دعا جلالةُ ملك أفغانستان حبيب الله خان جميعَ وجوه مملكته ورجال حكومته وأعيانها وتجارها، دعاهم لاجتماع عظيم، وعَرَض عليهم القضيةَ الطرابلسية وما يعانيه المسلمون في طرابلس الغرب من الظلم والعدوان، ودعاهم إلى الإنفاق وجمْع الأموال وفتْح كتاب أسماه كتاب (إغاثة يتامى وشهداء ومجروحي مجاهدي طرابلس الغرب) وقال لهم: افتحوا كيس همَّتكم وبلُّوا قلوبكم بماء الشفقة الأخوية، أعينوا يتامى وأيامى أولئك المجاهدين الذين جادوا بأرواحهم لأجل حفظ وطنهم وشَرَفِ مِلَّتِهم، أعينوهم على الأقل بلفائف يشدُّون بها جروحَهم، لا تنظروا إلى قلة ما تعطونه من المال وكثرته، أعطوا ما تتمكنون من إعطائه وأثبتوا أسماءكم في هذا الكتاب، إن الله لا يُضيعُ أجر من أحسن عملًا. وقد تبرع هو بمبلغ عشرين ألف روبية، وكان يقول وكله حماس: ألا ليتني قريب منهم أمدهم بالفعل لا بالقول، ألا ليتني طائرٌ أطير لمساعدة إخواني المسلمين.
هو أميرُ المُؤمِنينَ: أبو جعفر الرَّاشِدُ باللهِ مَنصورُ بنُ المسترشدِ باللهِ الفَضلِ بنِ أحمدَ العباسي، وُلِدَ سنة 502 في رمضان. وقيل: وُلِدَ بلا مَخرجٍ، ففُتِقَ له مخرجٌ بآلةٍ مِن ذهَبٍ، وأمُّه أم ولد. خُطِبَ له بولايةِ العَهدِ سنة 513، واستخلف في ذي القعدة، سنة 529, وكان أبيضَ مليحًا، تامَّ الشَّكلِ، شديدَ الأيدِ. وكان حَسَنَ السِّيرةِ، مُؤثِرًا للعَدلِ، فصيحًا، عَذْبَ العبارةِ، أديبًا شاعرًا جَوادًا، قال أبو طالبٍ بنُ عبد السميع: "مِن كلامِ الرَّاشِدِ: إنَّا نَكرَهُ الفِتَنَ؛ إشفاقًا على الرعيَّة، ونُؤثِرُ العَدلَ والأمْنَ في البَريَّة، ويأبى المَقدور إلَّا تَصَعُّبَ الأمور، واختلاطَ الجمهور، فنسألُ اللهَ العَونَ على لمِّ شَعثِ النَّاس بإطفاءِ ثائرةِ البَاس". وقال أبو الحسن البيهقي: "الراشِدُ باللهِ أعطاه اللهُ مع الخِلافةِ صُورةً يُوسُفيَّة، وسِيرةً عُمَريَّة". خرج الرَّاشِدُ باللهِ إلى همذان، وبها المَلِكُ داود وبوزابة ومَن معهما من الأُمَراءِ والعساكِرِ بعد انهزامِ السُّلطانِ مَسعود وتفَرُّقِ العساكر، وكان بعد خروجِ الرَّاشِدِ مِن بغدادِ مجيءُ السُّلطانِ مَسعود بنِ مُحمَّد بن ملكشاه، فاجتمع بالأعيانِ، وخَلَعوا الرَّاشِدَ، وبايعوا عَمَّه المُقتفيَ. وقيل: "إنَّ السُّلطانَ مَسعودًا أخرج خَطَّ الرَّاشِدِ يقولُ فيه: إنِّي متى عَسكَرْتُ أو خرَجْتُ، انعَزَلتُ" لم تَطُلْ أيَّامُه حتى خرج إلى المَوصِل، ثمَّ إلى أذربيجان، وعاد إلى أصبهان، فأقام على بابِها مع السُّلطان داود، محاصِرًا لها، فقَتَلَتْه الملاحِدةُ هناك، ففي الخامِسِ والعشرون من رمضان وثب عليه نفَرٌ مِن الخراسانيَّة الذين كانوا في خِدمتِه، فقَتَلوه وهو يريدُ القَيلولةَ، وكان في أعقابِ مَرَضٍ قد بَرِئَ منه. ودُفِنَ بظاهرِ أصفهان بشهرستان، فرَكِبَ مَن معه فقَتَلوا الباطنيَّةَ.
