هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي، السلطان الرابع والثلاثون من ملوك الترك، والعاشر من الجراكسة، ويذكر في أصله أنه أخذ من بلاده صغيرًا فاشتراه خواجا كزلك وجلبه إلى الديار المصرية، فابتاعه منه الأتابك إينال اليوسفي، وقيل: ولده أمير علي بن إينال وهو الأصح، وربَّاه عنده، فطلبه الملك الظاهر منه في سرحة سرياقوس، وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس، وقد اختلفت الأقوال في أمر عتقه؛ فمن الناس من قال: إن أمير علي كان أعتقه قبل أن يطلُبَه الملك الظاهر منه، فلما طلبه الملك الظاهر سكت أمير علي عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من جملة مشتريات الملك الظاهر. تسلطن يوم خُلِعَ الملك العزيز يوسف، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ربيع الأول سنة 842. كان قد خرج عن طاعة الظاهر جقمق الأمير قرقماس، فواقعه الملك الظاهر، فانهزم قرقماس واختفى، ثم ظُفِرَ به وضُرِبَ عنقه. ثم خرج عن طاعته تغرى برمش نائب حلب، ثم أينال الجكمي نائب الشام؛ فجهز إليهما العساكر، فقاتلوهما واحدًا بعد الآخر، فظَفِرَ بهما وقتلهما. وبعد قتل هؤلاء صفا الوقت للملك الظاهر، وأخذ وأعطى، وقرب أقوامًا وأبعد آخرين. ولم يزل في ملكه والأقدارُ تساعدُه، إلى أن بدأ المرض به في آخر السنة الماضية وما زال يزداد به حتى قويَ عليه جدًّا في أواخر شهر محرم من هذه السنة، ثم لما كان يوم الأربعاء العشرون من المحرم، تكلم السلطان مع بعض خواصِّه في خلع نفسه من السلطنة، وسلطنة ولده المقام الفخري عثمان في حياته، فروجِعَ في ذلك فلم يقبَلْ، ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدهيشة، فلما كان الغد، وهو يوم الخميس الحادي والعشرين محرم حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء، وفي ظنِّ الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هي عادة الملوك، فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح، خلع نفسَه من السلطنة، وقال للخليفة والقضاة: الأمر لكم، انظروا فيمن تُسلطِنوه، أو معنى ذلك؛ لعِلمِه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان؛ فإنَّه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فلما سمع الخليفةُ كلام السلطان، لم يعدِلْ عن المقام الفخري عثمان، لِما كان اشتمل عليه عثمان من العلم والفضل، وإدراكِه سِنَّ الشبيبة، وبايعه بالسَّلطنة، وتسلطن في يوم الخميس ولقِّبَ بالملك المنصور، وعمره يومئذ نحو الثماني عشرة سنة تخمينًا، واستمرَّ الملك الظاهر مريضًا ملازمًا للفراش، وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطي في مملكتِه، ويعزِلُ ويولي، والملك الظاهر في شُغلٍ بمرضه، وما به من الألم في زيادة، إلى أن مات في قاعة الدهيشة الجوانية بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر وقرئ حوله القرآن العزيز، إلى أن أصبح وجُهِّزَ وغُسِّلَ وكُفِّن من غير عجلة ولا اضطراب، حتى انتهى أمرُه وحُمِل على نعشه، وأُخرِج به، وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيًا وجميع أعيان المملكة إلى أن صلِّيَ عليه بمصلاة باب القلعة من قلعة الجبل، وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة، وخلفه السلطان المنصور عثمان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر، ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وأُنزِلَ من القلعة، حتى دفِنَ بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمي المصارع، ولم يشهد ولده الملك المنصور دفنَه، وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومين.
لما تسلطن المنصور عثمان بن جقمق أساء تدبيرَ أمور الدولة فأخذ يعزِلُ ويولي ويعطي ويمنع دون رشدٍ ولا تدبيرٍ ولا توقيرٍ لكبير أو قديم، حتى أوغر صدورَ الأشرفية والمؤيدية عليه، وانتظم الصلح بين الطائفتين سرًّا فتحالفوا واتَّفقوا على الركوب في يوم بعينه، كل ذلك والمنصور ومماليك أبيه وحواشيه في غفلةٍ عن ذلك، وأكبَرُ همهم في تفرقة الإقطاعات والوظائف، وفي ظنِّهم أن دولتهم تدوم، وأنَّ الملك قد صار بيَدِهم، هذا مع عدم التفاتِهم لتقريبِ العُقلاء، ومشاورةِ ذوي التدبير وأرباب التجارب ممَّن مارس تغييرَ الدول والحروب والوقائع، وقد صار الناسُ عند الأمير الكبير إينال، ولَبِسوا السلاح، وأجمعوا على قتالهم، وأهلَّ شهر ربيع الأول يوم الاثنين، وفيه كان ابتداءُ الوقعة بين السلطان الملك المنصور عثمان وبين الأتابك إينال العلائي، وذلك أنَّه قدم الأمراء جميعًا إلى الرميلة يريدون طلوعَ القلعة، فتكاثرت المماليكُ عليهم واحتاطوا بهم، وأخذوهم غصبًا بأجمَعِهم، وعادوا بهم إلى بيت الأميرِ الكبير إينال العلائي، ولما اجتمع القومُ في بيت الأمير الكبير، وعَظُم جمعُهم، أتاهم الأمراءُ والخاصكية والأعيانُ من كل فجٍّ، حتى بقُوا في جمع موفور، فأعلنوا عند ذلك بالخروج عن طاعة الملك المنصور، والدخولِ في طاعة الأمير الكبير إينال، والأمير الكبير يمتنع من ذلك بلسانه، فلم يلتفتوا لتمنُّعِه، وأخفوا في لبس السلاح، فلَبِسوا في الحالِ عن آخِرِهم، وطلبوا الخليفةَ القائم بأمرِ الله حمزة، فحضر قبل تمامِ لُبسِهم السلاح، ولما حضر الخليفةُ أظهر الميل الكليَّ للأتابك إينال، وأظهر كوامِنَ كانت عنده من الملك المنصور وحواشيه وقام مع الأمراءِ في خلع المنصورِ أتمَّ قيام، ولما تكامل لبس المماليك والأمراء السلاح طلبوا من الأمير الكبير الركوبَ معهم والتوجُّهَ إلى بيت قوصون تجاهَ باب السلسلة، فامتنع تمنعًا ليس بذاك، ثم أجابهم في الحال، وركب هو والأمراءُ وحولهم العساكرُ مُحدِقة بهم إلى أن أوصلوهم إلى بيتِ قوصون، وأمَّا الملك المنصور لَمَّا بلغه ما وقع من القومِ في بيت الأمير الكبير تحقَّق مَن عنده من الأمراء والأعيان ركوبَ الأمير الكبير وخروجه عن