هو المشيرُ محمد رؤوف باشا بن عبدي باشا الجركسي، قائِدُ الجيش العثماني. ولِدَ في استانبول عام 1832م، وتلقَّى علومَه العسكريَّةَ في الأكاديميَّةِ الحربية في استانبول. شارك في المعارِكِ التي جرت في كُلٍّ مِن البوسنة والقَرم تحت قيادة عمر باشا. التحق بمدرسةِ سانت سير الفرنسية العسكرية، ثم التحَقَ بأركان حربِ الجيش العثماني، وحصل على رُتبة الباشوية. تمَّت ترقيته في عام 1869م إلى رتبة مُشير. تولَّى منصب الوالي في كلٍّ من كريت، وإيشكودرا، وكاستامونو، وبغداد، وسيلانيك والبوسنة. أصبح قائدًا عامًّا للجيش العثماني في أثناء حربِ البلقان في عام 1877م، ونجح في هزيمة الصربِ وحلفائِها أمام مدينة بلغراد. ولَمَّا صدر الدستور العثماني الأول عُيِّن وزيرًا للبحرية العثمانية، وقد أُصيب في إحدى المعاركِ التي كان يخوضُها، فاضطُرَّ الأطباءُ إلى بتر ساقه، ولكنَّه تحامل على نفسِه ولم يترك ميدانَ المعركة، وظلَّ مستمرًّا في قيادته للقوات العُثمانية. وقد قُوبِلَت شجاعته بالتقدير والاحترام، فأنعَمَ عليه السلطان بلقب (سِر عسكر) وهو أكبَرُ ألقاب الدولة العثمانية. عَهِد إليه السلطان العثماني بمهمَّة خاصَّة كسفير خاص فوق العادةِ لدى الإمبراطور ألكسندر الثاني قُبَيل عقد مؤتمر برلين. عاد لتولِّي قيادة الجيش العثماني مرةً أخرى، وظلَّ في هذا المنصب الهامِّ إلى أن توفي عن 82 عامًا. وهو جدُّ الوجيه المصري محمد علي رؤوف، زوج الأميرة فائزة شقيقة الملك فاروق ملك مصر السابق.
بعد تولِّي الملِكِ فاروق عرشَ مصرَ قام بحل مجلسِ النواب الذي كان يتمتَّعُ فيه حِزبُ الوفد بأغلبية كبيرة، وكان الوفديُّون قد أحرزوا هذه الأغلبيةَ في الانتخابات التي أُجرِيَت في مايو 1936م، وكانت الحياةُ السياسية في مصر في تلك الفترة تعتَمِدُ على ثلاث قوى رئيسية فاعلة، هم: الإنجليز، والقصر، وحزب الوفد. قبل أن يدخُلَ الجيش إلى المعادَلةِ ويقلِبَ توازنات القوى فيها، جلس فاروق على العرش مع اهتزازِ وتراجُعِ شعبية حزب الوفد بعد توقيعِه على اتفاقية 1936 والتي كانت مكروهةً ومرفوضةً شعبيًّا. وعلى الرغم من حداثة سنِّ فاروق في تلك الفترة إلا أنَّه أدرك ضرورة اكتساب تلك الشعبية المفقودة من الوفد، قأقال حكومة النحاس الوفدية في 30 ديسمبر 1937، أي: في نفس العام الذي تسلَّم فيه سلطاتِه الدستوريةَ كمَلِكٍ على البلاد، وكلَّف محمد محمود الذي كان رئيسًا لحزب الأحرار الدستوريين المُوالي للقصر بتشكيل الوزارة. وكان أوَّلُ ما استصدرته الوَزارة الجديدة مرسومًا بتأجيل انعقاد البرلمان شهرًا، ثمَّ حَلِّ مجلِسِ النوابِ ذي الأغلبية الوفدية، إلى أن تمَّت الانتخابات في 1938 ولم يحصُلِ الوفدُ إلا على 12 مقعدًا فقط، والملاحَظُ في تلك الفترة هو التعددية الحزبية السياسية القائمة، حتى ولو بشكلٍ صوريٍّ؛ حيث سُمِح في انتخابات 1938 مثلًا بأن يتِمَّ ترشيح المستقلين، والذين حصلوا على 55 مقعدًا بجانب أحزاب الأحرار الدستوريين، والهيئة السعدية برئاسة أحمد ماهر المنشَقِّ عن حزب الوفد، بالإضافة إلى الحزب الوطني، وحزب الوفد.
نشأت "حركة الضباط الأحرار" عام 1376هـ تحت قيادة عبد الكريم قاسم ذو الميول الشيوعية، وعبد السلام عارف ذو الميول الإسلامية، وقد قامت الحركةُ بعدة محاولاتٍ لقَلبِ نظام الحُكمِ لكِنَّها فَشِلت، إلى أن تمكنت من توجيه ضربة قاضية ضِدَّ الحكم الملكي، فقتلت كلًّا من الملك فيصل الثاني بن غازي ملك العراق، والوصي عليه خاله عبد الإله بن علي، ونوري السعيد رئيس الحكومة، وسيطرت على الوَضعِ ورحَّبت بعض الدولُ العربية بالحركة الانقلابية، ثم قامت عملياتٌ عسكرية احتَلَّ فيها عبد السلام عارف بغدادَ، وأعلن بنفسه من إذاعة بغداد قيامَ الجمهورية العراقية، ثم أعلن مجلِسُ قيادة الثورة المعروف بمجلس السيادة تعيينَ عبد الكريم قاسم رئيسًا أعلى للقوات المسلحة، ومُنِحَ صلاحيات واسعة، كما عُيِّن رئيسًا للوزراء لحكومة مدنية مؤقتة، ووزيرًا للدفاع بالوكالة، كما عين عبد السلام عارف مساعدًا له في رئاسة القوات المسلحة، ونائبًا له في رئاسة الحكومة، ووزيرًا للداخلية بالوكالة، وكانت كلُّ البيانات تَصدرُ باسم مجلس السيادة، وخرجت المظاهراتُ المؤيِّدة، وأيَّدَت الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) الوضعَ بكُلِّ ثِقلِها، وأعلنت استعدادَها للدَّعمِ، وتسلَّم عبد الكريم قاسم السلطةَ وبدأ يُصدِرُ القرارات وإعلان الأحكامَ العُرفيةَ، ومصادرة الأملاكَ الملَكيَّة.
