وُلِدَ رحمه الله سنة 1940 ميلاديًّا في عين العرب التابعةِ لمحافظةِ حَلَب في شمالِ سوريا، حصل على بكالوريوس في الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ من جامعةِ "دمشق" عام ١٣٨٥هـ الموافق 1965م. وماجستير في التفسيرِ وعُلومِ القرآنِ مِن كُلِّيَّة أُصولِ الدِّينِ في جامعة "الأزهر" عام ١٣٨٩هـ الموافق 1969م. ثم على الدكتوراه عام ١٣٩٤هـ الموافق 1974م.
عَمِلَ أستاذًا في جامعةِ الإمامِ محمَّدِ بنِ سعودٍ الإسلاميَّةِ بالرِّياضِ ثلاثةً وعِشرين عامًا من ١٣٩٤هـ - ١٤١٨هـ الموافق 1974 – 1997م. ثمَّ رئيس جامعة "الزهراء" في مدينة غازي عنتاب جنوبي تركيا عام ١٤٣٥هـ الموافق 2014م.
له عددٌ من البحوثِ والكُتُبِ في الدِّراساتِ الإسلاميَّةِ، أبرَزُها "موسوعة التفسير الموضوعي"، مباحِثُ في إعجازِ القُرآنِ، مباحِثُ في علمِ المواريثِ، مباحِثُ في التفسيرِ الموضوعيِّ، معالمُ قرآنيَّةٌ في الصِّراعِ مع اليهودِ.
تُوفي يومَ السَّبتِ عن عُمرٍ ناهز 81 عامًا في مدينة غازي عنتاب التركية، متأثرًا بإصابته بكوفيد-19.
هو الأستاذُ الفيلسوف محمد بن زكريا الرازي، من أهلِ الرَّيِّ، فيها تعلَّمَ ونشأ، ثم سافر إلى بغداد, أشهرُ أطبَّاءِ الإسلامِ وأكثَرُهم ابتكارًا، صاحب التصانيف، من أذكياءِ أهلِ زمانِه، كان كثيرَ الأسفارِ، واسِعَ المعرفةِ، مليحَ التأليف، وكان في بصَرِه رطوبةٌ؛ لكثرةِ أكلِه الباقلَّى، عمِيَ آخِرَ عُمُره. قال عنه الذهبي: "أخذَ عن البلخي الفيلسوفِ، فبلغ الغايةَ في علوم الأوائل. نسأل اللهَ العافية". كان في شبيبته يضرِبُ بالعودِ، فلما التحى قال: "كلُّ غناءٍ يخرجُ مِن بين شاربٍ ولحيةٍ لا يُستحسَنُ، فتركه وأقبل على دراسةِ الطِّبِّ والفلسفة بعد الأربعينَ، وعُمِّرَ وبلغ في علومه الغايةَ حتى أشيرَ إليه في الطبِّ"، اشتغل على الطبيبِ أبي الحسن علي بن ربن الطبري الذي كان مسيحيًّا، فأسلم، تولى تدبيرَ مارستان الريِّ ثم رئاسة الأطباءِ في بيمارستان بغداد زمنَ المكتفي، كان واسِعَ الاطِّلاعِ وله مشاركاتٌ في الحساب والكيمياء والفلسفة والفَلَك، وله تصانيفُ كثيرةٌ أكثَرُها في الطبِّ، تُرجِمَ أكثَرُها إلى اللاتينية، منها كتاب الأسرار في الكيمياء، والطب المنصوري، والفصول في الطب، ومقالة في الحصى والكلى والمثانة، وتقسيم العلل، والمدخل إلى الطب، وأشهرها الحاوي في الطب، وكتاب الجدري والحصبة، وغيرها كثير. كان يجلِسُ في مجلسِه للتعليم ودونَه التلاميذُ ودونَهم تلاميذُهم ودونهم تلاميذُ أُخَرُ, فكان يجيءُ الرجُلُ فيَصِفُ ما يجِدُ مِن المرض لأوَّلِ مَن يلقاه من تلاميذِه، فإن كان عندهم علمٌ وإلَّا تعدَّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلَّا تكلَّم الرازي في ذلك. كان وافِرَ الحُرمة، صاحِبَ مروءة وإيثار، كريمًا متفضِّلًا بارًّا بالناس، حسن الرأفة بالفقراءِ والأعِلَّاء، حتى كان يُجري عليهم الجِرايات الواسعة ويُمَرِّضُهم. وللرازي أخبارٌ كثيرة وفوائِدُ متفرقة فيما حصل له من التمَهُّر في صناعة الطب وفيما تفرَّدَ به في مداواة المرضى، وفي الاستدلال على أحوالهم، وفيما خَبَرَه من الصفات والأدوية التي لم يصِلْ إلى عملها كثيرٌ من الأطباء. فكان إمامَ وَقتِه في علم الطبِّ، متقِنًا لهذه الصناعةِ حاذقًا فيها عارفًا بأوضاعِها وقوانينها، والمشارَ إليه في ذلك العصرِ، فتُشَدُّ إليه الرحالُ في أخذها عنه، ومن كلامِه في الطبِّ: "مهما قدرتَ أن تعالجَ بالأغذيةِ، فلا تعالجْ بالأدوية"، "مهما قدرتَ أن تعالجَ بدواءٍ مُفرَد فلا تعالجْ بدواءٍ مركَّب"؛ "إذا كان الطبيبُ عالِمًا والمريضُ مُطيعًا، فما أقلَّ لُبثَ العِلَّة"؛ "عالجْ في أوَّلِ العلَّة بما لا تَسقُط به القُوَّة". توفِّي في بغداد، وقد اختلف كثيرًا في سَنة وفاتِه مع شهرتِه، فقيل: توفِّي سنة 313، وقيل 317، وقيل 320، وقيل 360.