الطاعة، فأمروا في الحال يشبك القرمي والي القاهرة أن يناديَ بطلوع المماليك السلطانية لأخذ النفقة، وأنَّ النفقة لكُلِّ واحد مائة دينار، فنزل يشبك من القلعة والمنادي بين يديه ينادي بذلك، إلى أن وصل إلى الرميلة تجاه باب السلسلة، فأخذته الدبابيسُ من المماليك، فتمَزَّقوا، وذهب القرمي إلى حال سبيلِه، ثم أمر الملك المنصور لأمرائِه وحواشيه بلُبس السلاح، فلبسوا بأجمعِهم، ولبس هو أيضًا، كل ذلك وآراؤهم مفكوكة، وكلمتهم غيرُ منضبطة، وابتدأ القومُ في القتال من يوم الاثنين هلال ربيع الأول، واشتدَّت الحرب، وجُرح من الطائفتين جماعة، وصار أمر الأميرِ الكبير في نموٍّ بمن يأتيه من المماليك السلطانية، ومضى نهارُ الاثنين بعد قتال كبيرٍ وقع فيه، وبات الفريقان في ليلة الثلاثاء على أُهبة القتال، وأصبحا يوم الثلاثاء على ما هم عليه من القتال والرميِ بالمدافع والنفوطِ والسهام من الجهتين، والجراحاتُ فاشية في الفريقين، ولم يكن وقت الزوال حتى كثُرَ عسكر الأمير الكبير إينال، واستفحل أمرُه، ثم في هذا اليوم لهج الخليفةُ أمير المؤمنين القائم بأمر الله حمزة بخلعِ الملك المنصور عثمان من الملك غيرَ مرة في الملأ، فقَوِيَ بذلك قلبُ أصحاب الأمير الكبير وجدُّوا في القتال، وتفرقَّوا على جهات القلعة، وجدُّوا في حصارها، وأصبحوا يومَ الأربعاءِ ثالث شهر ربيع الأول والقتال مستمِرٌّ، وأصحاب الملك المنصور تنسَلُّ منه إلى الأمير الكبير واحدًا بعد واحدٍ، ثم رسم الأمير الكبير بطلب القاضي محبِّ الدين بن الأشقر كاتب السر والقضاة الأربعة، فحضروا في الحال، وقد نزل الخليفةُ من القصر، وجلس عند الأمير الكبير هو والقضاة تكلَّموا مع الخليفة في خلع الملك المنصور عثمان بكلام طويل، ثم طلبوا بدر الدين ابن المصري الموقِّع فأملاه قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني الشافعي ألفاظًا كتبها تتضَمَّن القدحَ في الملك المنصور وخلْعَه من السلطنة، وكان ذلك في أوائل نهار الجمعة، وخُلِعَ الملك المنصور من المُلك وحَكَم القضاة بذلك، وكانت مدةُ سلطنة الملك المنصور شهرًا واحدًا وثلاثة عشر يومًا، ثم سأل قاضي القضاة من حضر المجلس عن سلطنة الأمير الكبير إينال عليهم، فصاحوا بأجمَعِهم: نحن راضون بالأمير الكبير، وكرَّر القاضي عليهم القولَ غيرَ مرة وهم يردون الجوابَ كمقالتهم أولًا، وفرحوا بذلك، وسُرُّوا غاية السرور، وانفَضَّ المجلس على خلع الملك المنصور وسلطنةِ الأتابك إينال، هذا والقتال مستمر أشد ما يكون بين الطائفتين، وأصبح الناسُ في يوم الأحد سابع شهر ربيع الأول والقتالُ مستمِرٌّ بين الفريقين، ثم استطاع الأمير إينال أن يملكَ القلعة ثم أخذ المنصور عثمان ورسم بتسفيرِه إلى الإسكندرية وسُجِنَ بها، ثم حضر الخليفةُ والقضاة الأربعة وسائر أمراء الدولة، وبويع الأميرُ الكبير إينال بالسلطنة، ولقِّبَ بالملك الأشرف، ولَبِس خِلعةَ السلطنة.
عرَضَ السلطان محمد بن مراد الثاني على إمبراطور القسطنطينية أن يسلِّمَها كي لا تصابَ بأذًى ولا يحِلَّ بالأهالي النكبات، وتعهَّد السلطان بحمايةِ العقائد وإقامةِ الشعائر، فرفض الإمبراطورُ ذلك، فقام السلطانُ بمحاصرة المدينة من الجانب الغربي من البَرِّ بجنود يزيد عددهم على مائتين وخمسين ألف مقاتل، ومن جهة البحر بمائة وثمانين سفينة بحرية، وأقام المدافِعَ حول الموقع، وكان من أهمِّها وأشهرها المدفعُ العظيم الذي صمَّمه له المجري أوربان خِصِّيصَى للسلطان، وهذا المدفَعُ كان يحتاج إلى سبعمائة شخص لجَرِّه، ويرمي كرة حجرية وزنها اثنا عشر رطلًا لمسافة ألف وستمائة متر، كما قام السلطان بنقل سبعين سفينة حربية إلى القرن الذهبي على ألواحٍ خشبية مسافة تقرُبُ من عشرة كيلومترات، وبهذا أحكم الحصارَ على القسطنطينية التي كان موقعُها يعطيها القوةَ؛ فهي محاطة بالمياه البحرية في ثلاث جبهات: مضيق البسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي الذي كان محميًّا بسلسلة ضخمة جدًّا تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافةِ إلى ذلك فإن خطينِ من الأسوار كانت تحيطُ بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخلَّلها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاءٌ يبلغ عرضه 60 قدمًا ويرتفِعُ السور الداخلي منها 40 قدمًا وعليه أبراجٌ يصل ارتفاعها إلى 60 قدمًا، وأمَّا السور الخارجيُّ فيبلغ ارتفاعُه قرابة خمس وعشرين قدمًا، وعليه أبراج موزَّعة مليئة بالجند، وبدأ الحصارُ يوم الجمعة السادس والعشرين ربيع الأول، ولكن كل المحاولات البحرية كانت تبوء بالفشل بسبب تلك السلاسل، أمَّا في البَرِّ فتمكنت المدافِعُ العثمانية من فتحِ ثغرة في الأسوار البيزنطية عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار، فاندفع إليها الجنودُ العثمانيون بكلِّ بسالة محاولينَ اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحامَ الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقَوها عليها، ولكِنَّ المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاعِ عن الثغرة والأسوار، واشتَدَّ القتال بين الطرفين، وكانت الثغرةُ ضيقة وكثرةُ السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين، ومع ضيقِ المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتِحُ أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحيِّنين فرصة أخرى للهجوم، ثم لما رأى السلطان الفاتح أن المحاولات البحرية لا تجدي، أمر بنقل السفن الحربية برًّا إلى القرن الذهبي على الألواح الخشبية المدهونة بالزيت والدهون، وهذا العمل كان من معجزات ذلك الزمان في سرعته وكيفيته؛ حيث تم نقل سبعين سفينة في ليلة واحدة مسافة ثلاثة أميال برًّا خلف هِضاب غلطة وصولًا إلى القرن الذهبي، وبهذا تمكَّنوا من الالتفاف على السلسلة, واستمر العثمانيون في دكِّ نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع، وحاولوا تسلُّق أسوارها، وفي الوقت نفسِه انشغل المدافِعونَ عن المدينة في بناء وترميم ما يتهدَّمُ من أسوار مدينتهم وردِّ المحاولات المكثفة لتسلُّق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم، كما وضع العثمانيون مدافِعَ خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاوِنة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة؛ مِمَّا عرقل حركةَ سُفُن الأعداء وأصابها بالشَّللِ تمامًا وحاول العثمانيون بكلِّ طريقة الدخول فحاولوا حفرَ الأنفاق تحت الأسوار لكنَّها كانت تبوء بالفشلِ، وحاولوا صنع أبراج خشبية أعلى من أسوار المدينة دون كلل ولا تعب، وكانت المدفعية العثمانية لا تنفكُّ عن عملها في دكِّ الأسوار والتحصينات، وتهدمت أجزاءٌ كثيرة من السور والأبراج وامتلأت الخنادق بالأنقاض، وبقي الهجومُ مكثفًا وخصوصًا القصف المدفعي على المدينة، حتى إن المدفع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدامِ, وعند الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857 (29 مايو 1435م) بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن شجَّع السلطانُ المجاهدين ووعدهم بالأعطيات، وانطلق المهاجمون وتسلَّقوا الأسوار وقاتلوا من عارضَهم، وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية أخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعينَ في باب أدرنة، ورفعت الأعلامُ العثمانية عليها، وتدفَّق الجنود العثمانيون نحوَ المدينة من تلك المنطقة، ولما رأى قسطنطين الأعلامَ العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدفاعِ وخلع ملابِسَه حتى لا يُعرَفَ، ونزل عن حصانِه وقاتل حتى قُتِلَ في ساحة المعركةِ، ثم دخل السلطانُ كنيسة آيا صوفيا، ومنع أعمالَ السلب والنهب التي كانت قائمةً، ووصل إلى الكنيسة فأمر المؤذِّنَ أن يؤذِّنَ للصلاةِ وحوَّلها إلى مسجدٍ، وهو المسجِدُ المشهور في إسطنبول، وسمح السلطان للنصارى بتأدية شعائرهم وأعطاهم نصف كنائِسِهم محولًا النصف الآخر لمساجد، وأطلق على القسطنطينية اسمَ إسلامبول، وهي تعني: تخت الإسلام، أو مدينة الإسلام.
بعد أن أتم السلطانُ محمد الفاتح فتحَ القسطنطينية، أراد التوجُّهَ إلى بلاد المورة فأرسل مَلِكُها وفدًا يعرضُ على السلطانِ دفع جزيةٍ سنوية مقدارُها اثنا عشر ألف دوك ذهبي، كما صالح أمير الصربِ مقابل جزية سنوية قدرها ثمانون ألف دوك ذهبي، ثم دخل السلطان إلى بلاد الصرب وحاصر بلغراد، ودافع عنها المجريون، ولم يتمكن العثمانيون من فتحها.
قام المستعين بالله سعد بن علي بن يوسف الثاني بخلع الأحنف محمد العاشر بن عثمان ملك بني نصر وتولي بدلًا عنه حُكمَ غرناطة، وقد تكرر الخلعُ بينهما أكثَرَ من مرة؛ فقد ثار الأمير سعد على الأحنف سنة 850 فخلعه، ثم لم يلبَث الأحنفُ أن عاد للحُكم وخلَعَ الأمير سعد بن علي بدعم من ملك قشتالة.
وفي هذه السنة زالت دولةُ بنى رسول ملوك اليمن في زبيد وعدن بعد ما حكموا ممالكَ اليمن نحوًا من مائتين وثلاثين سنة, وكان أولُ ملوكهم الملكَ المنصور أبا الفتح عمر بن على بن رسول إلى آخر من ملَكَ منهم، وهو الملِكُ المسعود أبو القاسم بن إسماعيل الثاني، وقد استولى على جميع ممالك اليمن بعد بني رسول أمراءُ بني طاهر بزعامة الملك الطاهر صلاح الدين عامر الأول بن طاهر، ويُذكَرُ أن دولة بني رسول تأسَّست سنة 626.
في يوم الاثنين التاسع والعشرين صفر من هذه السنة استقرَّ شمس الدين نصر الله بن النجار ناظر الدولة وزيرًا عِوَضًا عن سعد الدين فرج بن النحال بحكم عزلِه، وكان قد طرأ على أمر الوزارة من الضعفِ ما جعل ابن تغري بردي يقول عنها: "لم تَرَ عيني فيما رأيتُ ممن لبس خِلَعَ الوزارة أقبح زيًّا من ابن النجار، حتى إنَّه أذهب رونقَ الخِلعة مع حسن زيِّ خِلعةِ الوزارة وأبَّهة صفتها، ولو منَّ الله سبحانه وتعالى بأن يُبطِلَ اسمَ الوزير من الديار المصرية في هذا الزمانِ كما أبطلَ أشياء كثيرة منها، لكان ذلك أجودَ وأجمل بالدولة، ويصير الذي يلى هذه الوظيفة يسمَّى ناظر الدولة؛ لأنَّ اسم الوزارة عظيمٌ، وقد سمِّيَ به جماعةٌ كبيرة من أعيان الدنيا قديمًا وحديثًا في سائر الممالك والأقطار، مثل الصاحب إسماعيل بن عبَّاد، وهلَّم جرًّا، إلى القاضي الفاضل عبد الرحيم، ثم بني حنَّاء وغيرهم من العلماء والأعيان، إلى أن تنازلت ملوكُ مصر في أواخر القرن الثامن حتى ولِيَها في أيامهم أوباش النَّاسِ وأسافِلُ الكَتَبة الأقباط، وتغيَّرَ رسومها، وذهب بهم أبَّهة هذه الوظيفة الجليلة التي لم يكن في الإسلامِ بعد الخلافة أجَلُّ منها ولا أعظم، وصارت بهؤلاء الأصاغرِ في الوجود كلا شيء، وليت مع ذلك كان يلي هذه الوظيفةَ من هؤلاء الأسافلِ من يقوم بما هو بصَدَدِه، بل يباشر ذلك بعَجزٍ وضَعفٍ وظُلمٍ وعَسْفٍ، مع ما يمدُّه السلطانُ بالأموال من الخزانة الشريفة، فليت شعري لم لا كان ذلك مع من هو أهلٌ للوزارة وغيرِها، فلا قوة إلَّا بالله, وباشر ابن النجَّار الوزارة أشرَّ مباشرة، وأقبح طريقة، ولم تطُلْ أيَّامه، وعجز وبلغ السلطانَ عَجزُه، فلما كان يوم الخميس أول شهر ربيع الآخر طلب السلطان الوزراء الثلاثة ليختار منهم من يوليه، وهم: ابن النجَّار الذي عجز عن القيام بالكُلَف السلطانية، والصاحب أمين الدين بن الهيصم، وسعد الدين فرج بن النحَّال، فوقع في واقعة طريفةٍ، وهي أن السلطان لما أصبح وجلس على الدكَّة من الحوش استدعى أوَّلًا ابن النجَّار، فقيل له: هرب واختفى، فطلب أمينَ الدين بن الهيصم، فقيل له: مات في هذه الليلةِ، وإلى الآن لم يُدفَن، فطلب فرج بن النحَّال، فحضر، وهو الذي فَضَل من الثلاثة، فكلَّمه السلطان أن يستقرَّ وزيرًا على عادته، فامتنع واعتذر بقلَّة متحصَّل الدولة، وفي ظنِّه أن السلطان قد احتاج إليه بموتِ ابن الهيصم وتسحَّب ابن النجَّار، وشرع يكرِّرُ قوله بأنَّ لحم المماليكِ السلطانية المرتَّب لهم في كل يوم ثمانية عشر ألف رطل، خلا تفرقة الصُّرَر التي تعطى لبعض المماليك السلطانية وغيرهم، عوضًا عن مرتَّب اللحم، فلما زاد تمنُّعُه أمر به السلطان فحُطَّ إلى الأرض وتناولته رؤوسُ النوب بالضرب المبَرِّح إلى أن كاد يهلك، ثم أقيم ورُسِمَ عليه بالقلعة عند الطواشي فيروز الزمام والخازندار إلى أن عُمِلَت معه مصالحة وأعيد للوزارةِ"