هو المشيرُ محمد عبد الحكيم بن علي عامر، وُلِدَ في 11 ديسمبر 1919م في قرية أسطال مركز سمالوط بمحافظة المنيا في أسرةٍ ثرية، وكان والِدُه عمدةَ القرية، ويُعدُّ المشير أحد رجال ثورة يوليو عام 1952م في مصر. وكان صديقًا مقربًا للرئيس جمال عبد الناصر، ورئيسِ المخابرات صلاح نصر، ووزيرِ الحربية شمس بدران حتى حرب 1967. وقائدًا عامًّا للقوات المسلحة المصرية، ونائِبَ رئيس الجمهورية. تخرَّج عامر من الكلية الحربية عام 1939، وشارك في حرب 1948 في نفس وَحدة جمال عبد الناصر. لعِبَ عامر دورًا كبيرًا في القيام بالثورة عام 1952, وفي العام التالي للثورة، وفي عام 1954 تولى وزارة الحربية، ثمَّ تمَّ ترقيتُه من رتبة صاغ (رائد) إلى رتبة لواء متخطيًا ثلاث رتب، وأصبح رئيسًا للأركان. وقاد القواتِ المصريَّةَ والمقاوَمةَ في حرب العدوان الثلاثي عام 1956، وبعد الوحدة مع سوريا عام 1958 أصبح القائِدَ الأعلى للقوات المشتركة. وفي عام 1964 أصبح نائبًا أوَّلَ لرئيس الجمهورية. فَسَدَت العلاقةُ بين الرئيس عبد الناصر والمشير عامر على نحوٍ سريع عقب حرب 1967 بعد إصدار الرئيس عبد الناصر قرارًا بتنحيةِ عبد الحكيم عامر عن قيادة الجيش، وتعيينه نائبًا لرئيس الجمهورية، وهو القرارُ الذي رفضه عامر بشدَّة، فوُضِعَ قَيدَ الإقامةِ الجبرية في منزله، حتى مات فيه، قيل مسمومًا وقيل منتحرًا.
الثَّورةُ التُّونُسية، هي ثورةٌ شعبيَّةٌ، انطَلَقت بوفاةِ الشابِّ محمد البوعزيزي الذي أضرَمَ النَّارَ في جسدِه تعبيرًا عن غضبِه على بَطالَتِه؛ ومُصادرَةِ الشرطةِ للعربةِ التي يبيع عليها. فخرج آلافُ التُّونُسيين الرافضين للأوضاع المتردِّيَة؛ بسبب البَطالَةِ؛ وعدمِ وُجودِ عدالةٍ اجتماعية؛ وتفاقُمِ الفَسادِ داخِلَ النظام الحاكِمِ. ونَتَج عن هذه التَّظاهُرات سقوطُ قتلَى وجرحَى؛ كما أجبَرَت الرَّئيسَ زين العابدين بن علي على إقالةِ عددٍ من الوُزَراء كوزير الداخلية، مع تقديم وُعودٍ لمُعالجةِ مشاكلِ البلاد، وقرَّر عدمَ الترشُّح لانتخاباتِ الرئاسةِ عامَ (2014م)، وتمَّ بعد خطابِه فتْحُ المواقعِ المحجوبة في تونُس، بالإضافة إلى تخفيضِ أسعارِ بعضِ المنتَجات الغذائية تخفيضًا يسيرًا. لكنَّ الاحتجاجاتِ ازدادَت حدةً وتوسُّعَا، حتى وصلت إلى المباني الحُكومية، ممَّا أجبرَ الرئيسَ التونسيَّ على التنحِّي عن السُّلطة ومغادرة البلاد بشكلٍ مفاجئٍ إلى السعودية يومَ الجمعة (14 يناير) من هذا العام، وأعلن الوزيرُ الأولُ محمد الغنوشي في اليوم نفسِه عن تولِّيه رئاسةَ الجمهوريةِ بصِفَةٍ مؤقَّتة، مع إعلان حالة الطوارئ وحَظرِ التجوُّل. لكنَّ المجلسَ الدستوريَّ قرَّر بعد ذلك بيومٍ اللجوءَ للفصلِ (57) من الدستور، وإعلانِ شُغورِ منصِبِ الرئيسِ، وبناءً على ذلك أَعلَن في يوم السبت (15 يناير) من هذا العام عن تولِّي رئيسَ مجلسِ النُّوَّاب فؤاد المبزع مَنصِبَ رئيسِ الجمهورية بشكلٍ مؤقَّتٍ إلى حينِ إجراءِ انتخاباتٍ رئاسيةٍ مبكرةٍ.
أبو بَكرٍ جابرُ بنُ موسى بنِ عبدِ القادرِ بنِ جابرٍ المعروفُ بـ (أبو بكرٍ الجَزائريُّ). ولِدَ في قريةِ ليوة القريبةِ من طولقةَ، التي تقعُ اليومَ في ولايةِ بسكرةَ جنوب بلادِ الجزائرِ عامَ 1921م، وفي بلدتِه نشأَ وتلقَّى علومَه الأوليَّةَ، وبدأ بحِفظِ القرآنِ الكريمِ وبعضِ المتونِ في اللغةِ والفقهِ المالكيِّ، ثم انتقَلَ إلى مدينةِ بسكرةَ، ودرَس على مشايخِها جملةً من العلومِ النقليَّةِ والعقليَّةِ التي أهَّلَتْه للتدريسِ في إحدى المدارسِ الأهليَّةِ، ثمَّ ارتحَلَ مع أسرَتِه إلى المدينةِ المنورةِ، وفي المسجدِ النبويِّ الشريفِ استأنفَ طريقَه العِلْميَّ بالجلوسِ إلى حَلَقاتِ العلماءِ والمشايخِ؛ إذ حصَلَ بعدها على إجازةٍ من رئاسةِ القضاءِ بمكةَ المكرمةِ للتدريسِ في المسجدِ النَّبويِّ. فأصبحت له حَلْقةٌ يُدرِّسُ فيها تفسيرَ القرآنِ الكريم، والحديثَ الشريفَ، وغيرَ ذلك. عَمِلَ مُدرِّسًا في بعضِ مدارسِ وزارةِ المعارفِ، وفي دارِ الحديثِ في المدينةِ المُنوَّرةِ، وعندما فَتَحت الجامعةُ الإسلاميةُ أبوابَها عامَ 1380هـ كان من أوائلِ أساتذتِها والمدرِّسين فيها، وبقِيَ فيها حتى أحيلَ إلى التقاعدِ عامَ 1406هـ. له جهودٌ دَعْويَّةٌ في الكثيرِ من البلادِ التي زارها. تُوفِّيَ الشيخُ أبو بكرٍ الجزائريُّ عن عمرٍ ناهز 97 عامًا، وصُلِّي عليه صلاةَ الجنازةِ بعد ظهرِ يومِ وفاتِه في المسجِدِ النبويِّ الشريفِ، ووُورِيَ جُثمانُه في مقبرةِ البَقيعِ.