كان سَببُها أنَّ عِزَّ الدولة بختيارَ بنَ مُعِزِّ الدولة قلَّت عنه الأموالُ، فتوَجَّه مع جندِه إلى الأهواز، ليتعَرَّضوا لبختكين آزادرويه، وكان متولِّيَها، ويعملوا له حُجَّةً يأخذونُ منه مالًا ومِن غيره، فسار بختيار وعسكَرُه، وتخلَّفَ عنه سبكتكين التركي، فلمَّا وصلوا إلى الأهواز خدم بختكين بختيار وحَمَلَ له أموالًا جليلةَ المقدارِ، وبذل له من نَفسِه الطاعةَ، وبختيار يفكِّرُ في طريقٍ يأخُذُه به. فاتَّفَق أنَّه جرى فتنةٌ بين الأتراك والديلم، عندما نزل بعضُ الديلم دارًا بالأهواز، ونزل قريبًا منه بعضُ الأتراك، وكان هناك لَبِنٌ موضوعٌ، فأراد غلامُ الدَّيلميِّ أن يبنيَ به معلفًا للدوابِّ، فمنعه غلامُ التركي، فتضاربا، وخرجَ كُلُّ واحد من التركي والديلمي إلى نُصرةِ غُلامِه، فضَعُفَ التركي عنه، فرَكِبَ واستنصر بالأتراكِ، فرَكِبوا وركب الديلم، وأخذوا السِّلاحَ، فقُتِلَ بينهم أحدُ قُوَّاد الأتراك، وطلَبَ الأتراكُ بثأر صاحِبِهم، وقتلوا به من الديلم قائدًا أيضًا، وخَرَجوا إلى ظاهرِ البلد، واجتهد بختيار في تسكينِ الفتنة، فلم يُمكِنْه ذلك، فاستشار الديلمَ فيما يفعَلُه، وكان أُذُنًا يَتبَعُ كُلَّ قائلٍ، فأشاروا عليه بالقَبضِ على رؤساء الأتراكِ لتصفوَ له البلادُ، فأحضَروا بختكين وكاتِبَه سَهلَ بن بِشرٍ، وسباشى الخوارزمي بكتيجور، وكان حمًا لسبكتكين, فاعتقَلَهم وقَيَّدَهم، وأطلق الديلمَ في الأتراك، فنَهَبوا أموالَهم ودوابَّهم، وقُتِلَ بينهم قتلى، وهرب الأتراكُ، وأمر فنُودِيَ بالبصرة بإباحةِ دَمِ الأتراك، وكان بختيار قد واطأَ والدتَه وإخوتَه أنَّه إذا كتب إليهم بالقَبضِ على الأتراك يُظهِرونَ أنَّ بختيار قد مات، ويجلِسونَ للعزاء، فإذا حضر سبكتكين عندهم قبَضوا عليه، فلمَّا وَقَفوا على الكتُبِ وقع الصُّراخُ في داره، وأشاعوا موتَه، فعَلِمَ سبكتكين أنَّ ذلك مكيدة عليه، ودعاه الأتراكُ إلى أن يتأمَّرَ عليهم، فركِبَ في الأتراك، وحصَرَ دارَ بختيار يومين، ثم أحرَقَها ودخَلَها، وأخذ أبا إسحاقَ وأبا طاهِرٍ ابنَي مُعِزِّ الدولة ووالدتَهما ومن كان معهما، فسألوه أن يمكِّنَهم من الانحدارِ إلى واسط، ففعل، وانحدروا، وانحدر معهم الخليفةُ المطيع لله، ثم أعاد سبكتكين الخليفةَ ورَدَّه إلى داره، وذلك تاسِعَ ذي القعدة، واستولى على ما كان لبختيار جميعِه ببغداد، ونزل الأتراكُ في دور الديلمِ وتتَبَّعوا أموالَهم وأخذوها، وثارت العامَّةُ من أهل السُّنَّة ينصُرونَ سبكتكين؛ لأنه كان سُنِّيًّا، فخلع عليهم، وجعل لهم العُرَفاء والقُوَّاد، فثاروا على الشِّيعةِ وحاربوهم وسُفِكَت بينهم الدماء، وأُحرِقَت الكرخ حريقًا ثانيًا، وظهَرَت السُّنَّة عليهم.
سُيِّرَت العساكِرُ مِن مِصرَ لقتالِ المفرج بن جراح، وسبَبُ ذلك أنَّ ابنَ جَرَّاح عظُمَ شَأنُه بأرض فلسطينَ، وكثُرَ جَمعُه، وقَوِيَت شوكتُه، وبالغ هو في العيثِ والفساد، وتخريبِ البلاد، فجهز العزيزُ الفاطمي العساكرَ وسَيَّرَها، وجعل عليها القائِدَ يلتكين التركي، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه من العربِ، من قيسٍ وغيرها، جمعٌ كثيرٌ، وكان مع ابنِ جَرَّاح جمعٌ يرمون بالنُّشَّاب، ويقاتلون قتالَ الترك، فالتَقَوا ونشبت الحرب بينهما، وجعل يلتكين كَمينًا، فخرج على عسكرِ ابنِ جراح من وراء ظهورهم، عند اشتداد الحرب، فانهزموا وأخذَتْهم سيوفُ المصريين، ومضى ابن جراح منهزمًا إلى أنطاكية، فاستجار بصاحبِها فأجاره، وصادف خرُوج مَلِك الروم من القسطنطينيَّة في عساكرَ عظيمةٍ يريدُ بلاد الإسلام، فخاف ابنُ جراح، وكاتَبَ بكجور بحمص والتجأ إليه، وأمَّا عسكَرُ مِصرَ فإنَّهم نازلوا دمشقَ، مخادعين لقسَّام الجبيليِّ التَّرَّاب، لم يظهروا له إلَّا أنهم جاؤوا لإصلاحِ البَلَدِ، وكفِّ الأيدي المتطَرِّقة إلى الأذى، وكان القائد أبو محمود قد مات في هذه السَّنةِ، وهو والي البلد، ولا حُكْمَ له، وإنما الحُكمُ لقَسَّام، فلما مات قام بعده في الولايةِ جَيشُ بن الصمصامة، وهو ابنُ أخت أبي محمود، فخرج إلى يلتكين وهو يظُنُّ أنه يريد إصلاحَ البلد، فأمره أن يخرجَ هو ومن معه وينزِلوا بظاهر البلد، ففَعَلوا. وحَذِرَ قَسَّام، وأمر مَن معه بمباشرةِ الحَربِ، فقاتلوا دفعاتٍ عِدَّة، فقوي عسكر يلتكين، ودخلوا أطرافَ البلد، ومَلَكوا الشاغور، وأحرقوا ونهبوا، فاجتمع مشايخُ البلَدِ عند قَسَّام، وكَلَّموه في أن يخرجوا إلى يلتكين، ويأخذوا أمانًا لهم وله، فانخذل وذَلَّ، وخضع بعد تجبُّرِه وتكبُّرِه، وقال: افعلوا ما شئتُم، وعاد أصحابُ قَسَّام إليه، فوجدوه خائفًا، مُلقِيًا بيده، فأخذ كلُّ لنَفسِه. وخرج شيوخُ البلد إلى يلتكين، فطلبوا منه الأمانَ لهم ولقسام، فأجابهم إليه، وكان مبدأُ هذه الحرب والحصر في المحرم لعشرٍ بَقِينَ منه، والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه، ولم يعرض لقسَّامٍ ولا لأحدٍ مِن أصحابه، وأقام قسَّام في البلد يومين ثم استتَرَ، فأخذ كلَّ ما في داره وما حولها من دورِ أصحابِه وغيرِهم، ثمَّ خرج إلى الخيام، فقصد حاجِبَ يلتكين وعَرَّفه نفسَه، فأخذه وحَمَله إلى يلتكين، فحمله يلتكينُ إلى مصر، فأطلقه العزيزُ، واستراح النَّاسُ من تحكُّمِه عليهم، وتغَلُّبِه بمن تبعه من الأحداثِ مِن أهلِ العيثِ والفَسادِ.
قَدِم ابنُ القُشيريُّ بغدادَ فجَلسَ يَتكلَّم في النِّظاميَّةِ وأَخذَ يَذُمُّ الحَنابلةَ ويَنسُبُهم إلى التَّجسِيمِ، وساعَدهُ أبو سعدٍ الصُّوفيُّ، ومالَ معه الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، وكَتبَ إلى نِظامِ المُلْكِ يَشكُو إليه الحَنابلةَ ويَسأَلُه المَعونةَ عليهم، وذَهبَ جَماعةٌ إلى الشَّريفِ أبي جَعفرِ بن أبي موسى شَيخِ الحَنابلةِ، وهو في مَسجدِه فدافَعَ عنه آخرون، واقتَتَل الناسُ بسَببِ ذلك، وقُتِلَ رَجلٌ خَيَّاطٌ من سُوقِ التِّبنِ، وجُرِحَ آخرون، وثارَت الفِتنةُ بين الحَنابلَةِ وبين فُقهاءِ النِّظاميَّةِ، وحَمِيَ لكلٍّ مِن الفَريقينِ طائفةٌ من العوامِّ، وقُتِلَ بينهم نحوٌ من عِشرينَ قَتيلًا، وكَتبَ الشيخُ أبو إسحاقَ وأبو بكرٍ الشاشيُّ إلى نِظامِ المُلْكِ في كِتابِه إلى فَخرِ الدولةِ يُنكِر ما وَقعَ، ويَكرَهُ أن يُنسَب إلى المَدرسةِ التي بناها شيءٌ من ذلك، وعَزمَ الشيخُ أبو إسحاقَ على الرِّحلَةِ من بغدادَ غَضَبًا ممَّا وَقعَ من الشَّرِّ، فأَرسلَ إليه الخَليفةُ يُسَكِّنُهُ، ثم جَمعَ بينه وبين الشَّريفِ أبي جعفرٍ وأبي سعدٍ الصُّوفيِّ، وأبي نصرِ بنِ القُشيريِّ، عند الوَزيرِ، فأَقبلَ الوَزيرُ على أبي جعفرٍ يُعَظِّمُهُ في الفِعالِ والمَقالِ، وقام إليه الشيخُ أبو إسحاقَ فقال: أنا ذلك الذي كنتَ تَعرِفُه وأنا شابٌّ، وهذه كُتُبِي في الأُصُولِ، ما أقولُ فيها خِلافًا للأَشعَرِيَّةِ. ثم قَبَّلَ رَأسَ أبي جَعفرٍ، فقال له أبو جَعفرٍ: صَدقتَ، إلَّا أنَّك لمَّا كُنتَ فَقيرًا لم تُظهِر لنا ما في نَفسِك، فلمَّا جاءَ الأَعوانُ والسُّلطانُ وخواجه بزك - يعني نِظام المُلْكِ- وشَبِعتَ، أَبدَيتَ ما كان مُختَفِيًا في نَفسِك، وقام الشيخُ أبو سعدٍ الصُّوفيُّ وقَبَّلَ رَأسَ الشَّريفِ أبي جَعفرٍ أيضًا وتَلطَّفَ به، فالتَفتَ إليه مُغضَبًا وقال: أيها الشيخُ، أمَّا الفُقهاءُ إذا تَكلَّموا في مَسائلِ الأُصولِ فلهم فيها مَدخَلٌ، وأمَّا أنت فصاحِبُ لَهْوٍ وسَماعٍ وتَغْبِيرٍ، فمَن زاحَمَكَ مِنَّا على باطلِك؟! ثم قال: أيها الوَزيرُ أَنَّى تُصلِح بيننا؟ وكيف يَقعُ بيننا صُلْحٌ ونحن نُوجِبُ ما نَعتَقِدُه وهُم يُحَرِّمُون ويُكَفِّرُون؟! وهذا جَدُّ الخَليفةِ القائم والقادر قد أَظهرَا اعتِقادَهُما للناسِ على رُؤوسِ الأَشهادِ على مَذهبِ أَهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ والسَّلَفِ، ونحن على ذلك كما وَافقَ عليه العِراقِيُّونَ والخُراسانِيُّونَ، وقُرِئَ على الناسِ في الدَّواوينِ كلِّها، فأَرسلَ الوَزيرُ إلى الخَليفةِ يُعلِمُه بما جَرَى، فجاءَ الجَوابُ بِشُكرِ الجَماعةِ وخُصوصًا الشَّريفَ أبا جَعفرٍ، ثم استَدعَى الخَليفةُ أبا جَعفرٍ إلى دارِ الخِلافةِ للسلامِ عليه، والتَّبَرُّكِ بِدُعائِه.