في يوم الاثنين آخر جمادى الآخرة كانت وقعةُ المماليك الظاهرية الجقمقية مع الملك الأشرف إينال، وسببُ هذه الفتنة ثورةُ المماليك الأجلاب أولًا، وأفعالُهم القبيحة بالناس، ثم عقب ذلك أنَّ السلطان كان عيَّنَ تجريدة إلى البحيرة، نحوًا من خمسمائة مملوك، وعليهم من أمراء الألوف الأمير خشقدم المؤيدي أمير سلاح، والأمير قرقماس رأسُ نوبة النوب، وعِدَّةٌ من أمراء الطبلخانات والعشرات، ورسم لهم السلطانُ بالسفر، ولم يفرِّقْ على المماليك المكتوبة للسفر الجمالَ على العادة، فعَظُم ذلك عليهم، وامتنَعوا إلى أن يأخذوا الجِمالَ، فسافر الأمير خشقدم في صبيحة يوم الاثنين المذكور، وتبعه الأمير قرقماس في عصر نهاره، وأقاما ببر منبابة تجاه بولاق، فلم يتبَعْهم أحد من المماليك المعيَّنة معهم، بل وقف غالبُهم بسوق الخيل تحت القلعة ينتظِرونَ تفرقةَ الجِمال عليهم، إلى أن انفَضَّ الموكب السلطاني ونزلت الأمراءُ إلى جهة بيوتهم، فلما صار الأميرُ يونس الدوادار بوسط الرميلة احتاطت به المماليك الأجلاب، وتحقق الغدرَ، فأمر مماليكه بإشهار سيوفِهم ففعلت ذلك، ودافعت عنه، وجرَحَ من المماليك الأجلاب جماعةً، وقطع أصابِعَ بعضِهم، وشقَّ بطنَ آخر على ما قيل، فعند ذلك انفرجت ليونس فرجةٌ خرج منها فارًّا إلى جهة داره، ونزل بها، ورمى عنه قماش الموكِبِ، ولَبِسَ قماشَ الركوبِ، وطلع من وقتِه إلى القلعةِ من أعلى الكبش، ولم يشق الرميلة، وأعلم السلطانَ بخبَرِه، فقامت لذلك قيامةُ المماليك الأجلاب، وقالوا: نحن ضربناهم بالدبابيس فضربونا بالسيوفِ، وثاروا على أستاذِهم ثورةً واحدةً، وساعدهم جماعةٌ من المماليك القرانيص وغيرِهم لِما في نفوسهم من السلطانِ لعدم تفرقةِ الجِمالِ وغيرها، ووقفوا بسوق الخيل وأفحشوا في الكلامِ في حقِّ السلطان، وهددوه إن لم يسلِّم لهم الأميرَ يونس، ثم ساقوا غارةً إلى بيت يونس الدوادار، فمنعهم مماليكُه من الدخول إلى داره، فجاؤوا بنار ليحرقوا الباب، فمنعوهم من ذلك أيضًا، فعادوا إلى سوق الخيل، فوافَوا المنادي ينادي من قبل السلطانِ بالأمان، فمالوا على المنادي بالدبابيس، فسكت من وقته، وهرب إلى حالِ سبيله، وقد طلعت جميعُ أمراء الألوف إلى السلطانِ، وهو على حالة السكوتِ غير أنه طلب بعضَ مماليكه الأجلاب الأعيان، وكلَّمه بأنَّه يعطي من جُرِحَ من الأجلاب ما يكفيه، وأنه يعطي للذي قُطِعَت أصابعه إقطاعًا ومائة دينار، فلم يقع الصلحُ، وانفضَّ الأمر على غير طائلٍ؛ لشدة حر النهار، ولما تفرقت المماليك نزلت الأمراءُ إلى دورهم ما خلا الأمير يونس الدوادار؛ فإنه بات في القلعة، فلما تضحى النهارُ أرسل إليهم السلطان بأربعة أمراء، وهم: الأمير يونس العلائي أحد مقدَّمي الألوف، وسودون الإينالي المؤيدي قراقاش رأس نوبة ثان، ويلباي الإينالي المؤيدي أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة، وبردبك البجمقدار أحد الطبلخانات أيضًا ورأس نوبة، فنزلوا إليهم من القلعة؛ فما كان إلَّا أن وقع بصر المماليك الأجلاب على هؤلاء الأمراء احتاطوا بهم، وأخذوهم بعد كلامٍ كثير، ودخلوا بهم إلى بيتِ الأمير خشقدم أمير سلاح تجاه باب السلسلة، ورسموا عليهم بعضَهم، كلُّ ذلك والمماليك الظاهرية الجقمقية وقوفٌ على بُعدٍ، لا يختلفون بهم، لينظروا ما يصيرُ من أمرهم، فلما وقع ما ذُكِرَ تحققوا خروجَهم على أستاذهم، وثار ما عندهم من الكمائنِ التي كانت كامنةً في صدورهم من الملك الأشرف إينال لِما فَعَل بابن أستاذِهم الملك المنصور عثمان، وحَبْسِ خشداشيَّتِهم- زملائهم- وتقريب أعدائهم الأشرفية مماليك الأشرف برسباي، فانتهزوا الفرصة، وانضافوا إلى المماليك الأجلاب، وعرَّفوهم أن الأمر لا يتم إلا بحضرة الخليفةِ ولبس السلاح، فساق قاني باي المشطوب أحد المماليك الظاهريَّة من وقته إلى بيت الخليفة القائم بأمر الله حمزة، وكان في الخليفةِ خِفَّةٌ وطَيشٌ، فمال إليهم ظنًّا أنه يكون مع هؤلاء وينتَصِرُ أحدُهم ويتسلطنُ، فيستفحلُ أمره ثانيًا أعظَمَ من الأول، ولما حضر الخليفة عندهم، تكامل لُبسُهم السلاح، وانضافت إليهم خلائقُ من المماليك السيفية، وأوباش الأشرفية، وغيرُهم من الجياع الحرافيش، فلما رأت الأجلابُ أمر الظاهرية حسبوا العواقب، وخافوا زوالَ ملك أستاذهم، فتخلَّوا عن الظاهرية قليلًا بقليلٍ، وتوجه كل واحد إلى حالِ سبيله، فقامت الظاهريةُ بالأمر وحدهم، وما عسى يكونُ قيامهم من غير مساعدة، وقد تخلَّى عنهم جماعة من أعيانهم وخافوا عاقبةَ هذه الفتنة، وقد تعبَّأ السلطان لحربهم، ونزل من القلعة إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، وتناوش القومُ بالسهام، وأرادوا المصاففة، فتكاثر عليهم السلطانيةُ، وصدموهم صدمةً واحدة بدَّدوا شملهم، بل كانوا تشتَّتوا قبل الصدمة أيضًا، وهجم السلطانيةُ في الحال إلى بيت الأمير خشقدم أمير سلاح، وأخذوا الأمراءَ المرسَّم عليهم، وأخذوا فيمن أخذوا الخليفةَ معهم، وطلعوا بهم إلى السلطانِ، فلما رأى السلطان الخليفةَ وبَّخه بالكلام الخَشِن، وتفرقت من يوم ذاك أجلابُ السلطان فرقتين: فرقةٌ وهم الذين اشتراهم من كتابية الظاهر جقمق وابنه، وفرقةٌ اشتراهم هو في أيام سلطنته، وقويت الفرقةُ الذين اشتراهم على الفرقةِ الظاهرية، ومنعوهم من الطلوعِ إلى القلعة، والسكنى بالأطباق، ولما انتهت الوقعة أمسك جماعةً من المماليك الظاهرية وحبسهم بالبرج من قلعة الجبل، ونفى بعضَهم واختفى بعضُهم.
