بحزم وعزم وجِدٍّ واجتهاد ونية صادقة وقلوب محترقة، والوزير يعد الناس بالدخول والقتال وعدًا بعد وعد، ويقول عن قريب نأخذهم عطشًا وها نحن نُعمل الحيلة في الدخول عليهم، وكان التقصير والتفريط والغش يبدو منه شيئًا بعد شيء حتى تبين لعامة الناس وخاصتهم ولاح لهم كالشمس، وظنوا بالملك والوزير ظنونَ السوء وكثر الكلام القبيحُ بينهم، فعند ذلك هاج شيطان الفتنة بينهم وتحدث الناس بعضهم مع بعض في مسائل غشِّهما للمسلمين، فبينما الناس كذلك في إساءة ظنهم بأميرهم وبوزيرهم إذا بهما قد استعملا حيلةً وكتبا كتبًا مزورة كأنها أتتهما من بعض من نصحهم من ناحية المسلمين المجاهدين المجاورين لبلاد الكفرة يعلمونَهم بها أن الطاغية ملك النصارى جمع جمعًا عظيمًا وحشد حشودًا كثيرة وعزم على نصرة النصارى المحصورين في بلد الحامة وهو قادم عن قريب، ولا طاقة لكم بملاقاته فحين أعلمهم الوزير بما ذُكر وخوفهم بذلك سُقِط في أيدي الناس فأمرهم حينئذ بالرحيل والإقلاع عن دار الحرب فرحل الناس كرهًا باكين متأسفين بحسرة وفجعة يا لها من حسرة!! وانصرف الناس كل واحد إلى وطنه.
كان الأمير أبو الحسن علي بن سعد ملك غرناطة متزوجًا بعائشة الحرة ابنة عمه الأمير محمد الأيسر وله منها ولدان محمد ويوسف, وكان من جملة انهماك الأمير أبي الحسن في الملذات أنه اصطفى على زوجته رومية اسمُها ثريا وهجر ابنة عمه وأولادها منه، فأدرك ابنة عمه من الغيرة ما يدرك النساء على أزواجهن، ووقع بينهما نزاع كثير وقام الأولاد محمد ويوسف مع أمهما وغلظت العداوة بينهم، وكان الأمير أبو الحسن شديد الغضب والسطوة، فكانت الأم تخاف على ولديها منه، فبقيت الحال كذلك مدة والأمير مشتغل باللذات منهمك في الشهوات، ووزيره يضبط المغارم, وفي يوم انتصار المسلمين على النصارى في موقعة لوشة بلغ الخبر لمن كان فيها أن ابني الأمير أبي الحسن محمد ويوسف هربا من القصبة خوفًا من أبيهما؛ وذلك أن شياطين الإنس صاروا يوسوسون لأمهما عائشة ويخوفونها عليهما من سطوة أبيهما ويغوونها مع ما كان بينها وبين مملوكة أبيهما الرومية ثرية من الشحناء، فلم يزالوا يغوونها حتى سمحت لهم بهما فاحتالت عليهما بالليل وأخرجتهما إليهم وساروا بهما إلى وادي آش، فقام أهل وادي آش بدعوتهما ثم قامت غرناطة أيضًا بدعوتهما واشتعلت نار الفتنة ببلاد الأندلس، ووقعت بينهم حروب بينهم إلى أن قتل الوالد ولَدَه ولم تزل نار الفتنة مشتعلة وعلاماتها قائمة في بلاد الأندلس، والعدو مع ذلك كله مشتغل بحيلته في أخذ الأندلس, ويعمل على اتحاد كلمتهم حتى تزوج فرناندو ملك أراجون من إيزابيلا ملكة قشتالة، واتحدت الممالك الصليبية في إسبانيا لأول مرة في تاريخها ضد المسلمين.
لما رأى فرديناند الخامس ملك قشتالة أن المسلمين قد عجزوا عن أخذ الحامة ونصرة من فيها من الأسارى، وقع له الطمع في بلاد الأندلس، فأخذ في الاستعداد والخروج إليها. طلب فرديناند الخامس من أبي عبد الله محمد بن سعد الملقب بالزغل أمير مالقة إمضاء معاهدة يكون فيها أمير مالقة تابعًا لقشتالة، فرفض ذلك أمير مالقة، فقام ملك قشتالة بإعلان الحرب عليه, فلما كان جمادى الأولى من هذا العام خرج ملك قشتالة بحملة عظيمة، وقصد مدينة لوشة فنزل عليها بحملته، وكان قد اجتمع فيها جملة من نجدة رجال غرناطة حين سمعوا بخروجه إليها فلما قرب من البلد خرج إليه الرجال والفرسان فقاتلوه قتالًا شديدًا وردوه على أعقابه وقتلوا كثيرًا من النصارى وأخذوا لهم من تلك العدة التي قربوا بها من النفط وغيره من عدة الحرب، ثم إن الأمير أبا الحسن علي بن سعد أمدهم بقائد من غرناطة يقود جيشًا من الفرسان في تلك الليلة فاشتدت عند ذلك عصبة المسلمين وقويت قلوبهم فلما أصبح الصباح ورأى النصارى الزيادة في جيش المسلمين مع ما نالهم من أول الليل من الهزيمة والقتل وأخذ العدة، داخَلَهم الرعب واشتد خوفهم فأخذوا في الارتحال عنهم، فخرج إليهم المسلمون فقاتلوهم قتالًا شديدًا، فانهزم النصارى وتركوا كثيرًا من أخبيتهم وأمتعتهم وأطعمتهم وآلة حربهم، وتركوا من الدقيق شيئًا كثيرًا فاحتوى المسلمون على جميع ذلك كله وانصرف العدو مهزومًا مفلولًا إلى بلده، ففرح المسلمون بذلك فرحًا عظيمًا، وكان ذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى.
لما فقد الأمير أبي الحسن علي بن سعد بصَرَه، تنازل عن المُلك لابنه أبي عبد الله محمد الثاني عشر الملقب بأبي عبد الله الصغير، الذي كان قد ثار على أبيه السنة الماضية, وبعد أن تولى الحكم قام بانتهاز فرصة هزيمة الإسبان أمام أمير مالقة عمه أبي عبد الله الزغل, فخرج بقواته واتجه إلى قرطبة، مجتاحًا في طريقه عدة حصون وهزم الإسبان في عدة معارك محلية، وحين عودته وبيده الغنائم الكثيرة أدركه الإسبان وقاتلوه مرة أخرى وهزموه وأسروه وقتلوا عددًا كبيرًا من أمرائه وفرسانه، فقام الملك أبو الحسن باستدعاء أخيه أبي عبد الله محمد بن سعد الملقب بالزغل؛ ليتولى ملك غرناطة عوضًا عن ابنه المأسور أبي عبد الله الصغير.
كان الإسبان قد أسروا الملك أبا عبد الله محمد الصغير، وفي هذه السنة تم فك أسره بسعاية أمِّه الأميرة عائشة الحرة، بعد مفاوضات انتهت بعقد معاهدة مع ملك قشتالة تقتضي دفع غرامة مالية باهظة، والإفراج عن الأسرى الإسبان، وأن يكون الملك أبو عبد الله الصغير تحت حكم قشتالة وحكم ملكها فرديناند إلى غير ذلك من شروط مهينة، تحقِّقُ سياسة الاستيلاء على غرناطة.
هو الشيخ العلَّامة أبو الفضل المحبُّ محمد بن محمد أبو الوليد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب بن محمود الثقفي، الحلبي، الحنفي ابن الشحنة الصغير، عالم الحنفية بحلب. ولد سنة 804, والشحنة هو جدُّه الأعلى محمود الأول كان شحنة حلب ووالده أبو الوليد المتوفى سنة 815 يعرف أيضًا بابن الشحنة. كان المحبُّ هذا عالِمًا فاضلا، عارفًا بالفنون له وجاهة ورياسة، وولي الوظائف الجليلة، ولِيَ قضاء العسكر بحلب ثم قاضي الأحناف بها ثم النظر في جيش حلب وقلعتها وخطابة الجامع الكبير فيها، وتوالت عليه المحن، فترك حلب وقدم مصر فتولى كتابة السر فيها, ثم توجه لبيت المقدس، ثم أذن له بالعودة فقدم القاهرة وأعيد إلى كتابة السر فيها, وله نظم ونثر وتصانيف.
قام الفرنج الإسبان بالهجوم على مدينة رندة فحاصروها وقذفوها بالنفط وهدموا أسوارها، فاضطرت المدينة للاستسلام، وغادر أهلها منها فاستولى الإسبان على سائر الأماكن والحصون الواقعة في تلك المناطق، وعاثوا فيها نهبًا وقتلًا وسلبًا، وكان هذا الاستيلاء هو بمثابة تحطيم وسائل الدفاع في المنطقة الغربية من غرناطة.
هو السلطان الغالب بالله أبو الحسن علي بن سعد بن محمد بن الأحمر الأرجواني، الأندلسي، الغرناطي، الأنصاري، المصري ملك الأندلس وصاحب غرناطة. ومولده قبيل سنة840. خرج على والده سعد واستولى على ملك غرناطة سنة 868 ونفا والده إلى المرية ومات من سنته، ومنذ البداية، دخل أبو الحسن في حروب مع أخويه، أبو الحجاج يوسف وأبو عبد الله محمد الزغل، اللذين نازعاه الملك، كل على حدة. ولما توفي أبو الحجاج بقي أبو عبد الله الزغل منازعًا لأخيه حتى إنه خرج إلى ملك قشتالة يستنصره على أخيه، ثم ثار عليه ولده محمد أبو عبد الله الصغير، ومع هذا الصراعات قام أبو الحسن أول أمره بتحصين الحصون وتنظيم شؤون البلاد، وتولى وزارته وزير أبيه أبو القاسم بن رضوان. كان ملكًا جليلًا عارفًا مدبِّرًا. لكنه في آخر أيامه اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات وركن إلى الراحة والغفلات, ومن ذلك افتتانه بجارية رومية نصرانية اسمها ثريا قيل إنها أسلمت وإنها ابنة القائد القشتالي سانشو خمينس دي سوليس، وولدت منه ولدين: سعدًا ونصرًا, وقد فضل أبو الحسن ثريا وولديها ونفى ابنة عمه عائشة الحرة وولديها في برج قمارش بقصر الحمراء, فثار به ولده محمد أبو عبد الله الصغير ابن عائشة الحرة، وجرت بينهما خطوب، وكان الوزير أبو القاسم بن رضوان يوافق الأمير أبا الحسن على إظهار الصلاح والعفاف للناس, وانصرف الأمير أبو الحسن عن تقوية عساكره فأهمل كل من فيه نجدة وشجاعة من الفرسان ولم يزل الأمير مستمرًّا على حاله والجيش في نقص والملك في ضعف إلى أن فقد أبو الحسن بصره، وتنازل بالحكم لابنه أبي عبد الله الصغير، فلما أسره الفرنج استدعى الأمير أبو الحسن أخاه أبا عبد الله الملقب بالزغل، وسلمه حكم غرناطة.