لما عاد الفرنجُ من حصار الطور أقاموا بعكَّا إلى أن دخلت هذه السَّنةُ، فساروا في البحرِ إلى دمياط، فوصَلوا في صفر، فأرسوا على بر الجيزة، بينهم وبين دمياط النيل، فإنَّ بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط، وقد بني في النيل برجٌ كبير منيع، وجعلوا فيه سلاسِلَ من حديد غلاظ، ومدُّوها في النيل إلى سورِ دمياط لتَمنَعَ المراكِبَ الواصلة في البحرِ المالح أن تصعَدَ في النيل إلى ديار مصر، ولولا هذا البرجُ وهذه السلاسل لكانت مراكِبُ العدو لا يقدِرُ أحَدٌ على مَنعِها عن أقاصي ديارِ مِصرَ وأدانيها، فلمَّا نزل الفرنجُ على بر الجيزة، وبينهم وبين دمياط النيل، بَنَوا عليه سورًا، وجعلوا خندقًا يمنعُهم من يريدهم، وشرعوا في قتال من بدمياط، وعملوا آلات ومرمات، وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى البرج الذي في النيل ليقاتلوه ويملكوه، وكان البرجُ مشحونًا بالرجال، وقد نزل الملك الكامِلُ بن الملك العادل، وهو صاحِبُ ديار مصر، بمنزلة تُعرَفُ بالعادلية، بالقرب من دمياط، والعساكِرُ متصلة من عنده إلى دمياط، ليمنع العدُوَّ من العبور إلى أرضهم، وأدام الفرنجُ قتال البرج وتابعوه، فلم يظفروا منه بشيءٍ، وكُسِرَت مرماتهم وآلاتهم، ومع هذا فهم ملازمون لقتاله، فبَقُوا كذلك أربعة أشهر، ولم يقدروا على أخذه، ثم تمكنوا من أخذه فقطعوا السلاسِلَ لتدخُلَ مراكبُهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر، فنصب الملك الكامِلُ عِوَضَ السلاسلِ جسرًا عظيمًا امتنعوا به من سلوكِ النيل، ثم إنهم قاتلوا عليه أيضًا قتالًا شديدًا، كثيرًا، متتابعًا حتى قطعوه، فلما قطع أخذ الملكُ الكامل عدَّةَ مراكب كبار وملأها وخرَقَها وغَرَقها في النيل، فمَنَعت المراكِبَ من سلوكه، فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجًا هناك يُعرَف بالأزرق، كان النيل يجري فيه قديمًا، فحفروا ذلك الخليج وعَمَّقوه فوق المراكبِ التي جُعِلَت في النيل، وأجروا الماء فيه إلى البحر المالحِ، وأصعدوا مراكِبَهم فيه إلى موضعٍ يقال له بورة، على أرض الجيزة أيضًا، مقابل المنزلةِ التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك، فإنَّهم لم يكن لهم إليه طريقٌ يقاتلونه فيها، كانت دمياط تحجز بينهم وبينه، فلما صاروا في بورة حاذوه فقاتلوه في الماء، وزحفوا غيرَ مَرَّة، فلم يظفروا بطائل، ولم يتغيَّرْ على أهل دمياط شيءٌ؛ لأن الميرة والأمداد متَّصلة بهم، والنيلُ يحجُز بينهم وبين الفرنج، فهم ممتَنِعون لا يصلُ إليهم أذى، وأبوابُها مفتحة، وليس عليها من الحَصرِ ضِيقٌ ولا ضرر.
هو المَلِكُ المظَفَّر رُكنُ الدين بيبرس البرجي الجاشنكير- متذوِّق طعام السلطان- المنصوري. كان يُعرَف بالعثماني كان أبيضَ أشقرَ مُستدير اللحية، فيه عقل ودِينٌ، وله أموالٌ لا تحصى، وله إقطاعٌ كبيرٌ فيه عدَّة إقطاعات لأمراءَ، كان أستاذ دار الملك الناصر محمد بن قلاوون وسلار نائبًا فحَكَما في البلاد وتصَرَّفا في العباد، وللسُّلطانِ الاسمُ لا غير، وكان نواب الشام خوشداشية- زملاء مهنته- الجاشنكير وحزبه من البرجيه قويًّا، فلما توجه الملك الناصر إلى الحجاز ورَدَّ من الطريق إلى الكرك وأقام بها، لَعِبَ الأميرُ سيف الدين سلار بالجاشنكير وسَلْطَنَه وسُمِّيَ بالملك المظَفَّر، وفَوَّضَ الخليفةُ إليه ذلك وأفتى جماعةٌ من الفقهاء له بذلك، وكُتِبَ تقليدُه وركب بخِلعةِ الخلافةِ السَّوداء والعمامة المدوَّرة والتقليد على رأسِ الوزير، وناب له الأمير سيف الدين سلار واستوسق له الأمر، فأطاعه أهل الشام ومصر وحلفوا له في شوال سنة ثمانٍ وإلى وسط سنة تسع، فغضب منه الأمير سيف الدين برلغي وجماعةٌ من الخاصكية نحو المائة وخامروا عليه إلى الكرك، فخرج السلطان الناصر بن قلاوون المخلوع من الكرك وحضر إلى دمشقَ وسار في عسكر الشام إلى غزَّة، فجَهَّز المظفر يزكا- طلائع- قَدَّمَ عليهم الأميرَ سيفَ الدين برلغي فخامر إلى الناصر فذَلَّ المظَفَّر وهرب في مماليكه نحو الغرب, فلما خرج الأميرُ سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجِّهًا إلى نيابة الشام عِوَضًا عن الأفرم، فلمَّا كان بغزَّة في سابع ذي القعدة ضرب حلقةً لأجل الصيد، فوقع في وسَطِها بيبرس الجاشنكير في ثلاثمائةٍ من أصحابه فأُحيطَ بهم وتفَرَّقَ عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن، فلما كان بالخطارة تلقَّاهم استدمر فتسَلَّمَه منهم، ورجعا إلى عسكَرِهم، ودخل به استدمر على السُّلطانِ فعاتبه ولامه، وكان آخِرَ العهد به، فقُتِلَ ودُفِنَ بالقرافة ولم ينفَعْه شَيءٌ ولا أمواله، بل قُتِلَ شَرَّ قِتلةٍ، حيث أحضره السلطانُ فقَرَّره بكلِّ ما فعله من شنائِعَ على السلطان وهو يقِرُّ بذلك، ثمَّ أمَرَ به فخُنِقَ بين يديه بوَتَرٍ حتى كاد يَتلَف، ثمَّ سَيَّبَه حتى أفاق، وعنَّفَه وزاد في شَتمِه، ثم خنَقَه ثانيًا حتى مات، وأنزل على جنوية إلى الإسطبل السلطاني فغُسِّلَ ودُفِنَ خلف قلعةِ الجبل، وذلك في ليلةِ الجمعة خامس عشر ذي القعدة، وكانت أيام المظفَّر هذا في سلطنة مصر عشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا لم يتهَنَّ فيها من الفِتَنِ والحركةِ!!