لما وقف الخليفةُ القائم بأمر الله في صفِّ المماليك الظاهرية في فتنتِهم ضِدَّ السلطان الأشرف إينال ظنًّا منه أنه يُخلَعُ فيزداد بذلك مرتبةً فوق التي هو فيها بوقوفِه مع هؤلاء المماليك، ولكن لما انكسر أمرُهم ومَسَك السلطانُ الأشرف إينال الخليفةَ ووبَّخه على وقفته هذه، أمر بحبسه بالبحرةِ من قلعة الجبل، وخلعه من الخلافة بأخيه يوسف في يوم الخميس ثالث شهر رجب، ثم أرسل الخليفةَ القائمَ بأمر الله في يوم الاثنين سابع رجب إلى سجن الإسكندرية، فسجن بها مدة سنين، ثم أُطلِقَ من السجن، وسكنَ بالإسكندرية إلى أن مات بها في أواخر سنة 862، فأصبح الخليفةُ هو أبو المحاسن يوسف بن المتوكل ولقِّب بالمستنجد بالله.
هو العلَّامةُ العِزُّ مجد الدين عبد السلام بن أحمد بن عبد المنعم بن أحمد بن محمد بن كيدوم بن عمر بن أبي الخير سعيد الحسيني القيلوي البغدادي ثم القاهري الحنبلي ثم الحنفي. ولدَ تقريبًا بعد سنة 770 والقيلوي نسبة لقرية بالجانب الشرقي من بغداد يقال لها قيلويه نشأ بها العز. قرأ القرآنَ لعاصم وحَفِظَ كتبًا جمة في فنون كثيرة، وبحث في غالب العلوم على مشايخ بغداد والعجم والروم، حتى إنه بحث في مذهبي الشافعي وأحمد وبرع فيهما وصار يقرأ كتبَهما ولازم الرحلةَ في العلم إلى أن صار أحدَ أركانه، وأدمن الاشتغال والأشغال بحيث بقي أوحدَ زمانه، ومن شيوخه في فقه الحنفية الضياء محمد الهروي أخذ عنه المجمع بعد أن حفظه، وسمع غالب الهداية على عبد الرحمن التشلاقي أو القشلاغي، وسمع عليه أصولَ الحنفية، وفي فقه الحنابلة محمد بن الحادي، وسمع عليه البخاري، وتزايد اشتغاله بالمذهب الحنبلي لكون والده كان حنبليًّا، وفي فقه الشافعية ناصر الدين محمد المعروف بأيادي الأبهري ولازمه مدة طويلة أخذ عنه فيها النحو والصرف، ولم يتسير له البحث في فقه المالكية، وقصد ذلك فما قدر، وأخذ أصول الدين وآداب البحث عن السراج الزنجاني، وأصول الفقه عن أحمد الدواليبي، وحضر بحث المختصر الأصلي لابن الحاجب والعضد وكثيرًا من شروح التلخيص في المعاني، وكثيرًا من الكشَّاف على ميرك الصيرامي أحد تلامذة التفتازاني، وبحث بعض الكشاف أيضًا والمعاني والبيان على عبد الرحمن ابن أخت أحمد الجندي، وجميع الشاطبية بعد حفظها على الشريف محمد القمني، والنحو عن أحمد بن المقداد وعبد القادر الواسطي، وبحث عليه الأشنهية في الفرائض بخلوة الغزالي من المدرسة النظامية ببغداد، وانتفع به في غير ذلك, وعُنِيَ بالطب والمعاني والبيان بعد حفظه للتلخيص عن المجد محمد المشيرقي السلطاني الشافعي, والمنطق بعد حفظه الشمسية عن القاضي غياث الدين محمد الخراساني الشافعي، كذا بحث عليه علم الجدل والطب عن موفق الدين الهمذاني، وسمع على موسى باش الرومي علم الموسيقى بحثًا، وارتحل إلى تبريز فأخذ بها عن الضياء التبريزي النحو وأصول الفقه، وعن الجلال محمد القلندشي فقه الشافعية وأصولهم، وحضر المعاني والبيان وبعض الكشاف عند حيدر، ثم ارتحل إلى أرزنجان من بلاد الروم فأخذ علم التصوف عن يارغلي السيواسي، ثم عاد من بلاد الروم بعد أن جال الآفاق وقاسى شدة مع تيمورلنك بحيث كانوا يقطعون الرؤوس ويحمِّلونه إياها إلى البلاد الشامية في سنة 810, ولقي بحلب مَن شاء الله من العلماء، وناظر في الشام الجمالَ الطيماني واجتمع في القدس بالشهاب بن الهائم فعظَّمه كثيرًا وارتحل إلى القاهرة بعد هذا كله, فأشير إليه في الصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق والجدل وآداب البحث والأصلين، والطب والعروض، والفقه والتفسير والقراءات، والتصوف وغيرها، فنزل بالجمالية وقرر في صوفيتها وأقبل الناس عليه فأخذوا عنه، وزوَّجه الشيخ مصطفى المقصاتي ابنته وتدرب به في عمل المقصات، وتكسب بها وقتًا مع اشتهاره بالفضيلة التامة حتى إنه لما تمت عمارة الجامع المؤيدي وحضر السلطان عند مدرسيه ومنهم البدر الأقصرائي الحنفي كان من جملة الحاضرين فلم يتكلم معه غيره، بحيث عظُمَ في عين السلطان، وأشار لما تم الدرس ورام المدرس الدعاء بنفسه مبالغة في تعظيم السلطان القيلوي أن يفعل ففعل، وأعلمه البدر بن مزهر وذلك قبل أن يلي كتابة السر بأنه رجل عالم يتكسب بعمل المقصات، فوعد ببناء مدرسة من أجله يكون هو شيخًا فما تيسر، وربما أقرأه ولده إبراهيم بل رام المؤيد الاجتماع به في محل خلوة للقراءة عليه، فما وافق العز خوفًا من إلصاق كثير مما يصدر عن السلطان به، وعُدَّ ذلك من وفور عقله، واستمر العز ملازمًا للإشغال غير مفتقر للاستفادة من أحد إلا في علم الحديث دراية ورواية؛ فإنه أخذ علوم الحديث جميعًا لابن الصلاح عن الولي العراقي بعد قراءته وسائره سماعًا، وسمع المنظومة في غريب القرآن، ومن أول السيرة الألفية