من أشهَرِ مُصنَّفاتِه: ((مِنهاجُ المُسلمِ))، و((أيسَرُ التفاسيرِ لكلامِ العليِّ الكبيرِ))، و((هذا الحبيبُ يا مُحِبُّ)).
رحل السلطانُ بيبرس إلى قريبِ عيونِ الأساور من وادي عارة وعرعرة، فلما كان بعد عشاءِ الآخرِ أمر العسكَرَ كُلَّه فلبسوا آلة الحرب، وركِبَ آخِرَ الليل وساق إلى قيسارية، فوافاها بكرةَ نهار الخميس تاسع جمادى الأولى على حين غفلةٍ مِن أهلها، وضرب عليها بعساكِرِه، وللوقت ألقى الناسُ أنفُسَهم في خندقها، وأخذوا سكك الحديدِ التي برسم الخيولِ مع المقاود والشبح، وتعلَّقوا فيها من كل جانبٍ حتى صعدوا، وقد نُصِبَت المجانيق ورمي بها، فحرقوا أبوابَ المدينة واقتحموها، فَفَرَّ أهلها إلى قلعتها، وكانت من أحصَنِ القلاع وأحسَنِها وتعرف بالخضراء، وكان قد حمل عليها الفرنجُ العُمُدَ الصوان، وأتقنوها بتصليبِ العُمُدِ في بنيانها، حتى لا تُعمَلَ فيها النقوبُ ولا تقَعُ إذا علقت، فاستمر الزحف والقتال عليها بالمجانيق والدبابات والزحَّافات ورمي النشَّاب، وخرجت جريدة- خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- من عسكر السلطان إلى بيسان مع الأمير شهاب الدين القيمري، فسَيَّرَ جماعة من التركمان والعربان إلى أبوابِ عكا، فأسروا جماعةً مِن الفرنج، هذا والقتال ملِحٌّ على قلعة قيسارية، والسلطانُ مقيمٌ بأعلى كنيسةٍ تجاه القلعة ليمنَعَ الفرنج من الصعودِ إلى علو القلعةِ، وتارة يركَبُ في بعضِ الدبَّابات ذوات العجل التي تجري حتى يصل إلى السور ليرى النقوبَ بنَفسِه، وأخذ السلطانُ في يده يومًا من الأيامِ تُرسًا وقاتل، فلم يرجِعْ إلَّا وفي ترسِه عِدَّةُ سِهامٍ، فلما كان في ليلةِ الخميس النصف من جمادى الأولى: سلَّم الفرنجُ القلعةَ بما فيها، فتسلق المسلمونَ من الأسوار، وحرقوا الأبواب ودخلوها من أعلاها وأسفَلِها، وأذِّنَ بالصبحِ عليها، وطلع السلطانُ ومعه الأمراء إليها، وقسَّمَ المدينة على الأمراء والمماليك والحلقة، وشرع في الهدمِ ونزل وأخذ بيَدِه قطاعةً وهدَمَ بنَفسِه، فلما قارب الفراغَ مِن هدم قيسارية بعث السلطانُ الأمير سنقر الرومي والأمير سيف الدين المستعرب في جماعة، فهدموا قلعةً كانت للفرنج عند الملوحة قريب دمشق، وكانت عاتية حتى دكُّوها دكًّا، وفي السادس عشر: سار السلطانُ جريدة إلى عثليث، وسير الأمير سنقرًا السلاح دار، والأمير عز الدين الحموي، والأمير سنقرًا الألفي إلى حيفا، فوصلوا إليها، ففر الفرنجُ إلى المراكب وتركوا قلعَتَها، فدخلها الأمراءُ بعد ما قتلوا عِدَّةً من الفرنج وبعد ما أسروا كثيرًا، وخربوا المدينة والقلعة وأحرقوا أبوابها في يومٍ واحد، وعادوا بالأسرى والرؤوس والغنائم سالمين، ووصل السلطانُ إلى عثليث فأمر بتشعيثِها وقطْع أشجارها، فقُطِعَت كلُّها وخربت أبنيتها في يوم واحد، وعاد إلى الدهليز بقيسارية، وكمَّل هَدْمَها حتى لم يدَعْ لها أثرًا، وقدمت منجنيقات من الصبيبة وزرد خاناه من دمشق، وورد عِدَّة من الفرنج للخدمة، فأكرَمَهم السلطان وأقطعهم الإقطاعات، وفي التاسع عشر: رحل السلطان من قيسارية، وسار من غير أن يَعرِفَ أحدٌ قَصْدَه فنزل على أرسوف مستهلَّ جمادى الآخرة، ونقل إليها من الأحطاب ما صارت حولَ المدينة كالجبال الشاهقة وعَمَل منها ستائر، وحفر سربين من خندق المدينة إلى خندق القلعةِ وسَقَفَه بالأخشاب، وعمل السلطان طريقًا من الخندقين إلى القلعة، وردمت الأحطابُ في الخندق، فتحَيَّل الفرنجُ وأحرقوها كلَّها، فأمر السلطان بالحفر من باب السربين إلى البحرِ، وعمل سروبًا تحت الأرض يكون حائطُ خندق العدو ساترًا لها، وعمل في الحائط أبوابًا يرمي التراب منها وينزل في السروب حتى تساوي أرضُها أرض الخندق، وأحضر المهندسين حتى تقَرَّر ذلك، وولي أمرَه للأمير عز الدين أيبك الفخري، فاستمر العمل، والسلطان بنفسِه ملازم العمل بيده في الحفرِ وفي جر المنجنيقات ورمي الترابِ ونَقلِ الأحجار، أسوةً لغيره من الناس، وكان يمشي بمفرده وفي يده ترسٍ، تارة في السَّرَب وتارة في الأبوابِ التي تفتح، وتارة على حافةِ البحر يرامي مراكِبَ الفرنج، وكان يجرُّ في المجانيق، ويطلع فوق الستائر يرمي من فوقها، ورمى في يوم واحد ثلاثمائة سهم بيده، وحضر في يومٍ إلى السرب وقُدَّ في رأسه خلف طاقة يرمي منها، فخرج الفرنج بالرماح وفيها خطاطيف ليجبذوه فقام وقاتلهم يدًا بيد وكان معه الأميرُ سنقر الرومي، والأمير بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، فكان سنقر يناوله الحجارةَ حتى قتل فارسين من الفرنج، ورجعوا على أسوأ حال، وكان يطوفُ بين العساكر في الحصار بمفردِه، ولا يجسِرُ أحد ينظر إليه ولا يشير إليه بإصبُعِه، بل كان الناسُ فيها سواءً في العمل، حتى أثرت المجانيق في هدمِ الأسوار، وفُرِغَ من عمل الأسربة التي بجانبي الخندق، وفتحت فيها أبواب متسعة، فلما تهيأ ذلك وقع الزحفُ على أرسوف في يوم الخميس ثامن رجب، ففتحها الله في ذلك اليوم عندما وقَعَت الباشورة – الباشورة