هو سعيدُ بنُ حُسين بن أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن عَمْرِو بن ميمون القدَّاح بن دَيصان الأهوازي. قال القاضي عبد الجَبَّار بن أحمد بن عبد الجبار البصري: "اسمُ جَدِّ الخلفاء المصريِّين سعيدٌ، ويلقَّبُ بالمهديِّ". المعروف بالمهديِّ أبو محمَّد عبيدالله، مؤسِّسُ الدولة الفاطمية العُبيدية الباطنيَّة في إفريقيا، كان أبوه يهوديًّا حدَّادًا بسَلَمية. زعم سعيدٌ هذا أنَّه ابنُ الحُسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القدَّاح. وقال بعض دُعاة العُبَيديين: "إنَّ سعيدًا إنما هو ابنُ امرأة الحُسين بن محمد. وإنَّ الحُسين ربَّاه وعلَّمه أسرار الدَّعوة، وزوَّجه ببنت أبي الشَّلَغْلَغ فجاءه ابن سمَّاه عبد الرحمن، فلمَّا دخل المغرب وأخذ سِجِلماسة تسمَّى بعُبَيد الله وتكنى بأبي محمد، وسمَّى ابنَه الحسن". كانت طائفةٌ من أتباعه تزعُمُ أنَّه الخالق الرَّازق، وطائفةٌ تزعم أنَّه نبيٌّ، وطائفة تزعم أنَّه المهدي حقيقة. قال القاضي أبو بكر ابن الباقلَّانيِّ: "إنَّ القدَّاح جدُّ عُبَيد الله كان مجوسيًّا, ودخل عُبَيد الله المغرب، وادَّعى أنَّه علويٌّ، ولم يعرفْه أحد من علماء النَّسَب، وكان باطنيًّا خبيثًا، حريصًا على إزالة مِلَّة الإسلام. أعدَمَ العُلَماء والفقهاء ليتمكَّنَ مِن إغواء الخلْق. وجاء أولادُه على أُسلوبه. أباحوا الخُمور والفُرُوج، وأشاعوا الرَّفْضَ، وبثُّوا دُعاةً فأفسدوا عقائِدَ خلقٍ من جبالِ الشَّام كالنُّصَيْريَّة والدَّرزيَّة. وكان القدَّاح كاذبًا مُمَخْرقًا. وهو أصلُ دُعاة القرامطة. وجدُّ القدَّاح هو دَيصَان أحدُ الثَّنَويَّة. وعُبَيد الله المهدي صاحب القيروان، وجدُّ بني عُبَيدٍ الذينَ تُسَمِّيهم جَهَلَةُ النَّاسِ الخُلَفاء الفاطميِّين". قال الذهبي: "وأهلُ العلم بالأنسابِ المحقِّقينَ يُنكِرونَ دعواه في النَّسبِ لفاطمةَ رضي الله عنها، ويقولون: اسمُه سعيدٌ، ولَقَبه عُبَيدُ الله، وزوج أمِّه الحُسين بنُ أحمد القدّاح. وكان كحَّالًا يقدحُ العينَ". لَمَّا مات عُبيد الله بالمهديَّة أخفى ولدُه أبو القاسم القائِمُ مَوتَه سنةً؛ لتدبيرٍ كان له، وكان يخافُ أن يختَلِفَ النَّاسُ عليه إذا عَلِموا بموته، وكان عمرُ المهديِّ لمَّا توفِّيَ ثلاثًا وستِّينَ سنة، وكانت ولايتُه منذ دخل رقاده ودُعِيَ له بالإمامة إلى أن توفِّيَ أربعًا وعشرينَ سنة وشهرًا وعشرين يومًا، ولمَّا توفِّيَ مَلَك بعدَه ابنُه أبو القاسم محمَّد القائم، وكان أبوه قد عَهِدَ إليه، ولَمَّا أظهرَ وفاة والده كان قد تمكَّنَ وفرغ من جميعِ ما أراده، واتَّبَع سُنَّة أبيه، وثار عليه جماعةٌ، فتمكَّنَ منهم. وكان من أشدِّهم رجلٌ يقال له ابنُ طالوت القرشيُّ، في ناحية طرابلس، ويزعُمُ أنَّه ولد المهديِّ، وزحف بمن معه على مدينة طرابلس، فقاتَلَه أهلها، ثم تبيَّنَ للبربر كَذِبُه، فقتلوه وحملوا رأسَه إلى القائمِ.