إلى ذكر أزواجه والكثير من النكت على ابن الصلاح، وقرأ منها جميع الألفية الحديثية رواية، والمورد الهني، ومن غيرها الكثير من الأصول الكبار وغيرها، قال شمس الدين السخاوي: " قرأ العز عبد السلام على شيخنا الكمال الشمني صحيح البخاري والنخبة له، واختص به كثيرًا، وكان أحد الطلبة العشرة عنده بالجمالية، وحضر دروسه وأماليه، ورأيت بخط شيخنا بتصنيفه النخبة كتبها برسمه قال في آخرها ما صورته: علقها مختصرها تذكرةً للعلامة مجد الدين عبد السلام نفع الله به آمين، وتمت في صبيحة الأربعاء ثاني عشر شوال سنة أربع عشرة، وقال في أولها ما نصه: رواية صاحبها العلامة الأوحد المفنن مجد الدين عبد السلام البغدادي، وكتب له عليها أنه قرأها قراءة بحث وإتقان وتقرير وبيان، فأفاد أضعاف ما استفاد، وحقق ودقق ما أراد، وبنى بيت المجد لفكره الصحيح وأشاد، ثم قال: وأذن له أن يُقرئها لمن يرى ويرويها لمن درى، والله يسلمه حضرًا وسفرًا، ويجمع له الخيرات زُمَرًا" وأما الرواية فإنه سمع وقرأ على غير واحد وطلبها بنفسه فأكثر وكتب الطباق، وضبط الناس ورافق المتميزين، صار غالب فضلاء الديار المصرية من تلامذة العز عبد السلام، كل ذلك مع الخير والديانة والأمانة والزهد والعفة، وحب الخمول والتقشف في مسكنه وملبسه ومأكله، والانعزال عن بني الدنيا والشهامة عليهم وعدم مداهنتهم، والتواضع مع الفقراء والفتوة والإطعام وكرم النفس والرياضة الزائدة، والصبر على الاشتغال واحتمال جفاء الطلبة والتصدي لهم طول النهار، والتقنع بزراعات يزرعها في الأرياف ومقاساة أمر المزارعين، والإكثار من تأمل معاني كتاب الله عز وجل وتدبره، مع كونه لم يستظهر جميعه ويعتذر عن ذلك بكونه لا يحب قراءته بدون تأمل وتدبر، والمحاسن الجمة بحيث سمعت عن بعض علماء العصر أنه قال: لم نعلم من قَدِمَ مصر في هذه الأزمان مثل العز عبد السلام البغدادي, ولقد تجملت هي وأهلها به, وكان ربما جاءه الصغير لتصحيح لوحه ونحوه من الفقراء المبتدئين لقراءة درسه وعنده من يقرأ من الرؤساء، فيأمرهم بقطع قراءتهم حتى ينتهي تصحيح ذاك الصغير أو قراءة ذاك الفقير لدرسه، ويقول: أرجو بذلك القربة وترغيبهم وأن أندرج في الربانيين ولا يعكس، ولم يحصل له إنصاف من رؤساء الزمان في أمر الدنيا ولا أُعطي وظيفة مناسبة لمقامه، وكان فصيح اللسان مفوهًا طلْقَ العبارة قوي الحافظة سريع النظم جدًّا. مات في ليلة الاثنين الخامس العشر رمضان سنة تسع وخمسين، وصلى عليه من الغد بمصلى باب النصر، ودُفن بتربة الأمير بورى خارج باب الوزير تحت التنكزية، ولم يخلَّف بعده في مجموعِه مثله.
في يوم الخميس الخامس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة أمسك السلطان الأشرف إينال الأمير زين الدين الأستادار، واستقرَّ عِوَضَه في الأستادارية سعد الدين فرج بن النحال الوزير، فلمَّا سمعت المماليك الأجلاب بهذا العزل والولاية نزلوا من وقتهم غارةً إلى بيت الأستادار لينهبوه، فمنعهم مماليك زين الدين، وقاتلوهم وأغلقوا الدروبَ، فلما عجزوا عن نهب بيت زين الدين نهبوا بيوت الناسِ من عند بيت زين الدين فأخذوا ما لا يدخُلُ تحت حصر كثرةً، واستمرُّوا في النهب من نهار الغد إلى قريب العصر، وفعلوا بالمسلمين أفعالًا لا تفعلها الكفَرةُ ولا الخوارجُ، فكانت هذه الحادثةُ من أقبح الحوادث الشنيعة، ومن ثمَّ دخل في قلوب الناس من المماليك الأجلاب من الرجيف والرعب أمرٌ لا مزيد عليه؛ لعلمهم أنه مهما فعلوا جاز لهم، وأنَّ السلطان لا يقوم بنصرِ من قُهِرَ منهم، وفي يوم الأربعاء الثالث والعشرين رمضان نودي بالقاهرة من قبل السلطان بعدم تعرُّض المماليك الأجلاب إلى الناس والباعة والتجار، فكانت هذه المناداة كضرب رباب أو كطنين ذباب، واستمرُّوا على ما هم عليه من أخذِ أموال الناس والظلمِ والعنف حتى غلت الأسعارُ في سائر الأشياء من المأكول والملبوس والغلال والعلوفات، وصاروا يخرجون إلى ظواهر القاهرة، ويأخذون ما يريدون بأبخس الأثمان، إن أعطوا ثمنًا، وإن شاؤوا أخذوه بلا ثمنٍ، ثم شرعوا في نهب حواصل البطيخ الصيفي وغيره، ثم تزايد أمرُهم، فغلت جميع الأسعار مع كثرتِها عند أربابها، فضرَّ ذلك بحال الناس قاطبة؛ رئيسِها وخسيسِها.
التقى السلطان العثماني محمد الفاتح مع هونياد زعيم الصرب في معركة انتهت بقتل هونياد واستيلاء العثمانيين نهائيًّا على بلاد الصرب وجعْلها ولاية عثمانية، ولكن بقيت بلغراد التي حاصرها السلطانُ ومعه مائة وخمسون ألف مقاتل ومعه مائتا سفينة حربية، ولكنه فَشِلَ مع كثرة الغارات؛ وذلك بسبب الجرح الذي أصاب السلطان محمد الفاتح؛ مما اضطره للعودة عن الحصار، ولكنَّه فتح في عوده دوقية أثينا التي كانت بيد عائلة من فلورنسة.
في يوم الخميس ثالث صفر ثارت المماليك الأجلاب على السلطان، وأفحشوا في أمرِه إلى الغاية، فبينما هو جالسٌ بقاعة قلعة الدهيشة، وكانت الخدمةُ بطالةً في هذا اليوم، وذلك قبل أن يصلِّيَ السلطان الصبح، وإذا بصياح المماليك، فأرسل السلطانُ يسأل عن الخبر، فقيل له إن المماليك أمسكوا نوكار الزردكاش وهددوه بالضرب، وطلبوا منه القرقلات-جمع قرقل وهو ثوب بغير كمين- التي وعدهم السلطان بها من الزردخاناه السلطانية، فحلف لهم أنه يدفع لهم ذلك في أول الشهر، فتركوه ومضَوا، فلقوا الشيخ عليًّا الخراساني الطويل محتسب القاهرة، وهو داخل إلى السلطان، فاستقبلوه بالضرب المبَرِّح المتلِف، وأخذوا عمامتَه من على رأسه، فرمى بنفسه إلى باب الحريم السلطاني حتى نجا، ثم إنَّ الصياح قوي ثانيًا فعُلم أن ذلك صياح الأجلاب، فأرسل إليهم الأميرُ يونس الدوادار، فسألهم يونس عن سبب هذه الحركة، فقالوا: نريد نقبض جوامكنا- المخصصات- كل واحد سبعة أشرفية ذهبًا في كل شهر، وكانت جامكية الواحد منهم ألفين قبل تاريخه يأخذها ذهبًا وفضة، بسعر الذهب تلك الأيام، فلما غلا سعر الذهب تحيَّلوا على زيادة جوامكهم بهذه المندوحة، ثم قالوا: ونريد أن تكون تفرقة الجامكية في ثلاثة أيام، أي على ثلاث نفقات كما كانت قديمًا، ونريد أيضًا أن يكون عليقنا السلطاني الذي نأخذه من الشونة مُغَرْبلًا، ويكون مرتبنا من اللحم سمينًا, فعاد الأمير يونس إلى السلطان بهذا الجواب، ولم يتفوَّه به إلى السلطان، وتربص عن ردِّ الجواب على السلطان حتى يفرغَ السلطان من أكل السماط، فأبطأ الخبر لذلك عن الأجلاب، فندبوا مرجانًا مقدَّم المماليك للدخول بتلك المقالة إلى السلطان، فدخل مرجان أيضًا ولم يخبِر السلطان بشيء حتى فرغ من أكل السماطِ، فعند ذلك عرفه الأمير يونس بما طلبوه، فقال السلطان: لا سبيل إلى ذلك، وأرسل إليهم مرجانًا المقدَّم يعرفهم مقالة السلطان، فعاد مرجان ثانيًا إلى السلطان بالكلام الأول، وصار يتردُّد مرجان بين السلطان والمماليك الأجلاب نحو سبعة مرار، وهم مصمِّمون على مقالتهم، والسلطان ممتنع من ذلك، وامتنع الناس من الدخول والخروج إلى السلطان خوفًا من المماليك؛ لما فعلوه مع العجمي المحتسِب، فلما طال الأمر على السلطان خرج هو إليهم بنفسه، ومعه جماعةٌ من الأمراء والمباشرين، فلما علموا بمجيء السلطان أخذوا في الرجم، فلما رأى شدةَ الرجم، قصد العودَ إلى الدهيشة، ورسم لمن معه من الأمراء أن ينزلوا إلى دورهم، فامتنعوا إلَّا أن يوصلوه إلى باب الحريم، فعاد عليهم الأمر فنزلوا من وقتهم، وبقي السلطان في خواصِّه وجماعة المباشرين وولده الكبير المقام الشهابي أحمد، فلما سار السلطان إلى نحو باب الستارة، ووصل إلى باب الجامع أخذه الرجمُ المفرط من كل جهة، فأسرع في مشيته والرجم يأتيه من كل جانب، وسقط الخاصكي الذي كان حامِلَ ترس السلطان من الرجم، فأخذ الترسَ خاصكيٌّ آخر فضُرِبَ الآخر فوقع وقام، وشج دوادار ابن السلطان في وجهه وجماعة كثيرة، وسقطت فردةُ نعل السلطان من رجله فلم يلتفت إليها لأنَّه محمول من تحت إبطيه مع سرعة مشيهم إلى أن وصل إلى باب الستارة، وجلس على الباب قليلًا، فقصدوه أيضًا بالرجم، فقام ودخل من باب الحريم وتوجه إلى الدهيشة، واستمر وقوف المماليك على ما هم عليه إلى أذان المغرب، وبات القوم وهم على وجل، والمماليك يكثرون من الوعيد في يوم السبت؛ فإنهم زعموا أن لا يتحركوا بحركةٍ في يوم الجمعة مراعاةً لصلاة الجمعة، وأصبح السلطان وصلَّى الجمعة مع الأمراء على العادة، فتكلم بعض الأمراء مع السلطان في أمرهم بما معناه أنه لا بد لهم من شيء يطيب خواطرهم به، ووقع الاتفاق بينهم وبين السلطان على زيادة كسوتهم التي يأخذونها في السنة مرة واحدة، وكانت قبل ذلك ألفين، فجعلوها يوم ذاك ثلاثة آلاف درهم، وزادوهم أيضًا في الأضحية، فجعلوا لكل واحد ثلاثة من الغنم الضأن، فزيدوا رأسًا واحدًا على ما كانوا يأخذونه قبل ذلك، ثم رُسِمَ لهم أن تكون تفرقة الجامكية على ثلاث نفقات في ثلاثة أيام من أيام المواكب، فرَضُوا بذلك وخَمَدت الفتنة.