كانت ملطيَّة إقطاعًا للجوبان أطلقها له ملك التتر فاستناب بها رجلًا كرديًّا يقال له مندوه فتعدى وأساء وظلم، وكاتب أهلُها السلطانَ الناصر بن قلاوون وأحبُّوا أن يكونوا من رعيَّتِه، فلمَّا ساروا إليها وأخذوها وفعلوا ما فعلوا فيها جاءها بعد ذلك الجوبان فعمَرها وردَّ إليها خلقًا من الأرمن وغيرِهم، وكان سبَبُ غزو ملطيَّة أن السلطان بعث فداوية من أهل مصياف لقتلِ قرا سنقر، فكان مندوه الكرديُّ يدل على قصاد السلطانِ فأخذ منهم جماعةً، فشق ذلك على السُّلطانِ، وأخذ في العَمَلِ عليه، فبلغه مندوه أنه صار يجني خراجَ ملطية، وكان نائبُها من جهة جوبان يقال له بدر الدين ميزامير بن نور الدين، فخاف من مندوه أن يأخُذَ منه نيابة ملطية، فما زال السلطانُ يتحَيَّل حتى كاتَبَه ميزامير، وقرَّرَ معه أن يسَلِّمَ البلد لعساكره، فجهَّزَ السلطانُ العساكر، وورَّى أنَّها تقصِدُ سيس حتى نزلت بحلب، وسارت العساكِرُ منها مع الأمير تنكز على عينتاب إلى أن وصل الدرنبد، فألبس الجميعَ السلاحَ وسلك الدرنبد إلى أن نزل على ملطية يوم الثلاثاء ثالث عشريه، وحاصرها ثلاثةَ أيام، فاتَّفق الأمير ميزامير مع أعيان ملطية على تسليمها، وخرج في عِدَّة من الأعيان إلى الأمير تنكز، فأمَّنَهم وألبسهم التشاريفَ السلطانيَّةَ المجهَّزة من القاهرة، وأعطى الأميرَ ميزامير سنجقًا- راية- سلطانيًّا، ونودي في العسكر ألا يدخُلَ أحد إلى المدينة، وسار الأمير ميزامير ومعه الأمير بيبرس الحاجب والأمير أركتمر حتى نزل بداره، وقبض على مندوه الكردي، وتكاثر العَسكرُ ودخلوا إلى المدينة ونهبوها، وقتَلوا عِدَّة من أهلها، فشَقَّ ذلك على الأمير تنكز، وركِبَ معه الأمراء، ووقف على الأبواب وأخذ النهوبَ مِن العسكر، ورحل من الغد وهو الرابع عشر من محرم بالعسكر، وترك نائِبَ حلب مقيمًا عليها لهدم أسوارها، ففَرَّ مندوه قبل الدخول إلى الدربند وفات أمرُه، فلما قطعوا الدربند أُحضِرَت الأموال التي نُهِبَت والأسرى، فسُلِّمَ من فيهم من المسلمين إلى أهله، وأُفرِدَ الأرمن، فلما فُتِحَت ملطية سار الأمير قجليس إلى مصر بالبشارة، فقَدِمَ يوم الخميس ثالث صفر، ودُقَّت البشائر بذلك، وتبعه الأمير تنكز بالعساكر- ومعه الأمير ميزامير وولده- حتى نزل عينتاب ثم دابق، فوجد بها تسعة عشر ألف نولٍ تُعمَل الصوف، وتُجلَبُ كُلُّها إلى حلب، ثم سار تنكز، فقَدِمَ دمشق في سادس عشر ربيع الأول، وسير ميزامير وابنه في ثلاثين رجلًا مع العسكر المصري إلى القاهرة فقَدِموا في خامس ربيع الآخر.
الشَّيخ إحسان إلهي ظهير عالِمٌ باكستانيٌّ، حمل لواءَ الحَرْب على أصحابِ الفِرَق الضالَّة، وبيَّنَ مَدى ما هُم فيه من انحرافٍ عن سبيلِ الله تعالى، وحيادٍ عن سُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وُلد في "سيالكوت" شمال شرق البنجاب بباكستان عام 1363هـ من أُسرةٍ تُعرف بالانتماء إلى أهل الحديث، ولمَّا بلغ التاسعة كان قد حفظ القُرآن كاملًا. وقد أكمل دراستَه الابتدائية في المدارس العادية، وفي الوقت نفسه كان يختلفُ إلى العلماء في المساجد، وينهلُ من مَعين العلوم الدينية والشرعية.