هو أبو شُجاعٍ الوَزيرُ محمدُ بن الوَزيرِ حُسينِ بن عبدِ الله بن إبراهيمَ، الروذراوريُّ، أَهوازيُّ الأَصلِ من همذان. كان أبو شُجاعٍ قد قَرأَ الفِقهَ والعَربيَّةَ، وسَمِعَ الحَديثَ من جَماعةٍ منهم: أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، وصَنَّفَ كُتُبًا منها كِتابُه الذي ذَيَّلَهُ على ((تجارب الأمم)) ووَزَرَ للمُقتدِي بالله سَليمًا مِن طَمَعٍ، وكان يَملِك حِينئذٍ عَيْنًا ستمائة ألف دِينارٍ، فأَنفَقَها في الخَيراتِ والصَّدقاتِ. قال أبو جَعفرِ بن الخِرقيِّ: "كُنتُ أنا مِن أَحَد عشر يَتَولَّون إِخراجَ صَدَقاتِه، فحَسِبتُ ما خَرَجَ على يَدِي فكان مائة ألف دِينارٍ، ووَقَّفَ الوُقوفَ، وبَنَى المَساجِدَ، وأَكثَرَ الإنعامَ على الأَرامِلِ واليَتامَى، وكان يَبيعُ الخُطوطَ الحَسَنَة، ويَتصدَّق بثَمَنِها ويقول: أَحَبُّ الأَشياءِ إليَّ الدِّينارُ والخَطُّ الحَسَن، فأنا أُخرِجُ للَّه مَحبوبي. ووَقَعَ مَرَضٌ في زَمانِه، فبَعَثَ إلى جَميعِ أَصقاعِ البَلدِ أَنواعَ الأَشرِبَةِ والأَدوِيَةِ، وكان يُخرِج العُشْرَ من جَميعِ أَموالِه النَّباتيَّة على اختِلافِ أَنواعِه. حَكَى حاجِبُه الخاصُّ بهِ قال: استَدعاني لَيلةً، وقال: إنِّي أَمَرتُ بعَمَلِ قَطائفَ، فلمَّا حَضَرَ بين يديَّ ذَكرتُ نُفوسًا تَشتَهيهِ فلا تَقدِرُ عليه، فنَغَّصَ ذلك عليَّ أَكْلَهُ، ولم أَذُق منه شَيئًا، فاحمِل هذه الصُّحونَ إلى أَقوامٍ فُقراءَ. فحَمَلَها الفَرَّاشُونَ معه، وجَعَلَ يَطرُق أَبوابَ المَساجِد ببابِ المَراتِبِ، ويَدفَع ذلك إلى الأَضِرَّاءِ المُجاوِرينَ بها" وكان يُبالِغُ في التَّواضُع، حتى تَرَكَ الاحتِجابَ فيُكَلِّم المَرأَةَ والطِّفلَ، وأَوْطَأَ العَوامَّ والصَّالِحينَ مَجلِسَه، وكان يُحضِر الفُقهاءَ الدِّيوانَ في كلِّ مُشكِلٍ، وكانوا إذا أَفتَوا في حَقِّ شَخصٍ بوُجوبِ حَقِّ القَصاصِ عليه سَأَلَ أَولياءَ الدَّمِ أَخْذَ شَيءٍ من مالِه وأن يَعفُوا، فإن فَعَلوا وإلَّا أَمَرَ بالقَصاصِ، وأَعطَى ذلك المالَ وَرَثَةَ المَقتُولِ الثاني، وفي زَمانِه أُسقِطَت المُكوسُ، وأُلبِسَ أَهلُ الذِّمَّةِ الغِيارَ، وتَقدَّم إلى الخِرَقيِّ المُحتَسِب أن يُؤَدِّبَ كلَّ مَن فَتَحَ دُكَّانَه يَومَ الجُمعةِ ويُغلِقَه يومَ السبتِ مِن البَزَّازينَ وغَيرِهم، وقال: هذه مُشارَكةٌ لليَهودِ في حِفْظِ سَبتِهم. وكان قد سَمِعَ أن النَّفَّاطِينَ والكِلابزيَّة -مَن يَتَولَّى تَربيَةَ الكِلابِ وبَيعَها- يَقِفونَ على دَكاكِين المُتعيِّشين فيَأخُذون منهم كلَّ أُسبوعٍ شَيئًا، فنَفَذَ مَن يَمنعُهم مِن الاجتِيازِ بهم. وحَجَّ في وِزارَتِه سَنةَ ثمانين، فبَذَلَ في طَريقِه الزَّادَ والأَدوِيَةَ، وعَمَّ أَهلَ الحَرمَينِ بصَدَقاتٍ، وساوَى الفُقراءَ في إِقامَةِ المَناسِك والتَّعَبُّد، وكان كَثيرَ البِرِّ للخَلْقِ، كَثيرَ التَّلَطُّفِ بهم، ولمَّا عُزِلَ خَرجَ إلى الجامِعِ يومَ الجُمعةِ فانثالَت عليه العامَّةُ تُصافِحُه وتَدعُو له، فكان ذلك سَبَبًا لالتِزامِه بَيتَه، والإنكارِ على مَن صَحِبَهُ، وبَنَى في دِهليزِ دارِهِ مَسجِدًا وكان يُؤَذِّن ويُصلِّي فيه، ثم وَرَدَت كُتُبُ نِظامِ المُلْكِ بإخراجِه من بغداد، فأُخرِجَ إلى بَلدةٍ، فأَقامَ مُدَّةً، ثم استَأذَنَ في الحَجِّ فأُذِنَ له فخَرجَ, وجاوَرَ بالمَدينَةِ، فلمَّا مَرِضَ مَرْضَ المَوتِ حُمِلَ إلى مَسجدِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وتُوفِّي مِن يَومِه ودُفِنَ بالبَقيعِ بعدَ أن صُلِّيَ عليه بمَسجدِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، في مُنتَصفِ جُمادَى الآخِرَة من هذه السَّنَةِ وهو ابنُ إحدى وخمسين سَنةً، وكان له شِعْرٌ حَسَنٌ.