في يوم السبت أول شهر ربيع الآخر نودي في المماليك السلطانية المعينين إلى تجريدة البلاد الشامية لقتال ابن قرمان، ثمَّ في يوم الخميس خامس جمادى الأولى برز الأمراء والعساكر من القاهرة إلى الريدانية خارج القاهرة، وأقاموا بالريدانية إلى ليلة الاثنين تاسِعَه، فاستقلوا فيه بالمسير من الريدانية إلى جهة البلاد الشامية، ثم سافر الأمير نوكار الزردكاش، ومعه عدة من الرماة والنفطية وآلات الحصار وهو مريض، ورسم له أن يأخذ من قلعة دمشق ما يحتاج إليه من أنواع الآلات وغيرها للحصار، ويلحق العساكر المتوجِّهة لقتال ابن قرمان، وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر جمادى الأولى ورد الخبر على السلطان بوصول العساكر المتوجهة لقتال ابن قرمان إلى حلب، وأنه اجتمع رأي الجميع على السير من حلب إلى جهة ابن قرمان في يوم السبت السادس والعشرين جمادى الآخرة، ثمَّ في يوم الاثنين رابع شعبان وصل الخبر من الأمير خشقدم أمير سلاح ومن رفقته النواب بالبلاد الشامية بأنهم وصلوا إلى بلاد ابن قرمان، وملكوا قلعة دوالي، ونهبوها وأخربوها، وأنهم جهَّزوا الأمير بردبك البجمقدار رأس نوبة ومعه عدَّةٌ من المماليك السلطانية والأمراء بالبلاد الشاميَّة إلى جهةٍ من جهات بلاد ابن قرمان، فصدفوا في مسيرهم عسكرًا من أصحاب ابن قرمان فواقعوهم وهزموهم، وأنَّه قُتل من المماليك السلطانية أربعة في غير المصاف، بل من الذين صدفوهم في أثناء الطريق، ثم ورد الخبرُ بأن العساكر المتوجهة إلى بلاد ابن قرمان قصدت العودَ إلى جهة حلب بعد أن أخذوا أربع قلاع من بلاد ابن قرمان، وأخربوا غالب قرى ممالكه، وأحرقوا بلاطه وسَبَوا ونهبوا وأمعنوا في ذلك، حتى إنهم أحرقوا عدة مدارس وجوامع، وذلك من أفعال أوباش العسكر، وأنهم لم يتعرَّضوا إلى مدينة قونية ولا مدينة قيصرية لنفودِ زادهم، ولضجَر العسكر من طول مدَّتِهم بتلك البلاد، مع غلوِّ الأسعار في المأكل وغيره من سائر الأشياء، ولولا هذا لاستولوا على غالب بلاد ابن قرمان، وأنَّ ابن قرمان لم يقاتل العسكر السلطاني، بل إنه انحاز إلى جهة منيعة من جهاته وتحصَّن بها هو وأعيان دولته، وترك ما سوى ذلك من المتاع والمواشي وغيرها مأكلةً لمن يأكله، فحصل له بما أخذ له وهَنٌ عظيم في مملكته.
هو الإمامُ العلامة كمال الدين محمد ابن الشيخ همام الدين عبد الواحد ابن القاضي حميد الدين عبد الحميد ابن القاضي سعد الدين مسعود الحنفي السيرامي الأصل المصري المولد والدار والوفاة، المشهور بابن الهمام، ولد سنة 790 بالإسكندرية ومات أبوه وكان قاضي الإسكندرية وهو ابن عشر أو نحوها، فنشأ في كفالة جدته لأمه، وكانت مغربية خيِّرة تحفظ كثيرًا من القرآن وقدم بصحبتها القاهرة فأكمل بها القرآن عند الشهاب الهيثمي وتلاه تجويدًا على الزراتيتي، وبالإسكندرية على الزين عبد الرحمن الفكيري، وكان شيخه يصفه بالذكاء المفرط والعقل التام والسكون، وحَفِظَ مختصر القدوري والمنار والمفصَّل للزمخشري وألفية النحو، ثم عاد بصحبتها أيضًا إلى الإسكندرية فأخذ بها النحو عن قاضيها الجمال يوسف الحميدي الحنفي، وقرأ في الهداية على الزين السكندري، وفي المنطق على العز عبد السلام البغدادي والبساطي، وعنه أخذ أصول الدين وقرأ عليه شرح هداية الحكمة لملا زادة, ولم يبرح عن الاشتغال بالمعقول والمنقول حتى فاق في زمن يسير أقرانه, وأشير إليه بالفضل التام والفطرة المستقيمة، بحيث قال البرهان الأبناسي أحد رفقائه حين رام بعضهم المشي في الاستيحاش بينهما: "لو طلبت حجج الدين ما كان في بلدنا من يقوم بها غيره. ثم قال: وشيخنا البساطي وإن كان أعلم، فالكمال أحفظ منه وأطلق لسانًا، هذا مع وجود الأكابر إذ ذاك، بل أعلى من هذا أن البساطي لما رام المناظرة مع العلاء البخاري بسبب ابن الفارض ونحوه قيل له: من يحكم بينكما إذا تناظرتما، فقال: ابن الهمام لأنه يصلح أن يكون حَكَم العلماء" وقال يحيى بن العطار: "لم يزل يُضرَب به المثل في الجمال المفرد مع الصيانة وفي حسن النغمة مع الديانة، وفي الفصاحة واستقامة البحث مع الأدب" واستمر يترقى في درج الكمال حتى صار عالِمًا مفننًا علَّامة متقنًا، درَّس وأفتى وأفاد، وعكف الناس عليه، واشتهر أمره وعظُم ذِكرُه، قال شمس الدين السخاوي: "فقد كان إمامًا علامة عارفًا بأصول الديانات والتفسير والفقه وأصوله، والفرائض والحساب، والتصوف والنحو والصرف والمعاني والبيان، والبديع والمنطق والجدل والأدب والموسيقى، وجُل علم النقل والعقل، متفاوت المرتبة في ذلك, ومع قلة علمه في الحديث فهو عالم أهل الأرض ومحقِّق أولي العصر حُجة أعجوبة ذا حجج باهرة واختيارات كثيرة وترجيحات قوية, وقد تخرج به جماعة صاروا رؤساء في حياته، فمن الحنفية التقي الشمس والزين قاسم وسيف الدين، ومن الشافعية ابن خضر والمناوي. ومن المالكية عبادة وطاهر والقرافي, ومن الحنابلة الجمال بن هشام. وهو أنظَرُ من رأيناه من أهل الفنون ومن أجمعهم للعلوم وأحسنهم كلامًا في الأشياء الدقيقة وأجلدِهم على ذلك مع الغاية في الإتقان والرجوع إلى الحق في المباحث ولو على لسان آحاد الطلبة، كل ذلك مع ملاحة الترسل وحسن اللقاء والسمت والبِشر والبزَّة ونور الشيبة وكثرة الفكاهة والتودد والإنصاف وتعظيم العلماء، والإجلال لتقي الدين ابن تيمية وعدم الخوض فيما يخالف ذلك، وعلو الهمة وطيب الحديث ورقة الصوت وطراوة النغمة جدًّا, وسلامة الصدر وسرعة الانفعال والتغير والمحبة في الصالحين وكثرة الاعتقاد فيهم والتعهد لهم والانجماع عن التردد لبني الدنيا حتى الظاهر جقمق مع مزيد اختصاصه به، ولكنه كان يراسله هو ومن دونه فيما يسأل فيه" وقد حجَّ غير مرة وجاور بالحرمين مدة، وشرب ماء زمزم- كما قاله في شرحه للهداية- للاستقامة والوفاة على حقيقة الإسلام معها. ونشر في الحرمين علمًا جمًّا, وعاد في رمضان سنة ستين وهو متوعِّك فسُرَّ المسلمون بقدومِه وعكف عليه من شاء الله من طلبته وغيرهم أيامًا من الأسبوع إلى أن مات في يوم الجمعة سابع رمضان، ودفِنَ من يومه، وصُلِّيَ عليه عصرًا بمصلى المؤمني، وكانت جنازته مشهودة، شهده السلطانُ فمَن دونه، قدِمَ للصلاة عليه قاضي مذهبه ابن الديري، ودُفِنَ بالقرافة في تربة ابن عطاء الله، ولم يخلف بعده في مجموعه مثله. وله مصنفات أشهرها فتح القدير في الفقه الحنفي، وله التحرير في أصول فقه الأحناف، وغيرها من المصنفات.