حصل الشيخ إحسان على الليسانس في الشريعة من الجامعة الإسلامية في المدينة النَّبويَّة، وكان ترتيبُه الأول على طلبة الجامعة عام 1961م. وبعد ذلك رجع إلى باكستان، وانتظم في جامعة البنجاب، كلية الحقوق والعُلوم السياسية، وفي ذلك الوقت عُيِّن خطيبًا في أكبر مَساجِدِ أهل الحديثِ بلاهور. ثم حصل على الليسانس أيضًا. وظلَّ يدرُسُ حتى حصَلَ على سِتِّ شهاداتِ ماجستير في الشريعة، والسياسة، واللُّغة العربية، والفارسية، والأُردية، وكلُّ ذلك من جامعة البنجاب.
كان رحمه الله رئيسًا لمجمع البحوث الإسلامية، بالإضافة إلى رئاسة تحرير مجلة "ترجمان الحديث" التابعة لجمعيَّة أهل الحديث بلاهور في باكستان، كذلك كان مدير التحرير بمجلَّة أهل الحديث الأسبوعية. وبما أن الشيخ كان سلفيَّ العقيدة؛ من المنتمين لأهل الحديث، فقد جعله هذا في حربٍ فكريَّةٍ دائمةٍ مع الطوائف الضالَّة كالرافضة، والإسماعيلية، والقاديانية. ولما أحسَّ به أهل الانحراف، وشعروا بأنه يخنُقُ أنفاسَهم، ويدحضُ كيدَهم عمدوا إلى التصفيَّة الجسديَّة بطريقةٍ ماكرةٍ، فوضعوا له قنبلة داخل مزهريَّةٍ بجمعية أهل الحديث انفجرت به وبمَن معه أثناء إلقائه محاضرةً مع عددٍ من الدُّعاة والعُلَماء، وذلك في 23 رجب 1407هـ، ليلًا، قتلت سبعةً من العُلَماء في الحال، ولحق بهم بعد مُدَّة اثنانِ آخرانِ. وبقي الشيخ إحسان أربعةَ أيَّامٍ في باكستان، ثم نُقِل إلى الرياض بالمملكة العربية السُّعودية على طائرةٍ خاصَّةٍ بأمرٍ من الملك فهدِ بن عبدِ العزيز، واقتراحٍ من العلَّامة الشَّيخ عبد العزيز بن باز رحمهُمُ الله تعالى. وأُدخل المستشفى العسكريَّ، لكن رُوحه فاضت إلى بارئها في الأول من شعبان عام (1407هـ)، فنُقِل بالطائرة إلى المدينة النَّبويَّة، ودُفن بمقبرة البقيعِ بالقُرب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن آثارِهِ بالإضافة إلى مُحاضراتِهِ في باكستانَ، والكُويت، والعِراق، والمملكة العربية السعودية والمراكز الإسلامية في مُختلف ولايات أمريكا؛ العديدُ من الكُتُب والمؤلَّفات التي سعى إلى جمع مصادرها من أماكنَ مُتفرقةٍ كإسبانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيران، ومصر.
كان الوزيرُ ابن العلقمي يجتَهِدُ في صرف الجيوش وإسقاطِ اسمِهم من الديوان، فكانت العساكِرُ في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء ومن هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلِهم إلى أن لم يبقَ سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتارَ وأطمعهم في أخذِ البلاد، وسَهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحال، وكشَفَ لهم ضعف الرجال، وذلك كلُّه طمعًا منه أن يزيل السُّنَّة بالكُلِّيَّة، وأن يُظهِرَ البِدعةَ الرَّافضية، وأن يقيمَ خليفةً مِن الفاطميِّينَ، وأن يُبيدَ العلماء والمُفتين- والله غالبٌ على أمرِه- كانت الفِتَنُ قد استعرت بين السُّنة والرافضة في بغداد حتى تجالَدوا بالسيوف، وشكا أهلُ باب البصرة إلى الأمير ركن الدين الدويدار والأمير أبي بكر بن الخليفة فتَقَدَّما إلى الجند بنَهبِ الكرخ، فهَجَموه ونهبوا وقتلوا، وارتكبوا من الشنعة العظائم، فحنق ابنُ العلقمي ونوى الشرَّ، وأمر أهل الكرخ بالصَّبرِ والكف. فمالأ- قبَّحَه اللهُ- على الإسلامِ وأهلِه المغولَ الكَفَرةَ وزَعيمَهم هولاكو، حتى فعل ما فعل بالإسلامِ وأهلِه، خاصة في بغداد- عليه من الله ما يستحقُّ- كان قدوم هولاكو بجنوده كلها- وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشرَ المحرم من هذه السنة، وجاءت إليهم أمدادُ صاحب الموصل يساعِدونَهم على أهل بغداد, وميرته وهداياه وتُحَفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه مِن التتار، ومصانعةً لهم، وقد سُتِرَت بغداد ونُصِبَت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة، فأحاطوا ببغدادَ مِن ناحيتها الغربيَّة والشرقية، وجيوش بغداد في غايةِ القِلَّة ونهاية الذِّلَّة، لا يبلغونَ عَشرةَ آلاف فارس، وهم وبقيَّة الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتِهم وذلك كلُّه عن آراء الوزيرِ ابن العلقميِّ الرافضي، الذي دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيعِ، الذي لم يؤرخ أبشَعُ منه منذ بُنِيَت بغداد، وكان أوَّلَ مَن برز إلى التتار هو، فخرج بأهلِه وأصحابِه وخَدَمِه وحَشَمِه، فاجتمع بالسلطانِ هولاكو خان- لعنه الله- ثم عاد فأشار على الخليفةِ بالخروجِ إليه والمثول بين يديه لتقَعَ المصالحة على أن يكون نِصفُ خراج العراق لهم ونِصفُه للخليفة، فخرج الخليفةُ في سبعمائة راكبٍ مِن القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتَرَبوا من منزل السلطان هولاكو خان حُجِبوا عن الخليفةِ إلا سبعة عشر نفسًا، فخَلَص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزِلَ الباقون عن مراكبهم فنُهِبَت وقُتِلوا عن آخرهم، وأُحضِرَ الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنَّه اضطرب كلامُ الخليفة من هَولِ ما رأى من الإهانةِ والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صُحبَتِه خوجه نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفةُ تحت الحوطة والمصادرة، فأحضَرَ مِن دار الخلافة شيئًا كثيرًا مِن الذهب والحُلِيِّ والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرَّافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ألَّا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلحُ على المناصفة لا يستمِرُّ هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحَسَّنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفةُ إلى السلطان هولاكو أمر بقَتلِه، ويقال: إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصيرُ عند هولاكو قد استصحبه في خدمَتِه لما فتح قلاع ألموت التي للإسماعيلية، وانتزعها من أيديهم، وانتخب هولاكو الطوسيَّ ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قَدِمَ هولاكو وتهيبَ مِن قَتلِ الخليفة هَوَّن عليه الوزير ذلك فقتلوه، فباؤُوا بإثمِه وإثم من كان معه من ساداتِ العُلَماءِ والقُضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحَلِّ والعقد ببلاده، ومالوا على البلد فقَتَلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبَّان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكِنِ الحشوش، وقنى الوسَخِ، وكَمَنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعةُ مِن الناس يجتمعون إلى الخانات ويُغلِقونَ عليهم الأبواب فتفتحها التتارُ إمَّا بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلونَ عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنةِ فيقتلونهم بالأسطُحِ، حتى تجري الميازيب من الدماءِ في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!! وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينجُ منهم أحد سوى أهل الذمَّة من اليهود والنصارى ومَن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفةٌ مِن التجَّار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالًا جزيلةً حتى سَلِموا وسَلِمَت أموالهم، وعادت بغدادُ بعد ما كانت آنَسَ المدن كلِّها كأنها خرابٌ ليس فيها إلا القليلُ مِن الناس، وهم في خوفٍ وجوعٍ وذِلَّة وقلة! وكان دخولهم إلى بغداد في أواخِرِ المحرم، وما زال السيف يقتُلُ أهلَها أربعينَ يومًا، وكان الرجلُ من بني العباس يُستدعى به مِن دار الخلافة فيخرج بأولادِه ونسائه فيُذهَبُ به إلى مَقبرةِ الخَلَّال تجاه المنظرة فيُذبَحُ كما تُذبَحُ الشاة، ويؤسَرُ من يختارون من بناتِه وجواريه، وتعطَّلَت المساجد والجمع والجمعات مدة شهورٍ ببغداد، ولما انقضى الأمرُ المقَدَّر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاويةً على عروشها ليس بها أحَدٌ إلا الشاذُّ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطَرُ فتغيرت صُوَرُهم وأنتنت من جِيَفِهم البلد، وتغيَّرَ الهواء فحصل بسببه الوباءُ الشديد حتى تعدى وسرى في الهواءِ إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير من تغيُّرِ الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوَباءُ والفَناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولما نودي ببغداد بالأمانِ خرج من تحت الأرضِ مَن كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبِشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضُهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباءُ الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقَهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمرِ الذي يعلَمُ السر َّوأخفى، اللهُ لا إلهَ إلا هو له الأسماءُ الحسنى. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "لما قُتِلَ الخليفة, وأَطلَقَ المغول السبعة عشر الذين كانوا معه وكان أبي معهم، قُتِلَ منهم رجلان وطلب الباقونَ بيوتهم فوجدوها بلاقِعَ. فأتوا المدرسةَ المغيثية، وقد كُنتُ ظَهرتُ مِن مخبئي, فبقيت أسألُ عن أبي، فدُلِلْتُ عليه، فأتيتُه وهو ورفاقه، فسَلَّمت عليهم، فلم يعرفني أحدٌ منهم، وقالوا: ما تريد؟ قلت: أريدُ فخر الدين ابن رطلين. وقد عرفتُه، فالتفَتَ إليَّ وقال: ما تريد منه؟ قلت: أنا ولَدُه. فنظر إليَّ وتحقَّقني، فلما عرفني بكى!!". كان رحيل هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر مُلكِه، وفوَّضَ أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوَّضَ إليه الشحنكية بها وإلى الوزير ابن العلقمي الذي مات بعد أشهرٍ من هذه الحادثةِ غَمًّا وكَمَدًا, فولي بعده الوزارة ولدُه عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه اللهُ بأبيه في بقيَّة هذا العام.
قالتْ أمُّ سَلمةَ رضي الله عنها: لمَّا ضاقتْ علينا مكَّة، وأوذِيَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفُتنوا، ورَأَوْا ما يُصيبهُم مِنَ البلاءِ والفِتنةِ في دينهِم، وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيعُ دفعَ ذلك عنهُم، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعَةٍ من قومهِ وعمِّه، لا يَصِلُ إليه شيءٌ ممَّا يَكرهُ ممَّا ينالُ أصحابَه، فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ بأرضِ الحَبشةِ مَلِكًا لا يُظلمُ عنده، فالحقوا ببلادهِ حتَّى يجعلَ الله لكم فَرَجًا ومَخرجًا ممَّا أنتم فيهِ. فخرجنا إليها حتَّى اجتمعنا بها، فنزلنا بخيرِ دارٍ إلى خيرِ جارٍ، أَمَّنَّا على ديننا، ولم نخشَ منه ظُلمًا.... وقيل: كان مخرجهُم إلى الحَبشةِ في رجبٍ في السَّنةِ الخامسةِ مِنَ البِعثةِ النَّبويَّةِ. هاجر مِنَ المسلمين فيها اثنا عشرَ رجلًا، وأربعُ نِسوةٍ، منهم عُثمانُ بنُ عفَّانَ، وهو أوَّلُ من خرج ومعه زوجتُه رُقيَّةُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
هو أَصْحَمَةُ بنُ أَبْجَرَ مَلِكُ الحَبشةِ، والنَّجاشيُّ لَقبٌ له ولمُلوكِ الحَبشةِ، ومَعْنى: أَصْحَمَةَ: عَطِيَّةُ، وقِيلَ: عَطِيَّةُ الله، وقِيلَ: عَطاءٌ.