في سابع رمضان دخل السلطانُ بيبرس حماة، ثم صار منها بالعساكر والعربان، وجرَّد السُّلطان عيسى بن مهنا، والأمير حسام الدين العنتابي، بعسكرٍ إلى البيرة، وجهَّزَ الأمير قلاوون الألفي والأمير بيليك الخازندار – ممسك خزنة المال- بعسكرٍ إلى بلاد سيس؛ وذلك بسبب أن الحاجِبَ معين الدين سليمان بن مهذب الدين علي الديلمي وزير قليج أرسلان الرابع ملك سلاجقة الروم دعاه إليها وحرضه على القدوم، وبسبب أيضا تحالف الأرمنيين مع التتار، فساروا وهجموا على الأرمن في المصيصة، وقتلوا من بها، وكانت المراكِبُ قد حملت معهم على البغال وهي مفصلة، ليعدُوا فيها من نهر جهان والنهر الأسود، فلم يحتَجْ إليها، ووصل السلطانُ على الأثر بعد ما قطع بعساكره النهرَ الأسود وقاسَوا مشقة، وملكوا الجبالَ وغَنِموا عنها ما لا يحصى كثرة، ما بين أبقار وجواميس وأغنام، فدخل السلطانُ إلى سيس في التاسع عشر وعيَّدَ بها، وانتهبها وهدم قصور التكفور ومناظِرَه وبساتينَه، وبعث إلى دربند الروم، فأحضر إليه من سبايا التتار عدة نساء وأولاد، وسَيَّرَ إلى طرسوس، فأُحضِرَ إليه منها ثلاثمائة رأس من الخيل والبغال، وبعث إلى البحر عسكرًا فأخذ مراكب، وقتل من كان فيها، وانبثت الغاراتُ في الجبال، فقتلوا وأسروا وغنموا، وبعث السلطانُ إلى إياس بالعساكر، وكانت قد أُخلِيَت، فنَهَبوا وحَرَقوا وقَتَلوا جماعةً، وكان قد فَرَّ مِن أهلها نحوُ الألفين ما بين فرنج وأرمن في مراكب، فغَرِقوا بأجمَعِهم في البحر، واجتمَعَ من الغنائم ما لا يحصُرُه قَلَمٌ لكثرته، ووصلَت العُربان والعسكَرُ إلى البيرة، وساروا إلى عينتاب وغنموا، فانهزم التتارُ منهم وعادوا، فرحل السلطانُ من سيس إلى المصيصة من الدربند، فلما قطَعَه جعل الغنائِمَ بمرج أنطاكيةَ حتى ملأته طولًا وعرضًا، ووقف بنفسه حتى فرقها، فلما فرغ من القسمة سار إلى دمشق، فدخلها في النصفِ من ذي الحجة.
أخرج الترمذي في سننه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أَعِزَّ الإسلامَ بأَحَبِّ هذين الرجُلَيْنِ إليك بأبي جهلٍ أو بعمرَ بنِ الخطابِ قال وكان أَحَبَّهُما إليه عمرُ)) وروى أهل السِّير أنَّ عمر خرج يومًا مُتوشِّحًا سَيفَهُ يُريدُ القضاءَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلقِيهُ رجلٌ فقال: أين تعمدُ يا عُمَرُ؟ قال: أريدُ أنْ أقتُلَ محمَّدًا. قال: كيف تأمنُ من بني هاشمٍ ومن بني زُهرةَ وقد قتلتَ محمَّدًا؟ فقال له عُمَرُ: ما أراك إلَّا قد صَبَوْتَ، وتركتَ دينَك الذي كنتَ عَليهِ، قال: أفلا أدُلُّك على العَجَبِ يا عُمَرُ? إنَّ أُختَك وخَتَنَكَ قد صَبَوَا، وتركا دينَك الذي أنت عَليهِ، فمشى عُمَرُ إليهِما، وعندهُما خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ، معه صَحيفةٌ فيها: سُورةُ [طه] يُقرِئهُما إيَّاها، فلمَّا سمِع خَبَّابٌ حِسَّ عُمَرَ تَوارى في البيتِ، وسَترتْ فاطمةُ أُختُ عُمَرَ الصَّحيفةَ، وكان قد سمِع عُمَرُ حين دنا مِنَ البيتِ قِراءةَ خَبَّابٍ إليهِما، فلمَّا دخل عليهِما قال: ما هذه الهَيْنَمَةُ التي سمعتُها عندكُم؟ فقالا: ما عَدا حديثًا تحدَّثناهُ بيننا. قال: فلَعلَّكُما قد صَبَوْتُما, فقال له خَتَنُهُ: يا عُمَرُ، أرأيتَ إنْ كان الحقُّ في غيرِ دينِك؟ فوثبَ عُمَرُ على خَتَنِهِ فَوَطِئَهُ وَطْئًا شَديدًا, فجاءتْ أختُه فرفعتْهُ عن زَوجِها، فَنَفَحَها نَفْحَةً بيدِه، فَدَمَّى وجهَها، فقالتْ، وهي غَضبى: يا عُمَرُ، إنْ كان الحقُّ في غيرِ دينِك، أشهدُ أنْ لا إلَه إلَّا الله، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله. فلمَّا يَئِسَ عُمَرُ، ورَأى ما بِأُختِه مِنَ الدَّمِ نَدِمَ واستَحْيا، وقال: أَعْطوني هذا الكتابَ الذي عندكُم فأَقرؤهُ، فقالتْ أختُه: إنَّك رِجْسٌ، ولا يَمَسُّهُ إلَّا المُطهَّرون، فقُمْ فاغْتسِلْ، فقام فاغتسَلَ، ثمَّ أخذَ الكتابَ، فقرأَ: بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أسماءُ طَيِّبَةٌ طاهرةٌ. ثمَّ قرأَ [طه] حتَّى انتهى إلى قولِه: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) فقال: ما أحسنُ هذا الكلامَ وأَكرمَهُ؟ دِلُّوني على محمَّدٍ. فأتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَسلمَ عندَه، ثمَّ خرج المسلمون معهُ في صَفَّيْنِ حتَّى دخلوا المسجدَ، فلمَّا رأتهُم قُريشٌ أصابتْها كآبةٌ لم تُصبْها مِثلُها.