حائط ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- فلم يشعر الفرنج إلا بالمسلمين قد تسلقوا وطلعوا القلعة، ورفعت الأعلام الإسلامية على الباشورة، وحَفَّت بها المقاتلة وطُرِحَت النيران في أبوابها، هذا والفرنجُ تقاتل، فدفع السُّلطانُ سنجقه للأميرِ سنقر الرومي وأمَرَه أن يؤمِّنَ الفرنج من القتل، فلما رآه الفرنجُ تركوا القتالَ، وسلَّمَ السنجق للأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط الحاجب، ودُلِّيَت له الحبال من القلعة فربطها في وسطِه والسنجق معه، ورفع إليها فدخَلَها وأخذ جميعَ سيوف الفرنج وربَطَهم بالحبال وساقهم إلى السلطانِ والأمراء صفوف وهم ألوف، وأباح السلطانُ القلعة للناس، وكان بها من الغِلالِ والذخائر والمال شيءٌ كثير، وكان فيها جملةٌ من الخيول والبغال لم يتعرض السلطان لشيءٍ منه، إلا ما اشتراه ممَّن أخذه بالمال ووجد فيها عِدَّةً من أسرى المسلمين في القيود فأُطلِقوا، وقَيَّد الفرنجَ بقيودهم، وعيَّنَ السلطانُ جماعةً مع الأسرى من الفرنج ليسيروا بهم، وقسَّم أبراج أرسوف على الأمراء، وأمر أن يكون أسرى الفرنجِ يتولون هدم السورِ، فهُدِمَت بأيديهم، وأمرَ السلطان بكشف بلاد قيسارية وعمَل متحَصَّلِها، فعُمِلَت بذلك أوراقٌ، وطَلَبَ قاضي دمشق وعدوله ووكيل بيت المال، وتقدم بأن يملك الأمراءُ المجاهدون من البلاد التي فتحها الله عليه، وكتبت تواقيع كل منهم من غير أن يطَّلعوا على ذلك، فلما فرغت التواقيعُ فُرِّقَت على أربابها، وكتب بذلك مكتوبٌ جامع بالتمليك ورحل السلطانُ من أرسوف بعد استكمال هدمِها في يوم الثلاثاء الثالث عشر شهر رجب إلى غزة وسار منها إلى مصر ودخل السلطان من القاهرة في يوم الخميس حادي عشر شعبان والأسرى بين يديه.
لَمَّا وليَ أحمد بن طولون مصرَ سكن مدينةَ العسكرِ على عادة أمراء مصرَ من قَبلِه، ثم أحَبَّ أن يبني له قصرًا، فبنى القطائع. والقطائِعُ قد زالت آثارها الآن مِن مصر، ولم يبق لها رَسمٌ يُعرف، وكان موضِعها من قبَّة الهواء، التي صار مكانها الآن قلعةُ الجبل، إلى جامع ابن طولون، وهو طول القطائع، وأمَّا عرضها فإنه كان من أول الرميلة من تحت القلعة إلى الموضع الذي يعرف الآن بالأرضِ الصفراء, وكانت مساحةُ القطائع ميلًا في ميل, وقبة الهواء كانت في السَّطحِ الذي عليه قلعةُ الجبل. وتحت قبة الهواء كان قصرُ ابن طولون. وموضع هذا القصر الميدانُ السلطاني الآن الذي تحت قلعة الجبل بالرميلة, وكان موضع سُوق الخيل والحمير والبغال والجمال بستانًا. يجاورها الميدانُ الذي يُعرَف اليوم بالقبيبات؟ فيصير الميدانُ فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون المعروف به. وبجوار الجامع دارُ الإمارة في جهته القبلية، ولها بابٌ من جدار الجامع يخرجُ منه إلى المقصورة المحيطة بمصلَّى الأمير إلى جوار المحراب، وهناك دار الحرم. والقطائع عدَّةُ قِطَع يسكنُ فيها عبيدُ الأمير أحمد بن طولون وعساكِرُه وغِلمانُه. وسبب بناء ابن طولون القصرَ والقطائع كثرةُ مماليكه وعبيدِه، فضاقت دارُ الإمارة عليهم، فركِبَ إلى سفح الجبل وأمرَ بحرث قبور اليهود والنصارى، واختطَّ موضعهما وبنى القصرَ والميدان، ثمَّ أمر أصحابَه وغلمانه أن يختطُّوا لأنفُسِهم حول قصره وميدانِه بيوتًا فاختطوا وبنوا حتى اتَّصل البناءُ بعمارة الفسطاط- مصر القديمة- ثم بُنِيَت القطائع، وسُميت كلُّ قطيعةٍ باسم من سكنها. فكان للنُّوبة قطيعة مفردة تُعرَف بهم، وللرُّوم قطيعة مُفردة تُعرف بهم، وللفرَّاشين قطيعة مفردة تُعرَف بهم، ولكلِّ صِنفٍ من الغِلمانِ قطيعةٌ مفردة تُعرفُ بهم، وبنى القُوَّادُ مَواضِعَ متفَرِّقة، وعُمِرَت القطائعُ عِمارةً حسنةً وتفَرَّقت فيها السِّكَكُ والأزِقَّة، وعُمِرَت فيها المساجد الحِسان والطواحين والحمَّامات، والأفران والحوانيت والشوارع, ولَمَّا بنى ابن طولون القصرَ والميدان، وعَظُمَ أمرُه زادت صدقاتُه ورواتبُه حتى بلغت صدقاتُه المرتَّبة في الشهر ألفي دينار، سوى ما كان يطرأ عليه من مصاريفَ أخرى، وكان يقول: هذه صدقات الشكر على تجديدِ النِّعَم، ثم جعل مطابخَ للفقراء والمساكين في كلِّ يوم، فكان يذبَحُ فيها البقر والغنم ويفرِّقُ للنَّاسِ في القدور الفخَّار والقصع، ولكل قصعةٍ أو قدر أربعةُ أرغفة: في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القِدْر أو القصعة، وكان في الغالب يُعمَلُ سماطٌ عظيم وينادى في مصر: من أحبَّ أن يحضر سماطَ الأميرِ فلْيحضر، ويجلس هو بأعلى القصرِ ينظر ذلك ويأمرُ بفتح جميع أبواب الميدان ينظُرُهم وهم يأكلونَ ويَحمِلون فيسُّرُه ذلك، ويحمد اللهَ على نعمته. وجعل بالقُربِ مِن قَصرِه حُجرةً فيها رجالٌ سمَّاهم بالمكَبِّرين عِدَّتُهم اثنا عشر رجلًا، يبيت في كلِّ ليلةٍ منهم أربعة يتعاقبون بالليلِ نُوبًا، يكَبِّرون ويهَلِّلون ويسبِّحون ويقرؤونَ القرآنَ بطيبِ الألحان ويترسَّلون بقصائدَ زُهديَّة ويؤذنونَ أوقاتَ الأذانِ.