تَوَلَّى الحُكمَ بعدَ مَوتِ عَمِّهِ، وبعدَ سَنواتٍ مِن حُكمِهِ وانْتِشارِ عَدْلِه أَسلمَ في عَهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَحسنَ إلى المسلمين الذين هاجَروا إلى أَرضِه، قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأَصحابِه عن النَّجاشيِّ: لو خَرجتُم إلى أرضِ الحَبشةِ فإنَّ بها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عنده أحدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ، حتَّى يَجعلَ الله لكم فَرَجًا. ولمَّا ماتَ صلَّى عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ صَلاةَ الغائِبِ، فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَعى لهم النَّجاشيَّ صاحِبَ الحَبشةِ، في اليَومِ الذي مات فيه، وقال: «اسْتَغْفِروا لأَخيكُم». وعن جابرٍ رضي الله عنه: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حين مات النَّجاشيُّ: «مات اليَومَ رَجلٌ صالِحٌ، فقوموا فصَلُّوا على أَخيكُم أَصْحَمَةَ».
بعَث النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ أَميرًا على الحَجِّ بعدَ انْسِلاخِ ذي القَعدةِ لِيُقيمَ للمسلمين حَجَّهُم -والنَّاسُ مِن أهلِ الشِّركِ على مَنازِلهم مِن حَجِّهِم- فخرَج أبو بكرٍ رضِي الله عنه ومَن معه مِنَ المسلمين، وقد بعَث عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلِيًّا رضي الله عنه بعدَ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه لِيكونَ معه، ويَتوَلَّى علِيٌّ بِنَفْسِه إبلاغَ البَراءةِ إلى المشركين نِيابَةً عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِكونِهِ ابنَ عَمِّهِ، مِن عَصَبَتِهِ، قال أبو هُريرةَ: بعَثَني أبو بكرٍ في تلك الحَجَّةِ في مُؤَذِّنين يَومَ النَّحْرِ، نُؤَذِّنُ بمِنًى: أن لا يَحُجَّ بعدَ العامِ مُشركٌ، ولا يَطوفَ بالبيتِ عُريانٌ. قال حُميدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ: ثمَّ أَردَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، فأَمَرهُ أن يُؤَذِّنَ ببَراءَة. قال أبو هُريرةَ: فأَذَّنَ مَعَنا علِيٌّ في أهلِ مِنًى يَومَ النَّحْرِ: لا يَحُجُّ بعدَ العامِ مُشرِكٌ، ولا يَطوفُ بالبيتِ عُريانٌ.
أقبل قُسطنطين- مَلِكُ الروم- إلى ملطية وكمخ، فنازل كمخ، فأرسَلَ أهلُها إلى أهل ملطية يستنجدونَهم، فسار إليهم منها ثمانمئة مقاتل، فقاتلهم الرومُ، فانهزم المسلمون، ونازل الرومُ ملطيةَ وحصَروها، والجزيرةُ يومئذ مفتونةٌ بالحروب الداخلية، وعامِلُها موسى بن كعب بحران. فأرسل قسطنطين إلى أهل ملطية: إنِّي لم أحصُرْكم إلَّا على عِلمٍ مِن المسلمين واختلافِهم، فلكم الأمانُ وتعودون إلى بلاد المسلمينَ حتى أحتَرِثَ ملطية. فلم يجيبوه إلى ذلك، فنصب المجانيقَ، فأذعَنوا وسلَّموا البلادَ على الأمانِ، وانتقلوا إلى بلاد الإسلامِ وحَملوا ما أمكنَهم حَملُه، وما لم يقدِروا على حملِه ألقَوه في الآبارِ والمجاري. فلما ساروا عنها أخرَبَها الروم ورحلوا عنها عائدينَ، وتفرَّقَ أهلُها في بلاد الجزيرة، وسار مَلِكُ الروم إلى قاليقلا فنزل مرج الخصي، وأرسل كوشان الأرمني فحصرها، فنقب إخوانٌ من الأرمنِ من أهل المدينةِ ردمًا كان في سورها، فدخل كوشان ومن معه المدينةَ وغَلبوا عليها وقتَلوا رجالَها وسَبَوا النساء وساق القائِم إلى ملك الروم.
دخل جيش الخبيثِ الزنجيِّ إلى البصرة قهرًا، فقتل من أهلِها خَلقًا، وهرب نائبُها بغراج ومن معه، وأحرَقَت الزنج جامعَ البصرة ودورًا كثيرة، وانتهبوها، ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحدُ أصحاب الزنجي الخارجي: من أراد الأمانَ فلْيَحضُر، فاجتمع عنده خلقٌ كثير من أهل البصرة، فرأى أنه قد أصاب فرصةً، فغدر بهم وأمَرَ بقَتلِهم، فلم يُفلِتْ منهم إلَّا الشاذ، كانت الزنجُ تحيط بجماعةٍ من أهل البصرة، ثم يقول بعضهم لبعض: كيلوا- وهي الإشارة بينهم إلى القتل- فيَحمِلون عليهم بالسيوفِ، فلا يُسمَعُ إلَّا قَولُ أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، من أولئك المقتولين, وضجيجُهم عند القتل- أي صراخ الزِّنج وضَحِكهم - وهكذا كانوا يفعلونَ في كل محالِّ البصرة في عِدَّة أيام، وهرب الناسُ منهم كلَّ مَهرَبٍ، وحرَقوا الكلأ من الجبَل إلى الجبل، فكانت النارُ تحرِقُ ما وجدت من شيءٍ؛ من إنسانٍ أو بهيمة أو غير ذلك، وأحرقوا المسجِدَ الجامع، وقد قتَل هؤلاء جماعةً كثيرةً من الأعيان والأُدَباء والفُضَلاء والمحَدِّثين والعلماء.