هو محمَّدُ بن سِيرينَ أبو بَكر بن أبي عَمرٍو الأَنصارِي، مَوْلَى أَنَسِ بن مالِكٍ النَّضْرِي، كان أبوه مِن سَبْيِ عَيْنِ التَّمْر، أَسَرَهُ في جُملَةِ السَّبْيِ خالدُ بن الوَليدِ، فاشْتَراهُ أَنسُ بن مالِك ثمَّ كاتَبَهُ. وُلِدَ ابنُ سِيرينَ لِسَنَتينِ بَقِيَتا في خِلافَة عُثمان، كان مِن جُلَّةِ التَّابِعين، قال هِشامُ بن حَسَّان: هو أَصْدَقُ مَن أَدركْتُ مِن البَشَرِ. ولمَّا مات أَنسُ بن مالِك أَوْصى أن يُغَسِّلَه محمَّدُ بن سِيرينَ، قال ابنُ عَوْنٍ: كان محمَّد يأتي بالحَديثِ على حُروفِه. قال أَشْعَثُ: كان ابنُ سِيرينَ إذا سُئِلَ عن الحَلالِ والحَرامِ تَغَيَّرَ لَونُه حتَّى يكونَ كأنَّه ليس بالذي كان. قال مُوَرِّقٌ العِجْلِي: ما رَأيتُ أَحَدًا أَفْقَهَ في وَرَعِه ولا أَوْرَعَ في فِقْهِهِ مِن محمَّدِ بن سِيرينَ. كان مَشهورًا في تَعبيرِ الرُّؤى والأَحلامِ، وأمَّا الكِتابُ المَوجودُ اليومَ على أنَّه مِن تَألِيفِه فغَيْر صَحيح، فهو لم يُؤَلِّف كِتابًا في تَفسير الرُّؤى، وتَعْبِيراتُه للرُّؤَى مَبْثُوثَة في كُتُب التَّراجِم والتَّاريخ.
لما فرغ الفرنجُ من إصلاح أمْرِ عكا، ساروا مستهلَّ شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارِقونَه، فلما سمع صلاح الدين برحيلِهم نادى في عسكره بالرحيلِ، فضايقوا الفرنج في مسيرِهم، وأرسلوا عليهم مِن السهام ما كاد يحجُبُ الشمس، ووقعوا على ساقةِ الفرنج، فقتلوا منها جماعةً، وأسَروا جماعةً، وأرسل الأفضَلُ بن صلاح الدين إلى والِدِه يستَمِدُّه ويُعَرِّفُه الحال، فأمر صلاح الدين العساكِرَ بالمسير إليه، فاعتذروا بأنَّهم ما ركبوا بأُهبةِ الحَربِ، وإنما كانوا على عَزمِ المسيرِ لا غير، فبَطَل المددُ وعاد مَلِك الإنكليز إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجَمَعَهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنَزَلوا بها، ونزل المسلمونَ لِيُقيموا في قرية بالقرب من الفرنج، وأحضر الفرنجُ مِن عكا عِوَض من قُتِلَ منهم وأُسِرَ ذلك اليوم، وعِوَضَ ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونَهم ويتخَطَّفون منهم مَن قَدَروا عليه فيَقتُلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنَّه لا يظفَرُ بأحدٍ منهم إلا قَتَلَه بمن قَتَلوا بعكا، فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشدَّ قتال، فنالوا منهم نيلًا كثيرًا، ونزل الفرنجُ بها، وبات المسلمون قريبًا منهم، فلما نزلوا خرجَ من الفرنج جماعةٌ فأبعدوا عن جماعتِهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك – المقَدِّمة- فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيساريَّة إلى أرسوف، وكان المسلمونَ قد سبقوهم إليها، ولم يُمكِنْهم مسايرة الفرنج لضِيقِ الطريق، فلما وصل الفرنجُ إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضُهم فقُتِل منهم كثير، فلما رأى الفرنجُ ذلك اجتمعوا، وحملت الخيَّالة على المسلمين حملةَ رجل واحد، فوَلَّوا منهزمين، فلما انهزم المسلمون عنهم قُتِلَ خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاحُ الدين، وكان بالقُربِ من المسلمين روضةٌ كثيرة الشجر، فدخلوها وظَنَّها الفرنج مكيدةً، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضِّيقِ، ثم سار الفرنجُ إلى يافا فنزلوها، ولم يكُنْ بها أحد من المسلمين، فملكوها، وسار صلاحُ الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقالِه بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريبِ عسقلان، فأمر بتخريبِها، فخُرِّبَت تاسع عشر شعبان، وأُلقِيَت حجارتها في البحر، وهَلَك فيها من الأموال والذخائر التي للسُّلطانِ والرعية ما لا يُمكِنُ حَصرُه، وعفى أثَرَها حتى لا يبقى للفرنجِ في قَصدِها مَطمَعٌ، ولَمَّا سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانَهم ولم يسيروا إليها، فلما خَرِبَت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهرِ رمضان، ومضى إلى الرملة فخَرَّبَ حِصنَها وخَرَّب كنيسة لد، ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريبِ الرملة، فاعتَبَرَه وما فيه من سلاحٍ وذخائر، وقرَّرَ قواعِدَه وأسبابه، وما يُحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان، وفي هذه الأيام خرج ملك الإنكليز من يافا، ومعه نفرٌ من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفرٌ من المسلمين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وكاد ملك الإنكليز يؤسَرُ، ففداه بعضُ أصحابه بنَفسِه، فتخلَّصَ المَلِكُ وأُسِرَ ذلك الرجُل.