كانت قواتُ الملك عبد العزيز في نجد تتشكَّلُ مِن كلِّ فردٍ محاربٍ يحمِلُ السِّلاحَ من سنِّ 13 إلى سن 70، وتنقسِمُ إلى عدة أقسام: أهل العارض، والحضر، والإخوان (إخوان من أطاع الله)، والبدو، وكان الحرسُ الملكي (جيش الجهاد) من أهل العارض يتولى حمايةَ الملك والأمراء والأسرة المالكة، وكان مع جيشِ الجهاد جيشُ الإخوان من قبائل البادية الرحُّل، والتي تحولت الهجر فيه إلى ثكناتٍ عسكرية، وظلَّ هذا النظام قائمًا حتى عام 1349؛ حيث سعى الملك عبد العزيز إلى تطويرِ الجيشِ بإقامةِ إدارةٍ عسكريةٍ حديثةٍ، كنواةٍ للجيش النظامي، وبعد دخولِ الحجاز تحت حكم عبد العزيز ضمَّ إليه ضباطَ الجيش الهاشمي، وشكَّل منهم نواةَ الجيش النظامي، واستقدم ضباطًا من سوريا والعراق للعمل في الدائرة العسكرية، وشَهِدت جدة عام 1349هـ أوَّلَ استعراض عسكري شاركت فيه أفواجٌ مِن المدفعية والرشاشات والمشاة إلى جانب جيش الجهاد والإخوان، ثم أُلغِيَت تشكيلاتُ الهجَّانة التي تعتمد على الجمال والتشكيلات غير النظامية، وجُعِلت القوات على ثلاثة صنوف: سلاح المشاة، وسلاح المدفعية، وسلاح الفرسان, وتم تنظيمُ الجيش على شكل كتائب وألوية تمَّ توزيعها على خمس مناطِقَ عسكرية، كما تمَّ توحيدُ الزيِّ العسكري وإشارات الرُّتَب العسكرية، وافتُتِحَت في الطائف أول مدرسة عسكرية، وفي عام 1350هـ تم إرسال عددٍ من الطلاب لدراسة الطيران في الخارج، وتمَّ شراء أربع طائرات ذات المحرِّك الواحد، ثم أُنشِئَت إدارة طائرات الخطوط السعودية التي ألحِقَت لاحقًا بوزارة الدفاع، وبعد الحرب العالمية الثانية تم شراءُ خمس طائرات أمريكية من طراز داكوتا، ثم شراء تسع أخرى، وبدأت حركةُ الطيران المدني على الصعيد الخارجي، وفي عام 1353هـ أُسِّسَت مديرية الأمور العسكرية، ووكالة الدفاع، ومقَرُّها في الطائف، وفي عام 1359هـ ألغيت المديرية العسكرية، وشُكِّلَت في العام التالي رئاسةُ الأركان الحربية، وفي عام 1363ه أنشئت وزارة الدفاع وتولَّاها الأمير منصور بن عبد العزيز، وهو أول وزير لها، ولما توفي سنة 1370 تولَّى منصب الوزارة فيها الأميرُ مشعل بن عبد العزيز, وأنشِئَت في الطائف مدرسةُ الطيران، وصعِدَ الملك عبد العزيز الطائرةَ أول مرة في 8 ذي القعدة 1364هـ. كما تمَّ إنشاء مدارس لتعليم اللاسلكي في مكة وجدة والمدينة والرياض؛ لأهميته في العمليات العسكرية، وأُرسِلَ الخريجون الأوائل إلى بريطانيا ودول أوروبية أخرى؛ لمواصلة الدراسة حتى فتح 60 مركزًا لاسلكيًّا، وبهذا فإنَّ المؤسسة العسكرية النظامية تطوَّرت بمرور الزمن خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية مع تطور العسكرية الغربية، والاتصال بالأوربيين، وظهور الحاجة لتطوير الجيشِ وتحديثِه وتنوُّع أصنافه وأساليبه ومهامه من حرس ملكي، إلى جيش الجهاد، ثم جيش الهجانة من البدو المخلصين للملك، إلى سلاحِ الطيران.
من أقوى الأسباب التي هيأت للإسبان احتلال طرابلس الغرب ضعفُ الحامية فيها، وانصراف الناس إلى تنمية المال، وإلى مُتَع الحياة عن الاهتمام بتقوية الجيش وتحصين القلاع، ومن المناسبات التي انتهزها الإسبان للتعجيل باحتلال طرابلس، أنه في هذه سنة وقع خلاف بين أحمد الحفصي وبين والده الناصر، فذهب إلى الإسبان يستنجد بهم على أبيه، فاستعد الإسبان لغزو طرابلس، فجهزوا 120 قطعة بحرية، وانضم إليها سفن أخرى من مالطة، وشُحنت بخمسة عشر ألف جندي من الإسبان، وثلاثة آلاف من الإيطاليين والمالطيين. وفي 8 من ربيع الآخر أقلع الأسطول من فافينيانا، ومرَّ بجزيرة قوزو بمالطة فتزود منها بالماء، وانضمَّ إلى الجيش خبير مالطي اسمه جوليانو بيلا، له معرفة بطرابلس. وقد أعدت هذه الحملة بإشراف نائب ملك صقلية، وبإعانة الجيوش الصقلية والإيطالية. وقد تسربت أخبار هذه الحملة إلى طرابلس قبل تحركها بنحو شهر، فأخذ الناس في الهجرة منها إلى غريان، وتاجورة، ومسلاتة، وأخذوا معهم كل ما كان مهمًّا من أموالهم، وما أمكنهم من أثقال متاعهم، ولم يبقَ بالمدينة إلا المحاربون، وبعض السكان الذين لم يقدروا على الفرار، وانحازوا إلى قصر الحكومة والجامع الكبير، وصعد المحاربون فوق الأسوار وعلى القلاع. نزلت جيوش الإسبان في القوارب وكانت بقيادة بييترو نافارو، وفي الصباح، بدأ الهجوم وأطلقت السفن مدافعها على الأسوار وقصر الحكومة. ونزل الجيش المكلف بمنع المسلمين من الاتصال بالمدينة إلى البر بجهة سيدي الشعاب لمنع الاتصال بالمدينة. واندفع الجيش الإسباني نحو المدينة تحميه مدافع الأسطول، فاحتل البرج القائم على باب العرب وبعض الأسوار، وتمكن الإسبان من فتح باب النسور، واتصل الجيش الخارجي بالجيش الداخلي واستبسل الطرابلسيون في الدفاع، وجاء في رسالة القائد نافارو أنه لم يخلُ موضِعُ قَدَمٍ في المدينة من قتيلٍ، ويقَدَّر عدد القتلى