هو أحمدُ بنُ يحيى بن إسحاق الراوندي نسبةً إلى راوند بلدةٍ مِن أصبهان، ولد عام 210, فيلسوف مجاهرٌ بالإلحاد، له مناظراتٌ ومجالسُ مع علماء الكلام، انفرد بمذاهِبَ نُقِلَت عنه في كتبه، كالقول بالحُلوليَّة، وتناسُخ رُوح الإله في الأئمَّة، وكان يلازِمُ الرافضةَ والملاحِدةَ، فإذا عوتِبَ قال: "أنا أريدُ أن أعرِفَ مذاهبَهم"، ثم كاشَفَ وناظَرَ، وصنَّف في الزندقة- لعنه اللهُ- قيل: إنَّ أباه كان يهوديًّا فأظهَرَ الإسلامَ، قال ابن حجر: "كان أوَّلًا مِن متكَلِّمي المعتَزِلة، ثم تزندقَ واشتَهَر بالإلحادِ" وقيل: إنه كان لا يستقِرُّ على مذهبٍ ولا يَثبُتُ على شيءٍ، ويقال: كان غايةً في الذكاءِ، قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي: "كنتُ أسمع عنه بالعظائمِ، حتى رأيتُ له ما لم يَخطُرْ مِثلُه على قلبٍ" وهو أحدُ مشاهير الزنادقة، طلبه السلطانُ فهرب إلى ابن لاوي اليهودي بالأهواز، وصَنَّفَ عنده مصنَّفات، منها كتاب "الدامغ للقرآن" وضعه ليطعنَ به في القرآنِ، وفي النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم. ثمَّ لم يلبث إلَّا أيامًا حتى مرِضَ ومات, وكتابٌ في الرَّدِّ على الشريعةِ سمَّاه "الزمردة"، قال ابن عقيل: "عجبي كيف لم يُقتَلْ وقد صنَّف «الدامغ»" قال بعضُ اليهودِ للمُسلمينَ: لا يُفسِدَنَّ عليكم هذا كتابَكم، كما أفسَدَ أبوه علينا التوراةَ". واختُلِفَ في موته، فقيل: مات وهو عند اليهوديِّ، وقيل: بل صُلِبَ، عاش أكثَرَ مِن ثمانين سنة، فلا رَحِمَه الله. وجازاه بما يستحِقُّه.
هو أحمدُ بنُ عليِّ بنِ شُعَيبِ بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النَّسائيُّ، صاحِبُ السُّنَن، كان إمامًا في الحديثِ ثِقةً ثبتًا حافِظًا. ولد سنة 215 كان مليحَ الوجهِ، مع كِبَرِ السِّنِّ. وكان يؤثِرُ لباسَ البرود النوبيَّة الخُضر، وكان له أربعُ زوجاتٍ يَقسِمُ لهن، ولا يخلو مع ذلك مِن سُرِّيَّة. وكان يُكثِرُ أكلَ الدُّيوكِ الكِبارِ تُشترى له وتُسمَّن. كان الإمامَ في عصرِه والمُقَدَّمَ على أضرابِه وأشكالِه وفُضَلاءِ دَهرِه، رحل إلى الآفاقِ، واشتغل بسَماعِ الحديثِ والاجتماعِ بالأئمَّةِ الحُذَّاق ومشايخِه الذين روى عنهم مُشافهةً، وقد أبان في تصنيفِه عن حفظٍ وإتقانٍ وصِدقٍ وإيمانٍ، وعلمٍ وعرفانٍ، قال الدارقطني: "أبو عبد الرَّحمنِ النَّسائي مُقَدَّمٌ على كلِّ من يُذكَرُ بهذا العِلمِ مِن أهلِ عَصرِه"، وكان يسمِّي كتابَه (الصَّحيحَ)، وقال أبو عليٍّ الحافِظُ "هو الإمامُ في الحديثِ بلا مدافعةٍ"، وقال أبو الحُسَين محمَّد بن مظفَّر الحافظ: "سمعتُ مَشايخَنا بمِصرَ يعترفون له بالتقَدُّمِ والإمامةِ، ويَصِفونَ مِن اجتهادِه في العبادةِ باللَّيلِ والنَّهارِ ومواظبته على الحَجِّ والجهاد"، وقيل: كان يصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا، وقال ابن يونس: "كان النَّسائيُّ إمامًا في الحديث ثقةً ثَبتًا حافِظًا"، وقال ابنُ عَدِيٍّ: سمعتُ منصورًا الفقيه وأحمدَ بنَ محمد بن سلامة الطحاويَّ يقولان: "أبو عبدِ الرَّحمنِ النَّسائي إمامٌ مِن أئمة المسلمين، وكذلك أثنى عليه غيرُ واحد من الأئمَّة، وشهدوا له بالفضلِ والتقَدُّمِ في هذا الشأنِ"، وقد قيل عنه: إنَّه كان يُنسَبُ إليه شيءٌ مِن التشيُّع، لكنْ نَقَلَ المِزِّيُّ في تهذيبِ الكمال ما يُبَرِّئُه من ذلك، فقال: "روى الحافِظُ أبو القاسم بإسنادِه عن أبي الحسين علي بن محمد القابسي قال: سمعتُ أبا عليٍّ الحسَنَ بنَ أبي هلال يقول: سُئِلَ أبو عبد الرَّحمنِ النَّسائيُّ عن معاويةَ بنِ أبي سفيانَ صاحِبِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم فقال: إنما الإسلامُ كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسلامِ الصَّحابةُ، فمن آذى الصحابةَ إنما أراد الإسلامَ، كمن نقر البابَ إنَّما يريد دخولَ الدَّارِ، قال: فمن أراد معاويةَ فإنَّما أراد الصَّحابةَ".
بعد وفاةِ محمد بردي بك أمير أذربيجان سنة 762 وقد كان ولَدُه توقتاميش صغيرًا على الملك فعَمَّت الفوضى البلاد فاستقَلَّ الحاج جركس بمنطقة استراخان، واستقَلَّ ماماي بمنطقة القرم، وأما منطقة سراي فحَكَمَها خضر بك وهرب توقتاميش إلى سمرقند إلى تيمورلنك، فاستغَلَّ الروس هذا الاختلاف فانقَضُّوا على التتار والتَقَوا مع ماماي وانتصروا عليه، فقام توقتاميش بالرجوع إلى سراي وحكَمَها بمساعدة تيمورلنك، ثم في هذه السنة 783 بعد أن استطاع توقتاميش خان السيطرةَ على أمور التتار والجلوس على عرش الحكم فيها، حيث استقَلَّ بسلطنة دشت القفجاق وسراي، بعد أن قتل تيمر ملك خان في حدود سنة 780 فأرسل إلى حكام الروسية ليدينوا له بالطاعةِ، ولكن حصل منهم تباطؤ وممالأة، فسار إليهم توقتاميش إلى موسكو في أوائل سنة 783 من طريقِ البلغار وعبَرَ نَهرَ أدل (أولغا) ففَرَّ منها حاكمُها ديمتري وهرب معه كثيرٌ مِن أهل موسكو، وبَقِيَ مَن بقي للمدافعة والقتال مغترين بسور المدينة العظيم، ثم وصل التتار وبدؤوا الحصار والرمي ثلاثة أيام، ثم بدأت المحاربة في اليوم الرابع وقال لهم توقتاميش: إن همه هو ديمتري ثم استقَرَّ رأي أهل البلد أن يفتحوا الأبوابَ، فلما فعلوا دخل التتار وقتلوا كلَّ من رأوا أمامَهم من الأهالي ونَهَبوا الأموال وأسَروا من أسَروا ثم عادوا إلى بلادهم بما حصَّلوه من أموال.
اجتمع في الدرعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود، بالإضافة إلى كبار أنصار الدعوة الذين قدموا من مختلف البلدان للتباحث في شؤون الدعوة والمواقف اللازم اتخاذها ضد أعدائها، وكان دهام بن دواس قد تضجَّر من الحرب مع آل سعود، فلما سمع بهذا التجمع مال إلى المهادنة، وطلب من الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود عقدَ صُلحٍ بينه وبين الدرعية، وتعهد باعتناق مبادئ الدعوة السلفية، إلَّا أنه نكث هذا العهد في العام التالي سنة 1168 هـ، وسانده على ذلك محمد بن فارس رئيس منفوحة، وهكذا تجددت الاشتباكاتُ بين الدرعية والرياض.
عزم الإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود الحجَّ بالنَّاسِ الحَجَّةَ الثانية, وقد احتفلوا احتفالًا عظيما بالحَجَّة الأولى في السنة الماضية, وأجمل معه في الحجِّ غالب أهل نجد ومن تَبِعَهم من البوادي وغيرهم من النساء والأطفال، وخرج معه للحَجِّ ابنه الأمير سعود, ثمَّ إن الإمام عبد العزيز لما سار سبعة ووصل قرب الدوادمي المعروف في عالية نجد أيام، آنسَ من نفسه الملل والثِّقلَ فرجع للدرعية، وحَجَّ بالناس الأميرُ سعود واعتمروا وحجُّوا على أحسن حال، واجتمع سعود بالشَّريفِ غالب شريف مكة وبذل سعودٌ في مكة كثيرًا من الصدقات والعطاء، وكانت هذه حَجَّتَه الثانية.