بخمسة آلاف، والأسرى بأكثر من ستة آلاف، وتغلَّب الإسبان على مقاومة المسلمين العنيفة، واحتُلَّ قصر الحكومة عَنوةً، وقد حَمِيَ وطيس المعركة حينما تمكَّن حامل العلم الإسباني من نصبِه على برج القصر. وأبدى من التجؤوا إلى الجامع الكبير مقاومة شديدة، فقُتِل منهم نحو ألفي طرابلسي بين رجال ونساء وأطفال. وقتل من الإسبان ثلاثمائة رجل، وكان من بين الموتى كولونيل كبير في الجيش، وأميرال الأسطول، وقبل أن تغرب شمس يوم 18 من ربيع الآخر من هذه السنة، سقطت مدينة طرابلس في يد الإسبان، بعد أن أريقت دماء الطرابلسيين في كل بقعةٍ منها، ولكثرة القتلى فقد أُلقيت جثثُهم في صهاريج الجوامع وفي البحر، وأُحرق بعضها بالنار. وأقام نائب البابا احتفالات الفرح بسقوط هذه المدينة العربية الإسلامية في أيدي النصارى. وأرسل القسيس أمريكو دامبواس رئيس منظمة فرسان القديس يوحنا إلى فرديناند ملك إسبانيا تهنئة، ويرجوه أن يتابع فتوحاته في إفريقية. وعلى الجانب الآخر فقد استاء المسلمون لهذا الاحتلال، وقابله الطرابلسيون المقيمون في الإسكندرية إذ ذاك بإحراق فندق للإسبان في المدينة. انتهز الطرابلسيون المعسكِرون خارج السور غياب القائد الإسباني نافارو وأسطوله، وانقضُّوا على المدينة وتسلَّقوا سورها، ولكنهم لم يوفَّقوا فرجعوا أدراجَهم, وهو ما دفع محمد بن حسن الحفصي إلى إعانة طرابلس، فجمع جيشًا كبيرًا بقيادة محمد أبي الحداد قائد توزر، وكان من أكبر قواده، ووصل طرابلس ونزل خارج السور، وانضم إلى هذا الجيش المحاربون الطرابلسيون، وهاجموا المدينة في ذي الحجة من هذه السنة, ولكنهم لم يظفروا منها بطائل. وظل يحكم طرابلس فرسان القديس يوحنا حتى سنة 936 (1530م) عندما منحها شارل الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية لهم، الذين صاروا يعرفون في ذلك الوقت بفرسان مالطا.
لَمَّا قَتَل بدر الدين بيدرا السلطانَ الأشرفَ بن قلاوون عاد بمن معه من الأمراء، ونزل بالدهليزِ وجلس في دست السلطة، وقام الأمراءُ فقَبَّلوا الأرضَ بين يديه وحلفوا له، وتلقَّب بالملك الأوحد وقيل المعظَّم، وقيل المَلِك القاهر، ثمَّ قبض بيدرا على الأميرِ بيسري والأميرِ بكتمر السلاح دار أمير جاندار، وقصد قتْلَهما ثم تركهما تحت الاحتياطِ لشفاعةِ الأمراء فيهما، وركب إلى الطرانة فبات بها وقد سار الأمراءُ والمماليكُ السلطانية ومعهم الأميرُ برغلي، وهم الذين كانوا بالدهليز والوطاق، ورَكِبوا في آثار بيدرا ومَن معه يريدون القبضَ عليه، فبلغ الأميرَ كتبغا ومن معه مقتلُ السلطانِ وسَلطنة بيدرا، فلَحِقَ بمن معه الأميرُ برغلي ومن معه من الأمراء والمماليك، وجدُّوا بأجمَعِهم في طلب بيدرا ومَن معه، وساقوا في تلك الليلة إلى الطرانة وقد لحِقَ بيدرا بسيف الدين أبي بكر بن الجمقدار نائبِ أمير جاندار، والأمير صارم الدين الفخري، والأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار، ومعهم الزردخاناه- خزينة الأسلحة- عند المساءِ من يوم السبت الذي قُتِلَ فيه السلطان الأشرف، فعندما أدركهم تقَدَّم إليه بيبرس أمير جاندار وقال له: يا خوند، هذا الذي فعلته كان بمشورة الأمراء؟ فقال: نعم، أنا قتلتُه بمشورتهم وحضورِهم، وهاهم كلهم حاضرون، ثم شرع يعَدِّدُ مساوئَ الأشرف ومخازيَه واستهتارَه بالأمراء ومماليكِ أبيه، وإهماله لأمور المسلمين، ووزارته ابن السلعوس، ونفور الأمراء منه لمَسكِه عز الدين الأفرم، وقتل سنقر الأشقر وطقصوا وغيره، وتأميره مماليكَه، وقِلَّة دينه وشُربه الخمرَ في شهر رمضان، وفِسْقه بالمردان، ثمَّ سأل بيدرا عن الأمير كتبغا فلم يَرَه، فقيل له: هل كان عند كتبغا من هذه القضية عِلمٌ؟ قال: نعم، هو أول من أشار بها، فلما كان يوم الأحد ثاني يومٍ من قَتْلِ الأشرفِ وافى الأميرُ كتبغا في طلبٍ كبيرٍ من المماليك السلطانية عِدَّتُه نحو الألفي فارس، وجماعة من الحلقة والعسكر ومعهم الأمير حسام الدين لاجين الأستادار الطرانة وبها بيدرا يريدون قتالَه، وميز كتبغا أصحابَه بعلائِمَ حتى يُعرَفوا من جماعة بيدرا، وهم أنَّهم جعلوا مناديلَ مِن رقابِهم إلى تحت آباطِهم فأطلق بيدرا حينئذ الأميرينِ بيسري وبكتمر السلاح دار، ليكونا عونًا له فكانا عونًا عليه، ورتَّبَ كتبغا جماعةً ترمي بالنشاب، وتقَدَّمَ بمن معه وحملوا على بيدرا حملةً منكرة، وقصد الأميرُ كتبغا بيدرا، وقال: يا بيدرا أين السلطان؟ ورماه بسَهمٍ وتبعه البقيَّةُ بسهامهم، فولى بيدرا بمَن معه وكتبغا في طلبِه حتى أدركه، وقُتِلَ بيدرا بعدما قُطِعَت يدُه ثمَّ كَتِفُه كما فَعَل بالأشرف، وحُمِلَت رأسُه على رمحٍ وبُعِثَ بها إلى قلعة الجبل، فطِيفَ بها القاهرة ومصر، ووُجِدَ في جيب بيدرا ورقةٌ فيها: ما يقول السادةُ الفقهاءُ في رجلٍ يَشرَبُ الخمرَ في شَهرِ رَمَضانَ، ويَفسُق بالمردان ولا يصلِّي، فهل على قاتِلِه ذَنبٌ أو لا؟ فكُتِبَ جوابُها: يُقتَلُ ولا إثمَ على قاتِلِه، وعندما انهزم بيدرا هرب لاجين وقرا سنقر، ودخلا القاهرةَ فاختفيا، وكان الذي وصل إلى قلعة الجبل بخبر مقتل السلطان الأشرف سيف الدين سنكو الدوادار، ولَمَّا بلغ الأميرَ علم الدين سنجر الشجاعي قتلُ السلطانِ، ضَمَّ الحراريقَ والمعادي وسائِرَ المراكِبِ إلى برِّ مِصرَ والقاهرة، وأمَرَ ألا يعدى بأحدٍ من الأمراء والمماليك إلا بإذنه، موصل الأمير زين الدين كتبغا ومَن معه من الأمراء والمماليك، بعد قتل بيدرا وهزيمة أصحابه، فلم يجدوا مركبًا يعدونَ به النيل، فأشار على من معه من الأمراء وهم حسام الدين لاجين الأستادار، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وسيف الدين برلغي وسيف الدين طغجي، وعز الدين طقطاي، وسيف الدين قطبة، وغيرهم أن ينزلوا في برِّ الجيزة بالخيام حتى يراسلوا الأميرَ سنجر الشجاعي، فوافقوه وضربوا الخيامَ وأقاموا بها، وبعثوا إلى الشجاعي فلم يمكِّنْهم من التعدية، وما زالت الرسل بينهم وبينه حتى وقع الاتفاقُ على إقامة المَلِك الناصِرِ محمَّد بن قلاوون، فبعَث عند ذلك الحراريقَ والمراكِبَ إليهم بالجيزة، وعدوا بأجمعهم وصاروا إلى قلعة الجبل في رابع عشر المحرم.
لمَّا رفَض ابنُ الزُّبيرِ البَيْعَة لِيَزيدَ بن مُعاوِيَة وكان بمكَّة المُكرَّمَة سَيَّرَ إليه يَزيدُ بن مُعاوِيَة جيشًا بقِيادَةِ مُسلمٍ؛ ولكنَّ مُسلِمًا تُوفِّي في الطَّريقِ إلى مكَّة فاسْتَلَم بعدَه الحُصينُ بن نُميرٍ فحاصَر مكَّة المُكرَّمَة، وكان ابنُ الزُّبيرِ اتَّخَذَ المسجدَ حِصْنًا له ووضَع فيه الخِيامَ لِتَحميهِ وجُنْدَهَ مِن ضَرباتِ المَنْجنيق، واسْتَمرَّ الحِصارُ إلى أن احْتَرقَت الكَعبةُ قبلَ أن يأتِيَ نَعْيُ يَزيدَ بن مُعاوِيَة بتِسْعَةٍ وعِشرين يومًا، واخْتُلِف في مَن كان سبَبًا في احْتِراقِ الكَعبةِ. كان أصحابُ ابنُ الزُّبيرِ يُوقِدون حولَ الكَعبَةِ، فأَقْبَلَت شَرَرَةٌ هَبَّتْ بها الرِّيحُ فاحْتَرَقَت كِسْوَةُ الكَعْبَةِ، واحْتَرقَ خَشَبُ البيتِ. قال أحدُ أصحابِ ابنِ الزُّبيرِ يُقالُ له عَوْنٌ: ما كان احْتِراقُ الكَعبَةِ إلَّا مِنَّا, وذلك أنَّ رجلًا مِنَّا كان هو وأصحابه يوقدون في خِصاصٍ لهم حولَ البيتِ, فأَخَذَ نارًا في رُمْحِه فيه نِفْطٌ, وكان يومَ ريحٍ, فطارت منها شَرارةٌ, فاحْتَرَقت الكَعبةُ حتَّى صارت إلى الخشبِ, وقِيلَ: إن رجلًا مِن أهلِ الشَّام لمَّا جنَّ اللَّيلُ وضَع شَمْعَةً في طَرْف رُمْحِه, ثمَّ ضرَب فَرَسه ثمَّ طعَن الفُسْطاطَ فالْتَهب نارًا, والكَعبةُ يَومئذٍ مُؤَزَّرَة بالطَّنافِس, وعلى أَعْلاها الحَبِرَةُ, فطارت الرِّيحُ باللَّهَبِ على الكعبةِ فاحْتَرَقت. فلم يكُن حَرْقُ الكَعبةِ مَقصودًا مِن أَحَدِ الطَّرَفينِ؛ بل إنَّ احْتِراقَها جاء نَتيجةً لِحَريقِ الخِيامِ المُحيطةِ بها مع اشْتِدادِ الرِّيحِ, فهذا رجلٌ مِن أهلِ الشَّام لمَّا احْتَرَقت الكَعبةُ نادى على ضِفَّةِ زَمْزَم بقوله: هلَكَ الفَريقانِ والذي نَفْسِ محمَّدٍ بِيَدِهِ.
كانت بلادُ الغورِ تُجاوِرُ غزنةَ، وكان الغور يقطعونَ الطَّريقَ، ويُخيفونَ السَّبيلَ، وبلادُهم جِبالٌ وَعرةٌ، ومضايقُ غَلقةٌ، وكانوا يحتَمون بها، ويعتَصِمون بصعوبةِ مَسلَكِها، فلمَّا كَثُرَ ذلك منهم أنِفَ يمينُ الدَّولة محمودُ بنُ سبكتكين أن يكونَ مثل أولئك المُفسدينَ جِيرانَه، وهم على هذه الحالِ مِن الفَسادِ والكُفرِ، فجمَعَ العساكِرَ وسار إليهم، وعلى مُقَدِّمتِه التونتاش الحاجِبُ، صاحِبُ هراة، وأرسلان الجاذبُ صاحِبُ طوس، وهما أكبَرُ أُمرائه، فسارا فيمَن معهما حتى انتَهَوا إلى مَضيقٍ قد شُحِنَ بالمُقاتلةِ، فتناوشوا الحَربَ، وصبَرَ الفريقانِ، فسَمِعَ يمينُ الدَّولة الحالَ، فجَدَّ في السيرِ إليهم، ومَلَك عليهم مَسالِكَهم، فتفَرَّقوا، وساروا إلى عظيمِ الغوريَّة المعروف بابن سوري، فانتهوا إلى مدينتِه التي تُدعى اهنكران، فبَرَز مِن المدينةِ في عشرةِ آلافِ مُقاتلٍ، فقاتَلَهم المُسلِمونَ إلى أن انتَصَف النهار، فرأوا أشجَعَ النَّاسِ وأقواهم على القِتالِ، فأمَرَ يمينُ الدَّولة أن يُولُّوهم الأدبارَ على سبيلِ الاستدراجِ، ففعلوا، فلمَّا رأى الغوريَّةُ ذلك ظَنُّوه هزيمةً، فاتَّبَعوهم حتى أبعَدوا عن مدينتِهم، فحينئذ عطفَ المُسلِمونَ عليهم ووَضَعوا السُّيوفَ فيهم فأبادوهم قَتلًا وأسْرًا، وكان في الأسرى كبيرُهم وزعيمُهم ابنُ سوري، ودخل المُسلِمونَ المدينةَ ومَلَكوها، وغَنِموا ما فيها، وفَتَحوا تلك القِلاعَ والحُصونَ التي لهم جميعَها، فلمَّا عايَنَ ابنُ سوري ما فعل المسلمونَ بهم شَرِبَ سُمًّا كان معه، فمات وأظهَرَ يمينُ الدَّولة في تلك الأعمالِ شِعارَ الإسلامِ، وجعل عندهم مَن يُعَلِّمُهم شَرائِعَه، ثمَّ عاد إلى غزنة.