بعد أن أصبح السلطان العزيز يوسف بن برسباي سلطانًا أصبح الأمير الكبير جقمق هو نظام الملك؛ فله الأمر والنهي، وبيده كل شيء، وليس للسلطان سوى الاسم، وكان في هذه السنة حصلت فتن بين المماليك الأشرفية التابعين للسلطان، وبين الأمير جقمق ومن معه من الأمراء والمماليك الظاهرية والمؤيدية، فعزز الأمير جقمق مركزه وعلا شأنُه، حتى لما كان يوم الأربعاء التاسع عشر ربيع الأول قام الأمير الكبير جقمق بخلع السلطان العزيز يوسف بعد أن دام في السلطنة مدة أربعة وتسعين يومًا، وذلك باتفاق الأمراء وأعيان المملكة على سلطنته، ولما تم أمره استُدعي الخليفة المعتضد بالله داود والقضاة الأربعة والأمير قرقماس أمير سلاح وسائر الأمراء وجميع أعيان الدولة إلى الحراقة -نوع من السفن فيها مرامي نيران يرمى بها العدو- بباب السلسلة من الإسطبل السلطاني، وجلس كل واحد في مجلسه، فافتتح الأمير قرقماس الكلام مع الخليفة والقضاة بأن قال: السلطان صغير، والأحوال ضائعة؛ لعدم اجتماع الكلمة في واحد بعينه، ولا بد من سلطان ينظر في مصالح المسلمين وينفرد بالكلمة، ولم يكن يصلح لهذا الأمر سوى الأمير الكبير جقمق هذا, فقال جقمق: هذا لا يتم إلا برضا الأمراء والجماعة، فصاح الجميع: نحن راضون بالأمير الكبير؛ فعند ذلك مد الخليفة يده وبايعه بالسلطنة، ثم بايعه القضاة والأمراء على العادة، ثم قام مِن فَورِه إلى مبيت الحراقة، ولبس الخلعة الخليفتية السوداء، وتقلد بالسيف، وخرج راكبًا فرسًا أُعِدَّ له بأبهة السلطنة وشعار الملك، فأصبح السلطان الجديد هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي.
سار الأميرُ أبو القاسم، أميرُ صقليَّة، من المدينةِ يريدُ الجِهادَ، وسببُ ذلك أنَّ مَلِكًا مِن مُلوكِ الفِرنجِ، يقال له بردويل، خرجَ في جموعٍ كثيرةٍ مِن الفرنجِ إلى صقليَّةَ، فحصَرَ قَلعةَ مَلطةَ ومَلَكَها، وأصاب سريتَينِ للمُسلمينِ، فسار الأميرُ أبو القاسم بعساكِرِه ليُرحِّلَه عن القلعة، فلمَّا قاربَها خاف وجَبُن، فجمع وجوهَ أصحابِه، وقال لهم: إنِّي راجِعٌ مِن مكاني هذا، فلا تكسروا عليَّ رأيي. فرجع هو وعساكِرُه، وكان أسطولُ الكُفَّارِ يُسايرُ المُسلِمينَ في البَحرِ، فلمَّا رأَوا المُسلِمينَ راجِعينَ أرسَلوا إلى بردويل، ملِكِ الرُّومِ، يُعلِمونَه ويقولونَ له: إنَّ المُسلِمينَ خائِفونَ منك، فالحَقْ بهم فإنَّك تظفَرُ. فجَرَّد الفرنجيُّ عَسكَرَه من أثقالِهم، وجَدَّ في السير، فأدركهم في العشرينَ مِن المحرم، فتعبَّأ المسلمون للقتال، واقتتلوا، واشتَدَّت الحرب بينهم، فحَمَلَت طائفةٌ مِن الفرنج على القلبِ والأعلام، فشَقُّوا العسكر ووصلوا إليها، وقد تفَرَّق كثيرٌ مِن المسلمين عن أميرِهم أبي القاسم، واختَلَّ نِظامُهم، فوصل الفرنجُ إليه، فأصابته ضربةٌ على أمِّ رأسِه فقُتِل، وقُتِلَ معه جماعةٌ مِن أعيانِ النَّاسِ وشُجعانِهم، ثم إنَّ المنهزمين من المسلمين رجعوا مُصَمِّمينَ على القتال ليظفَروا أو يموتوا، واشتَدَّ حينئذ الأمرُ، وعَظُمَ الخَطبُ على الطائفتين، فانهزم الفرنجُ أقبَحَ هَزيمةٍ، وقُتِلَ منهم نحوُ أربعة آلافِ قَتيلٍ، وأُسِرَ مِن بطارقتهم كثيرٌ، وتبعوهم إلى أن أدركَهم الليل، وغَنِموا من أموالِهم كثيرًا. وأفلَتَ مَلِكُ الفِرنجِ هاربًا ومعه رجلٌ يهوديٌّ كان خصيصًا به، فوقف فرَسُ الملك، فقال له اليهودي: اركَبْ فَرَسي، فإن قُتِلْتُ فأنت لوَلَدي. فرَكِبَه المَلِكُ وقُتِلَ اليهودي، فنجا المَلِكُ إلى خيامِه وبها زوجتُه وأصحابه فأخذهم وعاد إلى روميَّة، ولَمَّا قُتِلَ الأميرُ أبو القاسم كان معه ابنُه جابر، فقام مقامَ أبيه، ورحل بالمسلمينَ لِوَقتِهم، ولم يمكِّنْهم من إتمام الغنيمةِ، فتركوا كثيرًا منها، وسأله أصحابُه ليُقيمَ إلى أن يجمَعَ السِّلاحَ وغَيرَه ويَعمُرَ به الخزائِنَ، فلم يفعل، وكانت ولايةُ أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام. وكان عادلًا، حسنَ السيرة، كثيرَ الشَّفَقة على رعيَّتِه والإحسانِ إليهم، عظيمَ الصدقةِ، لم يُخَلِّفْ دينارًا ولا درهمًا ولا عقارًا؛ فإنه كان قد وقف جميعَ أملاكِه على الفُقَراء وأبوابِ البِرِّ.