في سنة 387ه عقَدَ باديسُ بنُ منصورِ بنِ بلكينَ صاحِبُ إفريقيَّةَ الوِلايةَ لِعَمِّه حمَّادِ بنِ بلكين على أشيرَ، فاتَّسَعَت ولايةُ حمَّاد وعَظُم وجمَعَ العساكرَ والأموال. وفي سنة 405ه أظهر حمَّادٌ الخلافَ على ابنِ أخيه باديس وخلَعَه واقتتلا في أوَّلِ جمُادى سنة 406ه، فانهزم حَمَّادٌ هزيمةً شَنيعةً بعد قتالٍ شديدٍ بين الفريقين والتجأ إلى قلعة مغلية، ثمَّ نَهَب دكمة ونقَلَ منها الزَّادَ إلى مغيلة وتحصَّنَ بها وباديس بقُربِه مُحاصِرٌ له إلى أن توفِّيَ باديس فجأةً في ذي القعدة سنة 406. وتولَّى المُعِزُّ بن باديس، واستمَرَّ حمَّادٌ على الخُلفِ معه حتى اقتتلا في سنة 408 عند نيني، موضعٍ، فانهزم حمَّادٌ فلم يعُدْ إلى قتالٍ بعدها، واصطلح مع المعِزِّ على أن يقتَصِرَ حمَّادٌ على ما بيده، وهو عَمَلُ ابنِ عليٍّ وما وراءَه مِن أشير وتاهرت، واستقَرَّ للقائد ابنِ حَمَّاد المسيلة، وطبنة، ومرسى الدجاج، وزواوة، ومقرة، ودكمة وغيرها، وبقي حمَّادٌ وابنُه كذلك حتى مات حمَّاد منتصف سنة 419. واستقَرَّ في المُلكِ بعده ابنُه القائد حتى توفِّي سنة 446. فمَلَك بعده ابنُه محسن بن القائد فأساء وخبطَ وقَتَل في أعمامِه، فقاتله ابنُ عَمِّه بلكين ومَلَك مَوضِعَه في ربيع الأول سنة 447 وبقِيَ حتى غدر ببلكينَ النَّاصِرُ بنُ علناس بن حمَّاد وأخذ منه المُلكَ في رجب سنة 454. واستقَرَّ النَّاصِرُ بن علناس حتى توفِّي سنة 481. ومَلَك بعده ابنُه المنصور بن الناصر إلى أن توفِّي سنة 498. وملَكَ بعده ابنُه باديس بن المنصور يسيرًا وتوفِّيَ.
هو الوَزيرُ الكَبيرُ، أبو غالبٍ مُحمَّدُ بنُ عليِّ بنِ خَلَفِ بنِ الصيرفيِّ الشِّيعيِّ، المُلَقَّبُ فَخر الملك، وزيرُ بهاءِ الدَّولة أبي نصرِ بنِ عضُدِ الدَّولة بن بُوَيه، وبعد وفاتِه وَزَرَ لِوَلَدِه سُلطانِ الدَّولةِ أبي شُجاعٍ فناخِسرو. أصلُه مِن واسِط، وكان أبوه صيرفيًّا، وباسمِه صَنَّفَ كتاب "الفخري" في الجبرِ والمُقابلة. كان صدرًا مُعظَّمًا، جوادًا مُمَدَّحًا، مِن رجالِ الدَّهرِ، وكان مِن صِباه يتعانى المكارِمَ والأفضالَ، ويلَقِّبونَه بالوزيرِ الصَّغيرِ، وكان من أعظَمِ وُزراءِ آلِ بُوَيه على الإطلاقِ بعدَ أبي الفَضلِ مُحَمَّدِ بنِ العَميد والصَّاحِبِ بنِ عَبَّاد، وكان واسِعَ النِّعمةِ، فسيحَ مجالِ الهمَّة، جَمَّ الفضائِلِ، جَزيلَ العَطايا والنَّوال، وكان شَهمًا كافيًا، خبيرًا بالتصَرُّفِ، سديدَ التَّوقيعِ، طَلْقَ المُحَيَّا، يكاتِبُ مُلوكَ النواحي، ويهاديهم، وفيه عَدلٌ في الجُملةِ، عَمَرَت العراقُ في أيَّامِه، أنشأ بيَمارستانًا، ودارًا عَظيميَنِ ببَغداد, وكان من أثَرِ تَشَيُّعِه أنَّه أعاد اللَّطمَ يومَ عاشوراءَ، فثارت الفِتَنُ لذلك سنة406. كانت جوائِزُه متواترةً على العُلَماء والصُّلَحاء والشُّعَراء. وَلِيَ بعضَ الأعمال، وتنَقَّلَت به الأحوالُ إلى أن وَلِيَ ديوانَ واسط، ثم وزَرَ وناب للسُّلطانِ بهاءِ الدَّولة بفارِس، وافتتَحَ قِلاعًا، ثمَّ وَلِيَ العِراقَ بعد عميدِ الجيوش. لم يزَلْ فَخرُ الملك في عِزِّه وجاهِه وحُرمَتِه إلى أنْ نَقَم عليه سُلطانُ الدَّولة، فحَبَسَه ثمَّ قتلَه بسَفحِ جَبَلٍ قريبٍ مِن الأهواز لثلاثٍ بَقِينَ مِن شهرِ ربيع الأول سنة 407, وعاش ثلاثًا وخمسينَ سنةً.